أما بعد:
إخوتي الكرام الأعزاء! في العام التاسع الهجري أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد هذه الأمة المباركة في حجته المشهورة حجة الوداع، هذه الحجة التي لم يحج غيرها عليه الصلاة والسلام، كما أخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الحج: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم من المدينة للحج، فأخبرهم وأعلمهم، بل رأوه عياناً في مناسك الحج، ومن بين هذه المناسك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتى بطن وادي عرنة -وهو ليس من عرفة على الراجح- صعد فخطب خطبة عصماء بين فيها هوية هذه الأمة، وأنها تختلف عن بقية الأمم، فقد أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كونوا كأنكم شامة بين الناس) ، أي: علامة ظاهرة، هذه الأمة لها شخصيتها التي تختلف عن بقية الشخصيات، ولها هويتها التي تختلف عن بقية الهويات، ولها سمتها التي تختلف عن بقية السمات، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم
إذاً: وجود صدام كان لقمة سائغة وغنيمة باردة، وهذه المسرحية مكشوفة وأكذوبة مفضوحة لا تنطلي على أهل البصائر بإذن الله، وصدام حسين ليس حامي الحمى، وهو الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، لكن من أحصاها دخل النار، بخلاف الجبار تبارك وتعالى الذي سمى نفسه بتسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة، وانظروا إلى ما فعله صدام ، لا أقول: بجيش العراق، ولا بشعب العراق الذي جوعه وأعراه وأنهكه في عقر داره، وإنما تعدى شره للشعب المسلم السني، أعني: شعب الأكراد، فسحقه سحقاً وسحله سحلاً، تارة بالكيماوي، وتارة بالدبابات، فكيف يؤتمن هذا على دين الله؟! بل كيف يؤتمن هذا على حزمة بقل؟! وانظروا -يا معشر الكرام- إلى شعب كوسوفا أو شعب البوسنة أو شعب فلسطين، إذ كل يوم نسمع عن دماء تراق بالمئات والألوف، وعلى مرأى من أسماع وأعين المسئولين وغير المسئولين ولا مجيب ولا أحد يتحرك، وكأن هذا الذي قتل أو أريق دمه ليس منا ولسنا منه، فهل لأننا نفهم القضية جيداً؟ أبداً، أم هل لأننا نخاف عدونا؟ نعم، والله نخافه؛ لأننا لا نخشى الله عز وجل، ولأننا حرصنا على الدنيا، فهذه الملايين المملينة التي وضعت في تلك البنوك الغربية والشرقية أعظم عند أصحابها من إراقة دماء الأمة بأسرها.
قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إن أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء) ، أي: أول قضاء يقضى بين يدي الله عز وجل هو في فصل الدماء، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام (إن أول ما يحاسب عليه المرء الصلاة) ، فإن هذا حساب مخصوص لكل شخص، أما القضاء وفصل النزاع بين الناس فإنه يبدأ بالدماء أولاً، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الشيخان أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (اجتنبوا السبع الموبقات)، أي: المهلكات التي تؤدي بأصحابها إلى الهاوية والهلاك، فلا يكاد يقوم منها مرة أخرى، ومنها: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، وحق هذه النفس ألا تقتل إلا عند ثلاث، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ
قال عبد الله بن عمر راوي الحديث -هو أدرى بفقه الحديث-: إن من مفجعات الأمور ومهلكاتها، وفي رواية أنه قال: إن من ورطات الأمور التي لا يجد المرء منها مخرجاً إذا دخل فيها: أن يصيب دماً حراماً، أن يقتل امرءاً بغير حق. والحدود كفارات لأهلها، لكن لا يقيمها إلا من كلفه الله عز وجل بإقامتها، إذ ليس لكل واحد أن يقيم الحد على من وقع فيه، وإنما ذلك منوط بالحكام والأمراء والسلاطين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لزوال الدنيا أهون عند الله عز وجل من قتل مؤمن بغير حق)، وورد في رواية فيها كلام يسير لأهل العلم، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال وهو يطوف ذات مرة حول الكعبة: (ما أعظمك! وما أطيبك! لكن حرمة المسلم عند الله أعظم منك) ، أي: لأن تضرب الكعبة بالمنجنيق فتندك إلى قواعدها أحب إلى الله عز وجل من إراقة دم امرئ مسلم واحد، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي وردت في كرامة المسلم، وأن دمه محفوظ.
حتى المعاهد الذي ليس من أهل الإسلام؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد حفظ له عهده، فقال فيما رواه الشيخان: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)، مع أنه ليس مسلماً، لكن له عهد مع أهل الإسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو الأسوة والقدوة- ما خان عهداً قط مع اليهود والنصارى، وليس ذلك من خلقه، فقد كان يفي بعهده ما دام صاحب العهد ملتزماً بعهده، فإذا نقض فللمسلم أن ينقض عهده جزاء نقض ذلك المعاهد لعهده.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بشيء عذبه الله تبارك وتعالى بما قتل به نفسه)؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وامتنع النبي عليه الصلاة والسلام عن أن يصلي على من قتل نفسه، وليس كفراً، وإنما زجراً للأحياء أن يعملوا بعمله، أو أن يهتدوا بهديه ويستنوا بسنته، و(أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة من غزواته عن رجل لم يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا تبعها وقتلها، فقال الصحابة رضي الله عنهم: والله ما نرى فلاناً إلا من أهل الجنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو من أهل النار، ففزع الصحابة فزعاً شديداً، حتى قال أحدهم: لأتبعنه. فسار خلفه، فإذا وقف وقف، وإذا أقدم أقدم، حتى أصيب ذلك الرجل بسهم لم يقض عليه، فوضع ذبابة سيفه على صدره واتكأ عليه حتى خرج من ظهره فمات، فعاد الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن الرجل الذي قلنا عنه كذا وقلت عنه كذا قد فعل بنفسه كذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ثم قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
قلت: (يا رسول الله! -في وسط هذا المأزق- فماذا تأمرني إن أدركني ذلك اليوم؟) فالله عز وجل قد هيأ لك حذيفة ليسأل هذه الأسئلة؛ لأنها تلزمك في كل عصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)؛ لأنها نجاة، ومن فارق الجماعة قيد شبر فمات فميتته جاهلية، (قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فماذا أصنع؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك).
الشاهد من الحديث: (إنا كنا في جاهلية وشر)، والجاهلية هي تلك الحقبة الزمنية التي سبقت مبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا على العموم والإطلاق، لكن هناك نوع آخر من الجاهلية يكون في الإسلام وفي أبناء الإسلام، فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: (كنا في غداة مع النبي صلى الله عليه وسلم فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين)، كل ينادي على قومه وعشيرته، حتى اصطف الناس: الأنصار في ناحية والمهاجرون في ناحية، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ومشى بين الصفين فقال: ما هذا؟ ينكر خلقاً ليس من أخلاق الإسلام، ثم قال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!) فقالوا: يا رسول الله! أي دعوى جاهلية ونحن قد أسلمنا؟! ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (دعوها)، أي: دعوى الجاهلية، (فإنها منتنة)، ثم تركهم وانصرف، وسار كل قوم إلى خيامهم، وهم يعلمون علم اليقين أن ما كانوا عليه في الجاهلية هو خلق ذميم، أي: أن تنصر العشيرة ولدها في حالة ظلمه أو في حالة ظلامته، في حالة أن يكون له الحق أو عليه، ولذلك أرسى النبي عليه الصلاة والسلام القاعدة الأم في النصرة فقال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أن تكفه عن الظلم، فذاك نصرك إياه)، من منا يفعل هذا؟ إن الواحد منا إذا سمع أن أخاه في شجار أو خصومة دون أن يتحقق من شيء، ودون أن يسمع شيئاً، لا بد أن أخاه المنتصر، لا بد أن أخاه المظلوم، وأنه سينتصر له عاجلاً أو آجلاً، حتى وإن كان الجذع في عينه، أي: حتى وإن كان مخطئاً لا بد وأن ينتصر له، فأي أخلاق هذه؟! إنها أخلاق الجاهلية، نسأل الله تبارك وتعالى السلامة لنا ولكم في ديننا ودنيانا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث المعرور بن سويد أنه قال: (مررنا بـ
وقد أخرج البخاري عليه رحمة الله تعالى هذا الحديث في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية؛ إذ إن كل من وقع في معصية ففيه شعبة من شعب الجاهلية، لكن هل يبقى في هذا المجتمع المسلم أو في أمة الإسلام سنن حية كما كان ذلك في الصدر الأول أم أنها الآن أمة جاهلية؟ انظروا إلى حلم الله ولطفه بهذه الأمة التي ظهرت فيها جميع المعاصي والخطايا والبلايا، والتي كانت المعصية الواحدة سبباً في إهلاك أمة من الأمم، فاللواط مثلاً كان سبباً في إهلاك قوم لوط، وتطفيف الكيل والميزان كان سبباً في إهلاك قوم شعيب، فتأمل أن هذه المعاصي جميعاً وغيرها مما لم يكن موجوداً في الأمم السالفة قد اجتمعت في هذه الأمة، مع أن هذه الأمة ما زالت باقية، فهل لكرامة هذه الأمة على الله؟! أم هل لأن الله يحب المعاصي، أو يحب أن يعصى؟! أبداً والله، وإنما ذلك لحكمة علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فاتقوا الله عز وجل أيها الإخوة الكرام، فإن صاحب المعصية هو صاحب جهالة، وفيه خلق من أخلاق الجاهلية، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا، وإنما ذلك من أخلاق الجاهلية، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من غير منار الأرض ليضل الناس، ليس منا من أظل الأعمى عن الطريق)، أي: يسأله شخص عن المكان الفلاني فيضله عنه، فهذه ليست من أخلاق المسلمين، وإنما هذه من أخلاق الجاهلية، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود : (إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية)، أي: أخلاقها وسماتها، ففرض عليكم ألا تتخلقوا بذلك، فالناس مؤمن تقي، وفاجر شقي، ولا ثالث لهما، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أنتم لآدم وآدم من تراب، وليدعن أقوام فخرهم بآبائهم، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها)، فأنت الآن إذا قلت لرجل قائم على معصية: لم فعلت هذا يا فلان؟ يقول لك: ومن أنت حتى تأمرني؟ أما علمت أنني ابن فلان، وأبي الأمير فلان، أو أبي شيخ في الأزهر، أو تقول له: لم تفطر في نهار رمضان؟ سيرد عليك: أما علمت أن والدي من أكابر أهل العلم! وغير ذلك من الردود الجاهلة.
قوله: (ليدعن أقوام فخرهم بآبائهم)، فإن هذا من أخلاق الجاهلية، (أو ليكونن أهون على الله عز وجل من الجعلان)، أي: تلك الحشرات التي لا قيمة لها، والتي تدفع النتن بأنفها، إذ إنها تعيش في النتن والجيف.
قوله: (أربع في أمتي)، يقولها النبي عليه الصلاة والسلام بحسرة؛ لأنه قال: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية)، أي: ينبغي أن تعملوا لذلك، وأن تتخلصوا من أعمال الجاهلية، ثم يقرر أن هذه الخلال أو الخصال قائمة في الأمة لا تدعها، ولا تتخلى عنها أبداً، فيفتخر بحسبه، بأبيه وأمه وعمه وخاله وجده وجدته، ولا يتكلم عن نفسه قط، مع أنه لا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا ينجو بنفسه بين يدي الله إلا بالتقوى، لكنه يستند على تقوى والده إن كان تقياً، أو علم والده إن كان عالماً، مع أن العلم وحده لا ينفع، وإنما الذي ينفع هو: العلم والعمل والإخلاص فيهما.
ثم الطعن في الأنساب وما أكثره، فتجد الغمز والهمز والإشارات والإيماءات والتلميحات أن هذا ليس ابن فلان، كيف؟ أما علمتم أن هذا يترتب عليه حد القذف، وأن الحدود تدرأ بالشبهات، وأن مثل هذا لا يثبت إلا بأربعة شهود رأوا ذلك عياناً بياناً، لكن الألسن تنطلق بالقذف، وصدق النبي عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة في النار إلا حصائد ألسنتهم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من صمت نجا)، أي: من صمت عن الشر نجا، ولا يحل لأحد أن يسكت أو يصمت عن الشر، وإنما لا بد من تغييره، كما روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فلا يحل السكوت عند رؤية المنكر، كما لا يحل الكلام في معصية الله عز وجل.
ثم الاستسقاء بالنجوم، فقد روى الشيخان في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن رب العزة: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب) .
وأنتم تعلمون تلك الهيئة التي أرصدت وخصصت لمعرفة ذلك، فتجزم أن المطر ينزل في الساعة الفلانية وينتهي في الساعة الفلانية، وأن موجة الحر وموجة البرد تكون كذا، وغير ذلك مما هو من ضروب السحر، ولا مجال للمخاصمة في هذا الأمر؛ فإن هذا شيء من الاستسقاء بالنجوم لا بأس أن تكون الدراسة فيه من باب الاستئناس، أما أن تكون عقيدة ترسخ في القلوب والأذهان فلا وألف لا.
والنياحة أيضاً من أمر الجاهلية، وهي أن تقول المرأة لفقيدها: يا رجلي! يا سبعي! يا جملي! من لنا بعدك؟!
فما الذي يمنع الناس أن يصححوا عقائدهم في الله عز وجل؟!
كما ذكر عز وجل خلقاً آخر من أخلاق الجاهلية في أمر النساء فقال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33] قوله: (وقرن في بيوتكن) أمر يفيد الوجوب، (ولا تبرجن تبرج الجاهلية) والجاهلية الأولى هي التي قبل الإسلام بلا خلاف، لكن كيف كانت هذه الجاهلية؟! يقول مجاهد : كانت المرأة تخرج فتضرب الخمار عليها ثم تمشي بين الرجال. فهذا تبرج في الجاهلية الأولى! بل هي المرأة الملتزمة في هذا الزمان، ودعونا من قول مجاهد إلى قول مقاتل بن حيان : تبرج الجاهلية الأولى هو أن تضرب المرأة الخمار، لكنها لا تشده على رأسها، أي: لا تربطه وتحكمه، فيبدو خرصها وعنقها وقلادتها. فلو بعث فينا مقاتل ورأى هذا العري وهذا الفجور وهذا السفور والمرأة لا تكاد تخفي شيئاً لزوجها ماذا يقول عنها؟ ولذلك صدق النبي عليه الصلاة والسلام حين قال: (صنفان من أمتي)، أي: نوعان من أمتي، (لم أرهما)، أي: لم يكونا موجودين في زمن النبوة، (هما من أهل النار)، أي: أن حكمهم النار، (قوم معهم سياط كأذناب البقر)، أي: كذيول البقر، (يضربون بها الناس)، فمنهم من يضرب الناس بهذه الأذناب لأجل مخالفاتهم ومعاصيهم وكفرهم، ومنهم من يضرب الناس بهذه السياط لأجل توحيدهم وعبادتهم لربهم ونشرهم لسنة نبيهم ودعوتهم إلى الله، والكل معروض على الله عز وجل، (ونساء)، وهو الصنف الثاني، (كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة)، فتمشي المرأة تتبختر وتتكسر وتتغنج، (لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، وفي رواية (ليوجد من مسيرة خمسمائة عام)، فهؤلاء لا يشمون رائحة الجنة؛ لأنهم محرومون منها بسبب معاصيهم وتسلطهم على أهل الإيمان والتوحيد.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يتجاوز عن هذه الأمة، وأن يغفر لها زلاتها، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ولنا وقفة أخرى في أيام مقبلة بإذن الله تعالى لإتمام الحديث.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر