أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والتي بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ).
معاشر المستمعين والمستمعات! هل تشاهدون السكينة؟ واضحة، فلو كنا في مقهى أو في منتدى أو في سوق أو في منزل فهل سنشاهد هذه السكينة؟ والله! ما توجد، الرحمة غشتنا وغطتنا، هل تشاهدون عذاباً ينال أحدنا؟ لا، الملائكة يحفون بالحلقة، ولكننا لا نشاهدهم؛ لضعف أبصارنا عن قوة أجسامهم فقط، وذكر الله تعالى لنا في الملكوت الأعلى.
إذاً: أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يكون إلا كما أخبر -الحمد لله-، وهل تذكرون قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى هذا المسجد لا يأتيه إلا لخير يعلمه، أو يتعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله )؟ فزتم بهذه أو لا؟ وأعظم: ( أن من صلى المغرب وجلس ينتظر صلاة العشاء في بيت الله الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ما لم يحدث ).
كيف نظفر بهذا الكمال لولا إفضال الله وإنعامه علينا، الحمد لله.
وكم.. وكم من محرومين، ولا لشيء سوى أن العدو يصرف عباد الله عن ولاية الله؛ لأنه العدو الأول، وربنا قال لنا: اسمعوا هذا البيان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، كيف نتخذ الشيطان عدواً؟
لا نستجيب لندائه، ولا نقبل على طلبه، ولا نعطي ما يطلب ويسأل، بل نقف معه موقف العدو مع عدوه، فلا سمع ولا طاعة ولا حب، ولا ولاء ولا شيء آخر، فهيا نطبق إن شاء الله.
ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].
فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.
هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.
فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت.
ما زلنا في تفسير سورة آل عمران عليهم السلام، والآيات الليلة أربع آيات، فهيا نتغنى بتلاوتها، فإنه يجوز التغني بالقرآن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:165-168].
فعجب هذا الكلام، وما هذه الفصاحة وما هذا البيان؟! ومع هذا يقرءونه على الموتى، ولا يفقهون منه شيئاً، صُرفوا بكيد العدو.
هذا الله جل جلاله، هذا الرحمن الرحيم، هذا منزل القرآن العظيم يخاطب أصحاب رسول الله والمؤمنين -الحمد لله-، فيقول: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، والمصيبة آخرها الموت، كل بلاء، كل ما يؤذي الإنسان في بدنه، في ماله، في عرضه مصيبة، ولكن نهاية المصيبة الموت.
فهذه المصيبة التي يُذكر الله عز وجل بها المؤمنين هي ما قتل من المؤمنين في أحد، إذ استشهد سبعون على رأسهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أصبتم مثليها في بدر، إذ المسلمون في غزوة بدر قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، وهل يطلق على الأسرى قتلى؟ إي نعم؛ لأن الآسر لإنسان يصبح في قبضته إن شاء قتله وإن شاء تركه، فالآسر الذي يأسر غيره يصبح عنده الأسير كالميت.
الجواب: لأنكم عصيتم رسول الله، وخرجتم عن طاعته مغترين بإيمانكم وكونكم تجاهدون في سبيل الله، ونسيتم أن لله سنناً لا تتبدل، الرسول القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم لما أعد عدته وصفف رجاله، ووضع الرماة على جبل الرماة نصح لهم: ( لا تنزلوا من على الجبل )، ترون منا ما ترون من نصر أو هزيمة، لكن الشيطان زين لهم، وأن المشركين انهزموا ونساؤهم هاربات في الأودية، والمجاهدون يغنمون: انزلوا، فنزلوا، فخلا جبل الرماة، فاحتله قائد المشركين خالد بن الوليد ، وصب عليهم البلاء، ووقعوا بين فكي مقراض، السهام من هنا والسيوف من هنا، فكانت الهزيمة.
إذاً: قل لهم يا رسولنا: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، والمسلمون اليوم لماذا لا يفكرون بهذا التفكير؟ هل الذي أصاب المسلمين من الفرقة والضعف والعجز كان نتيجة ذنوبهم أو كان قدراً مقدوراً؟
الجواب: بذنوبهم، فما أطاعوا الله ورسوله، وهم متعرضون لبلاء لا يعلمه إلا الله، إلا أن يتداركهم الله بتوبة عاجلة، والتوبة في هذه الأيام أيسر ما تكون، فقد تقارب الزمان والمكان ويستطيع العالم الإسلامي أن يعقد مؤتمراً في المدينة في أقل من عشر ساعات، أما الزمان الأول كيف يأتي الولاة من أقصى الشرق والغرب؟ فقد كانوا يحتاجون إلى ستة أشهر، وكانوا يجتمعون مرة في الحج، فالآن الكلمة واحدة، إذا قال إمام المسلمين: الله أكبر، سمعها النساء والرجال في الشرق والغرب.
والشاهد عندنا: يا عباد الله! يا إماء الله! احذروا الذنوب والمعاصي فإنها تجلب الخزي والعار، وتجلب الذل والدمار، وتجلب الفقر والبلاء، فلا يكفي أن تقولوا: يكفي أننا مؤمنون. فلا أنتم بأفضل من أصحاب رسول الله.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، أي: على فعل كل شيء يريد قدير، ومن فعله أنه ربط الأسباب بمسبباتها، فلما رفضتم هذا السبب وألغيتموه أصابكم الذي أصابكم.
وما أصابكم يوم التقى الجمعان من الجراحات والقتل والهروب فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166]، فما تم بغير إرادة الله وتعليمه وإذنه تم وفق سنن الله عز وجل.
قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]، فهذا علم ظهور، أما علم الغيب فهو قد كتبه وعلمه قبل أن يخلق الكون، لكن ليظهر ذلك للعيان؛ ليعلم المؤمنين بحق وصدق، (ويعلم) أيضاً الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وأبطنوا الكفر في قلوبهم، وهم جماعة ابن أبي ، وقد عادوا من الطريق وهم ثلاثمائة، فلولا هذه الحرب كيف يعرف المنافقون من المؤمنين؟
فالمؤمنون قبل الفتنة أيضاً لا علم بحالهم، فلو يبتلينا الله ببلية لا قدر الله، يظهر المؤمن الصادق من غير المؤمن الصادق، لكن أراد الله تطهير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوا رسالة الحق إلى العالم أجمع، أما نحن فلا وزن لنا ولا قيمة.
قال تعالى: أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، فهذه كلمة رئيس المنافقين ومن معه، وهذا المنطق يوجد في كل زمان ومكان: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، لكن ليس هناك قتالاً، فلستم أهلاً لأن تقاتلوا.
قلنا لكم: ابقوا في المدينة وقاتلوا فيها، وأبيتم وخرجتم تريدون القتال لن تستطيعوا، العدو أكثر منكم ولا تقاتلوا، فلهذا لا نخرج نحن، نعود.
لكن لو كان مؤمناً يقول هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم!
قال تعالى: قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] أي: يقع بالفعل لخرجنا، ولكن ليس هناك قتالاً.
قال تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله! القائلون هذا القول وعلى رأسهم ابن أبي : هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] إي والله!
قال تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون ويجحدون، يظنون أن الله غير مطلع على قلوبهم، فيتبجحون بالكلام الفارغ، والله مطلع على ما في القلوب.
لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168].
فالله تعالى يقول لرسوله قل لهم -لا يرد الله عليهم هو وما هم أهل لذلك-: قُلْ [آل عمران:168] يا رسولنا: فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، أي: ادفعوا عن أنفسكم الموت لو كنتم صادقين، لكنهم كاذبون.
فهذا المستوى الهابط سببه ضعف الإيمان وظلمة النفاق التي تغطي على القلب وتغطي على الحواس -نعوذ بالله من النفاق-، وهذا درس عجيب يقرأ على أهل المدينة، صالحيهم وفاسديهم، ويخلد هذا الذكر إلى يوم القيامة.
قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] مصيبة عظيمة في الحقيقة قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] كيف؟ قتلوا سبعين وأسروا سبعين في بدر، منذ سنتين قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] أي: كيف نصاب وكيف وكيف؟ الله ما يرد عليهم، قال لرسوله: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] الذي أصابكم من الخزي والانكسار والقتل من أنفسكم، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165].
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [آل عمران:166] أين التقى الجمعان؟ في أحد؟ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] أولاً: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:166-167]؛ ليكشف الستار عن الغموض والخفايا؛ لأنه يربي أولياءه.
قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167] أي: لخرجنا معكم إلى المعركة في أحد، لكن ما نعلم أن هناك قتالاً، فهم يكذبون، وإلا عزم الرسول وتصميمه لا يمكن أن يخرج ويعود ولا يقاتل، لكن النفاق والمرض: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167] سبحان الله! وهذا كائن بين الناس، يتكلم بلسانه ويقول وفي قلبه غير الذي يقول، وكل إنسان يستطيع هذا، فالذين قالوا: لا نقاتل في هذا الوقت هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان.
قال تعالى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا [آل عمران:168] أي: قالوا لإخوانهم في النفاق، (وقعدوا)، ما خرجوا، ماذا قال لهم؟ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، هذا الكلام تم في بيوتهم، وهم يتعشون ويتغدون، لو أطعنا فلان وفلان ما يقتل، لكن ما أطاعنا، خرج منا ومشى مع هذا الرجل.
إذاً: قال تعالى لرسوله: قل لهم: ادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، هل يستطيعون؟ إذا دقت الساعة وحل الأجل، في من يمنع الموت؟ مستحيل.
ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة أحد.
ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]، أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة، ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟
فقال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165] بأحد قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران:165] ببدر؛ لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً]، وبينت لكم أن الأسير في حكم الميت، الآسر إن شاء قتل من أسره.
قال: [وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]؛ وذلك بمعصيتكم لرسول الله؛ حيث خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال]، إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ [آل عمران:153].
[وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] إشعار إعلام بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه، هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]، يخبر تعالى المؤمنين: أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة، وأنهم صادقون في إيمانهم؛ ولذا قال تعالى: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:166]؛ علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور، هذا أولاً.
وثانياً: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين، فقال عنهم في الآيتين الثالثة والرابعة: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا [آل عمران:167]، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين، وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة ].
فـعبد الله بن حرام والد جابر -هذا كم يوم أو سنة؟- جاء السيل في وادي أحد فجرفه فوجدوه ودمه يسيل كأنه الآن استشهد، الله أكبر، هذا عبد الله بن حرام .
قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167] ].
يتهمون الرسول بأنه ما يقاتل! تعلموا ما تسمعون من إخوانكم من عبارات من هذا النوع، هذا النوع الآن عام في البشرية، إلا من رحم الله، كيف تتم هذه الرحمة؟ تتم للذين تربوا في حجور الصالحين، لازموا بيوت الله في الليل والنهار، يتلقون الكتاب والحكمة، أما هذا الجهل العام لا ينتج عنه إلا الأباطيل والتراهات والأقاويل، وحسبكم أن تسمعوا إذاعات العالم، وتقرءوا صحف الدنيا.
ماذا تسمعون؟! مجالسنا هذا كذا، هذا كذا، هذا به كذا، لو قال كذا، لا إله إلا الله! ولا لوم.
قال: [ وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر : تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:167]؛ رجاء وطمع ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غازٍ يريد قتلكم، إذ وقوفكم معنا في صفوفنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم، فأجابوا قائلين: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا [آل عمران:167] يتم لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167].
فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] ]، في ذاك الموقف لما قالوا هذه الكلمة هم إلى الكفر أقرب إلى الإيمان، إذ لا يقول هذا إلا من هو كالكافر.
قال: [ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [آل عمران:167] ويخفون حتى من أنفسهم، يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم مع الكافرين الغازين، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد، وقالوا لإخوانهم في النفاق لا في القرابة والنسب وهم في مجالسهم الخاصة، قالوا: لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم قائلاً: فَادْرَءُوا [آل عمران:168] أي: ادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران:168] إذا حضر أجلكم: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168] في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا].
سبحان الله العظيم! ما يرد الله على الهابطين، يوكل الرسول قل لهم، ما هم أهل لأن يعلمهم الله، لكن لو كانوا مع أولياء الله، الله يتولاهم.
أولاً: المصائب ثمرة الذنوب ]. ما من عبد أو أمة يذنب ذنباً إلا وسوف يلقى ثمرة، سواء ألم في نفسه أو مرض في جسمه، حاجة تصيبه، فهذه سنة الله عز وجل، فالرجل في المجلس يصفع أخاه صفعة ادفع وينظر، وتحصل الثمرة اللذيذة على الفور، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
كان الصالحون في الزمان الأول يقول أحدهم: إذا عثرت دابتي التي أركبها، أعرف أن هناك ذنباً فأبحث ماذا فعلت، وفيم قصرت؟ فلابد من ذنب، فأبحث وأفكر فأجد الذنب، ما الذنب هذا؟ ما يؤخذ به المرء ويعاقب، مأخوذ من ذنب الفرس، من ذنب الحمار، إذا هرب أمامك حمار من أين تأخذه، من ذنبه أو لا؟ والذنب ما يؤاخذ به المرء، فالذنوب هي معصية الله والرسول، فإذا أمرك سيدك ولويت رأسك وما فعلت أذنبت فانتظر الجزاء، وإذا نهاك سيدك أن لا تقل أو لا تفعل فأبيت إلا أن تقول أو تفعل أذنبت أيضاً، فانتظر الجزاء.. وهكذا.
وفي الحديث: ( ما من مصيبة إلا بذنب )، فنستدل على هذه القاعدة بغزوة أحد، رجال ربانيون مؤمنون، على رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي و.. و.. ، يصابون بكارثة وهزيمة ما شاهدوها، رسولهم يشج رأسه، وتكسر رباعيته، والدماء تسيل؛ بسبب معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا: لِم استعمر العالم الإسلامي وأذل وأهين؟ لمعصيتهم.
لماذا ذل المؤمنون في فلسطين، وهزموا أمام حفنة من اليهود؟ بمعاصيهم.
لماذا المؤمنون في البوسنة والهرسك وغيرها يذوقون أشد العذاب وآلامه وأفظع الفظائع؟ فذنوبنا سببت لهم ذلك، وذنوبهم قبل ذنوبنا، ما ننسى هذه القاعدة ونقول: ما هي صحيحة، المصائب ثمرة الذنوب، فالذنب كالشجرة تغرسها ولابد وأن تأكل ثمرتها، إلا أن تعاجل بالتوبة قبل أن تنبت الشجرة لا تسقها بذنب آخر.
[ ثانياً قال: كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله ]، لا يوجد حدث في الكون، ولو اقتلاع شجرة أو قطع أصبع، أو صفعة إنسان في خده، لا يوجد حادث في العالم إلا وقد سبق علم الله به، وهو الذي قدره، وهذا هو الإيمان بالقضاء والقدر.
فالمؤمنون بالقضاء والقدر حقاً هم الذين لا يحجمون ولا يجبنون ولا يتخلفون لعملهم أن ما كتبه الله سوف يكون، والذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، أو آمنوا به وهم لا يعرفونه هم الذين يجبنون، فلا يستطيع أن يتصدق مخافة الفقر، ولا يستطيع أن يجاهد مخافة الموت، ولا يستطيع أن يقول كلمة حق خشية أن يصفع، ونسي أن ما كتبه الله سوف يكون.
واستغل هذا أعداء الإسلام من غلاة اليهودية والنصرانية، وقالوا: مسلمون أخرهم إيمانهم بالقضاء القدر، وتبجحوا بها وكتبوا، فالإيمان بالقضاء والقدر هو الذي يكسب أهله الشجاعة والإقدام؛ لعلمهم أنه إن كتب الله موته الآن سوف يموت، لِم يتأخر إذاً عن المعركة وخوضها؟
فكل الأحداث التي تتم في العالم بكامله سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه، وقد بينا أن الذي يوسوس له الشيطان في قضية القضاء والقدر وما يعرف، ففي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كان الله ولم يكن شيء قبله، أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، فكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن )، فكل ما كان ويكون قد سبق أن كتب، ووالله لن يتأخر أبداً، ولن يتقدم، ولن يتأخر لا في الصفة ولا في الجسم، ولا في الكمية، ولا في.. فيقع كما هو.
بيانها: قلنا لهم: إن المهندس المعماري يجلس على كرسيه، والطاولة بين يديه، وتقول له: أريد إن شاء فلة أو عمارة كذا، فيرسمها لك على ورقة، نوافذها لا تتغير، المفاتيح.. أسلاك الكهرباء.. كل ما فيها بين يديك في ورقة، فإن كنت قادراً على تنفيذ ذلك، يتم ذلك الذي كتبه في الورقة كما هو في الورقة.
إذاً -ولله المثل الأعلى- فالله لما أراد أن يخلق الخلق كتب ما أراده على تلك الورقة ذلكم اللوح المحفوظ، ذلكم كتاب المقادير...
في البقيع قالوا: إذاً ما فائدة العمل؟ قال: ( اعملوا فكل ميسر لما خلق له )، إن خلقك الله للجنة فسوف يوجد في نفسك الرغبة في طلبها والسعي للحصول عليها، وييسر لك أمر طلبها والحصول عليها.
لطيفة! ورد: ( من سره -أي: أفرحه وأثلج صدره- أن ينسأ في أجله ويوسع في رزقه فليصل رحمه ).
الجاهل والغافل يقول: كيف ينتقض ما كتب الله وقدر؟
والجواب: معشر المستمعين والمستمعات! لما أراد أن يكتب كتب أن عمرك يا عبد الله سبعون سنة، ولكن سوف تبر بوالديك، وتصل أرحامك فزيدوه عشرين سنة وخلوها تسعين. يكتب هكذا: رزقك كان خمسين قنطاراً بيض، خمسين قنطار لحم، خمسين قنطار فول أو بصل، مدة العمر، وسوف يبر هذا بوالديه ويصل رحمه خلوها سبعين.. سبعين.. وهكذا.
( من سره أن ينسأ له في أجله ويوسع له في رزقه، فليصل رحمه )، فإذا رأيتك تواصل الصلة علمت أنك زيد في عمرك وزيد في رزقك.
قال: [ كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه ].
ولطيفة أخرى.. والله لولا هذا النظام العجيب ما تبقى الحياة سنة واحدة، ويرتطم بعضها ببعض، لكن بدقة التنظيم ماضية.. آلاف السنين.
فلو جمعت البشرية كلها كل إنسان له صورته الخاصة به وميزة يتميز بها، فأي علم أعظم من هذا، وأي حكمة أكثر؟
[ ثالثاً: قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر ]، من أين أخذنا هذا؟ قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة الكفر، وهذا دل عليه قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167]، لما قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167]، ففي هذه الحال هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان.
إذاً: قد يقول المرء كلمة يصبح فيها أقرب -والله- إلى الكفر منه إلى الإيمان، وهذا مشاهد.
[رابعاً: الحذر لا يدفع القدر]؛ لقوله تعالى: قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، حذرتم أن لا تموتوا؟ والله تموتوا، ولكن كما تقدم أن الحذر لابد منه، أمر الله به، احذر عبد الله واستعمل سنن الله، واعلم أن ما قدره الله سوف يكون، فترتاح نفسك وتطيب، وتقدم ولا تحرج، ولا تخاف ولا تجبن.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونسمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر