أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الباب الثالث -أي: من كتاب القدر- باب الإيمان بأن الله عز وجل إذا قضى من النطفة خلقاً كان وإن عزل صاحبها، ومن رد ذلك فهو من الفرق الهالكة ].
أي: لو أراد الله عز وجل للنطفة التكوين والخلق مع محاولة صاحبها ألا تكون لكانت؛ لأن إرادة الله تعالى غالبة، وهو القادر على كل شيء، القادر أن يخلق الأشياء بغير سبب، القادر ألا يخلق الأشياء وإن اتخذ الناس الأسباب.
فلو أن رجلاً عزل عن امرأته وقذف ماءه خارج رحمها، وأراد الله عز وجل مع ذلك أن تكون النطفة علقة كانت مهما حاول صاحبها، وإذا أراد الله عز وجل ألا يخلق تلك النطفة وإن لم يعزل صاحبها مائة عام لا تكون.
فكم من امرأة وضعت لولباً وحملت مع وجود اللولب، بل نزل الوليد وهو آخذ باللولب في يده قابض عليه، وكم من إنسان كان يحرص ألا يكون له ولد فمنع الحمل سنة وسنتين وثلاثاً وأربعاً وعشراً ثم فوجئ بأن امرأته تأتي في البطن الواحد باثنين وثلاثة وأربعة، وتفعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، وكأن الله تبارك وتعالى قد جمع لها ما قد فرقته في الأعوام الماضية، فالحرب مع الله تعالى لا تصلح أبداً.
أي: من يتصور أن الكفر وقع منه على مشيئته وليس على مشيئة الله، وأن المعصية وقعت منه بمشيئته وليست على مشيئة الله، وأن الطاعة والإيمان وقع منه بالخيار وبمشيئته دون مشيئة الله وقدرته وإرادته فقد كفر بالله عز وجل؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير، ولا يكون في كونه إلا ما أراد وقدر وشاء من خير وشر، وكما أن الله تعالى خلق الخلق فهو كذلك خالق الشر، لكنه خلق الشر ونهانا عنه ولم يرضه لعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، فهو سبحانه قد نهانا عنه وحذرنا منه، ولأهله خلق النار، لكن كما قلنا فإن كثيراً من الناس يفرقون بين إرادة الله ومشيئته الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، والمشيئة والإرادة الكونية القدرية التي تضم الخير والشر، إذ ما من خير على الأرض إلا وقد أراده الله وقدره وشاءه مشيئة شرعية دينية وأحبه وأمر العباد به، وأما ما يقع في الأرض من شر فلا يقع إلا بمشيئة الله، لكن بمشيئته الكونية القدرية، وليس بلازم أن الله تعالى يحبها، بل من الأفعال التي تقع في الأرض بمشيئته الكونية القدرية منها ما هو خير ومنها ما هو شر، فلا تبنى المحبة أو فلا تبنى المشيئة الكونية القدرية على المحبة.
وإنما فيها ما يحبه الله، وفيها ما يبغضه الله من الكفر وسائر المعاصي، لكنه لا يكون في الكون إلا ما أراد الله وقدر، ولا يفهم أحد من هذا الكلام أن الله تعالى إذا كان قد قدر الخير والشر، وجبر الخلق عليه، وقهرهم على فعل الشر والتلبس بالكفر، إذاً فلم يعذبهم ولم يعاقبهم؟ هذا الكلام من أبطل الباطل، وقد رددنا عليه مرات، لكننا نذكر به دائماً حتى لا يدور في خلدات أحد من السامعين أن الله تعالى قدر المعصية على العبد، وجبره وقهره عليها، وأن العبد مسلوب الإرادة، وقد قلنا من قبل في الجواب عن هذا السؤال أو على هذا الوهم: أن الله تعالى له مشيئة، وللعبد مشيئة، فهو ليس مسلوب الإرادة، قال تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ [الأنفال:67]، فأثبت في هذه الآية للعبد إرادة، وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ [التكوير:29]، فأثبت في هذه الآية أن للعبد مشيئة، على خلاف وقع بين أهل العلم: هل المشيئة هي الإرادة أو أنهما شيئان مختلفان؟ ليس هذا أوان بحثه، وقد بحثناه من قبل أيضاً.
لكن الله تعالى خلق الشر ونهانا عنه، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وجعلنا عقلاء مميزين وعفا عن المجانين والنائمين والناسين أصحاب الأعذار، والله تعالى لا يحاسب إلا من وقع تحت طائلة التكليف، ومعنى أن الله تعالى قدر علي الشر أو قدر علي المعصية: أنه علمها أزلاً فكتبها في اللوح المحفوظ، والتقدير هنا بمعنى العلم والكتابة، والله تعالى أذن في خلقها وفي إيجادها، فالله تعالى أذن فيها خلقاً وإيجاداً، واكتسبها العبد فعلاً وعملاً.
فهذا معنى أن الله تعالى أراد وقدر الشر، أي: أنه علمه أزلاً قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ.
ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه، فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه ]، أي: لو علم الله عز وجل أن عبده فلان سيعمل خيراً وطاعة في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، فإنه لو أراد ألا يعمل هذه الطاعة لما استطاع؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيعمل.
فلما علم الله تعالى أن عبده سيسلك عمل الطاعة يسرها وقدرها له، وأذن في خلقها ووجودها، والعبد هو الذي باشرها وهو الذي عملها، فإذا أراد العبد شيئاً غير ما أراد الله لا يقدر، وإذا شاء العبد شيئاً ما شاءه الله له لا يقدر، بل لابد أن تنفذ مشيئة الله تعالى، وعلم الله تعالى وقدرة الله تعالى في عبده مهما حاول العبد معاكسة ذلك ومخالفة ذلك والإتيان بنقيضه، فإن العبد لا يستطيع أن يغير أبداً.
قال: [ ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه، فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه، وجعل الخلق يقدرون لأنفسهم على ما لا يقدر الله عليه منه، وهذا إلحاد وتعطيل وإفك على الله عز وجل، وكذب وبهتان، ومن زعم أن الزنا ليس بقدر ]. أي: ومن زعم أن الزنا يقع من العبد بغير قدر الله ومشيئته الكونية القدرية فقد أخطأ؛ لأن الله قدرها أن تقع في الكون، ومعنى قدرها، أي: علمها من عبده قبل أن يخلقه، وقبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وقبل أن يخلق هذه النسمات، علم أن عبده فلان ابن فلان سيزني بفلانة في المكان الفلاني في الساعة الفلانية، فلما علم الله تعالى ذلك منه كتبه في اللوح المحفوظ، وبالتالي فلابد أنه واقع منه.
ولا يعني ذلك جواز الاحتجاج بالقدر على المعصية كما قلنا من قبل؛ لأن الاحتجاج بالقدر على المعاصي سبيل أهل البدع، والاحتجاج بالقدر على المصائب والنوازل سبيل المؤمنين، فإذا نزل بك مرض أو علة أو آفة أو يقتل ولدك أو غير ذلك، كل هذا إذا سألك أحد فقل: قدر الله وما شاء فعل.
أما أن تزني وتقتل وتسرق وغير ذلك، ثم يقال لك: لم ذلك؟ فتقول: قدر الله وما شاء فعل! فتحتج بالقدر على المعصية، هذا سبيل أهل البدع، وكما رجحنا من قبل أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعصية إلا بعد التوبة منها، أما قبل التوبة فهذا مسلك أهل البدع.
قال: [ ومن زعم أن الزنا ليس بقدر، قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد؟ ]، مع أنه نتاج من الزنا، فهل هذا الولد خلق بمشيئة الزاني أم بمشيئة الله عز وجل؟ [ وهل مضى هذا في سابق علم الله أم لا؟ ] أي: هل سبق في علم الله أن فلاناً سيزني بفلانة، وأنها ستحمل منه ذكراً أو أنثى؟ الجواب: نعم، [ وهل كان في الذرية التي أخذها عز وجل من ظهر آدم؟ ]، وذلك لما أخرج الله تعالى ذرية آدم من صلب آدم فقال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172].
وهذا هو الميثاق الأعظم الذي أخذه الله تعالى على عباده لما استخرجهم كالذر من ذرية آدم، ووضع بعضهم أو قسماً منهم في يمينه، وجعل القسم الآخر في يده الأخرى وهي اليمين كذلك، وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، فهل ترون أن هذا الولد من الزنا ممن أخرج من صلب آدم وأخذ الله تعالى عليه الميثاق، أو أنه لم يخرج؟ والميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم قوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، أي: شهدوا بالربوبية والألوهية في وقت واحد.
والجواب: أن هذا الولد من الزنا لما أخرج الله عز وجل ذرية آدم من صلب آدم كان فيهم، ومن أخرجه من الميثاق فيلزمه أن يأتي بدليل ولا دليل، إذاً: فلابد من القول: بأن هؤلاء قد خرجوا من صلب آدم، وأخذ الله عليهم العهد والميثاق، وحينئذ فلابد أن نقول: بأن هذا الولد سبق في علم الله أنه سيكون، وأن الله تعالى قدر له ذلك، وشاء له أن يخلق في بطن أمه من هذا الماء الهدر، ولما كان كل ذلك لابد أن نسأل أنفسنا: هل استطاع هذا الزاني أن يزني بتلك الزانية على غير مراد الله وعلى غير مشيئة الله، أم أن ذلك وقع بمشيئة الله؟ لا يستطيع أحد في الكون أن يتحرك حركة، أو إذا كان متحركاً أن يسكن سكنة إلا بمشيئة الله، سواء كان ذلك من أهل الطاعة أو من أهل المعصية، وهذه سنة التدافع الكونية القدرية في الكون بين الخير والشر.
وما كان يصلح أن يخلق الله عز وجل جميع الخلق مؤمنين، وما كان يصلح كذلك أن يخلق جميع الخلق كفاراً وملحدين، بل لابد أن يكون هناك إيمان وكفر، خير وشر، حق وباطل، حتى تقوم سنة التدافع بين الخلق، ولا تحلو الحياة إلا بهذا، وهذا أعظم ميدان وأفسحه لطلب الجنة، أي: أن يوجد مع الإيمان كفر، ومع الخير شر، ومع الحق باطل، حتى ترفع راية الجهاد فيؤخذ من يؤخذ من أهل الإيمان بناصيته إلى جنة عرضها السموات والأرض، إنه ميدان فسيح وحكمة عظيمة جداً خلق الله تعالى لها الخير والشر.
قال: [ أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها، هل شاء الله أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى هذا في سابق علم الله؟ وهل كان في الذرية التي أخرجها عز وجل من ظهر آدم؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقاً غيره وإلهاً آخر، وهذا قول يضارع الشرك؛ بل هو الشرك الصارح، تعالى الله عما تقول الملحدة القدرية علواً كبيراً.
ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر من الله، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وأن ما أخذه وأكله وملكه وتصرف فيه من أحوال الدنيا وأموالها كان إليه هو وبقدرته، يأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، إن شاء أغنى نفسه أغناها، وإن شاء أن يفقرها أفقرها، وإن أحب أن يكون ملكاً كان، وإن أحب غير ذلك كان، وهذا قول يضارع قول المجوسية، بل ما كانت تقوله الجاهلية، لكنه أكل رزقه وقضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأن الله عز وجل كتب للمقتول أجلاً علمه وأحصاه وشاءه وأراده، وأن قاتله شاء أن يفني عمره ويقطع أجله قبل بلوغ مدته وإحصاء عدته ]. أي لو قال رجل: أنا سأقتل فلاناً شاء الله أم أبى! فهل سيقتله؟ لا يقدر، وإن قتله فهذا ما علمه الله تعالى في الأزل أنه سيقتله، ويكفر بقوله: شاء الله أم أبى.
قال: [ فكان ما أراده القاتل، وبطل ما أحصاه الله وكتبه وعلمه، فأي كفر يكون أوضح وأقبح وأنجس وأرجس من هذا؟ بل ذلك كله بقضاء الله وقدره، وكل ذلك بمشيئته في خلقه وتدبيره فيهم، قد وسعه علمه وأحصاه وجرى في سابق علمه ومسطور في كتابه، وهو العدل الحق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، ولا يقال لم فعله وقدره وقضاه كيف ولا لم -أي: كيف قدر الله كذا؟ ولم قدر الله كذا؟- فمن جحد أن الله عز وجل قد علم أفعال العباد وكل ما هم عاملون، فقد ألحد وكفر ].
ومعلوم أن مراتب القدر أربع: العلم، والكتابة، والإرادة، والخلق، والعلم والكتابة من أنكرهما كفر بالإجماع، ومعنى العلم والكتابة: أن علم الله تعالى سابق، وأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وبالتالي -كما ذكرنا- من أنكر هاتين المرتبتين فقد كفر، بل من أنكر علم الله السابق كفر، ووقع اللبس عند كثير من الخلق في معنى الإرادة، ولذلك يتوجه العوام دائماً بسؤال: هل الإنسان مسير أم مخير؟ ومصدر هذا السؤال الفلاسفة والمعتزلة والجبرية والقدرية، بل لا يوجه هذا السؤال إلا جاهل أو صاحب اعتقاد منحرف، والجواب عن هذا السؤال عند أهل السنة والجماعة: بيان الفرق بين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة القدرية الكونية.
فإذا كان الأمر كذلك بينا أن الخير والشر يقع بإرادة الله تعالى، كيف لا والذي خلق إبليس رأس الشر هو الله سبحانه وتعالى، وما من شر يقع في الأرض إلا ومصدره إبليس، إذاً: فالله تعالى خالق الخير والشر، وليس معنى أنه خالق الخير والشر أنه يرضى عن الشر، بل إنه لو رضي عن الشر إذاً فلم أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ومنحنا العقل والتمييز، وهددنا إن وقعنا في شيء مما نهانا عنه؟
لكن لما أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وميزنا بالعقل عن سائر المخلوقات، وعفا عن المجانين كما في الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ)؛ فقد أقام علينا الحجة من أنفسنا، وحينئذ أمرنا ونهانا، وألزمنا بالطاعة وحذرنا من المعصية، ووعد الطائعين بجنة عرضها السماوات والأرض، وحذر المخالفين من النار وبئس المهاد، وحينئذ لابد أن نعتقد أن الخير والشر يقع بإرادة الله تعالى ومشيئته خلقاً وإيجاداً، ويقع بإرادة العبد كسباً وعملاً.
وبالتالي يستقيم أمر الإيمان بالقدر، ونعلم أن السؤال الذي يوجه دائماً: هل العبد مسير أم مخير؟ أنه مسير من وجه ومخير من وجه، ولذلك يقول الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فأثبت للعبد مشيئة في اختيار الكفر، لكن الكفر لا يقع من العبد إلا إذا كان الله قد علمه في الأزل وشاءه وقدره خلقاً، والعبد هو الذي باشر الكفر بنفسه واختاره لنفسه ورضيه لنفسه، رغم وجود المرسلين ورغم إنزال الكتب عليهم، ورغم إكرام الله تعالى لعبده هذا بالعقل وغير ذلك.
إذاً: من الأخطاء الفادحة توجيه هذا السؤال: هل العبد مسير أم مخير؟ العبد مسير من وجه ومخير من وجه، وهذا يعبر عنه أئمة السلف بأن لله مشيئة وللعبد مشيئة، وأن الأفعال كلها خيرها وشرها تقع من الله خلقاً وإيجاداً ومن العبد كسباً وعملاً.
ومن أقر بالعلم -أي: ومن أقر بعلم الله الأزلي الثابت- لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة، فالله تعالى هو النافع الضار، المضل الهادي، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا منازع له في أمره، ولا شريك له في ملكه، ولا غالب له في سلطانه، خلافاً للقدرية الملحدة.
وباب القدر قد ضلت فيه فرقتان عظيمتان، فبعضهم قال: العبد مجبور على أفعاله، مسلوب الإرادة لا إرادة له البتة، ولابد أن يَخلصوا في نهاية الأمر إلى معاتبة الله عز وجل ورد الحكم على الله تعالى.
فإذا كان العبد مجبوراً ومقهوراً على فعل المعصية، إذاً: فلم يعذبه الله؟ لابد أن يَخلصوا إلى هذا السؤال؛ لأن العبد عندهم لا إرادة له ولا مشيئة له، وأنا لا أدري كيف ضرب هؤلاء جميعاً بهذه الآيات وهذه النصوص الشرعية عرض الحائط؟! كيف وكأني بهم لا يدرون ما يخرج من رءوسهم؟! أو كأني بهم لم ينظروا في كتاب الله مرة ولا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام مرة! فهم يثبتون المشيئة التامة المطلقة لله عز وجل، وهذا حق، لكن الباطل أنهم ينفون المشيئة والإرادة للعبد، فيكون العبد كالميت بين يدي مغسله، وكالمريض بين يدي الطبيب لا يملك حولاً ولا قوة، لا يملك خيراً ولا شراً، لا علاقة له بأفعاله، فهو مسير في كل أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته على حسب ما قدر الله تعالى له، وكأن الله تعالى هو الذي فرض عليه الشر، والمعلوم أن الشر المحض ليس من أفعال الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك والشر ليس إليك)، أي: أنت يا رب! مصدر الخير، وأنت خالق الخير، وأنت المنعم بالخير على عبادك، والشر المحض الذي ليس معه أي خير ليس من أفعال الله عز وجل، بل الأعمال التي ظاهرها شر وباطنها خير هي من أفعال الله عز وجل، ولذلك الذي ينظر إلى الزنا أو إلى القتل أو إلى السرقة لا بد وأنه يظن بأن هذا شر محض، وفي الحقيقة هو ليس كذلك، إنما لو أقيم الحد على الزاني والزانية على ملأ من الناس لفكر كل إنسان قبل أن يزني أنه سيقام عليه الحد على الملأ، وبالتالي يكون أعظم رادع لغيره من الملايين من ملايين البشر.
فهذا باب عظيم جداً من أبواب الخير ربما لا ينصاع الناس لدعوة الدعاة كما لو رأوا حداً يقام على واحد منهم، والدعاة والعلماء والمشايخ بالليل والنهار، شرقاً وغرباً، يحذرون من المعاصي والكبائر والفتن وغير ذلك، ومع هذا نجد وربما في نفس المسجد أو في نفس المكان الذي يدعو فيه الداعي ويحذر فيه من المعصية نجد كثيراً من المعاصي والكبائر تقع في نفس الوقت الذي توجه فيه الموعظة، لكن الناس لو اجتمعوا حول هذا الإنسان وشاهدوا بأعينهم إقامة حد واحد لله عز وجل، فإن الجميع سيرتدع، ويدخل جميع العصاة في جحورهم، ولا ترى أحداً إلا فعالاً للخير مبتعداً عن الشر، فهذا حد واحد كان له أعظم الأثر في قلوب جميع الأمة؛ لأن كل واحد منهم سيفكر جيداً قبل أن يقدم على المعصية أنه سيقام عليه الحد ليتطهر به.
إذاً: الشر المحض ليس من أفعال الله، لكن الشر الذي يراه الناس شراً هو في باطنه خير؛ لأن حداً واحداً كان بسببه دعوة الأمة بأسرها إلى الله عز وجل، وحينئذ لابد أن نعتقد أن الخير كل الخير بيد الله عز وجل، وما قدر الله تعالى وجبر وقهر الناس على المعصية، لكن الله تعالى لما علم من عبده بعد قيام الحجة عليه، ومعرفته بالخير والشر، أنه سيختار طريق الشر، كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
ولا يعني ذلك قهره على الخير، أو قهره على الشر، فهذا قول فرقة من الفرق وهي الجبرية، إذ إنهم يدعون أن العبد مجبور على أفعاله مسلوب الإرادة، وفي المقابل يقولون: العبد صاحب الإرادة الكاملة والمشيئة التامة ولا دخل لله عز وجل في أفعاله، بل لا يعلم الله تعالى أفعال عبده إلا بعد أن تقع من العبد، وهؤلاء هم القدرية، وكلاهما على باطل عظيم جداً.
فحذار أن تظن أن الله تعالى قد جبرك على المعصية، وأنه الذي اختارها لك، بل أنت الذي اخترتها، فلما اخترتها وسلكت سبيلها، وإن كان ذلك قبل أن تخلق، وقبل أن تكون نطفة، لكنه سبق في علمه أن ذلك سيكون منك، فأذن في وقوعها منك، وكلمة: (أذن في وقوعها منك)، أي: أراد الله تعالى لها أن تقع في الأرض، وأن تكون في الأرض، أما الذي باشرها فهو العبد، وهو أظلم.
وتعلمون المرأة التي كانت في أمس الحاجة إلى الدريهمات لكي تطعم أولادها أو تنفي عنها فقرها، فقد سلكت كل سبيل للحصول على ما تقتات به، وما وجدت إلا أن تطلب من ابن عم لها أو قريب لها، فخيرها بين أن يمنعها أو أن يعطيها على أن تمكنه من نفسها، ففعلت حتى جلس بين شعبها الأربع.
والواحد منا أيها الإخوة الكرام! إذا تصور هذا المنظر قال: لابد من وقوع الزنا، لكن هذه المرأة قالت له كلمة حولت مساره من شرير عاص لله عز وجل منتهك للحرمات إلى رجل طائع يخاف الله تعالى، قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فانصرف عنها -وقد أعطاها الدراهم والدنانير- لما خالط قلبه بشاشة الإيمان، وترك المال مستغفراً وتائباً إلى الله عز وجل، فانظروا إلى هذا الرجل لم يكن بينه وبين المعصية إلا قاب قوسين أو أدنى، ثم انصرف عنها.
فهل تعتقدون أن ما حدث منه لم يكن يعلمه الله قبل خلق السموات والأرض، ولم يكتبه الله عز وجل قبل خلق السموات والأرض؟ بل قد علم الله تعالى ذلك وكتبه؛ إذ إن كل شيء يقع في هذا الكون من خير وشر إنما هو بقدر الله عز وجل، فالزنا بقدر، وشرب الخمر بقدر، أي: بعلم وكتابة، وأن الله تعالى علم ذلك وقدره وكتبه.
قال: [ وعن عمرو بن محمد قال: جاء رجل إلى سالم بن عبد الله فقال: الزنا بقدر؟ قال: نعم، قال: قدره الله علي ويعذبني عليه؟ قال: فأخذ له سالم الحصباء ]. وكان هذا منهج السلف، فقد كان إذا ذكر القدر أمسكوا، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وإذا ذكر النجوم أمسكوا كما جاء ذلك في الأثر، ولذلك الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يؤثرون أبداً الخوض في باب القدر؛ لأنهم يعلمون أن القدر هو سر الله تعالى في خلقه، فكانوا يمسكون إذا ذكر القدر، فهذا سالم بن عبد الله بن عمر يسأله رجل: الزنا بقدر؟ فيجيبه بـ(نعم)، فيعترض الرجل ويقول: إذاً فلم يعذبنا الله على أمر قدره علينا؟! فأخذ سالم حصيات من الأرض يريد أن يلقيها في وجهه؛ لأنه سوف يبدأ الخوض في باب عظيم من أبواب الإيمان؛ إذ إن الإيمان يدل على مكنون القلب وعلى الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا نقول فيه: لم كذا؟ وكيف يعذب الله الأموات في قبورهم؟! ولم يعذب الله الأموات في قبورهم؟ وكيف خلق الله الجنة؟ وكيف خلق النار؟ وكيف الصراط؟ وكيف مرور الناس على الصراط؟ وكيف.. وكيف.. وكيف؟ إن كل مسائل الغيب يحرم على المؤمن أن يقول فيها: لم؟ وكيف؟ لأن مسائل الإيمان في الغالب مسائل ابتلاء؛ لينظر الله تعالى هل يؤمن بها العبد أم لا؟ فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس في السماء موضع قدم)، وفي رواية: (موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد أو قائم أو راكع)، فتصور هذا الأمر، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة)، فلا يأتي شخص يقول: نحن جالسون في مجلس علم، وأنا أريد أن أرى هذه السكينة، يا أخي! هل أنت محتاج لأن ترى السكينة؟ قال: (وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة)، فهل تعتقدون أن الملائكة معنا الآن، ويسمعوننا ويحضرون هذه المجالس؟ إن من لم يؤمن بذلك فقد رد على الله تعالى أمره، ورد على الله تعالى خبره، وكذلك رد على الرسول عليه الصلاة والسلام.
وهذا لابد أن يراجع إيمانه، بل أن يراجع إسلامه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، حتى إذا مروا بحلق الذكر)، أي: بحلق العلم، (نادى بعضهم على بعض: ألا هلموا، فيجتمعون فيعلو بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا)، فتصور لو أن فوقنا ملائكة تحفنا بأجنحتها -نسأل الله الرحمة والرضوان- وفوقهم طبقة أخرى من الملائكة، ثم ثالثة، ثم رابعة، حتى تكون نهاية الطبقة من الملائكة ملاصقة للسماء الدنيا، من منا يتصور هذا الشيء؟ لا أحد يتصوره.
لكننا نؤمن به كما جاء، ولا نقول: كيف تكون الملائكة طبقة فوق طبقة؟ أنا أعرف أن الملك الواحد له جناح أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة، لكن أكثر من هذا صعب، أين أضع نفسي من ذلك؟ أنا أمامي طائر أضع له جناحين عن اليمين والشمال، والثالث يمكن أن يكون بظهره، لكن الرابع مكان ذيله، ممكن نفترض هذا جدلاً، والخامس أين؟! إن تصور ذلك صعب جداً، لكن أنت مؤمن أن جبريل له ستمائة جناح، فلو ركبت الجناح الخامس أو السادس أو العاشر أو المائة أو المائتين أو الستمائة، إن ذلك مستحيلاً جداً، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام الذي أهله الله عز وجل لرؤية ذلك المنظر قد ارتعدت فرائصه فكيف بنا؟
إذاً: يلزمنا الإيمان ثم الإيمان ثم الإيمان، بل ولا يصلح معنا إلا الإيمان من غير توجيه سؤال: لم وكيف؛ لأن باب القدر لا يصلح فيه منازعة الله تعالى، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، ولما سأله جبريل عليه السلام ما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)، فقال: (وأن تؤمن)، ولم يقل: بالقدر خيره وشره مباشرة، أي لم يعطف الإيمان بالقدر على بقية أركان الإيمان، وإنما خصه بذكر إيمان آخر، فلم يقل: أن تؤمن بالله، وأن تؤمن بملائكته، وأن تؤمن بالكتب، وأن تؤمن بالرسل، لا، بل عطف كل هذا على بعض فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)؛ لأهمية الإيمان بالقدر، ولخطورة الإيمان بالقدر خصه بإفراده بالذكر، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وما قال: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأنه لابد أن تكون طاعة أولي الأمر من طاعة الله ورسوله، فلا يخصون بطاعة مستقلة، ولو قال الله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر؛ لكان لازماً علينا أن نطيعهم في الخير والشر، في الحلال والحرام، لكنه عطف طاعتهم على طاعة الله ورسوله، بمعنى أنه لابد أن تكون طاعتهم من طاعة الله ورسوله، وفي طاعة الله ورسوله.
قال: [ وعن سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال: (لا تبدلوا الخبيث بالطيب)، قال: لا تجعلوا الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال ].
قال: [ وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يقولون: النطفة التي قدر منها الولد لو ألقيت على صخرة لخرجت تلك النسمة منها ]. لأن الله تعالى قدر لها أن تكون.
أما مسلم فقد أخرجه في كتاب الطلاق، وأما البخاري فقد أخرجه في كتاب النكاح، وهذا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (سألني
[ وعن أبي سعيد قال: (ذكر العزل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما ذاكم؟ -أي: ماذا تقصدون بالعزل؟- قالوا: الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها) ]، أي: يا رسول الله! امرأتي ترضع ولو أني جامعتها حملت، والعرب كانوا يعدون لبن الحامل مضراً بالولد، فنحن نعزل في أثناء الرضاع مخافة أن تحمل المرأة.
قال: [ (الرجل تكون له المرأة ترضع فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه، والرجل تكون له أمة فيصيب منها، ويكره أن تحمل منه) ]؛ لأن الأمة لو حملت كان ولدها تبعاً لها في الرق، وربما تكون كافرة من أهل الكتاب يهودية أو نصرانية، وكفر أهل الكتاب بالإجماع لا على القول الراجح! إذاً: الذي دفعنا يا رسول الله! إلى أن نعزل أمران: الأول: أن هذه امرأتي الحرة ترضع، وأنا لو أصبت منها حملت، فكان في ذلك المضرة على الرضيع، الثاني: أن الواحد منهم تكون له أمة ويريد أن يستمتع بها، لكنه يخشى أن تحمل فيتبعها ولدها في الرق، وهذا أمر لا يشرف صاحب النطفة، أو أنه إذا حملت الأمة صارت أم ولد، ومن أحكام أم الأولاد أنها لا تباع ولا تشترى، فإذا حملت امتنع عليه بيعها للآخرين، وبالتالي تفوته المصلحة في ذلك.
فلما سألوا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك قال: [ (لا عليكم ألا تفعلوا ذاكم) ]، أي: إذا أردتم أن تعزلوا فاعزلوا، (فإنما هو القدر)، أي: حتى وإن عزلتم فلا يكون إلا ما قدره الله تعالى.
قال ابن عون : فحدثت به الحسن البصري فقال: والله لكأن هذا زجر. أي: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يزجرهم أن يعزلوا.
قال: [ وعن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر العزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ولم يفعل ذلك أحدكم؟ -وهذا إنكار- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها) ]، أي: إلا ولابد أن يخلقها الله عز وجل.
قال: [ وعنه قال: سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن العزل فقال: (ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء) ]، أي: لم يمنعه العزل.
وعن جابر قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لن يمنع شيئاً أراده الله، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! إن الجارية التي كنت ذكرتها لك قد حملت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنا عبد الله ورسوله)، والنبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أنا وعبد الله ورسوله) ليس معناه: أنه لم يكن يعرف أنه عبد الله ورسوله، بل كان يعرف، لكنه أراد أن يقول له: أنا عبد الله ورسوله الذي أؤمن بالقدر، وأؤمن أن ما قدره الله لابد أن يكون، ولقد أخبرتكم بذلك.
وعن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، كأن هذا كان أمراً مباحاً، وإلا لو كان حراماً لكان النهي قد ورد، قال سفيان : لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن.
وعن جابر قال: (لقد كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا).
قال: [ (حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم) ]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم تذكر أن فارس والروم يفعلون ذلك، أي: يجامع أحدهم امرأته في أثناء إرضاعها لابنها ولا يضر ذلك الولد، وأن القول المزعوم بأن اللبن حينئذ يضره ليس حاصلاً.
قال: [ وقالت جدامة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئاً، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الوأد الخفي) ].
والمعنى: أنهم كانوا يعزلون والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وما كان ينهاهم، والوأد الخفي حرام، لكن الوأد لا يكون حراماً إلا بعد أن تخلق النطفة، وهذا هو الإجهاض، وأشد حرمة منه الوأد بعد الميلاد مخافة العار أو مخافة الفقر أو تبعاً لأخلاق الجاهلية وغير ذلك، فهذا كله حرام، وقد نهى عنه القرآن نهي تحريم وشنع على فاعله.
وهنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن العزل وأد خفي، ومع هذا لم ينهنا عنه فكيف يكون ذلك؟
الوأد عموماً -كما قلنا- هو بعد التخليق، لكن هذا وأد دون الوأد الذي نهى عنه القرآن؛ لأنه وأد للنطفة، وليس للعلقة ولا للمضغة المخلقة، ولا بعد أن تنفخ فيه الروح، ولا بعد الميلاد ذكراً كان أم أنثى، وإنما ذلك وأد للنطفة منذ تكوينها؛ لأن العبد المجامع لامرأته إذا قارب الإنزال أنزل ماءه خارج الرحم أو خارج فرج المرأة، وهذا معنى العزل، فالنطفة لم تبلغ مرحلة من المراحل بعد، ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم مجازاً وأداً خفياً، وليس الوأد الذي يستلزم قيام الحد.
قال: [ وعن سعد بن أبي وقاص : (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعزل عن امرأتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لو كان ذلك ضاراً ضر فارس والروم)، وفي رواية: (إن كان لذلك فلا، ما ضر ذلك فارس ولا الروم) ].
يقول العلماء: العزل جائز مع الكراهة لعدم وجود النهي من النصوص، والعزل عن الزوجة والأمة هو أن يجامع الرجل حليلته، فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج، وسبب ذلك: العزوف عن علوق المرأة وتكوين حمل في رحمها، وإما لأسباب صحية تعود إلى المرأة أو إلى الجنين -وهو ما يسمى بالغيلة- أو إلى الطفل الرضيع، أو ربما يكون بسبب فساد الزمان، فقد يقول شخص: نحن في زمن شر، وأنا أخشى على أولادي أن يكونوا فاسدين في المجتمع، أو أن يتأثروا بفساد المجتمع، لكن صلاح النية وحده لا يكفي في أغلب الأحوال، بل لابد من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهنا لو أن هذا الرجل عزل بهذه النية وقدر الله تعالى له الولد جاء الولد.
وقد ذهب جمهور من الفقهاء إلى جواز عزل السيد عن أمته مطلقاً، سواء أذنت له في ذلك أو لم تأذن؛ لأن الوطء حق له وليس للأمة، فللرجل الذي له أمة أن يبيعها في أي وقت شاء، أو يعتقها في أي وقت شاء، فهي ملك له كأي متاع، فإذا شاء أن يستمتع بها استمتع، لكن إن استمتع بها فحملت صارت أم ولد وانتقلت إلى أحكام أخرى، لكن لو أراد السيد أن يستمتع بأمته وما أراد منها الولد لأي عذر من الأعذار، كأن يريد أن ينتفع بها في يوم من الأيام بالبيع أو الشراء، أو ربما يخشى من سوء أخلاقها فيتأثر بها ولدها، وغير ذلك من الأعذار الكثيرة، وهي كذلك، أي: وإن لم يكون لها حق على سيدها في الوطء فليس لها حق على سيدها في الحمل، فكل ذلك له.
أما العزل عن الحرة المحصنة العفيفة فهل يلزم فيه إذنها أم لا يلزم؟ وهل الوطء حق له هو أم حق لهما؟ وهل هناك فرق بين الوطء والاستمتاع؟ هذا محل نظر واختلاف بين أهل العلم، وقد اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين: الرأي الأول: إباحة العزل مطلقاً عن الحرة سواء أذنت في ذلك أو لم تأذن، أي: أنها تماماً كالأمة، إلا أن ترك العزل عن الحرة أفضل، وهو الراجح عند الشافعية، وذلك لأن حقها الاستمتاع دون الإنزال إلا أنه يستحب استئذانها.
وفي الحقيقة هذا المذهب ضعيف، والذي أعتقده أن الحرة لابد من استئذانها؛ لأنها شريكة زوجها في الاستمتاع والولد، كما أنها شريكته في الوطء، فهي صاحبة الحق في هذا، والاستمتاع في أثناء الجماع لا يغني عن استمتاع المرأة في لحظة الإنزال، فهذا حقها لا يجوز لزوجها أن يعزل عنها بغير إذنها، فإن أذنت حل له ذلك وإلا فلا.
الرأي الثاني: يباح العزل عن الحرة بإذنها، فإن كان لغير حاجة فمكروه، والحاجة هي الأعذار التي ذكرت من قبل، وهذا قول عمر ، وعلي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، ومالك ، وهو الرأي الثاني عند الشافعية وبه قال الحنفية، إلا أنهم استثنوا ما إذا فسد الزمان، فقالوا: إذا فسد الزمان فيجب على الرجل أن يستأذنها، وتصور الآن -مثلاً- أناساً في فلسطين أو في الشيشان أو في أفغانستان مهددين بالقتل والتشريد والطرد من البلاد وغير ذلك في لحظة من اللحظات.
وبلا شك أن الولد مجبنة وإن كانت هذه سنة الله تعالى في الكون، ولا يصح وجود الخلق إلا بوجود التناسل، وأن التناسل وراءه من المنافع ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن أحياناً الواحد منا يجلس مع نفسه ويقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الولد مبخلة مجبنة مجهلة)، وجاء رجل إلى سفيان الثوري رحمه الله وقال له: نستأذنك يا شيخ! لو جئتنا غداً في صلاة العصر لتشهد عقد فلان على فلانة، فقال سفيان الثوري : أبشر، فقال له: بماذا؟ قال له: إذا تزوجت لقد ركبت البحر، وإذا ولد لك فقد غرق بك، يعني: ستنزل في قاع البحر ولن تتطلع مرة ثانية، إذ إن الولد مبخلة، وذلك عندما ينادى للجهاد ويطلب منك التبرع بمالك ونفسك فتقول: من الذي سيربي الولد؟ لكن لو أنك لوحدك حر فربما ستجيب المنادي، فهذا حنظلة ترك امرأته في ليلة عرسه لما سمع منادي الجهاد، لكن شخص مثلي عنده كثير من الأولاد ربما إذا سمع المنادي للجهاد يقول: لا أستطيع الذهاب للجهاد؛ لأن عندي أولاداً أربيهم وأعلمهم وأحفظهم القرآن، والشيطان يأتي لي بمليون حجة واهية.
إذاً: أنا لما أجاهد الشيطان لابد أن يكون إيماني قوياً؛ والولد مجبنة مبخلة، ولذلك الواحد منا عندما يجلس في خلوة مع ربه أحلى أيام، فيذهب بالزوجة وأولادها إلى أهلها، ويجلس طول الليل ينتفع بوقته، فينتفع بعلمه ومذاكرته ومراجعته وقيامه وغير ذلك.
لكن عندما يكون الأولاد موجودين، فهذا يضرب هذا، وهذا يشتم هذا، وهذا يريد أن يقتص من هذا، وهذا يريد قلماً، وهذا يريد دفتراً، وهذا يحكي لك حكاية طويلة جداً من نسج خياله، وأنت مضطر لأن تسمع إلى آخر شيء حتى تقره أو تنصحه أن يبتعد عن هذا الصديق الشرير أو غير ذلك، والمهم أن الشيطان يأتي بهم إليك ويوقفهم طابوراً وراء باب المكتبة حتى لا تقرأ، وأنت مضطر أن تتنازل عن شيء من وقتك إن لم يكن عن وقتك كله، حتى ترتب أمورك مع الأولاد، ثم قد تأتي الزوجة فتقول: أنت كسرت قلب الولد، إذ إنك لم تسمع منه الحكاية، وهو قد حكى لي كلاماً طيباً، فأنت بهذا قد كسرت قلب الولد، وأنت تريد أيضاً أن تكسر قلبي، فهل كسر قلبي سهل عليك؟ لكن الولد هو ابن امرأتي، فهل يلزم أن أسمع إلى الولد ونقفل الكتاب؟ وبعد أن ينتهي يأتي الذي بعده، وهكذا إلى صلاة الفجر، فيذهب الليل كله ولم نعمل فيه شيئاً.
فالولد (مجهلة) أي: يبعدك عن العلم ويوقعك في الجهل، أيضاً (مجبنة مبخلة)، فإذا ولد لك الولد فقد سقط بك المركب في قعر البحر، وهذا أخ من إخواننا أدرك الحقيقة هذه وأفزعته جداً، وهو في الحقيقة طالب علم جيد، فأصر إصراراً لا شفاعة فيه أن يطلق امرأته ببنتيها ويخلو بربه، فقلنا له: هذا خلاف الشرع، وإلا لو كان هذا جائزاً لفعله السلف، لكن لم نسمع أن واحداً من السلف فعل ذلك، لكنه أصر على ذلك وطلق امرأته، فعاقبه الله عز وجل بأدواء وأمراض من جراء الوحدة حتى لم ينتفع بعلم ولا بغيره.
ولهذا فسنة الله عز وجل هي أن يكون لكل رجل زوجة، وأن يكون لكل امرأة زوج، والمرأة إذا بلغت وكذا الرجل فليس هناك أفضل من أن يجتمعا تحت مضلة الشرع.
وعند عبد الرزاق والبيهقي من حديث ابن عباس قال: (نهى عن عزل الحرة إلا بإذنها)، وكلاهما ضعيف.
وأما أدلة الكراهة: فإن العزل إن كان بدون عذر فلأنه وسيلة لتقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطئة، ولذلك الكفار يحرصون كل الحرص على تكثير نسلهم، وفي نفس الوقت يدفعون الأموال الطائلة للمسلمين لتحديد النسل، ولما علموا أن (التحديد) لفظ جارح وخادش لمعتقد كثير من المسلمين، جاءوا بلفظ (التنظيم)، والبلاء واحد لكن الأسماء مختلفة بحيث يستحلون محارم الله بأدنى الحيل.
ويبقى أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حث على تعاطي أسباب الولد فقال: (تناكحوا تكثروا)، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
إذاً: مسألة الجمال والحسن والوجاهة مسألة نسبية، فإذا كانت المرأة تريد العزل بعذر المحافظة على جمالها ورشاقتها فهذه مسألة نسبية.
وهذه المسائل كلها يا إخواني! تريد رجالاً أصحاب تقوى؛ لأن الكلام مكتوب في الورقة وبإمكان كل إنسان أن يقرأه، لكن الذي يطبقه على نفسه يحتاج إلى تقوى الله عز وجل، والعجب أنه في هذه الأيام كثير من المثقفين يقول: أنا أريد ولداً وبنتاً فقط! وكأنه يشترط على الله قبل أن يتزوج، ولذلك أنا أذكر قصة للعبرة: كان معنا في الإعدادية أستاذ لغة عربية، وكان على مشارف المعاش، وكان أول رجل رفع الراية في نصرة مذهب الغرب في تحديد النسل، وكان يحارب لأجل هذا الغرض في كل واد وميدان، وما كان يعجبه قط رفض المشايخ لهذه الدعوة الخبيثة، ثم أنجب هذا الرجل ولداً واحداً بإرادته، أي: أنه اتخذ الأسباب لمنع النسل بعد الحصول على الولد الأول، ورباه تربية حميدة، حتى أصبح مثالاً للأدب والأخلاق الحسنة، وهو أستاذ في كلية الآداب في جامعة عين شمس، لكن الرجل لما كبر ولده وذهب إلى جامعة السوربون ليحصل على الدكتوراه شعر بالوحدة بينه وبين امرأته، فلما أراد الولد كان الوقت قد فات، فنصحه الناس أن يتزوج امرأة أخرى، فهاجم هجوماً جديداً في قضية تعدد الزوجات، وما أن كبر وذهب عنه الناس وماتت امرأته ترك الرجل التدريس وأحيل على المعاش، فمكث في بيته بقية عمره وحيداً فريداً، قد كرهه أهل بلدته كلهم بسبب الحملات التي حملها عليهم من قبل، وبقي الرجل في بيته حتى جن وفقد عقله، وأنا أذكر لما كنت في الجامعة زرته؛ لأنه رجل صاحب فضل ومنة علي، فأخذت أذكره بما كان منه من حملات ضد النسل في ذلك الوقت، فكان الرجل يبكي بكاء شديداً، فبكينا لبكائه حزناً عليه وعلى ما وصل إليه حاله، وكان دائماً يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لتزوجت أربعاً من الزوجات.
وكان دائماً يدعو لنا بدعوة واحدة: أسأل الله تعالى ألا تروا ما قد رأيت، ولما كبرنا عرفنا الوحدة وكيف هي؟ وإن كنا لم نجربها، لكن الإنسان دائماً لا يستغني أبداً أن يجتمع بالناس، أما تعلمون أن الرجل إذا كبر في سنه وفارقته امرأته أو ماتت عنه يحب أن يتزوج امرأة أخرى ولو أكبر منه، لا لأجل اللذة والفراش، وإنما لأجل المؤانسة.
وهذا رجل قد هرم وماتت عنه امرأته منذ أقل من سنتين، وهو صاحب جاه ومال وأولاد أربعة، أطباء، والرجل احتال على أصدقاء أولاده هنا وهناك حتى رفعنا الأمر إلى أولاده وقلنا لهم: حقه الشرعي لا تمنعوه، فتفهموا أخيراً للأمر وأذنوا له بالزواج، والله يا إخواني! الرجل يتصل بي في أي وقت من الليل الساعة الواحدة الثانية الثالثة الرابعة قبل صلاة الفجر ويقول: والله يا شيخ! ما نمت، أنا سوف أجن، ويقول: كدت أفقد عقلي، أنا أريد امرأة تؤنس وحدتي، ولا تحصل هذه المرأة مني على شيء، لكني أريد أن تؤنس وحدتي فقط.
وكذلك المرأة أشد حاجة للرجل من الرجل إليها ولو من باب المؤانسة فحسب، وهذه سنة الله عز وجل لا يحل لأحد أن يمنع فيها، فإذا فسد الزمان وحرص الرجل ألا يكون له ولد مخافة أن يفسد مع فساد أهل الزمان فذلك له.
نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر