الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما روي في أن الإيمان بالصراط واجب]. ذكرنا من قبل: أن بعض علماء الأزهر للأسف الشديد قال: الصراط شيء معنوي لا حقيقة له، وإنما خوف الله عز وجل بذكره عباده حتى يستقيموا على الطاعة. وهذا كلام في غاية الفساد، فالصراط حق والإيمان به واجب، والصراط كما ذكر سلفنا رضي الله عنهم من أمور الغيب التي لا يمكن أن يقع لآحاد الناس الإخبار بها إلا الصادق المصدوق.
فنقول: إن هذه النصوص التي وردت عن سلفنا رضي الله عنهم وإن كانت موقوفة إلا أن لها حكم الرفع، لأن هذا من أمور الغيب التي لا يعلم خبرها إلا الله عز وجل وأخبر بذلك أنبياءه ورسله.
إذاً: وقوع الناس في جهنم وهم يعبرون الصراط على قدر أعمالهم تخطفهم هذه الكلاليب، والحديث في الصحيحين.
قال: [(قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اعلموا أنكم لن تروا ربكم إلا أن تموتوا فتبعثوا)]، وهذا للتحذير من اتباع الدجال الذي إذا ظهر زعم أنه الله، أو أنه الرب.
قال: [(اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا فتبعثوا، فلما سألوه عليه الصلاة والسلام: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحواً ليس معها سحاب -أي: هل يحصل لكم ضير أو ضيم أو شك؟- وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قال: قلنا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارون في رؤيته يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)]، أي: في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب.
النبي عليه الصلاة والسلام لم يمثل الله تعالى بمخلوقاته الشمس والقمر، وإنما مثل الرؤية بالرؤية، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي، فكما أنكم ترون الشمس في رابعة النهار صحواً ليس دونها سحاب لا تضامون ولا تشكون أن هذه هي الشمس؛ فإنكم سترون الله عز وجل يوم القيامة لا تشكون أن هذا هو الله عز وجل، فهذا تشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي.
قال: [(إذا كان يوم القيامة نادى مناد: لتلحق كل أمة بما كانت تعبد -أي: لتذهب كل أمة إلى معبودها فتكون تبعاً له- فلا يبقى أحد كان يعبد صنماً ولا وثناً ولا صورة إلا ذهبوا -أي: ذهبوا إلى متبوعيهم- فأخذوهم بأيديهم ثم يتساقطون في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر)]، أي: ما دام موحداً، وبعضهم قال: الفاجر هو المنافق، فلما كان في مجموع المؤمنين في الدنيا فيكون في مجموعهم في الآخرة، لكنهم إذا كانوا في وسط الصراط ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ويذهب عنهم نور المؤمنين فيكونون في ظلمة ثم يسقطون في جهنم.
قال: [(ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات أهل الكتاب)]، أي: القلة من أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى والذين آمنوا بعيسى قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن من آمن بموسى ولم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام فهو كافر، وكذلك من آمن بعيسى.
قال: [(ثم تعرض جهنم -أي: تنصب- كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً، ثم يضرب الجسر -أي: الصراط- قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: دحض مزلة، له كلاليب وخطاطيف وحسك كشوك السعدان، فيمر المؤمنون كلمح البرق وكالطرف وكالريح وكالطير وكأجود الخيل والراكب -أي: المسرع- فناج مسلم -أي: هؤلاء المؤمنون في عبورهم على الجسر منهم من ينجو ويسلم من العذاب- ومخدوش مرسل -أي: مخدوش منهوش في بدنه بكلاليب السعدان، ولكنه في نهاية أمره يعبر هذا الجسر- ومنهم المكدوس أو المكردس في نار جهنم، فوالذي نفسي بيده! ما أحد بأشد مناشدة في الحق من المؤمنين إخوانهم)]، يعني: حينئذ تكون شفاعة المؤمنين في إخوانهم الذين سقطوا في النار من الموحدين.
والشاهد من هذا الحديث: (ثم يضرب الجسر) والجسر هو الصراط، وهذا فيه إثبات أن الصراط أو الجسر شيء حقيقي لا معنوي، ولا أنه من آيات الله التي يخوف بها عباده.
قال: [(فيقال: يا أهل الجنة! فيطلعون خائفين وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه)]، أي: خائفون أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه؛ لأنه لا يأمن أحد مكر الله عز وجل، مع أن العقيدة قد استقرت في قلوبهم أن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً، بخلاف النار فإن من دخلها من الموحدين فلا بد ولا محالة أنه خارج منها يوماً ما.
قال: [(فيشار إلى الموت ويقال لأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم ربنا، هو الموت -أي: نعم يا ربنا نعرفه، إنه الموت- فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقول للفريقين: خلوداً خلوداً)]، فهذا النداء وجه مرة لأهل الجنة ومرة لأهل النار.
ومعنى (خلوداً خلوداً) أي: فيها تخلدون فلا موت في النار ولا موت في الجنة. والموت الذي يلحق الناس في النار إنما يعادون من بعده ليذوقوا العذاب.
وقال الإمام أحمد : نؤمن بالصراط والميزان والجنة والنار والحساب لا ندفع ذلك ولا نرتاب. أي: ولا نشك فيه.
قال: [(والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبروا وحمدوا -أي: فرح الصحابة بذلك- ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبروا وحمدوا. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبروا وحمدوا الله، قال: ما أنتم في الأمم إلا كالشعرة السوداء في الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود)]، يعني: ما أنتم في الأمم قبلكم إلا شيئاً يسيراً نزراً، كأنه يبشرهم أنهم أكثر أهل الجنة، كما ثبت أيضاً في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أنتم منهم ثمانون) أي: أن هذه الأمة المحمدية ثلث أهل الجنة.
قال: [وقال ابن عمر : (قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] قال: يقومون في رشحهم -أي: في عرقهم- إلى أنصاف آذانهم)]، والحديث في الصحيحين.
قال: [وقال المقداد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد قدر ميل. قال الراوي: لا أدري هذا الميل أهو ميل الأرض -يعني: المساحة المعروفة بالميل- أو أنه ذاك المرود الذي تكتحل به المرأة؟)]، فالعرب تسميه ميلاً، فتصور أن الشمس تدنو من رأسك قدر ميل، ولنعتبره على أحسن الأقوال ميل مساحة الأرض، وانظر إلى هذه الملايين من الأميال بين الشمس وبين رءوس العباد ومع هذا إذا اقتربنا من خط الاستواء قتل الناس حراً وزهقاً من شدة الحر، فما بالك والشمس فوق رأسك مباشرة؟ نسأل الله السلامة والعافية.
بعض الملاحدة لا يعجبه هذا الحديث، ويقول: الناس في موقف واحد ومحشر واحد وأرض واحدة فكيف يختلفون في عرقهم على قدر أعمالهم مع أن الماء سيال؟ والرد عليه: أن الله تعالى على كل شيء قدير، كما أن الله تعالى قادر على أن يبعث هذا الملحد ويلجمه إلجاماً، أو يلقيه في النار ولا يبالي، فكما أننا نؤمن بهذا نؤمن بذاك، وليس هذا ببعيد، فإننا نعتقد أن القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مع أن القبر الواحد يدفن فيه البر والفاجر، الصالح والطالح، ومثال ذلك في حياة الناس: الرجل مع امرأته ينامان في موضع واحد وفي سرير واحد، فهذا يرى رؤيا طيبة وذاك يحلم حلماً سيئاً مفجعاً، فهذا يعذب بما رأى في حلمه، وذاك ينعم بما رأى في رؤياه، وكلاهما في موطن واحد.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي في الليلة الباردة حتى يتصبب عرقاً وبجواره أصحابه لا يشعرون بشيء من ذلك، لا يشعرون بآلام الوحي وشدته التي كانت تنزل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو معهم في موطن واحد، فإذا كان هذا في حياة الناس فكيف لا نؤمن به في يوم القيامة؟ فالله تعالى على كل شيء قدير.
قال: [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)]، أي: التي نطحتها.
والأدلة متظاهرة متضافرة على أنهما مخلوقتان الآن، وقد دخل النبي عليه الصلاة والسلام الجنة فرأى فيها بعض النعيم، كما أنه اطلع على النار ورأى فيها بعض أهلها.
أما مكان وجود الجنة والنار فقد كثرت فيه الأقوال، وأعظم الأقوال هو الإيمان به والسكوت وعدم الخوض.
ومنهم من يقول: هي في الأرضين السبع، ومنهم من يقول: هي مكة وما حولها، ومنهم من يقول: بل هي في السماوات. وهذه أقوال تحتاج إلى أدلة خاصة وأن هذا من أمور الغيب، وليس عندنا نص صريح في أن بقعة من الأرض هي من بقاع الجنة إلا ما بين بيت النبي عليه الصلاة والسلام ومنبره؛ لحديث: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة).
أما أهل السنة والجماعة فإن الإيمان عندهم قول باللسان وعمل بالقلب والجوارح، ومن الأعمال ما هو شرط في صحة الإيمان، وهو الإيمان الواجب كما سماه ابن تيمية كما في الجزء السابع من مجموع الفتاوى فقال: الإيمان الواجب المتعلق بالواجبات والحلال والحرام، ومنه الإيمان المستحب، وهذا الذي ينفى في كثير من النصوص، نحو: (لا يؤمن أحدكم)، (ليس منا)، (أنا بريء)، (غضب الله)، (لعن الله) وكل هذه النصوص ظاهرها تدل على ترك الملة، ولكن معنى هذه النصوص -إن لم يستحل صاحبها مع قيام الحجة عليه- أنه نفي الإيمان المستحب الذي هو الإيمان الكامل.
فالنفي في هذه النصوص كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، والخوارج يحملون هذا النص على ظاهره وكذلك المعتزلة أن الزاني حين يزني كافر؛ لأن الأمر عندهم إيمان وكفر، وهذا الكلام قد شرحناه مراراً.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أي: أدخله من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء.
قال: [وعن ابن عباس قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء)]، عندما تسمع هذا الحديث وأنت فقير لا تملك ما تتبلغ به إلى درس العلم فإنك لا تحزن حينئذ، لو أنك أتيت على قدميك إلى هذه المجالس المباركة الطيبة التي تتنزل فيها الرحمات، وتنزل فيها السكينة، وتغشاكم الرحمة من كل جانب، وتحضرها الملائكة، إذا كنت فقيراً لا تملك شيئاً وتعلم أن أكثر أهل الجنة الفقراء، وأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم أي: بخمسائة عام، فلن تحزن أبداً.
قال: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)، والحديث في الصحيحين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت
قال: [وعن ابن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي)]. فقوله: إذا مات، أي: سواء دخل القبر أو لم يدخله. (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده من الجنة والنار) ومن قبل ذكرنا حديث: (ما من آدمي مؤمن أو كافر إلا جعل الله تعالى له مقعداً في الجنة ومقعداً في النار، فيفتح له أولاً باب في قبره إلى مقعده من النار، فإذا فزع قيل له: هذا مقعدك من النار لولا أنك آمنت بالله ورسوله، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويفرش قبره بفرش من فرش الجنة) كما في حديث البراء رضي الله عنه.
قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي) الغداة أي: الصبح. والعشي أي: المساء.
وعن ابن عمر أيضاً قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي)]، وهذا فيه إثبات عذاب القبر ونعيمه.
قال: [(إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)، والحديث في الصحيحين.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة -يعني: شقوا عليه جداً وأكثروا عليه في المسألة- فقال: سلوني -فهم قد سألوه واعتذر لهم، لكنهم ألحوا في المسألة- فوالله لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم، فقام رجل من ناحية المسجد فقال: يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك
يقول الحافظ ابن حجر : هذا الرجل كان ينسب إلى غير حذافة . يعني: كأنه ولد زنا، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقته أشفق عمر رضي الله عنه على القوم أن يوجهوا أسئلة، فمنهم من يسأل: أين أبي؟ يقول: في النار. أين أمي؟ في النار، أين أنا؟ في النار، وغير ذلك.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنها صورت لي الجنة والنار حتى إني لأراها من خلف هذا الحائط)]، يعني: أنا أرى الجنة والنار من وراء هذا الحائط أو هذا البستان، فهذا شيء عجيب.
الشاهد هنا: أن الجنة والنار مخلوقتان، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (صورت لي الجنة والنار) يعني: مثلت ونظرت إليها كما أنظر إلى أحدكم أو إلى صورة أحدكم.
قال: [وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) .
وقال أبو هريرة : قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الله عز وجل: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومصداق ذلك في كتاب الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]) .
وقال أنس في قوله تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30] قال: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا تنقطع -أي: لا تنتهي- واقرءوا إن شئتم: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:30] أخرجه البخاري .
وقال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله الجنة أرسل جبريل إليها فقال: انظر إليها وما أعد الله لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها وما أعد الله عز وجل لأهلها فيها، فرجع وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخل فيها)]، جبريل يتصور أن الناس لو علموا ما في الجنة من نعيم لكانوا كلهم يطلبونها ولا يفرطون فيها.
وقال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في حومة الماء فإذا مسك أذفر، قلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله أو أعطاك ربك)].
وفي هذا إثبات أن لله تبارك وتعالى قدماً، وقد بينا قبل ذلك إثبات الساق لله عز وجل، وأن الساق أو القدم لله عز وجل ثابتة حقيقة بغير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، فهي ثابتة لله عز وجل كصفة من صفات ذاته، ولا تنفك عنه على المعنى اللائق بالله عز وجل، ليست كأقدام المخلوقين ولا كسوق المخلوقين.
قال: [وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم. قال: فقضى بينهما، إنكِ الجنة رحمتي أرحم بكِ من أشاء، وإنكِ النار عذابي أعذب بكِ من أشاء، ولكليكما علي ملؤها) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، وهو أشد ما تجدون من الزمهرير)]، يعني: إذا رأينا حراً شديداً جداً لا يطاق فلنعرف أن هذا هو نفس النار في الصيف، وإذا رأينا برداً شديداً لا يكاد يحتمل فلنعلم أن هذا هو النفس الثاني للنار في الشتاء.
قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبردوا بالصلاة -أي: انتظروا بصلاة الظهر حتى يبرد الجو- فإن شدة الحر من فيح جهنم)] أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالإبراد بالصلاة في شدة الحر؛ لأن شدة الحر من فيح جهنم، فلا يخرج أحدنا للصلاة فيصيبه لفح فيح جهنم ونارها وحرها وسمومها، فمن رحمة الله عز وجل ومن إشفاق النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الأمة أن أذن لنا في الإبراد.
وفي كتاب الطب النبوي: (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء).
قال: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شدة الحر من فيح جهنم، فأبردوها بالماء)].
والشاهد من هذه الأحاديث كلها: إثبات أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما موجودتان الآن، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن شدة الحر من فيح جهنم فأبردوها بالماء) لا يمكن أن يكون هذا الحر الشديد من فيح جهنم وهي لم تخلق بعد.
قال: [(ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً -يعني الركعة الثانية- ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس -يعني: ذهب كسوفها- ثم سألهم النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا تعدون هذا فيكم؟ -أي: ماذا تعدون كسوف الشمس في الجاهلية؟- قالوا: يا رسول الله! لا يكون ذلك إلا لموت عظيم أو ميلاد عظيم -أي: الشمس لا تنكسف والقمر لا ينخسف إلا لميلاد عظيم أو لوفاة عظيم، وكانوا يتطيرون بذلك في الجاهلية- فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله. قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت -أي: رجعت- قال: إني رأيت الجنة -أي: المخلوقة- أو أريت الجنة فتناولت منها عنقوداً، لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار، فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: يكفرن. قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير)] يعني: تكفر المرأة عشرة زوجها، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام كيفية هذا الكفر فقال: (يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً -أي: ولو يسيراً- لقالت: ما رأيت منك خيراً قط) فهذا هو كفران العشير، وهو كبيرة من الكبائر، لا يخلد صاحبه في النار، وصاحب الكبيرة لا يكفر إلا عند الخوارج، وهو عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين، أما عند أهل السنة والجماعة فإنه إن أقيم عليه الحد فالحد يدرأ عنه العذاب في الآخرة، والحدود كفارات لأهلها.
وإذا تاب إلى الله عز وجل من ذلك حتى قبل قيام الحد فالتوبة كفارة لأصحابها، وإذا مات مصراً على كبيرته فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. فهذه هي التي تكفر الإحسان، وما أكثرهن في هذا الباب وهذا الضرب!
قال: [وعن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس فإذا الناس قياماً يصلون، فإذا هي قائمة -أي: تصلي- فقلت: ما للناس؟].
أسماء تسأل عائشة رضي الله عنها وهي في داخل الصلاة، تقول: لماذا يصلي الناس؟ لأن هذه صلاة ليست في العادة، لأن أسماء دخلت في غير وقت صلاة الفرض فرأت الناس يصلون، وأيضاً لأنها صلاة نهارية جهرية، فسألت عائشة تقول لها: ما للناس؟ ماذا يعمل الناس؟
وهذا كما حدث من معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، حين كان الكلام في داخل الصلاة في أول الأمر مباحاً، لما جاء من السفر ونظر إلى الناس سأل من بجواره، قال: (فضرب الناس أفخاذهم بأيديهم كأنهم يصمتونني) .
وفي الرواية الأخرى أنه عطس فحمد الله، قال: (فنظر الناس إلي أو رماني الناس بأبصارهم، فقلت: ما لكم؟ كأنهم يسكتونني فسكت، فلما فرغت من الصلاة دعاني النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا
قالت أسماء : [(أتيت
وقول عائشة رضي الله عنها: سبحان الله، هذا نوع من أنواع الذكر.
قالت: (فقلت: آية؟) أسماء لا تزال تجادل عائشة ، وعائشة تستجيب لها، مرة تشير بيدها ومرة تسبح الله.
قالت: [(فقلت: آية؟ فأشارت إلي أن نعم -أي: آية من آيات الله- قالت: فقمت حتى تجلاني الغشي -أي: فقمت حتى علاني الإرهاق الشديد حتى كاد يغشى علي من طول ما قام النبي عليه الصلاة والسلام- فجعلت أصب فوق رأسي الماء -أي: وهي في الصلاة- فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه ثم قال: ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار)]، وهذا الشاهد، أنه عليه الصلاة والسلام رأى الجنة والنار، وهذا الحديث في الصحيحين.
قال: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شديد الحر، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون -يعني: يتساقطون رضي الله عنهم من طول ما قام النبي عليه الصلاة والسلام- ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم سجد سجدتين، ثم قام فصنع مثل ذلك، قال: وجعل يتقدم ثم جعل يتأخر -أي: النبي عليه الصلاة والسلام كان يتقدم في صلاته ويتأخر- فكانت أربع ركعات وأربع سجدات -أي: في الركعتين أربع ركوعات وأربع سجدات- ثم قال: إنه عرض علي كل شيء توعدونه -أي: من الخير والشر، فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفاً لأخذته، أو قال: تناولت منها قطفاً فقصرت يدي عنه -إما قصر مسافة أو عجزت عن حمله- وعرضت علي النار فجعلت أتأخر منها مخافة أن يصيبني من لفحها، ورأيت فيها امرأة حميرية -أي: من حمير من أهل اليمن- سوداء طويلة، تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (رأيت فيها امرأة حميرية سوداء دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، ففيه أن دخول هذه المرأة النار ليس لعين الهرة، وإنما لأنها تسببت في قتل نفس بغير عذر، ولذلك هذا الحديث لا يعجب الملاحدة أيضاً، يقولون: هل يعقل أن امرأة بغياً تدخل الجنة في كلب وجدته عطشان فسقته، وأن امرأة تدخل النار في قطة؟! ويستهزئون بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فمن فعل ذلك استهانة بشرع الله عز وجل فليس ببعيد على الله أن يدخله النار؛ لأنه قتل.
والنبي عليه الصلاة والسلام بعد أن رخص في قتل الكلاب سئل بعد ذلك كما في حديث عبد الله بن مغفل عند مسلم : (أنه سئل عن قتل الكلاب فغضب، وقال: ما بالهم والكلاب، إنهم أمة من الأمم)، ولم يرخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا في قتل الكلب الأسود العقور، ومنهم من يذهب إلى قتل الكلب العقور وإن لم يكن أسود، وعلة الكلب الأسود أنه شيطان، والعقور لتحقق المضرة القادمة من ناحيته. فهذه المرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ولا هي أطعمتها وسقتها.
ولو أنها أطعمتها وسقتها ولكنها ماتت فلا يكون هذا سبباً في دخول المرأة النار، وعليه فيجوز حبس الدواب والحيوانات والطيور في أقفاصها وبيوتها إذا قمنا على رعايتها وخدمتها.
وكثير من الإخوة يسأل: هل أسماك الزينة حلال أو حرام؟ جائز أو غير جائز؟ ويسألون كذلك عن عصافير الزينة وغير ذلك، والجواب: أن ذلك جائز ما دمت تقوم على خدمتها.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يذهب إلى بيت أم سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهما، وكان لـأنس وهو ابن أم سليم أخ من أمه أم سليم، وكان في يده طائر يسمى النغير، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يمازحه ويقول: (يا
قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)]، هذا الحديث هو من أعظم أحاديث الرجاء، والتي تدل على سعة رحمة رب العالمين تبارك وتعالى، وأنه اختزن تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها الخلائق في عرصات القيامة، فإذا كانت هذه الرحمات التي يراها المرء على هذه البسيطة من جراء رحمة واحدة من رحمة الله عز وجل فما بالك بتسع وتسعين رحمة؟!
وقد ذكرنا من قبل في الموازنة بين الخوف والرجاء: أن الخوف والرجاء هما بمثابة جناحي الطائر، ولا يمكن لأحد أن ينجو قط بين يدي الله عز وجل يوم القيامة إلا إذا حقق الخوف والرجاء، ولا بأس في حال الصحة أن يغلب شيئاً يسيراً من الخوف ليدفعه إلى العمل الصالح، وإذا كان في مرض أو كبر سن أو غير ذلك فليغلب جانب الرجاء حتى لا يقنط من رحمة ربه، وأن يحسن الظن بربه قبل أن يغادر هذه الحياة، قال النبي عليه الصلاة والسلام : (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). وفي رواية: (فلا يظن بي إلا خيراً). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).
وهذا لا يكون إلا بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف، فإذا قرأت آية في الخوف فاقرأ مقابلاً لها في الرجاء، والعكس بالعكس.
وكذلك أحاديث الرجاء لا بد أن تضمها إلى أحاديث الخوف والعكس بالعكس، لأن الأمة -الآن- فرطت اتكالاً على رحمة الله عز وجل، ولو أنها علمت عذاب الله كما علمه السلف رضي الله عنهم لقل كلامهم وكثر عملهم، ولكن الأمة فرطت فكثر كلامها وقل عملها، فهذا نهج مخالف لما كان عليه من سلفنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
وبهذا الدرس ينتهي هذا المجلد وهو المجلد السادس من كتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي ، وموعدنا إن شاء الله تعالى مع المجلد السابع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر