أما بعد:
أيها الأحباب: فإني أحبكم في الله، اللهم انصر المجاهدين، وأكرم الشهداء، وثبت الغرباء، وفك المأسورين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وأفغانستان وفي كل مكان، سدد رميهم، واجبر كسرهم، وفك أسرهم، واغفر ذنبهم، واحقن دماءهم، وصن أعراضهم، وسلَّم عقولهم إنك على ذلك قدير يا رب العالمين!
وتحول الدين عندهم مهزلة، مرة تراهم على شهوة، فإذا جاء الحجاج في موسم الحج، جلس التجار الفجار من قريش في أنديتهم يحتسون الخمر، ويستضيفون الشعراء، ويقولون للحُجَاج: لا تطوفوا بثيابكم التي أخطأتم بها طوال العام، واشتروا منا ثياباً طاهرةً بأغلى الأثمان، ومن لم يجد الثمن فليطف هو وزوجه وبنته وأخته عراة، وتحول الحرم إلى نادي عراة -شرفه الله وعظمه، وزاده مهابة وتشريفاً وتكريماً وتعظيماً - وأصبحت المرأة بدلاً من أن تقول: لبيك اللهم لبيك، تغطي عورتها بكفيها وتنشد قائلة:
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله |
وهم يتضاحكون في ناديهم، هذا يغمزها، وهذا يلمزها، وهذا يقول فيها شعراً، وهذا يقول فيها نثراً، وهكذا.
وكان لهم السقاية والرفادة والوفادة، ويقرُون الحاج، وقد توارثوا ذلك كابراً عن كابر، وينسبون هذا إلى إسماعيل وإبراهيم، ومع هذا انظر إلى أي مدى! إذا هزلت وحرفت العقيدة يتحول صاحبها إلى مسخ! فجاء القرآن ينقلهم نقلة هائلة من أسفل السافلين إلى أعلى عليين، بعقيدة سليمة.
أن يؤمن بالله، والإيمان بالله: يوحده في أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، ووحدانيته في أسمائه وصفاته وأفعاله، وعبدوا رباً معلوماً فلا يعبدون وهماً، وإنما جاء التفصيل الدقيق، كيف لا وقد علمهم تسعة وتسعين اسماً من أسمائه؟
فإن كانوا يعبدون صنماً اسمه (هبل) فليس له غير هذا الاسم، والآن يعبدون رباً له تسعة وتسعين اسماً كلها حسنى، وما غاب عنهم من أسمائه الحسنى وصفاته العلى فلا يعلمه إلا الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يبين لهم هذا في دعائه، فيقول: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي... إلى آخر الدعاء).
وما يتبادر من أحدهم أي سؤال عن الله إلا وينزل القرآن ويجيب، لا ينتظر أحداً أن يجيب عن الله، من ربك يا محمد؟
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].
عقيدة سليمة: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3] وقد كانوا يعتقدون فيه أن الملائكة بنات الله، وأنه تزوج الجن وأنجبت الملائكة، عقيدة فاسدة، هل الغني في ذاته يحتاج إلى الجن، وإلى بنات!
وهم من سقامة عقولهم يسود وجه أحدهم لو بشر بالأنثى، ويرفضون أن يكون نبيهم بشراً ولا يرفضون أن يكون ربهم حجراً! تناقض عجيب! كرمهم فجعل من جنسهم نبياً ورسولاً، وحقروا عقولهم فجعلوا الإله والمعبود حجراً!
انظر إلى قمة التكريم الإلهي والانحطاط الجاهلي الذي هم فيه، لهذا جاءت التصحيحات اليقينية المستقرة في قلوب المسلمين في أول العهد وفي آخر العهد، أي: في مكة وفي المدينة تناقش هذه القضية، وتدخل إلى خطرات القلوب، ومسارب الأرواح، ووساوس الصدور، حتى لا يبقى أدنى شك أو ريب: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5].. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة:2-3] عقيدة وعبادة وخلق.
لو قيل لأحدهم: إنك تسمع بلا سمع، وتبصر بلا عين، لقال: أمجنون أنت كيف يحدث هذا؟! هذه صفات نقص وذم وليست صفات مدح وثناء، لكنهم ارتضوا هذا لله ولم يرتضوه لأنفسهم!
أما الصحابة رضي الله عنهم فإذا جاءت صفة أو جاء اسم أو جاء فعل أمروه بهدوء على ثلاث آيات في كتاب الله حفظوها جميعاً وأراحتهم: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وهو السميع العليم: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3-4].. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام:103].
لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يضحك، قال أحدهم: (أيضحك ربنا؟! قال: نعم. قال: لن نعدم الخير من رب يضحك) انظر إلى الجواب، ما قال كيف يضحك؟! نحن ما نعلم من الضحك إلا هذه القهقهة، الهواء الخارج من الشفتين والفم وله صوت وله حروف، وهذا أمر محدث، والله تعالى ننزهه من الحدوث فصفاته أزلية، فكيف تقول يا محمد: إن الله يضحك؟ لكنهم ما قالوا هذا، تأكدوا من إثبات الصفة، فلما أثبتها كان الجواب نابع من إيمان راسخ، كيف أنا أؤمن أن له سمعاً، وأن له بصراً، فلما جاءتني قضية أنه يضحك، توقفت؟ فكما أنه ليس كمثله شيء في سمعه، ليس كمثله شيء في بصره، ليس كمثله شيء في أخذه، ليس كمثله شيء في مجيئه، ليس كمثله شيء في غضبه، ليس كمثله شيء في محبته، ليس كمثله شيء في يده، ليس كمثله شيء في كل صفاته، ليس كمثله شيء في ضحكه.
فكان الإيمان بالله عندهم راسخاً كاملاً ثابتاً، بملائكته، وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى.
فقضية التوحيد عند بلال هزمت قضية الشرك عند أمية بن خلف، وموقع القوة المادية عند أمية ولا يملك منها بلال شيئاً ومع هذا انتصر في النهاية، جلده ومع هذا كان الجواب: أحد أحد، سحله، ضربه حتى كلَّ وملَّ، وهو يقول: أحد أحد، إلى أن باعه وتخلص منه وانهزم، وقال لـأبي بكر: خذه بأبخس الأثمان، قال: لو طلبت مني أغلى الأثمان لاشتريته، أنا لا أشترى شخصاً وإنما أشتري توحيداً، ولهذا لما أعتقه قالوا: سيدنا - أي: أبا بكر - أعتق سيدنا -أي: بلالاً- وبكلمة واحدة من كلمات التوحيد مزج بلال مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب؛ فصبر وصابر، إلى أن جرد سيفه في النهاية يجري خلف أمية وهو يولي الأدبار وهو يصيح خلفه: [
والعقيدة السليمة المبنى الأول في القرآن، ما ترك الله سبحانه وتعالى شاردة ولا واردة، ولا آية مقروءة أو منظورة، لا تكلف الأذهان، ولا تقسي القلوب، ولا يدفع فيها درهم ولا دينار، إنما هي موجودة مشاعة في الأرض وفي السماء، ما ترك الله منها شيئاً إلا ذكره وبينه، لكي يدعم ذلك الركن الثابت ركن العقيدة.
فإن كانت عقائد الكافرين الآن تكلف العرض، وتكلف المال والعقل والشرف وتكلف كل شيء، فعقيدة الإسلام لا تكلف ذلك، هل احتاج الله إلى مختبر حتى يثبت أنه هو الخلاق العظيم؟ هل قال للصحابي: حتى تصدق أنني خلاق أحضر (ميكرسكوب إلكتروني) وأحضر شريحة، ثم ضعها .. ثم افعل كذا .. ثم افعل كذا ..؟
بعد أن يذكر المخلوقات يقول: هذا خلق الله، ليس في بيتك ولا في مختبرك، هذا خلق الله في الأرض، في الجبل، في السماء، في الشجر، في النهر، في الطير، في الثمر: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11] وفر عليك إمكانيات، صرف إحضار الدلائل والآيات أن الله خالق، وأعطاك معلومات في قضية الخالقية لو بذلت فيها مليارات الدنيا فلن تستطيع أن تحصل على معلومة واحدة، وأنى لك ذلك! وكيف تملك البشرية أن تعلم أن الله خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم؟!
وكيف للبشرية أن تتوصل بكل أجهزتها أن حواء من ضلع آدم بلا أم؟
وكيف تستطيع البشرية بجهدها الهزيل أن تتوصل أن عيسى من أم بلا أب؟
بل البشرية هي التي اتهمت مريم بنت عمران بالزنا لما رأت هذه الحقيقة، وكيف للبشرية أن تتوصل أن العصا صارت حية، وأن الصخرة انشقت وخرجن منها ناقة، وأن الخلائق من ذكر وأنثى سواءً في عالم الإلكترونات أو النيترونات أو الخلايا، أو الذرات: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49] أي إمكانيات تصل إليها البشرية حتى تعرف ذلك؟
وقد عرفت ذلك وعلمته من خلال هذه العقيدة السهلة البسيطة التي يوم أن أرادت أن تناقش قضية البعث والنشور، وهذه القضية أول ما جاءت للإنسان عندما ينام ويصحو، قالت له: هذا بعث ونشور، النوم موت، والصحو نشور، وجاء حديث يربي الفرد كل ليلة: (باسمك اللهم أموت) (باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه) (باسمك اللهم أموت وأحيا) (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) لا تقل: الحمد لله الذي نومني وأيقظني! أنا أناقش عندك قضية عقدية: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) نقلة هائلة إلى عالم النشور والبعث.
ثم ينزل المطر في الصباح الباكر: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ الروم:17-19] وصل إلى الهدف والغاية من ضرب هذه الأمثلة والآيات وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ، الإيمان بيوم البعث والخروج والنشور.
وتعلق الناس بالدنيا كيف أعالجها؟ أأسلبهم أموالهم؟ أأحجزهم عن شهواتهم؟ أنى لي ذلك؟
المال شقيق الروح والنفس: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14] إلى آخر الآية، لكن تعال معي بكل هدوء: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:45] هذه عقيدة: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ [الكهف:45] سرعة عجيبة قضية الاختلاط! وفي ليلة واحدة! هذه الليلة تمت فيها أعاجيب، وكأن الدنيا من مبدئها إلى منتهاها ليلة صبحت بالقيامة، هذه الليلة نزل المطر: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45] بعد ما ضرب هذا المثل جاءت الدنيا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].
ولا تجد ديناً تَعرَّف فيه الخالق المعبود إلى المخلوق العابد كديننا هذا، حتى إن آخر سورة من سور هذا القرآن تضم من الأسماء والصفات ما يقشعر لها البدن، ويخشع لها القلب، وتدمع لها العين: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20] الجنة والنار عقيدة: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:21-22] وتبدأ الأسماء وتبدأ الصفات: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24] ويضل تصور العقل البشري في معاني الأسماء والصفات، تنقله الكلمات القرآنية من عالم إلى عالم، من عالم الفضاء إلى عالم الأرض إلى داخل الأجنة في الأرحام، إلى الشعاب والوديان والجبال، إلى خطرات الصدور ووساوس القلوب، نقلات عجيبة: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:8-11] انظر هذه الملاحقة والمتابعة من داخل الرحم إلى أن يخرج منه، ثم نزل الوادي، ثم دخل في الليل وخرج من النهار، دخل في الوساوس، انقلبت النفس من إيمان إلى كفر، ومن كفر إلى إيمان، وقدر نازل، وقدر صاعد، وتأتي قضايا من قضايا الاعتقاد لا تخطر على بال البشر، وليست من تفكير البشر، ولا من اهتمامات البشر، ولا من كتابات وأدبيات البشر، ولم تمر من آدم إلى أن نزلت كحقيقة قرآنية, هل جاء يوم على البشر يجلس أحدهم في غابة فيعد أوراق الشجر؟!
هل جاء يوم على البشر يجلس إنسان ينبش الأرض ليحسب كم حبة مدفونة في ظلمات الأرض؟!
هل جاء يوم على البشر أو كان من همومهم وتفكيرهم وطموحاتهم أن يعلم كل رطب وكل يابس في الكون؟!
معاذ الله! ولو فعل ذلك أحد لاتهموه بالجنون، لو رأيت إنساناً جالساً على طرف الغابة ولديه قلم وأوراق، ماذا تفعل يا هذا؟ قال: أحصي أوراق الغابة التي نزلت ورقة ورقة، لقالوا له: قم، ووضعوا الحديد في يديه وذهبوا به إلى مأوى المجانين، إذاً عندما ينزل القرآن: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] هذا ليس من هموم البشر هذا من الله، وهذا كتاب الله وهذه صفات الله، وهذا علم الله، فلهذا تحمل الصحابة رضي الله عنهم الأذى والجراح والعذاب من أجل أنهم يعتقدون أن رباً يعلم عدد أوراق الغابات أفلا يعلم عدد الجراح التي فيهم؟!
رب يعلم كل رطب وكل يابس، أفلا يعلم الحزن الذي في قلوبهم من أجل دينه؟!
فلهذا كانوا يتعاملون مع رب مراقب لكل آهة، وكل نفثة، وكل دمعة، وكل حرف، وكل درهم، وكل نقطة دم، وكل عبرة، وكل أنة، فكانوا يعيشون في سعادة عجيبة، والقرآن يؤكد هذه الحقيقة: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114-115] ويتفنن أهل الإجرام في إجرامهم وهؤلاء لا يعبئون، ربي يعلم أن المجرم يضحك مني، الله أكبر! اضحك يا مجرم كل ذلك محسوب عليك ولي.
أنت عندما تتخذ محامياً، ويبدأ المحامي يتابع القضية فإنك تفرح، وإذا سألك إنسان: يا أخي لماذا وكلت هذا؟ قلت: أنا أثق به، أنا مطمئن إليه، فكيف برب يقول عن نفسه عالم الغيب والشهادة: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].. وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61].
وتأتي قضايا التعذيب والاضطهاد والتشريد، والهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية، هذه كلها في غاية السكينة والوقار: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:29-34] فيقول المؤمن: إذاً لن أموت وأنا مظلوم ثم لا ينصف لي، إنما أنتقل من محكمة الظلم البشري إلى محكمة العدل الإلهي التي آخذ فيها كامل حريتي وحقوقي، أين أنت يا موت لكي أقتص من هذا؟ فلهذا جاهدوا واستشهدوا، وأحلى الكلمات عندهم: بل الرفيق الأعلى! بل الرفيق الأعلى! بل الرفيق الأعلى!
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى [طـه:71] الجواب: قَالُوا لا ضَيْرَ [الشعراء:50] والجواب الثاني: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [الشعراء:50] مشكور على أن تنقلنا إلى الله، ثم بعد ذلك سنريك: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34] وكأن هذا اليوم حاضر وشاهد، وقد يكون الكافر عند نزول هذه الآية في الحديد والجحيم والنار، والعذاب والضرب والسياط والجوع والتشرد، الله يقول له: أصبحت القضية من الحقيقة والوقوع أن أقول لك وأنت في العذاب: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:34-36] نعم. ثُوب الكفار ما كانوا يفعلون في جحيم وسقر وبئس المصير، وأين هم الآن؟
يعذبون منذ أربعة عشر قرناً، وكأن اللحظة التي مرت على المؤمن المضطهد لا شيء، لأن الحديث يقول: (يؤتى بأبأس أهل الأرض ثم يصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل مر عليك بؤسٌ قط؟ فيقول: لا، وعزتك ما مر علي بؤس قط) إذاً عقيدة سليمة، والناس يتمايزون في الدنيا وفي الآخرة بالعقائد، وانظر إلى أهمية العقيدة السليمة كيف تتابع أصحابها وتنقذهم من عالم إلى عالم.
مات اليهودي فعلم الحق من الباطل بعد موته، رأى الزبانية، ورأى الملائكة، ورأى العذاب وهو في برزخ وحفرة من النيران، ثم يعرض في المحشر، ثم يقول الله له يوم القيامة: ماذا تنتظرون؟ يقولون: ننتظر العزير ابن الله، كل هذا ما أثر فيكم؟! لأنه من أساء الابتداء أساء الله له الانتهاء، وحسن الابتداء يؤدي إلى حسن الانتهاء، لا خوفٌ عليهم اليوم ولاهم يحزنون.
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]: حسن ابتداء: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]: حسن انتهاء، يا أمة النصارى ماذا تنتظرين؟! يقولون: ننتظر المسيح ابن الله، الله أكبر، بعد هذا كله لا تزالون تنتظرون المسيح ابن الله أيضا! وهكذا كل العقائد الفاسدة، هذا ينتظر بقرة، وهذا ينتظر الشمس، وهذا ينتظر القمر، خذوا الشمس والقمر وأدخلوهم النار، ماذا تنتظرون؟ ننتظر الشمس؟ الشمس في النار، بل إن الله يقول: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].
إلى هذه الدرجة تنطمس فطرة الإنسان، وقد كان يمحصها البلاء مؤقتاً، أصبحت في النهاية في انطماس حتى البلاء لا يمحصها: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس:22] تجرد التوحيد والفطرة من كل العلائق: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس:22-23] وعادوا مشركين مرة أخرى أزيد مما كانوا عليه، الآن نحن في أرض جزاء وليست أرض عمل، ماذا تنتظرون؟ عزير، ماذا تنتظرون؟ المسيح، قال: (فيؤمر بهم إلى النار، ويتشبثون إلى أن يلقى بهم) وعندها يعترفون ألا عقول لهم، ومع هذا لا يوجد تراجع: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11] فسحقاً والله سحقاً يا أخي! سحقاً لعقولكم وأفكاركم وعقائدكم!
يأتي إلى قضية الساق، فيقول: لا، لهذا لم يفسر النبي صلى الله عليه وسلم آيات السمع، ولم يفسر آيات البصر، وفسر صفة الساق بحديث صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أفصله الآن وأشرحه.
فإذا ظهرت الآية خروا لله ساجدين، ويمنع الله المنافقين، ويحول ظهورهم طبقاً من حديد فلا يستطيعون، ينقلبون على قفاهم، فلا تصل جباههم إلى الأرض.
الشاهد بأن حسن الاعتقاد هو الركن القرآني الأول، وراجعوا السور المكية خاصة، تفكروا وتدبروا فيها كثيراً، واعرفوا ربكم، واعلموا معاني أسمائه وصفاته؛ فإذا أنتم تحبونه حباً عظيماً، وترجونه رجاءً كبيراً، وتخافونه خوفاً خطيراً، ويتكون عندكم الخشوع، وتصبح عبادات القلب نقية، فتجعلون له التسليم والتفويض والإنابة، والتوكل والتوبة، والاستغاثة والاستعاذة، والسؤال والطلب إلى آخره.
وباختصار أمر على الأركان الأربعة: عبادة صحيحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) (صلوا كما رأيتموني أصلي) وضرب من نفسه القدوة والأسوة حتى تساقط المتسابقون على أن يصلوا إلى عشر معشار ما وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وتظل البشرية في سباق لا ينتهي ولا ينقطع، ويظلون دائماً دون المضمار، يجثون عند تراب قدميه صلى الله عليه وسلم: (أنا أخشاكم لله).. (أنا أعلمكم بالله).. (أنا أتقاكم لله) فإن كان الناس يصومون من الصباح إلى المساء فهو يواصل إلى ثلاثة أيام وأربعة أيام، وإن كان الناس يصلون وينامون فإنه يقوم حتى تتفطر قدماه، وإن كان الناس يربطون حجراً فهو يربط حجرين، وإن كان الناس يوعكون وعكاً واحداً فهو يوعك وعك الرجلين، ويظل دائماً في القمة السامقة قدوة وأسوة للقوي وقدوة وأسوة للضعيف، صلى الله عليه وسلم.
عبادة صحيحة بالاتباع لا بالابتداع، ومن خلالها يكسب العبد محبة الله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وماذا خسر من كسب حب الله؟ وماذا ربح من خسر حب الله؟
ويظل العباد يتحرون كل صغيرة وكبيرة من عباداته وأذكاره ومناسكه حتى بلغ بهم أن يبول ابن عمر مكان ما بال، ويطوف في ناقته مكان طوافه، ويقول: [لعل خفاً يقع على خف] ويأتي حسن البنا بعد آلاف السنين فيقف على أرض البقيع مكان ما وقف محمد صلى الله عليه وسلم يدعو لشهداء البقيع ويقول لـلإخوان المسلمين: أقف هنا وأتحرى موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل قدماً تأتي على قدم، صور من الاتباع، خطوة بخطوة، وسنة بسنة، فإن كانت الأمم تتسابق على أن تتشبه باليهود والنصارى والروم والفرس حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلوه، فإن هناك طائفة وفرقة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، تظل متشبثة بما كان عليه سلف هذه الأمة والخلفاء الراشدون حتى يأتي أمر الله، وحتى تقوم الساعة عليهم، وحتى يقاتل آخرهم الدجال، وعندما أقول: تقوم الساعة عليهم، يعني: ليست القيامة، فالقيامة لا تقوم إلا على الكفار، ولكن معنى تقوم الساعة عليهم أي: حين يبعث الله ريحاً طيبةً تدخل من آباط المؤمنين آخر الزمان فتسل أرواحهم، فلا يبقى على وجه الأرض من يقول: الله، فتقوم عليهم القيامة.
ويأتي من ينقر الصلاة ويخطفها فيقول: (صل فإنك لم تصل: فيصلي ... فيقول: صل فإنك لم تصل ثلاث مرات، فيقول: علمني يا رسول الله!) مالنا غنى عن أن نقول: علمني.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن تعيها هذه الأمة مهما شرعت من القوانين وابتدعت من الأنظمة، وجاءت به من العادات والأعراف والتقاليد، وتشبهت بأعداء هذا الدين، لا بد لها أن تقول يوماً: علمني: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:151-152] أي: كما فعلت هذا فيكم من الفضل والبر، فزكاة هذا كله هو ذكري.
أصبح كثير من الناس ممن ينتسب إلى هذا الإسلام لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه، وليس له إلا ما كتب في شهادة الميلاد، وشهادة الوفاة، أما حياته فليست من الإسلام في شيء.
هذا الانفصام الإيماني العقدي الرهيب، حيث تراه يجلس في المسجد يختم المصحف وأمواله في البنوك، ويمر بآيات الحجاب وبناته ونساؤه كاسيات عاريات، ويأمره الله ألا يأكل أمواله وأموال الناس بالباطل، وهو لا يسأل أجاء هذا المال من حل أم من حرام!
نرى أمماً نهضت من العدم إلى الوجود، ومن التخلف إلى التقدم، ومن الجهل إلى العلم، ومن الموات والانسحاق إلى الحياة، نهضت اليابان من رماد هيروشيما وقنابل نجازاكي التي حولت الحجر والبشر إلى رماد، وهي الآن تدوخ بالتقنية والتكنولوجيا اقتصاد أكبر دول العالم، وأصبح العامل عندهم في لحظات لهوه وترفيهه ينتج ويعمل، وهم كفرة، لا يعرض عليهم لا في الصباح ولا في المساء.
كيف يجمع الإنسان الحصر الذهني الفكري لكي يعالج قضاياه السياسية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والعسكرية؟ أقصى ما يفكر فيه الكافر كأساً يشربها وامرأةً يستمتع بها، وأمة مثل أمتنا يقف الرجل خلف الإمام: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً * وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:32-36] أمة لا يوجد في العالم مثلها: تحسس وتجسس وتنصت، وكشف عورات، وهتك أعراض، وكشف أستار، أصبح المسلم لا يثق في ابنه ولا ولده، الهاتف لو رفعه يتخيل أن هناك جهاز تنصت عليه، وطائرات وكمبيوتر ومجمعات هائلة لرصد المعلومات على الحركات الإسلامية والدعاة الصادقين المخلصين، ولعلهم هم الذين يطبعون المصاحف ويروجون هذه الآيات، وينشرونها في العالم، والقرآن: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] البيوت لها حرمات، الدعوات لها حرمات، الإنسان له حرمة، ولا يبالون، ما أن يلقى عليك القبض إلا ويأتون لك بملف في حجم الوسادة .. كيف جمعوه؟ ما تدري، حتى عطستك في اليوم الفلاني وأنت في الحمام مكتوبة.
ويذكر لي أحد الإخوة من عوام الناس، لا هو ملتزم في حركة ولا في دعوة، وليس له أي توجه سياسي فعال مؤثر، إلا أنه جزاه الله خيراً مرة أو مرتين أو ثلاث في إحدى الصحف التربوية لما زار إحدى الأقطار الشقيقة استدعاه قائد عسكري، قال: احضروا ملفه، فإذا صوره ومقالاته وكلماته وتحركاته في الصحف، وله صور عند الجمعية الفلانية، أعوذ بالله! إلى هذه الدرجة هذا عندكم مهم، إذاً ماذا سيفعلون بالدعاة المخلصين الصادقين، هذه الحروب الآن ما تقف إلا لغرض خطير، نسأل الله العافية.
الآن الحركة الإسلامية داخت منها الصهيونية العالمية وهي الآن تنتحر وتذبح بسكاكين أطفال الحجارة في فلسطين وبالخلافة المنتظرة على أفغانستان ، لهذا قالت: أوقفوا كل الحروب، ووجهوا كل القوى إلى ما يسمى بالحركة والصحوة الإسلامية، وستأتي الأوامر عاجلاً أو آجلاً لأحجار الشطرنج المنبثين من هؤلاء الطغاة الظالمين: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً * وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:36-37].. اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].
هذا تصورهم للآلهة، لكن الذي جعلهم يتشبثون ولا يقولون: لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله ستزلزل كراسيهم وعروشهم التي يحكمون ويتنفذون من خلالها.
من الذي كان يشرع ويقنن؟ هل نطق (هبل) يوماً فقال قانوناً، أو تكلمت (اللات) يوماً فقالت تشريعاً، أو عبرت (العزى) عن مادة دستورية في سلم أو في حرب؟
لم يذكر التاريخ شيئاً من ذلك، لكن السادة المتنفذون والحكام المتحكمون هم الذين كانوا يسيطرون، لهذا لما علموا أن: لا إله إلا الله ستزلزل موقعهم السياسي، تشبثوا بالأصنام كحجة وقالوا: أنذر ما كان يعبد آباؤنا؟
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] لكن الوفد كان صريحاً، فلما قال: أدعو إلى كلمة التوحيد، قالوا: إلام تدعو أيضاً يا أخا قريش؟
فجاء بتشريع وقانون غير تشريع وقانون الحاكمين: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] وبدأ يحرم الشرك والدم .. ويحرم .. ويحرم .. ففتحوا ملفات وقوانين الحاكمين في ذلك الزمان، فما وجدوا فيها هذا، فقالوا: إلام تدعو أيضاً يا أخا قريش؟
قال: أدعو إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90] أوه .. أيضاً تدخلت في شهواتنا ونحن نحب الخمر، ونحب الزنا، وجعلنا أنواعاً من الزنا على بيوت الزواني رايات، ونوع عليه إشارات، ونوع يدخل عليها عشرة، ونوع يدخل عليها عشرون، وتريد أن تحصرنا في نوع واحد، فماذا كان الجواب؟
لما اصطدم الإسلام بعاداتهم وتقاليدهم وسياساتهم وقوانينهم وتشريعاتهم وشهواتهم، رفضوا لا إله إلا الله، قالوا: إن الأمر الذي تدعو إليه تكرهه الملوك، فماذا كان الجواب بعد هذا التصريح؟
قالوا: إن شئت نبايعك على مياه العرب، فإن بيننا وبين ملك الفرس عهد وميثاق، العرب يعذرون وملك الفرس لا يعذر، قال: (ما أسأتم في الرد) إذ أفصحتم بالصدق، غير أنه لا ينصر هذا الدين إلا من حاطه من جميع جوانبه، لن أرضى أن يكون الولاء نصفين، نصف لي ونصف لكسرى، وأن تكون العقيدة نصفين، نصف لي ونصف لكسرى، وأن تكون النصرة لي ولكسرى، لا، إما لي وإما له، لا ينصر هذا الدين إلا من حاطه من جميع جوانبه، فذهبوا وأرسل الله وفداً من الأنصار، فكان حظهم ونصيبهم بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
وأول ما عقدوا بيعتيه الأولى والثانية، لم تكن قضية أني أنا أعبد صنماً أو لا أعبد، قالوا: ماذا لنا إذا نحن حاربنا فيك الأحمر والأبيض، وعادينا الناس، ومنعناك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا ونساءنا؟
إذاً هي حرب ومعاداة للسلاطين والعروش والأنظمة والسياسات، والحاكمين الجاثمين على قلوب الأمم، لهذا جاء تعريف هذه القضية بوضوح في قضية حاكم من حكام العرب، عدي بن حاتم الطائي الذي علق الصليب وترك دين آبائه وأجداده، واتصل بحكومة الغساسنة النصارى والرومان، قال عليه الصلاة السلام: (ألق عنك هذا الوثن، أنا أعلم بدينك منك ألست تأكل المرباع وهو محرم عليك في دينك، قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] قال: ما عبدناهم، قال: ألم يحلوا لكم ما حرم الله، ويحرموا عليكم ما أحل الله، فاتبعتموهم؟ قال: بلى، قال: تلك عبادتكم إياهم
هذا لا يمنع أن يفصل العلماء قضية خاصة في توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وأن توحيد الألوهية أن أعبد الله بأفعالي أنا، فأجعل له الخضوع والذلة والمحبة والاستغاثة والطلب والتوبة والتسليم.. إلى آخره، وأن أوحده توحيد الربوبية بأفعاله سبحانه فهو الخالق الرازق المدبر، وكلا العبوديتين والتوحيدين متلازمة، وأن العرب وافقت في توحيد الربوبية: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61] فالخالقية من صفات الربوبية، وتدبير الخلق من صفات الرب، ومقتضى اسم الرب، لكن قال لهم: اتركوا (هبل) (واللات) (والعزى) قالوا: لا، واختلفوا معه في هذا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] لكن أنا أقول: إن تشبثهم بهذه الآلهة ليس لذات الآلهة، إنما كانوا حاكمين، تخليهم عن هذه الآلهة تخليهم عن كرسي الحكم، وهذا الذي أراد سيد قطب أن يفهم به الناس، فخالفوه وحاربوه وقالوا له: أنت تجهل في توحيد الألوهية ولا تفهم في هذا، وهو ما مات ولا استشهد إلا من أجل توحيد الألوهية، يوم أن وضعوا المشنقة في رقبته، جاءه الأزهري الذي يلقنه الشهادة عند موته، قال: حتى أنت جيء بك لكي تكمل المسرحية، تأمرني أن أقول: لا إله إلا الله، وما جعلني أموت الآن وما أوقفني تحت المشنقة إلا لا إله إلا الله.
كتاب كامل مؤلف في سيد قطب ، ويسمونها سقطات وانحرافات وضلالات، ويقول الكاتب: وإن من جهله وضلالته أنه ما يفرق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، الله أكبر! الله أكبر! أنا أقول: لم يكتب أحد من الكتاب وأنا قرأت لمن كتب في توحيد الألوهية والربوبية كما كتب سيد قطب ، وليرجعوا إلى مؤلفاته، ونعوذ بالله من تحاسد العلماء!
الحكم العادل هو الركن الرابع في المبنى القرآني، ونراه صلى الله عليه وسلم يضرب بنفسه القدوة والأسوة والمثل، فيعدل في رعيته، حتى أنه أصدر قانوناً تقزّمت البشرية بكل دساتيرها وموادها ومذكراتها وخبرائها أمامه، يوم أن قال: (لو سرقت
والتفريق العنصري على أشده في حروبه ودمائه، والظلم والاستبداد والاستعمار، والسلب والنهب، لا تزال تعاني منه الشعوب، ولا يستحون أن يسموها بالعالم الثالث أو الدول النامية، وهم السبب الأول والأخير في تخلفها ومرضها وعجزها.
والرسول صلى الله عليه وسلم في الإنتاج الزراعي يقول: (لو كان في يد أحدكم فسيلة ثم قامت القيامة واستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم القيامة فليغرسها) وما فائدة الإنتاج الزراعي والقيامة تقوم، القيامة تدمر جبالاًً وتنسفها نسفاً، لكن هذا الدين يرسخ أن الإنسان هذا وُجد على الأرض لكي يستعمرها، وأن حسنة الآخرة لا تقوم إلا على حسنة الدنيا، وأن عمارة الجنة لا تقوم إلا على عمارة الدنيا، وكان من أعظم الأدعية بين الركنين: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر