وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، تلكم السورة شأنها شأن المكيات تعالج العقيدة:
أولاً: تقرير لا إله إلا الله بالآيات والحجج والأدلة.
ثانياً: تقرير النبوة المحمدية بعد إثباتها وتأكيدها.
ثالثاً: تقرير البعث الآخر والحياة الآخرة وما يجري فيها وما يتم من سعادة أهل الإيمان والتقوى وشقاوة أهل الشرك والمعاصي، ثم قضية التشريع والتقنين وأنهما من حق الله وحده، ليس لكائن من الكائنات أن يشرع للعباد أو يقنن لهم، وذلك لجهل الإنسان بالمستقبل والماضي والعواقب والنتائج، وأما الله فهو رب الخلق ومالكهم وسيدهم والعليم بأحوالهم ومصيرهم هو الذي يشرع لهم، وهكذا كل السور المكية تعالج هذه العقيدة.
وها نحن مع هذه الآيات الخمس وهي مع موسى وبني إسرائيل، فباسم الله نصغي مستمعين تلاوتها مرتلة مجودة، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما أراد الله تعالى منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:150-154].
والذي نزل عليه وتلقاه منه كيف لا يكون رسول الله؟ مستحيل أن يكون غير رسول الله، فالآيات زبدتها لا إله إلا الله محمد رسول الله، آمن واعمل، أي: اعبد الله بما شرع لك من أنواع العبادات واتبع في ذلك رسوله حتى تؤديها كما أنزلها الله وبينها رسوله، فتكون من أسعد الخلق.
والآن: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى [الأعراف:150] أي: من جبل الطور حيث كان يناجي ربه، رجع إلى القرية أو المكان الذي فيه بنو إسرائيل، وقد تركهم وولى عليهم أخاه وشقيقه هارون عليه السلام وقال: اخلفني في قومي، وذهب لقضاء مهمته لأن يستمع إلى كلام ربه ويعطيه الدستور الذي يحكم بني إسرائيل به.
وهنا أعيد القول تذكيراً للناسين: فالمفروض في العرب والمسلمين لما نجوا من استعمار الغرب لهم أنه ما من إقليم يستقل إلا ويطلب الدستور الإسلامي ويبحث عنه، لا أن يطبق دستور الدولة الكافرة، ولم يفعل المسلمون فهم هابطون لاصقون بالأرض.
هذه عبرة عظيمة، استقل حفنة مكونة من ستمائة ألف نسمة فما استطاع موسى أن يحكمهم بدون دستور إسلامي، فذهب إلى ربه وناجاه وأعطاه الدستور كما ستسمعون؛ لأن البشرية لا بد لها من تشريع تسير عليه وإلا أكل بعضها بعضاً وتفسد.
ثم قال مؤدباً مؤنباً: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150]؛ لأن الشيطان قال: موسى مات، ما يرجع إليكم، وأشاعوا هذا في المعسكر: أن موسى مات، بعضهم قال: موسى ضل الطريق ما عرفها فلهذا ما رجع؛ من أجل أن يرميهم في بؤرة الشرك والعياذ بالله، أن يرميهم في أعظم ذنب يغضب الله ولا يرضاه.
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150]، استعجلتم؟
فموسى ألقى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، تعال يا هارون، تعال يا ابن أم، كيف يحدث هذا في غيبتي؟ أين ولايتك؟ أين خلافتك؟ أما استخلفتك؟ أما أنت خليفة بعدي؟ كيف يحدث هذا؟ يا جماعة! ما الذي حدث؟ لأنهم أقبلوا على عجل مصنوع من ذهب يعبدونه متبركين به متوسلين به إلى الله، كما فعل أجدادنا وآباؤنا في عبادة قبور الصالحين، من التمسح والتبرك والحلف والنذر والذبح، والله! لكعبادة العجل.
هذا موسى الكليم ما إن غاب عنهم أربعين يوماً حتى وقعوا في هذا، وأمتنا غاب عنها العلم والعلماء ألف سنة، فلا عجب، ولا تفهم أن أهل قرية في العالم الإسلامي بلا علماء ولا بصراء يستطيع الشيطان أن يبقي على عقيدتهم وطهارتهم وزكاة نفوسهم، والله! ما يسمح، لا بد أن يلقيهم في الشر والخبث والباطل والفساد أحببنا أم كرهنا، وهذا الذي حصل.
وهكذا كل مؤمن في قرية في مدينة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا آذوه وأرادوا قتله سكت، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )، إذا خفت القتل على نفسك أو التشريد أو التعذيب فاكره ذلك بقلبك ولا ترض به أبداً، ولا يضرك أنك سكت أو ما مددت يدك وضاربت أو قاتلت.
فهذا هارون عليه السلام يقول لما أخذ برأسه أخوه وجره إليه يضمه إلى صدره يلومه ويعتب عليه، قال: يا ابْنَ أُمَّ [الأعراف:150]، أي: يا ابن أمي. حذفت الياء وعوض عنها الهاء: يا ابن أماه، ثم حذفت الألف تخفيفاً: يا ابن أم.
ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150]، وجدوني ضعيفاً ما عندي قدرة ولا حيلة ولا معي رجال، لو رأوا قوة معي ما كانوا يقدمون على هذا، لكن استضعفوني وكادوا يقتلونني؛ لأنه أنكر عليهم وصاح فيهم، لكن الشياطين تنفخ فيهم فحاولوا أن يقتلوه.
وما قاله والله! لهو الحق، وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف:150]، إذاً: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ [الأعراف:150]، إذا أنت تلومني أو تضربني أو تؤدبني وهم يضحكون فرحين بما يجري بيني وبينك، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150] ، القوم الظالمين الذين عبدوا العجل، الذين أشركوا بالله وانصرفوا عن الحق وأعرضوا عنه وأقبلوا على الشر والباطل، أولئك هم الظالمون.
يقول لأخيه ابن أمه: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، نعم هارون خاف أن ينقسم بنو إسرائيل ويتقاتلوا، فهو يعتذر لموسى عليه السلام.
وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، هذه الجملة يا معاشر المستمعين: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، هذه جملة توسل إلى الله، توسل إلى الله بذكره هذه الصفات لله عز وجل، كأن تقول: اللهم اغفر لي فإنك الغفور الرحيم، اللهم تب علي إنك تواب رحيم، لم ذكر هذه الجملة: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]؟ يتزلف الله ويتملقه ليقبل دعوته ويغفر له ولأخيه.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ [الأعراف:152] ، وغضب الله عليهم، واشترط لتوبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً، كما جاء في سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54]، فما كان من الجماعات التي عبدت العجل إلا أن اصطفوا صفوفاً فصف أمام وصف خلف، واقتتلوا، فقتل الوالد ولده، والولد والده، حتى نزلت توبتهم وأوقفوا القتال، فلهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152]، نعم أذلهم الله في هذه الحياة، مقابل أنهم أشركوا بالله عز وجل وعبدوا معه غيره.
وحسبنا أن نسمع رسول الله: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )، هل تعرفون الافتراء؟ الكذب، يزين للناس ويحسن لهم عملاً ويقول: هذا يحبه الله، هذا شرعه الله، هذا من فعل الصالحين، وإذا به بدعة منكرة افترى فيها على الله، ولا تقولوا: كيف؟! لولا هذا الافتراء ما عبد المسلمون الأولياء والصالحين والأشجار والأحجار، لا بد من مفترين بينهم يفترون على الله ويكذبون.
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، عبد الله! احذر أن تفتري على الله كلمة واحدة، أمة الله! احذري أن تفتري على الله كلمة واحدة، لو أن شخصاً يقول: إن الله يحب منا أن نذكر الله هكذا: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، فقد افترى على الله، وقال ما لم يقله الله، أما إذا قال: إن الله يحب أن يذكر فاذكروه، لا إله إلا الله، فهذا أمر الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
لكن بدعة فيها الرقص والقيام والقعود فهي افتراء على الله وباطل، وَكَذَلِكَ نَجْزِي [الأعراف:152]، من؟ الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152] على الله.
وقد يقول قائل: ما معنى أن كل ضلالة في النار؟ هل الضلالة تصير إلى النار؟
والجواب: أنها تقود صاحبها إلى جهنم.
قال: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ [الأعراف:153]، والسيئات: جمع سيئة، ما هي السيئة هذه؟ علموا الناس ما السيئة هذه، إنها كل كلمة كرهها الله ولم يرضها تقولها فوالله! إنها لسيئة، كل نظرة حرمها الله وكرهها تنظرها والله! لسيئة، كل حركة تتحركها ولم يرضها الله فهي سيئة، فكل ما حرم الله ورسوله من قول أو عمل أو اعتقاد يسمى سيئة، لماذا سميت سيئة؟ لأنها تسوء إلى النفس البشرية، فتصيبها بالظلمة والعفن والنتن فتصبح مغضوباً عليها لا يرضاها الله عز وجل إلا بعد التوبة والمحو والتنظيف.
اسمع هذا الخبر: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا [الأعراف:153]؛ لأن التوبة: الرجوع إلى الحق، وهي عمل على تطهير النفس وتزكيتها بالمواد الخاصة وهي ذكر الله وعبادته، فالذين تابوا من بعد ذلك وَآمَنُوا [الأعراف:153]، لماذا ذكر الإيمان؟ لأن الإيمان شرط، لو أن شخصاً كان يشرب الخمرة وتركها توبة وهو غير مؤمن هل ينفعه ذلك؟ كان يسن القوانين الباطلة والشر والفساد وترك ذلك وتاب، هل ينفعه إذا لم يكن مؤمناً؟ دائماً الإيمان شرط في صحة أي عمل وقبوله، وفي القرآن إذا لم يذكر الإيمان أولاً يذكره آخراً.
إذاً: فلهذا قال وقوله الحق: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا [الأعراف:153]، أي: رجعوا عنها وزكوا أنفسهم وطيبوها وطهروها بالعبادات وآمنوا الإيمان المطلوب، أعلمهم: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:153]، إن ربك من بعد تلك التوبة لغفور يستر تلك الذنوب ولا يؤاخذهم بها ويرحمهم، أو يغسلهم وينظفهم ويدخلهم الجنة.
أَخَذَ الأَلْوَاحَ [الأعراف:154]، التي رماها من يده، كانت على كتفه فرماها فتكسرت، فأخذ الألواح وجمعها ونقلها.
وَفِي نُسْخَتِهَا [الأعراف:154]، أي: نسخ الكلام الذي كان فيها وقد تكسرت وتقطعت، فأصبحت نسختها هُدًى [الأعراف:154]، وبياناً لطريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154]، ورحمة وهدى لمن؟ للذين لربهم يرهبون، القرآن هدى ورحمة وشفاء، ولكن لمن؟ لمن يخافون الله، أما الذين لا يخافونه فهل يتركون حراماً؟ يتجنبون مبغوضاً لله؟ يتخلون عن سوء أو سيئة؟ الجواب: لا، لكن الخائفين هم الذين يعملون بما في القرآن العظيم، فيجدون الهدى والرحمة والشفاء، أما الذين لا يرهبون الله ولا يخافونه فالقرآن كله نور وهم عميان، القرآن كله دواء وهم مرضى، لكن إذا آمنوا وكانوا يخافون الله عز وجل فهؤلاء يستفيدون من هداية الله ومن نور القرآن ورحمته.
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:154]، ماذا فعل؟ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا [الأعراف:154]، نسخ الكتاب ينسخه: إذا أخذ ما فيه ونقله في ورق أو في عظم.
وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ [الأعراف:154]، في ذلك الكتاب، أي: ذلك الدستور، هذه الألواح تحمل الدستور، أما ذهب ليأتي به؟ ومع الأسف فمن شدة الغضب وموسى ينفعل ضرب بالألواح فتحطمت، وزال الغضب فذهب يجمعها وينسخها، وكانت هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:154]، ما معنى الرهب؟ الخوف، ما هو مجرد خوف، مع رعشة مع اضطراب ومع دموع، هذه الرهبة.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف:150]، من أين رجع؟ من جبل الطور، من لقاء ربه.
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف:150]، لامهم وذم فعلهم، كيف خلفوه؟ خلفوه بالشرك والباطل والعياذ بالله تعالى.
ثم قال مؤدباً مؤنباً: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150]، لم استعجلتم؟ لمجرد أن قال الشيطان: موسى مات، أو لا يعرف الطريق، فأقبلتم على عبادة العجل!
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [الأعراف:150] غضبان وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150]، من أخوه يرحمكم الله؟ هارون، شقيقه ابن أمه وأبيه، خليفته في بني إسرائيل.
ثم: قَالَ ابْنَ أُمَّ [الأعراف:150]، من القائل؟ هارون يعتذر: يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150]، اعتقدوا أني ضعيف، اعتقدوا ضعفي وعجزي فلهذا ما أطاعوني، وأقبلوا على عبادة العجل، وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف:150]، أيضاً، هددوه بالقتل، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ [الأعراف:150]، هؤلاء الأعداء الظلمة يفرحون إذا أنت تعتب علي أو تلومني، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150] الذين عبدوا العجل والعياذ بالله تعالى.
فرفع يديه إلى ربه: يا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، توسل إلى الله بماذا؟ بقوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، تملقه بها، والعامة يعرفون هذا، وطلبة العلم ما يعرفونه، تعرفون التملق أم لا؟ يأتيك يطلب منك حاجة، يقول لك: أنت كذا، وأنت رحيم، وقالوا عنك كذا وكذا حتى تعطيه، فمن أراد حاجة من الله يتملقه: رب إنك غفور رحيم عليم حكيم تحب أولياءك، وهكذا حتى تأخذ، أما (أعطني) مباشرة فلا.
ومن أراد العلم الحق في هذه القضية -وهي خير من الدنيا وما فيها- فليذكر: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، هذا تملق أم لا؟ لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك، من أجل أن يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
أولاً: حمد الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أثنى عليه: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]، مجده: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، ثم تملقه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، كل هذا من أجل أن يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فهل عرفتم التملق والدعا؟ لا بد أن تتطامن وتذل وتخضع وتسأل.
إذاً: قال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152]، وهو كذلك، وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، الذين أصابتهم الذلة رجعوا إلى عبادة العجل وإلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
والمفترون على الله الكاذبون عليه إلى يوم القيامة هذا جزاؤهم: سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152].
قال تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:153]، بشرى عامة.
ثم قال تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:154]، وهل الغضب يسكت؟ يهدأ الإنسان، وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا [الأعراف:154]، هو نسخها، وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ [الأعراف:154]، لا لغيره، يَرْهَبُونَ [الأعراف:154] ويخافون.
إذاً: ماذا نصنع بالقرآن إذا كنا ما ندرسه ولا نفسره؟ الجواب: نقرؤه على الموتى في بيوت الموتى سبعة أيام أو ثلاث ليال إلى واحد وعشرين يوماً.
في دمشق أبلغني الإخوان قديماً: أن هناك نقابة لها تلفون ومكتب، تتصل بهم: ألو ألو، توفي الوالد الليلة ونريد عشرة من طلبة القرآن، يقول النقيب: من فئة المائة ليرة، أم من فئة خمسين؟ إذا كان غنياً فمن فئة مائة، وإذا كان فقيراً فمن فئة خمسين! هذا مثال في العالم الإسلامي، ماذا يفعلون بالقرآن ما دام أنهم لا يجتمعون عليه؟ ما يدرسونه ولا يفهمونه، فماذا يصنعون به؟ يقرءونه على الموتى.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: الغضب من طباع البشر ]، قلنا هذا أم لا؟ [ الغضب من طباع البشر، فلا يلام عليه المرء ] رجلاً كان أو امرأة، [ مهما بلغ من الكمال كالأنبياء ]، فموسى غضب، لا تقل: كيف يغضب؟ الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه أحد، بدليل أن الأنبياء غضبوا، [ ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بحق وليس بخير وصلاح ].
والشاهد عندنا في الفتنة في غضب الطلاق، يغضب عليها وتغضب عليه: فيقول: أنت طالق، علي الطلاق، وهذا حرام، أكثر غضب الفحول عندنا هو هذا، لا يحل أبداً أن تغضب وتقول الباطل أو تقول السوء أو الشر أو تفعل المنكر، إذا غضبت فهيا توضأ وصل؛ لأن الغضب من الشيطان والشيطان من النار والنار يطفئها الماء، هكذا علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم، غضبت فتوضأ وصل ينته الغضب، غضبت وأنت واقف فاقعد لينتهي، غضبت وأنت جالس فقم ليزول الغضب.
[ ثانياً: مشروعية الاعتذار وقبول العذر من أهل المروءات ]، الاعتذار مشروع وقبول العذر مشروع بين المؤمنين الصادقين أرباب الكمالات، من أين أخذنا هذا؟ من قول هارون: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150]، هذا اعتذار من هارون قبله موسى.
[ ثالثاً: مشروعية التوسل ]، إلى الله عز وجل، بماذا؟ هل بأولياء الله وعباده الصالحين؟ [ بأسماء الله وصفاته ]، أما: اللهم إني أسألك بحق عبد القادر عليك، بحق رسولك، بجاه نبيك، بجاه فاطمة ، بـالحسين ، فهذه كلها أباطيل وافتراءات ما أنزل الله بها من سلطان، لا تخوف الله: أعطني بحق فلان، أعوذ بالله!
يقول الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان : من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان فقد كفر، لم؟ لأنه جعل لفلان حقاً على الله، وهل هناك إنسان عنده حق على الله؟ وتهدد الله وتقول: أعطني بحق فلان، فمعناه: إذا لم تعطني بحق فلان فلا تعطني، وهذا كفر.
وساد الجهل وعمت الفتنة والشرك: اللهم إني أسألك بحق فلان، بحق فلانة، بجاه فلان، بجاه فلانة، ولا لوم؛ لأنهم ما اجتمعوا على كتاب الله.
[ مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته ]، ماذا قال موسى؟ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، مثلما توسلنا نحن: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، نتملق إلى الله ونقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
[ رابعاً: كل وعيد لله تعالى توعد به عبداً من عباده مقيد ]، أي: إنفاذه وتحقيقه [ بعدم توبة المتوعد ]، كل وعيد جاء عن الله في كتابه وعلى لسان رسوله بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة مقيد بقيد عدم التوبة، أما إن تاب فقد انتهى هذا الوعيد.
[ خامساً: كل رحمة وهدى ونور في كتاب الله لا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتقوى ]
قطعاً هذا الواقع، كيس مملوء بالطعام وأنت لا تؤمن أن فيه طعاماً فستموت جوعاً، لكن إن آمنت أنه طعام مددت يدك إليه، فالقرآن مملوء بالهداية الإلهية، فإن عرفت عنه وما آمنت به ولا قرأته فما تجد نوراً ولا هداية.
والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعليكم إنه تواب رحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر