لقد اتصف عمر بن الخطاب بسمات عظيمة، منها الشدة في دين الله مع تواضع جم، وحينما تولى الخلافة كان مثالاً للخليفة العادل المهتم بأمور رعيته، ولقد استمر عطاؤه وخيره وتضحيته إلى استشهاده على يد أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه.
عباد الله: إن المسلم الحقيقي إذا تصفح سيرة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، بادرت عيناه باهمال الدموع والترحم عليهم؛ لأنهم بذلوا جهدهم لله وبالله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم رسم لهم منهج الفضائل والمعروف، والصدق والعفة، والكرم والإحسان، والقناعة وعلو الهمة، والنزاهة والشجاعة، والتقى والتواضع، فصاروا رضي الله عنهم أسبق الناس إليها، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
أمة الإسلام: لقد سمعتم في خطبة الجمعة الماضية شيئاً يسيراً عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي لو وزن إيمانه بإيمان هذه الأمة لرجح بها، وهو أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن بجواره في حجرة عائشة رضي الله عنهما.
وتولى بعده الخلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما أداركم ما عمر يا عباد الله! هو الذي كان قبل أن يسلم أعدى الأعداء للإسلام وأهل الإسلام، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام أن ينصر الله الإسلام بأحد العمرين: عمرو بن هشام أبو جهل أو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسبقت السعادة ولله الحمد والمنة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وباء أبو جهل بالخيبة والخسران واللعنة ومأواه النار.
ففي يوم من الأيام خرج عمر بن الخطاب متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، قال: أين تذهب يا بن الخطاب ، فقال: أريد أن أقتل محمداً.
قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة إذا قتلت محمداً؟
فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي كنت عليه.
فقال: أفلا أدلك على ما هو أعجب من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أختك وختنك -أي: زوج أختك- قد تركا دينك الذي أنت عليه.
فمشى عمر ذامراً، حتى أتاهما وعندهما رجلٌ من المهاجرين يقال له: خباب بن الأرت رضي الله عنه، فسمع خباب حس عمر فتوارى، فدخل على أخته وزوجها، فقال لهما: ما هذه الهيمنة التي سمعتها عندكم؟ وكانوا يقرءون سورة طه، يقرءوهم إياها خباب.
فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا، قال: فلعلكم قد صبوتما؟ فقال له زوج أخته: أرأيت يا عمر! إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على زوج أخته فوطأه وطأً شديداً، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده -أي: لطمها- فقالت وهي غضبى: يا عمر! إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فعندما رأى عمر رضي الله عنه الدم في وجه أخته، رق لها، وبدأت الرحمة في قلبه، فقال لأخته: أعطوني الكتاب الذي عندكم، فأقرأه وكان عمر يكتب، فقالت أخته: إنك رجسٌ ولا يمسه إلا المطهرون، فاغتسل وتوضأ، قال: فقام فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأ من قوله تعالى من سورة طه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طـه:1-8].
فقرأها عمر إلى قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طـه:14] وعندما قرأ عمر هذا القرآن، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، وكان عمر في أول جاهليته وهو متلبس بأنجاسه وأدران شركه، فعندما قرأ عمر هذا القرآن بدأت الروح الإيمانية تدب في جسم عمر ، وكم يقرأ القرآن! وكم يتلى القرآن! وكم يسمع القرآن! قلوب كثير من المسلمين غافلة، وعن هديه متباعدة، فهذا عمر جاهلي مشرك لا يعرف الإسلام عندما سمع تلك الآيات القرآنية التي أنزلها رب العزة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أنزلها شفاءً لما في الصدور، قرأها عمر بدأت الروح الإيمانية تدب في جسم عمر ، وبدأت غيوم الجاهلية تنقشع عن قلب عمر.
فقال: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر ، خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر! فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس، فإنه قال: (اللهم أعز الإسلام بـ
قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل الدار يوحى إليه، فقال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى عمر ، فأخذ بمجامع ثوبه، وحمائل السيف وقال: {أما أنت بمنته يا
فخرج عمر رضي الله عنه، وجعل يعلن إسلامه بكل مجلس كان يعلن به الكفر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب]] وقال ابن مسعود أيضا: [[إن إسلام عمر كان فتحاً، وهجرته كانت نصراً، وإمارته كانت رحمة]].
اكتبوا التاريخ الإسلامي، اكتبوا التاريخ الهجري يا عباد الله! وابتعدوا عن مشابهة اليهود والنصارى.
عمر بن الخطاب الذي أحيا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، فإن صلاة التراويح صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركها خشية أن تفترض على الأمة، رحمة بأمته صلى الله عليه وسلم، وأحيا تلك السنة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجمع الناس على صلاة التراويح في رمضان.
عمر بن الخطاب أول من عس بـالمدينة ، كان متواضعاً في الله، خشن العيش، خشن المطعم، شديداً في ذات الله، يرقع الثوب بالأديم، ويحمل القربة على كتفه وهو أمير المؤمنين، ويركب الحمار، وكان قليل الضحك، لا يمازح أحداً، وكان نقش خاتمه كفى بالموت واعظاً يا عمر.
عمر بن الخطاب التي خصاله لا تعد ولا تحصى، إنما ذلك يسير من كثير، وإنما ذلك فيض من غيض لمن تنفعه الذكرى، ولمن أراد أن يرجع إلى سير الصحابة والخلفاء وسلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين، فليرجع إلى تلك السير، وليتروى منها وليقتدي بهم، فإنهم الرجال الذين امتدحهم الله بالقرآن.
اللهم وفقنا جميعاً لما تحبه وترضاه، وجنبنا ما تبغضه وتأباه، واجعلنا هداة مهتدين.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله عز وجل وأطيعوه وانهجوا نهج السلف الصالح تبلغوا ما بلغوا من العزة والكرامة والرفعة في الدنيا والآخرة.
إنه التواضع يا أمة الإسلام!
فبكى عمر رضي الله عنه، ورجع يهرول إلى دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وجراباً من شحم، وقال: يا أسلم! احمله على ظهري، فقلت: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين! فقال: أنت تحمل أوزاري يوم القيامة؟!
فحمله عمر على ظهره، وانطلقنا إلى المرأة، فألقى عن ظهره الدقيق، وأخرج من الدقيق فرماه بالقدر، وألقى عليه من الشحم، وجعل ينفخ تحت القدر عمر بن الخطاب الخليفة الراشد، الفاروق أفضل الأمة بعد رسولها وبعد أبي بكر رضي الله عنه، جعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، ثم أنزلها عن النار، وقال: ائتني بصحفة، فأوتي بها، فافرغ فيها، ثم تركها بين يدي الصبيان، وقال: كلوا، فأكلوا حتى شبعوا والمرأة تدعو له، وهي لا تعرفه، فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، الله أكبر! يا لك من خليفة! أحنُ من الآباء والأمهات، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فلم يزل عندهم حتى نام الصغار، ثم أوصى لهم بنفقة، وانصرف ثم أقبل على أسلم ، فقال: يا أسلم! الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم.
تلكم القليل من فعال عمر بن الخطاب ، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني رأيت قصراً في الجنة من ذهب أحمر، فقلت: لمن هذا؟ قيل: لشاب من قريش} إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي يقول: يا ويح أم عمر إن لم يغفر الله لـعمر! الله أكبر! إنه عمر رضي الله عنه.
أمة الإسلام: لولا الإطالة لبسطنا الكلام، ولكن إشارة بسيطة، ومن أراد أن يتروى من أخبار أولئك السلف الصالح ، فليرجع إلى السير والتواريخ التي سطر فيها أولئك الرجال ملخص تلك الأعمال الطيبة عن الرجال، إنهم الرجال ثم الرجال ثم الرجال.
في صحيح الأخبار أنه كان يقول: [[اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك]] فاستجاب الله هذا الدعاء، وجمع له بين هذين الأمرين، الشهادة في المدينة.
ففي يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ضربه أبو لؤلؤة المجوسي الأصل، وهو قائم يصلي الصبح رضي الله عنه، عمر بن الخطاب قائم يصلي الصبح بالناس يؤم المسلمين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه المجوسي بخنجر ذات طرفين ثلاث ضربات، وقيل ست ضربات، إحداهن تحت سرته فقطعت الصفاق، فخر من قامته رضي الله عنه، واستخلف عبد الرحمن بن عوف ، ورجع المجوسي لعنه الله، رجع بخنجره لا يمر بأحد إلا ضربه، حتى ضرب ثلاثة عشر رجلاً مات منهم ستة، فألقى عليه رجلاً من المسلمين بردة، فلما رأى أنه قد تمكن منه المسلمون نحر نفسه لعنه الله.
وبعد ذلك حمل عمر رضي الله عنه إلى منزله والدم يسيل من جرحه وذلك قبل طلوع الشمس، فجعل يفيق ثم يغمى عليه، ثم يذكرونه بالصلاة فيفيق ويقول: [[لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]] ثم صلى في الوقت، ثم سأل عمن قتله من هو؟ فقالوا له: هو أبو لؤلؤة المجوسي ، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي إلا على يد رجل يدعي الإيمان، ولم يسجد لله سجدة، ومات رضي الله عنه، ومات عمر بن الخطاب ، مات الخليفة الراشد، مات الذي ملأ أقطار الدنيا بالعدل، مات الخليفة الزاهد، مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودفن يوم الأحد بالحجرة النبوية، إلى جانب الصديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: هذه نبذة يسيرة عن أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، اللهم وفقنا للاقتداء بهم والتأسي بأحوالهم والتخلق بأخلاقهم.
عباد الله: إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أمة الإسلام: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
أمة الإسلام: صلوا على رسول الله امتثالاً لأمر الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً) اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر أصحاب رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم اشدد وطأتك على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين!
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعلنا وإياهم هداة مهتدين، اللهم قيِّض لهم القرناء الصالحين، اللهم وفقهم للجلساء الصالحين الناصحين، الذين يعينونهم إذا ذكروا ويذكرونهم إذا نسوا يا رب العالمين!
اللهم أصلح أولادنا ونساءنا واجعلهم قرة أعين لنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على وافر نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر