إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. أحمد القطان
  5. اقتضاء الصراط المستقيم (بخل العلماء)

اقتضاء الصراط المستقيم (بخل العلماء)للشيخ : أحمد القطان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما وهب الله عالماً علماً إلا ليبلغه، ووعده على ذلك رفعة في الدنيا قبل الآخرة، وفي مقابل ذلك توعد من كتم العلم وشبهه بمن يأكل النار ويملأ بها بطنه، وكفى بهذا التهديد زاجراً ورادعاً عن هذا الفعل. فهذا الدرس هو رسالة إلى كل عالم ليعمل بعلمه، ويتقي الله ربه، وليبلغ دينه.

    1.   

    البخل بالعلم والبخل بالمال

    الحمد لله رب العالمين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، والصدق والإخلاص، واليقين والمعافاة، والعلم النافع، والعمل الصالح، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم انصر المجاهدين، وأكرم الشهداء، وثبت الغرباء، وفك المأسورين من إخواننا المسلمين، اللهم إنا نسألك العافية في الجسد، والإصلاح في الولد، والأمن في البلد، برحمتك يا أرحم الراحمين.

    أما بعد:

    أيها الأحباب الكرام: إني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يحشرني وإياكم في ظل عرشه، ومستقر رحمته وبره ورضوانه، آمين.

    ونعود مرة ثانية إلى كتابنا الذي نشرحه في اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقد ذكرت في عدة أشرطة شرح أول هذا الكتاب، وقلت: إن مما ابتليت به أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تشبهها بالكافرين هو ما يسمى بالعفن الفني، وكانوا يسمون صاحب العفن الفني بالبَطَل، ويقولون: بطولة فلان وفلانة، وبالنجم الساطع اللامع، وفي الحقيقة لا هو بطل ولا هو نجم، إنما هو عفن فني.

    وذكرت في هذا أربعة أشرطة، نعود إلى الكتاب الذي يذكر لنا بعض الصفات التي تشبَّه بها أهل هذه الأمة -أمة محمد- باليهود، ومن هذا التشبه البخل بالعلم، بعض العلماء وهبه الله علماً نافعاً لكنه يبخل به، فلا تكاد تسمع له درساً ولا محاضرة ولا خطبة ولا ندوة ولا فتوى وإنما يقطِّر علمه بالقطارة، وكأنه ينفق من لحمه ودمه، فهو يتعذب عندما يعلم الناس الخير، ويجر إليه بالسلاسل، ويكره عليه إكراهاً، ويحتال طلبة العلم ألف حيلة حتى يستخلصوا منه معلومة، فما أقل بركة هذا العالم.

    وصف الله لليهود بالبخل

    قال تعالى في كتابه الكريم وهو يصف اليهود: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]... الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه [النساء:37] يقول الإمام ابن تيمية في هذا البخل، هذا ليس بخل مال، إنما هو بخل علم، يقول الإمام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم : فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأصل، فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] وقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:159-160] وآيات كثيرة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174] وقال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

    نفصِّل في هذه الآيات:

    تقسيم الله العلم على الناس

    بيَّن الإمام ابن تيمية أن البخل المعني في هذه الآية: البخل بالعلم، الله يقسم العلم على الناس كما يقسم الأرزاق، والملائكة كانوا يعلمون وعلمهم عظيم، فهم يعلمون من الله سبحانه وتعالى أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن المخلوقات في الأرض تسفك الدماء وتفسد في الأرض، وأن الملائكة تسبح لله، إلى آخره من العلوم والفهوم العظيمة التي حباها الله للملائكة، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30].

    ولكن الله سبحانه وتعالى حبا آدم علماً لم يرزقه الملائكة، حباه موهبة وضع الأسماء على المسميات، ما من مخلوق يعرض على ابن آدم إلا ويعطيه اسماً، وبهذا يتفاهم الناس من بني آدم، فلو أردت أن تتفاهم مع إنسان عن معنى الجبل، إما أن تأخذه بيده وتجره إلى أن تصل إلى جبال الطائف وبعدها تشير، وهذا من أشق الأمور على الإنسان، لكن عندما تقول جبل، ارتسم في ذهن السامع صورة ذلك الجبل، وعرف من خلال هذا الاسم ما تعني من المسمى، وهذه من نعم الله العظيمة على الإنسان وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:31-32] قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فأنبأهم آدم بأسمائهم، فأمرهم الله بسجود الاحترام والطاعة لله فسجدوا لآدم إلا إبليس.

    فالعلم أرزاق، أعطى الملائكة منه نصيباً، وأعطى آدم وبني آدم منه نصيباً، وأعطى الرجل الصالح المسمى بالخضر من العلم اللدني ما لم يعطه موسى، فقد كان عند موسى العلم الشرعي، وعند الخضر العلم اللدني، بعض علوم الغيب التي علمها الله ذلك الرجل الصالح، لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا الرجل الصالح نبي يوحى إليه أمر الله، لا كما يقول بعض المتصوفة: إنني أستقي علمي من قلبي إلى ربي، ما دليلك؟

    قال: دليلي الخضر، كان يستقي علمه من الله مباشرة، هذا كلام باطل، فالصوفي الذي يقول عن قلبي عن ربي، ثم يأتي الشعوذات والشطحات والانحرافات العقدية والفكرية هذا ضلال مبين، فالخضر لم يقل عن قلبي عن ربي، قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] كل هذا الفعل الذي فعلته ليس من أمري أنا ولا من اختصاصي أنا، ولا هوايتي ولا ابتكاري ولا ابتداعي، إنما هو من أمر الله، وأمر الله وحي، إذاً الخضر نبي من الأنبياء يوحى إليه.

    فالعالم المسلم من هذه الأمة عندما يصطفيه الله ويختاره؛ لماذا هذا الاصطفاء وهذا الاختيار؟

    حتى يعلق الشهادة في البيت أنه أخذ الماجستير والدكتوراه في البحوث الإسلامية.

    حتى يوضع حرف الدال أمام اسمه إذا ذكروه في الصحف.

    حتى يتحول من الدرجة الرابعة إلى الدرجة الثالثة لكي يعلو الراتب.

    ما لهذا تطلب العلوم، قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] هذه الرفعة في الدنيا والرفعة في الآخرة إنما هي بالعمل بهذا العلم، وأن تتعلمه تريد به وجه الله، وزكاته وضريبته أن تعلِّم به الناس، فتستغفر لك الأسماك في البحار، والنمل في الجحور، وتصلي عليك الملائكة، ويغفر لك الله ويرحمك، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته ليصلون على معلم الناس الخير، حتى النملة في جحرها والحوت في البحر).

    البخل بالعلم أشد من البخل بالمال

    عندما يبخل العالم بعلمه، هذا أقصى وأشد أنواع البخل، كثير من الناس يظن أن أشد البخل اكتناز المال،كما يقول الأعرابي وهو يلاعب ولده، والأم عندما تنوم ولدها تلاعبه، ماذا يقول الأعرابي وهو يلاعب ولده ويقفزه:

    أحبه حب البخيل ماله

    قد ذاق طعم الفخر ثم ناله

    إذا أراد بذله بدا له

    البخل يظن كثير من الناس أنه البخل بالمال، ولكن أشد من البخل بالمال البخل بالعلم، لأن فقدان المال قصاراه ضياع شيء مادي، لكن فقدان العلم نهايته ضياع الروح وغذاء الروح، والأمور المعنوية الإيمانية التي ينبني عليها عطاء وثواب الآخرة.

    والدليل على هذا أن الله أعطى العلم وأعطى المال لداود وسليمان، فقد أعطى الله سليمان عليه السلام ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ملك مادي؛ سخر له الجن والوحش والطير والإنس، فهم يوزعون أي يجمعون عنده، يعرف لغة النمل والطير والجن، ومن الجن ما هو بنَّاء، وما هو غوَّاص في البحر، ومع هذا لما أراد أن يذكر فضل الله عليه وعلى أبيه عليهما السلام ما ذكر إلا العلم، استمع ماذا يقول الله عنهما، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15] ما هذا التفضيل، هو ما ذكرته الآية: العلم: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [النمل:15-16] إذاً علِّمنا منطق الطير، وفي النهاية الفضل المبين في هذا العلم العظيم.

    فضل العلم على المال

    يعطي الله المال الكثير لجاهل فيخفضه ماله ولا يرفعه، لأنه جاهل، كما يقول الحديث: (الرجال أربعه: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يرى لله فيه حقاً، وللرحم فيه حقاً، فذلك في أعلى المراتب، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقول: يا ليت لي مال فلان، فأعمل بعمله، فهما في الأجر سواء).

    إذاً صاحب العلم الذي ليس عنده مال لحق بصاحب المال، ومع هذا ما تعب في تحصيله، مجرد النية: تخرج وتمر على الرصيف بحافلة مواصلات، تقول: يا ليت لي حافلة مثل هذه أحمل بها شباباً للعمرة والحج في سبيل الله، فيقول الله للملائكة: اكتبوا له أجر ذلك: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).

    والرجل الثالث: (رجل آتاه الله مالاًولم يؤته علماً فهو لا يرى لله فيه حقاً، ولا للرحم فيه حقاً، ورجل لم يؤته مالاً، ولم يؤته علماً فهو يقول: يا ليت لي مال فلان -الجاهل- فأعمل بعمله، قال: فهما في الوزر سواء) يعني الثالث الجاهل استمتع بالمال، على الأقل تلذذ بدنياه، مثل ما تسمعون عن بعض الناس حيث يجلس في ديوانية ولا يبالي، راح بنكوك أو لندن، وفتح له شقة هناك وجلس، وإذا صفى حسابه بالمرة أو أصابه المرض والهلاك والعار والعياذ بالله، جاء يجلس في الديوانية أنا عملت، وأنا شربت، وأنا فعلت، وأنا اشتريت!! وهناك رجل فقير، يقول: لو أن عندي مثله، لفعلت كفعله وأكثر، هذا الذي ما فعل وما استلذ هو والفاعل في الوزر سواء.

    يعني حصل فقر في الدنيا والآخرة، فكنز العلم لا ينضب:

    العلم يرفع بيتاً لا عماد له     والجهل يهدم بيت العز والشرف

    وإن العلم يبلغ بالإنسان أكثر من درجات الملوك، فصاحب المال يحتاج إلى العلم، وصاحب العلم يحتاج إليه الناس، والعلم حاكم والمال محكوم عليه.

    لهذا إذا أراد الله أن يقيم مُلك مَلِك، يسر له بطانة من العلماء الصالحين، كـعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يسر الله حوله بطانة صالحة، إذا نسي ذكروه .. إذا جهل علموه .. إذا احتار دلوه .. إذا ضل هدوه .. وإذا فعل الخير أعانوه.

    الآن في زماننا هذا يحضر المستشار أو الخبير الدستوري، فانظر إلى هذا الخبير الدستوري تجده لا يحفظ الفاتحة، لكنه يحفظ كل المواد والقوانين، لا يحفظ الفاتحة لأنه لا يصلي، استقرأ علومه من الجامعات الفرنسية والإنجليزية، وجاء بعقل اعتبر موسوعة في المواد القانونية، والمداخل، والمذاكرات التفسيرية، وإذا تكلم أصابك الذهول وأنت تستمع، لكن الحبل بينه وبين الله مقطوع، لا خير فيه ولا بركة الذين يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [البقرة:27] هذا وأمثاله.

    الإمام ابن تيمية رحمه الله، عندما ذكر هذه الآية عن اليهود بَيَّنَ سبب كتمان هذا العلم والبخل به، قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] لاحظ مقدمة الآية، الذي يطلب العلم من أجل الشهرة .. من أجل المدح .. من أجل الثناء، حتى يشار إليه بالبنان، وينشر عنه في الصحف، ويبجل ويعظم؛ يصاب بهذا المرض، لأنه لم يطلب العلم لله وفي الله وبالله، إنما طلبه رياء وسمعة، فتجده يختال بهذا العلم، ويتكبر به على الناس، فلو نصحه ناصح أو سأله سائل؛ لانفجر في وجهه يحقره ويهزأ به ويسخر منه أمام الناس.

    أذكر مرة أحد العلماء من هذا الصنف، دُعي إلى وليمة وبعد ذلك حدثت أمور أخرته ونحن معه عن وقت الوليمة، وصاحب الدار واقف على الباب، فحينما وصلنا قال صاحب الدار: (عسى ما شر! تأخرتم) سؤال طبيعي لمن عقد وليمة والناس ينتظرون، (تأخرت) كلمة واحدة، وهو قالها لا يريد إلا عذره من هذا العالم.

    فقال: هل نحن عبيد أبيك، أم عمال عندك؟ لماذا تقول: تأخرتم، أنت ما اسمك؟

    قال اسمي صالح.

    قال: أنت صالح بكل شيء إلا هذه.

    قال: ما عملك.

    قال: مدرس.

    قال: أنت مدرس لكنك تريد تربية.

    وتهجم عليه أكثر من ثلث ساعة، أمام الناس، وأمام الضيوف، وبعدما خرج، وبعدما ودع، أعوذ بالله ما قال المسكين شيئاً، وفي النهاية ختم، قال: أتعلم لماذا قلت كل هذا أمام الناس فيك؟

    قال: لا، والدموع في عينيه.

    قال: قلت هذا لأني صاحب علم وأنت صاحب جهل، ولو كنت تقدر العلم وأهله، لما قلت: لماذا تأخرت، فأدبتك حتى تعرف قدر العلماء.

    لا شك يا إخوان أن هذا هو الغرور والاختيال والتفاخر الذي نهى الله عنه، ومن تلك الحادثة أصبحت لا أستطيع أن أرافق هذا الإنسان، مخافة أن آخذ من خصاله التي حذرنا الله منها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18] وقال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:37].

    ما أكثر علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لو عملت إحصائية لهؤلاء العلماء لوجدتهم مئات الألوف .. في كل بلد .. في كل حي .. في كل شارع، لا يخلو مكان من عالم، لكن مشاغل الدنيا وتحصيل الرزق، وحب الراحة، والخوف من الأعداء، والانشغال في أمور البيت والأولاد وفي التحصيل جعل هذا العلم محبوساً ومغلقاً، لا يتعدى صاحبه، فما الفرق بينه وبين الجاهل.

    عندما تكون أنت عطشان وأحجب عنك الماء الذي عندي هل ترتوي؟ ما الفرق بيني وبينك أنت الذي لا تملك الماء، لا يوجد فرق، العطشان ظل عطشان، لأنك لا تملكه وأنا أملكه ومنعته، فهو لا يزال عطشان.

    كذلك العالم؛ لهذا فعلى العلماء أن يفهموا هذه الحقيقة، وأن يتخلصوا من هذه الصفة وتلك الخصلة التي شنع الله بها على اليهود، وهي البخل بالعلم، وأن يجعل كل واحد من نفسه مناراً يشع نوراً، يقضي على ظلمات الجهل، ويجمع حوله الناس، فإذا استمر على هذا إلى حين من الدهر، فسيلقي الله عليه محبة منه، وينزل عليه الرضا والقبول، فما ينطق بحرف ولا يقول كلمة إلا تلقاها الناس بالمحبة والثقة، ويعم خيره وتكثر بركته، ويرى أن الوقت الذي طلب فيه العلم وحصل فيه الشهادة ما ذهب هدراً، وإنما أوجد براعم صغيرة تنمو لتكون في المستقبل علماء، تقمع بهم البدعة، وتحيا بهم السنة، وينهزم أمامهم الشيطان، وأمة بلا علم هي أمة بلا حياة، لأن العلم هو الحياة، وهو النور.

    1.   

    تقصير أهل العلم في إبلاغ الدين

    أحبتي في الله! ما أكثر العلماء وما أقل تبليغ علمهم وتوصيل علمهم إلى من يحتاج إلى هذا العلم، عليك أن تتخيل يا أخي الكريم، لا نقول في كل بلد (100%) من أئمة المساجد علماء، لكن على الفرض (50%)، لو أن هؤلاء العلماء أعطى كل واحد منهم درساً علمياً في علوم الدين الإسلامي، السيرة أو الفقه، أو التوحيد أو العقيدة، أو الحديث أو التفسير، لتحولت الأمة بأجيالها ذكوراً وإناثاً إلى علماء يحقق الله بهم الرقي والازدهار.

    مثال على معلمي الناس الخير

    أضرب لكم مثلاً: رجل واحد جاء إلى الكويت ، فضيلة الشيخ حسن أيوب ، في أوائل السبعينات أقام مدرسة العثمان، التحصيل العلمي الذي عند الشيخ حسن أيوب هو التحصيل العلمي الذي عند كل إمام وعند كل عالم في ذلك الزمن، فهو خريج من الأزهر وهم تخرجوا من الأزهر، يحفظون المصحف كله، ويحفظون الحديث، الفرق أنه تحرك وسكنوا، نشط وكسلوا، ضحى وآثروا، هذا هو الفرق، فأعد جزاه الله خيراً مدرسة مسجد العثمان على كبر سنه ومرضه، يضع الكرسي ويلتف حوله الناس من العوام إلى الدكاترة الكبار، وهو يعطيهم دروس التفسير والفقه والحديث والتوحيد والسيرة.

    فخرج أجيالاً من العلماء دون أن يدفع في ذلك درهماً واحداً ولا ديناراً، وأصبح كثير من رموز الدعوة الإسلامية في هذا البلد أو في غيره ممن حل فيه هذا الشيخ الكريم، أصبحوا حسنة من حسنات هذا الداعية الرباني، حسن أيوب، وقد غير وجه التاريخ في هذا البلد، لأن السنين التي جاء فيها كانت الملابس هي: (المنجوب) و(الميكروجوب) وكانت اللحية عاراً، والدين رجعية، ومع هذا قلب الموازين في اليوم الذي كانت فيه الرذيلة فضيلة، والفضيلة رذيلة، أعادها هذا الرجل بفضل الله فصارت الفضيلة فضيلة والرذيلة رذيلة، والمعروف معروفاً والمنكر منكراً، وهذه هي زكاة تلك العلوم التي حباها الله الإنسان.

    تستغفر له الأسماك في البحر، والملائكة في السماء، والنمل في الصحراء، ويقول تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

    إذاً بين العالم وبين الله ميثاق وعقد، عندما تأخذ العلم الإلهي ينعقد العقد بينك وبين الله، الشرط الأول: يبينه للناس ولا يكتمه، والحديث يقول: (من كتم علماً علمه الله ألجم بلجام من نار يوم القيامة) ويسميهم الحديث بالشياطين الخرس، شيطان أخرس، أنت ترى الأخرس الذي لا يستطيع أن يعبر؛ كيف يكون مزعجاً؟ لكن يصدع رأسه، يريد أن يفهمك شيئاً ولا تفهمه، تسمع له صراخاً، إلى أن تأتي إلى من يفهم حركاته وهمهماته ولملماته، حتى تعرف ماذا يريد.

    هذا عالم فصيح بليغ، يرتب العبارات والجمل، لكن لأنه كتم، انظر التشبيه النبوي له، التشبيه الأول أنه شيطان، والتشبيه الثاني أنه أخرس، لأن الشيطان المتكلم قد تتفاهم وإياه، الشيطان المتكلم يقول لك: هذا خمر، فتقول أعوذ بالله .. لا أشربه، لكن الشيطان الأخرس حين يأتي به وترى لونه أصفر تحسبه عصيراً، (يؤشر لك برأسه أن تشرب، وصوته يقول لك: لا) وتحسبه عصيراً فتشرب، وتطعمه وإذا هو خمر.

    فاختيار الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصورة ذات الحركة المعبرة عن هذا العالم قال: شيطان أخرس.

    احتكار العلم والمتاجرة به

    يقول الله جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً [البقرة:174] الآن ظهرت حقيقة أخرى: احتكار العالم، مثل التاجر الذي يسحب البضاعة من السوق ويورط الناس، وعندما يحتاجون لها يرفع السعر، فهذا احتكر العلم، ولا يعطيه إلا لمن يدفع أكثر، لا بأس من أن يأخذ مقابل هذا العلم رزقه ورزق أهله، أيضاً لا بأس أن يكرم أهل العلم فترفع رواتبهم، لكن أن يشترط العالم: والله يا تلفزيون! يا إذاعة! أنا لا أبث حلقة التلفزيون، ولا أعلم الناس الدين حتى يرتفع العقد بيني وبينكم من خمسمائة دينار إلى ألف!!

    يا بن الحلال! ستمائة وخمسين، يا بن الحلال! سبعمائة وخمسين، قال: لا.

    رأيتم كيف! وتصل المهانة في بعض الحالات إلى قضية لا تتعلق بالمال، بعض العلماء والأئمة والمؤذنين والوعاظ قد يكون لهم يوم إجازة يوم في الأسبوع غير يوم الجمعة، سواء كان إماماً أو مؤذناً أو واعظاً، لكن هو في هذا اليوم مثلاً ذهب في الصباح إلى السوق فقام المؤذن فصلى بالناس صلاة الظهر، جاءت صلاة العصر، الإمام الآن وصل من السوق وهو في الغرفة جالس، والمؤذن قد أذن والناس ينتظرون الإمام ليصلي بهم، فلا يأتي لأنه في إجازة عن الصلاة، ينتظر حتى يسمع المؤذن، يقيم ويصفون الناس، ويتقدم المؤذن فيأتي هو في آخر الصف؛ لأنه في إجازة الآن.

    تقول: يا بن الحلال قم أذن، فيقول: أنا اليوم في إجازة، في إجازة عن الدين والطاعات، أنت تعمل لنفسك، هذه الآية قد تنطبق على هذا الصنف من الناس لأنهم في جهل، وهذا هو الذي جعل أعداء هذا الدين يسمون بعض أهل الدين بتجار الدين، مع أن هذه الكلمة طيبة ومدح في القرآن، قال تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:1-11] الله يسميها تجارة، إلا أن مثل هذا السلوك الشاذ جعل العلمانيين واليساريين والشيوعيين يقولون: هذا يتاجر بالدين، يتسلق على سلم الدين، جعل الدين لمصلحته الشخصية، فهو طوع لمن يدفع أكثر.

    وابتليت الأمة بكثير من هذا الصنف من العلماء مع الأسف الشديد، لذلك تجدهم دائماً يدورون في فلك السلاطين والملوك والأمراء، ودائماً على موائدهم يتلقطون ويحمون وينتفعون، وإذا ما ألقيت عظام مناقصة من المناقصات، خروا إليها وتسابقوا عليها، وتنافسوها وتجاذبوها، وما تمر عليهم سنوات إلا وزرعت البنايات والعمارات من أملاكهم، من أين لك هذا، لأنه تقرب وتزلف وكتم العلم، ثم قدمه فتاوى ذات بلايا جاهزة للمتنفذين الذين يسرقون أموال الأمة ولا يتورعون.

    الله سبحانه وتعالى يجعل هذا النوع كأنه باع الدين بثمن قليل، هو في ظاهره قد لا يكون ثمناً كبيراً، لكن كل هذا الثمن الكبير الذي تجد وراءه عمارات وسيارات وبعثات ودراسات لأبنائه في الخارج، وصار في أكبر الهيئات والوزارات، إلى آخره. ما يساوي هو والدنيا عند الله جناح بعوضة، ولعل جلسة عالم مع طالب علم يعلمه حرفاً أو آية أو حديثاً يثبته خير عند الله من دنيا هذا ومن معه.

    1.   

    رفعة أهل العلم تكون بعلمهم وإخلاصهم

    شباب الانتفاضة في فلسطين لولا إخلاص العلماء في المساجد وصدقهم، ما تخرج أولئك الأبطال الأشاوس من أسود الملتوف، وقاذفي المقلاع، وضاربي البطاطا الممسمرة، مما جعل رابين أمس واليوم يصرح بعجزه التام أمام هذه الانتفاضة.

    فالله سبحانه وتعالى عندما يذكر هذا الصنف يبين خطره، لا شك أن هذه الانتفاضة خرجت من التحام بين طالب العلم وبين العالم الذي لا يكتم ما أنزل الله، ولا يشتري به وبآيات الله ثمناً قليلاً، وسعد الدين العلمي مفتي القدس يقول: طلب مني اليهود فتوى صغيرة أن أسمح لهم بدخول المسجد الأقصى فقط، قالوا لي بمقابل أن نعطيك مليون دينار أردني، ونسدد كل ديونك، وسيارة فاخرة، وندرس أولادك في أحسن الجامعات، وإن لم ترض وترضخ سترى منا الويل والدمار، فرفض فحرقوا سيارته، وآذوه في جسمه، لأنه لم يقدم لهم هذه الفتوى.

    فالقضية ليست بالأمر الهين، فالعلماء المخلصون الذين لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً من الناحية المادية هم أفقر الناس، لكن من ناحية العزة والرفعة هم من أغنى الناس والذي نفسي بيده.

    أنا أعرف من العلماء في مصر وباكستان وأفغانستان من لو زرته في بيته وقد بلغ من الشهرة واجتماع القلوب عليه، ومحبة الناس له، وإنزال الرضا والقبول، حتى يظن السامع وهو يستمع إليه في الشريط إذا تحدث أنه لا يتكلم بهذا إلا رجل له نفوذ، وليس له نفوذ ينفذ منه إلا عزة الإسلام وكرامة الإيمان، تذهب تزوره في البيت، تجد السجاد مخرقاً، والستار مرقعاً، والكرسي الذي يجلس عليه مكسراً، ولا يستطيع أن يجمع لك بين الشاهي والحليب لأنه لا يملكهما، وأولاده الصغار والكبار لا يملكون نوعين من الملابس في الصيف والشتاء، أنا لا أقول هذا مبالغة، هذا صدق، لكنكم أنتم لا تدرون عن واقع هذا النوع من العلماء، وهو بإمكانه لو رضخ للسلطة ووقع مجرد توقيع لارتفع.

    و سيد قطب ماذا طلبوا منه؟

    توقيع، قال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله تأبى أن توقع للظالمين، لو وقع هذا الصنف من العلماء لفرشوا له الأرض ذهباً كما يقول الله في القرآن: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء:73-74] لأن النفس لها حظوظ .. لها رغبات .. لها طموح .. لها آمال، إن لم يثبت الله سبحانه وتعالى هذا النوع من العلماء فلا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ولا يكتمون ما أنزل الله من البينات، ويجرون وراء رغباتهم وشهواتهم وآمالهم؛ إن لم يثبتهم الله فسيركنون عاجلاً أو آجلاً: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء:74] ثم تكون النهاية المأساوية لهذا الصنف إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ [الإسراء:75] أي من العذاب وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75] أي من العذاب، تعذيب مضاعف في الحياة، أي شقاء وسوء سمعة وسوء ختام، وتمزق شمل، وضياع أسرة، وتمرد أولاد، وفضائح ما بعدها فضائح، وفي النهاية عذاب عند الموت، يستمر إلى جهنم نسأل الله العافية.

    إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174] الله أكبر! أي: أنت فقط تخيل هذه الآية في عقلك قليلاً يقشعر بدنك، إنسان وضع أمامه طبقاً، الطبق هذا ليس فيه فواكه، وليس فيه رز ولحم، فيه كتل من الجمر، وهو يغرف بيديه هذه الكتل ويأكلها، انظر هذا المنظر البشع، وأنت تسمع حسيس أنامله وبنانه وأصابعه وهي تشوى، وحسيس شفتيه ولسانه وهي تحرق، والدخان المتصاعد من أثر شواء البلعوم والمريء واستقرار الجمر في البطن والمعدة، وما يدور فيها من آلام وانكماشات وتحرقات وتقيحات، أمر لا يستطيع الإنسان أن يتخيله، فضلاً عن أن يفعله، أهذا واقعهم يا رب؟ قال: نعم، هذا واقعهم عاجلاً أو آجلاً.

    أما من الناحية المعنوية فهذه حياتهم، انظر إليه وهو جالس يتاجر بالدين وينافق السلاطين، كيف تدور عيونه؟ وكيف يتحرك رأسه مثل الثعلب، وكيف يهرش نفسه بحركات تبين الخواء الروحي والانهزام النفسي، والقلق والاضطراب على الكرسي الذي هو جالس عليه، وله نظرات أقرب ما تكون إلى النظرات الثعلبية، لولا أن له أنفاً وأذنين وصوتاً لقلت هذا ثعلب أو ذئب.

    ثم انظر بعد ذلك إلى الآلام والمعاناة، لأنه مهما كان الإنسان يجري وراء الشيطان، فإن الضمير الإيماني والذنب الذي يأبى إلا أن يذل صاحبه يقلق عليهم حياتهم ومعيشتهم، تراهم مشدودي الأعصاب في تأزم نفسي، لا يطيق أن يقابل أحداً أو يجادله أحد أو يناقشه أحد إلا وينفجر كالبركان، هذه عناوين الشقاوة، يأكلون في بطونهم النار، والذي يأكل في بطنه النار لا يشتهي أن يكلم زوجته أو أولاده أو أي أحد، أنت عندما تحمل شيئاً حاراً تصرخ ولا تعي، فكيف بمن يأكل في بطنه النار: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:174].

    يوم القيامة يقول الله لهم: املئوا هذه البطون لهم بالنار كما ملئوها من السحت والحرام، يوم أن تسلقتم على حساب الدين، وتزلفتم به إلى السلاطين، قال تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] نوع من النفاق يسمونه مجاملة، ويهتز الكاذب أمام الصادق، ولو كان الكاذب يملك دولاً وجيوشاً، والصادق معه قوة الصدق، والكاذب معه ضعف الخيانة والغدر، الله أكبر!

    لهذا المنافقون الذين يزعمون العلم إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، هل حقق معكم أحدٌ وقال لكم: هل أنتم مسلمون أو مؤمنون، لكن: يكاد المريب أن يقول خذوني: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:14] حتى يدفعوا التهمه عن أنفسهم، قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14].

    هذا الانفصام العقدي الديني، كيف يحيا صاحبه بين الناس؟ يلقى هؤلاء بوجه!! ويلقى هؤلاء بوجه!! لا شك أن حياة هذا الصنف من الناس حياة غير طبيعية، أشبه ما تكون بالهستيريا والجنون، فهو يتلون ويتلون ويتلون.

    العالم العامل الصادق كالشمس، يشع على كل مكان، وتستقي من ضيائه النباتات والكائنات ألواناً وطاقة ودفئاً، والمنافق من هذا الصنف كالحرباء التي تراقب هذه الشمس، انظر إلى قبح منظر الحرباء، أينما تدور الشمس تدور معها، وتتلون حتى تموه على الناظر فلا يراها ولكن تظل الشمس هي الشمس، تشرق كل يوم، تستفيد منها كل الكائنات، وتظل الحرباء هي الحرباء، بتلونها وتغيرها وغدرها.

    اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، آمين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768244442