وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام الأحباب! قصتنا اليوم: الدروس المستفادة من قصة ابني آدم.
القصة وردت في سورة المائدة، وفيها دروس وعبر كثيرة؛ والمؤمن يتعظ بحال السابقين: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].
فأصحاب العقول هم الذين يستنبطون العبر والعظات، ويتعظون بحال غيرهم حينما يُذكّرون، يقول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا [المائدة:27-31]، والغراب من الفواسق الخمس التي تُقتل في الحل والحرم بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالله أرسل فاسقاً ليعلّم فاسقاً، قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أي: جثة أخيه المتغيرة بالموت لكراهتها قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31].
فالقرآن منهجه عدم الاعتناء بالأسماء طالما أنها لا تؤثر في مضمون القصة، كذلك عدم الاعتناء بالأرقام والصفات، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] ببعض البقرة برأسها أو بذيلها أو بقدمها بأي جزء منها لا يؤثر، والله قال لموسى عليه السلام: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] ما صفة النعلين؟ ما طولهما؟ ما طبيعتهما؟ لا يؤثر، فهذا يعلمنا أن نعتني بما يؤثر.
قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ [المائدة:27] ففي كتب السابقين : قابيل وهابيل ، ولم يثبت عندنا نص صحيح من رسولنا صلى الله عليه وسلم في شأن اسمي ابني آدم.
والإسرائيليات معناها باختصار: القصص التي جاءتنا من كتب السابقين، وهي على ثلاثة أقسام، إما أن تكون الإسرائيليات توافق شرعنا فهذا نقبله، فقصة الأبرص والأقرع والأعمى من قصص السابقين، وقصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً من قصص السابقين، وقصة غلام أصحاب الأخدود من قصص السابقين، وهذه القصص جاءت على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا هو القسم الأول من الإسرائيليات.
القسم الثاني: إسرائيليات تعارض ما عندنا من الشرع، ترد ولا تقبل.
القسم الثالث: إسرائيليات مسكوت عنها عندنا، يقول في حقها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نصدقهم ولا نكذبهم).
فهذا هو منهجنا في تلقي الإسرائيليات، أما الإسرائيليات التي تصطدم مع شرعنا فكثيرة وعديدة، الأمر الذي دفع بعض علمائنا إلى أن يفند للإسرائيليات مصنفات: الإسرائيليات في كتب التفاسير، الإسرائيليات والموضوعات في التفاسير للشيخ أبي شهبة ؛ لأنك تقرأ أن داود عليه السلام في كتب التفاسير أحب زوجة رجل من جنوده، فأراد أن يتخلص من زوجها فجعله في مقدمة الجيش؛ لأنه أراد أن ينفرد بها..! فهل هذا يليق بنبي؟ لا يمكن أن يُقبل.
وتقرأ أن يوسف عليه السلام خلع سرواله، وهم بامرأة العزيز ليزني بها ويقع عليها، لولا أن رأى جبريل يعض على يده على هيئة أبيه، فهل تقبل هذا يا عبد الله؟! لا تقبله، حتى وإن ذكر عند ابن كثير والطبري والقرطبي لا يُقبل، فهذه الإسرائيليات مرفوضة؛ لأنها تسللت إلى كتب التفاسير فسماها العلماء الدخيل في التفسير، أي: الذي يصطدم مع أصول شرعنا، فلا نقبل بحال أن يُقدح في عصمة نبي، كذلك يقولون: إن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إلى بيت زيد بن حارثة ليسأل عنه، فخرجت زينب بنت جحش ، فرفعت الجلباب عن قدميها وعن ساقها، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حسن ساقها، فوقعت في نفسه، فأمر زيد أن يطلقها لينفرد بها، هل هذا يقبل في حق رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
وبعض الناس حاطب ليل يجمع دون تمييز.
فيا عبد الله! إن الأمة الإسلامية مستهدفة، فقد وضع لها الأعداء إسرائيليات موضوعات مكذوبات تصطدم مع ما في شرعنا.
روى الطبري بسند ضعيف عن السدي : أن آدم كان يُنجب من زوجته في كل بطن ولداً وجارية، ولا تتزوج الجارية الولد التي ولدت معه، وهذا الأمر أيضاً في كتب السابقين، ففي شرعنا رواه الطبري في تفسيره وفيه ضعف؛ إذ إن المسافة بين السدي راوي الحديث وبين قصة ابني آدم لا يستقيم معها القبول؛ لذلك نكتفي بما ورد في القرآن وبما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: قَرَّبَا قُرْبَانًا والقربان إلى الله عز وجل، فهذا قرب قرباناً، وهذا قرب قرباناً، وعلامة قبول القربان بنص القرآن: أن تنزل نار من السماء فتأخذ القربان الذي تقبّله الله، فعمد الصالح إلى أجود ما يملك، فهذه علامة الصلاح أن يجعل العبد لربه خير ما يملك، وبعض طلاب العلم يقول: أنا لن أذهب إلى الدروس إذا لم يكن عندي وقت، ولن أحصل على العلم إلا لو تفرغت في وقت.
وأحد السائلين يقول: يا شيخ! أنا مدرس للدروس الخصوصية والحمد لله، وأدرس مجموعات كثيرة، مجموعة تلو مجموعة، وليس عندي وقت للصلاة، فهل يجوز أن أجمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء بعد صلاة العشاء؟ أقول: هذا رجل يريد للشرع أن يوافق هواه، جحدري جيفة بالليل وحمار بالنهار، يريد للشرع أن يوافق أعماله، كلا، إنما ينبغي أن تستقيم حركة الحياة على حساب شرع الله.
فلو أننا نظرنا في ظروف كل واحد منا لاختلفت، فنحن يا عباد الله! لا بد أن نجعل لله ما نحب في أوقاتنا، وفي أولادنا، فإن ولد الواحد منا إذا جاء بنسبة 99% دفع به للطب والصيدلة والهندسة، وإن جاء بمجموع ضعيف وكان الولد غير متفوق في دراسته دفع به لحفظ القرآن وتعليمه؛ ليقرأ القرآن للناس ويأخذ مقابلاً: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [النحل:62] فليس هذا من صفات المؤمنين، بل من صفات المؤمنين أن يقدموا أفضل ما يملكون لربهم عز وجل.
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب التناوب في طلب العلم: قال عمر بن الخطاب : تناوبت أنا وجار لي من الأنصار، قال له عمر : أنت تسمع الحديث من رسول الله يوماً وتبلغني ما سمعت، وأنا أتخلف عن السوق يوماً وأسمع وأبلغك ما سمعت.
هذا معناه: التناوب في طلب العلم، لكن أن تجعل الأوقات كلها للدنيا ولا وقت للعلم ولا لرضا ربك سبحانه! فإن هذا يا عبد الله! لا يستقيم، فإن ابن آدم الصالح عمد إلى أجود ما يملك فقربه إلى الله، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني ثلاثة: رجل ملك بضع امرأة ولم يبن بها)، أي: أنه عقد الزواج، لكنه لم يدخل عليها، (ورجل بنى داراً ولم يرفع سقفها)؛ لأنه يريد أن يسكن الدار فهذا يشغله عن أمر الجهاد (ورجل ملك خلفات)، أي: ماعز (وينتظر نتاجها) وما في بطنها.
فغزا هذا النبي على بركة الله، وقد بدا له النصر بعد صلاة العصر، وكان في شريعته لا يجوز أن يقاتل بالليل إذا غربت الشمس، فبعد أن اقترب من الفتح اقتربت الشمس من الغروب، فتوجه إلى الشمس قائلاً: أنتِ مأمورة وأنا مأمور، أنتِ مأمورة بالغروب بأمر الله سبحانه، وأنا مأمور بالجهاد في سبيل الله سبحانه، اللهم أمسكها علينا -احبسها- فلا تغيب، حتى يكتمل لنا الفتح، فأخّر الله الشمس عن الغروب، والحديث في الصحيحين، فلما فتح ما أراد جمع الغنائم من المعركة التي كان فيها، وكانت تنزل نار من السماء لتأخذ هذه الغنائم؛ لأن الغنائم لم تحل إلا لأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم)، فالغنائم في شرع السابقين حرام، فنزلت النار لكنها امتنعت عن أخذ الغنائم، وهذا معناه في شرعهم: أن في الغنائم سرقة، أي: أن أحداً من الجنود الذين اتبعوه تسلل إلى الغنيمة، وأخذ منها بغير وجه حق، وفي الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع أصحابه يقولون: (يا رسول الله! هنيئاً لفلان الجنة فقد مات في أرض المعركة، ولم يترك شارداً ولا وارداً ولا أحداً من المشركين إلا أجهده، فقال صلى الله عليه وسلم) اسمعوا يا من تأكلون أموال الأمة سحتاً وظلماً! (إن الشملة التي أغلها -أخذها من غنائم الحرب بغير حق- لتشتعل عليه الآن ناراً)، هذا غل شملة، فما بالك فيمن يسخّر السيارات والوظائف لمصالحه الشخصية؟! فما بالك بمن يسرق الملايين من حقوق الكادحين؟! ما بالك يا عبد الله؟! ماذا سيقول لربه؟ إن الشملة التي غلها: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، أي: يوم القيامة يحمل فوق رأسه ما غل، فالذين يغلون العمارات كيف يحملونها؟!
لما رأى يوشع أن النار لم تنزل إلى الغنائم قال لأتباعه: فليخرج من كل قبيلة قائدها ويصافحني، فالتصقت يده بيد رجلين من القبيلة، فقال: فيكم الغلول، أي: عندكم السرقة، فلتأتوني بأفراد القبيلتين عن بكرة أبيهم، فصافح الجميع، فالتصقت يده بيد الذين سرقوا، فاعترفوا بسرقتهم، وأسرعوا وجاءوا بذهب كرأس البقرة، وألقوه في الغنائم، فنزلت النار فأخذت الغنائم، ورُفعت إلى الله عز وجل.
وهذا معناه: أن علامة قبول القربان في الأمم السابقة كانت تنزل ناراً من السماء فتأخذ القربان.
والمؤمن يستفيد من المواقف، فلا يمر عليها سلبياً، لا بد أن ينتفع.
ففي صحيح مسلم أن رجلاً يمشي في الصحراء، سمع صوتاً في السماء ينادي سحابة: اسق زرع فلان، لو أن واحداً منا لأكثر من الأسئلة: من فلان؟ ما الزرع؟ وهذا لا يعنيه، ولذلك جل النظريات العلمية المعاصرة نتيجة فكر المحلل، والمحلل هو الذي يتأثر بالمواقف والأحداث، أي: أن التفاحة حينما سقطت على رأس قانون الجاذبية قال: لماذا سقطت إلى أسفل ولم ترتفع إلى أعلى؟ فاكتشف قانون الجاذبية الأرضية؛ وذلك لأنه ينظر إلى الأمور بفكر المحلل، لا بفكر المشاهد، وفرق بين من يحلل ومن يشاهد، فأنت مأمور أن تحلل المواقف بما يستقيم مع عقيدتك.
فهنا كان ينبغي على العاصي أن يسأل، لكن انظر إلى الجواب: لَأَقْتُلَنَّكَ فهل جزاء الذي تقبل الله منه قربانه أن يقتل؟!
يقول سلفنا: وأول ذنب عُصي الله به في السماء والأرض هو الحسد، ففي السماء كان حسد إبليس، وفي الأرض كان حسد ابن آدم لأخيه.
فالحسد مدمّر للعلاقات الإنسانية، وهو سبب كل بلاء يقع على وجه الأرض، ففي الحسد بغض المحسود وتتبع النعمة وتمني الزوال كما يقول ابن القيم رحمه الله، فما الذي دفع إخوة يوسف إلى أن يطرحوا يوسف في البئر؟ إنه الحسد، وما الذي منع أهل الكتاب من قبول نبوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام؟ إنه الحسد، فقد كانوا يتربصون انتظار النبي صلى الله عليه وسلم، وينتظرون بعثته إلى أن جاء من ذرية إسماعيل، ولم يأت على هواهم، وكانوا يتمنون أن يكون من ذرية يعقوب، ولذلك يقول ربنا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146] أي: يعلمون أنه الصادق صلى الله عليه وسلم.
وهكذا قام واعظاً، لكن نور البصيرة قد انطفأ عند العاصي فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [المائدة:30]، أول جريمة قتل تقع على سطح الأرض: قتل الأخ لأخيه، يا له من عار! يا له دمار! يا له من بلاء شديد لآدم وحواء عليهما السلام.
يشير هذا إلى أن المعصية نتيجتها الخسران وعدم الفلاح، فوقف حائراً بعد قتل أخيه ماذا يفعل بجسده؟ والعبد بعد موته تتغير رائحة جسده، وتخرج منه رائحة كريهة، فلا بد للحضور أن يواروا جسده التراب، فوقف حائراً ماذا يفعل؟ وهذا ينتصر لرأي من قال: إن ابني آدم من صلبه لا كما قال بعض المفسرين: إنهما ليسا من صلبه، نقول: هما من صلبه؛ لأنه لا يعرف كيف يواري سوءة أخيه، أما في بني إسرائيل فقد كانت مواراة الجسد: الأرض، وكان ذلك معروفاً عندهم ومقرراً في شرعهم. قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا [المائدة:31]، هذا هو المبعوث الأول في القرآن الكريم من غير البشر، بعث الله هدهداً، بعث الله نملة، هنا بعث الله غراباً، فهناك من بعثهم الله من غير الآدميين ليعلموا بني آدم. قال: غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ [المائدة:31].
تروي بعض كتب التفسير: أن غراباً قتل غراباً، وأنه واراه في الأرض، وهي قصة ليس عندنا ما يثبتها أصلاً، فنص القرآن يقول: بعث الله غراباً، ولا يقول: بعث الله غرابين، إذاً نكتفي بما ورد عندنا في كتاب ربنا، أن الغراب جاء فبحث في الأرض، فنظر ابن آدم فقال: يَا وَيْلَتَا ينادي ويلته، وكأنه يقول: يا أيها الويل! تعال لابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً وعدواناً بلا ذنب ولا جريمة ولا قصاص.
وفي القصة انظروا إلى شر البدعة السيئة، فمن ابتدع في الإسلام بدعة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
قال تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31]، اختلف العلماء في ندمه، فقالوا: من النادمين على فراق أخيه، ولم يكن من النادمين على فعله.
وقال آخرون: من النادمين على أنه لم يكن كالغراب في تورية جسده؛ لأن من شروط التوبة الصحيحة أن يندم صاحبها على ما فعل، وندم ابن آدم لم يكن توبة، وإلا لِم لم يتقبّل الله منه؟ مع إيماننا أن القاتل له توبة.
لكن انظر إلى عِظم خطورة الحسد، وإلى السنة السيئة، وظلمة البصيرة، ووعظ العبد الذي أترف وأسرف على نفسه.
فهذه دروس مستفادة من قصة ابني آدم.
أسأل الله سبحانه أن يبصّرنا بالقرآن، وأن يرزقنا حب القرآن، ونور القرآن، وعطاء القرآن، وفهم القرآن.
و ابن القيم في الجواب الكافي يقص علينا قصصاً من الذين أسرفوا على أنفسهم، فيقول: حضر الموت لرجل كان قد أسرف على نفسه في تجارته، فلا يعرف إلا التجارة في وكالته، يبيع بالمزاد ويعقد الصفقات، ويزايد على الصفقات بين الناس من الفجر إلى غروب الشمس، فلا يعرف الصلاة، ولا يعرف دروس العلم، ولا يعرف القرآن، ولا الحدود الشرعية، كل همه التجارة.
فحضره الموت، فقام من حوله يذكره بالله، فقالوا له: يا عبد الله! من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة، فاذكرها قبل موتك، فنظر إليهم وهو يقول: من يشتري مني باثنين أو ثلاثة؟ فمات على ما انشغل به، فمن انشغل بشيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعث عليه.
وفي حديث البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخمّروا رأسه، ولا تحنّطوه -لا تطيبوه- وكفّنوه في إحرامه، فإنه يُبعث يوم القيامة ملبياً)، وهذا معناه كما قال العلماء: أن من مات على شيء بُعث عليه.
فمن مات على معصية بُعث على معصيته، ومن انشغل بشيء في دنياه انشغل به عند موته.
وقص علينا ابن القيم أيضاً: أنه حضرت الوفاة لموسيقار، كانت حياته كلها في الموسيقى، وعند الموت قال له الناس: يا عبد الله ! من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله، وأخذوا يذكرونه بكلمة التوحيد، فنظر إليهم وقال لهم: تن تن. يدندن عند موته، هذا معناه: أنه انشغل أيضاً بالموسيقى، فمن انشغل بشيء مات عليه، ومن انشغل بالصلاة مات وهو يذكر الله، ومن انشغل بالقرآن مات وهو يردد آيات الله سبحانه، وفرق بين هذا وذاك، وشتان بين الخبيث والطيب.
روى البخاري في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه، فمرت عليه جنازة فقال الصحابة: من الميت؟ فلما عرفوه قالوا: كثير الصلاة، الصيام، حسن الخلق، حافظ للقرآن، مقيم لحدود الله.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مرّت جنازة أخرى، فذكره الصحابة بسوء خلقه، وبتضييعه للفروض، وبأكله للحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال الصحابة: يا رسول الله! ما وجبت؟ قال: أما الأول فذكرتموه من حسن خلقه ومن كثرة صلاته وصيامه، ومن اتقائه لربه فوجبت له الجنة، وأما الآخر فذكرتموه من سوء خلقه ومن تعديه لمحارم ربه، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
أيها الأحباب الكرام! إن المسلم بعد موته يترك أثراً طيباً.
قال إبراهيم عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]، إن مات إنما يموت واقعاً بين الناس، لكنه يترك بين الناس أثراً طيباً وسيرة طيبة.
أسأل الله سبحانه بفضله وكرمه وعفوه ورضاه أن يغفر له، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم شفّع قرآنه فيه، وشفّع صلاته فيه، اللهم كن له تحت أطباق الثرى خير أنيس لوحشته، وخير جليس لوحدته، اللهم ثبته بالقول الثابت عند سؤال الملكين، اللهم نقّه من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسله من خطاياه بالماء والثلج والبرد، اللهم إنك عفو كريم حليم تحب العفو فاعف عنه.
اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، وأمّنا في أوطاننا، وبدّلنا من بعد خوفنا أمناً، ومن بعد ضيقنا فرجاً، ومن بعد عسرنا يسراً، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عمن سواك، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم إنك عفو تحف العفو فاعف عنا.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وارزقنا عند الاحتضار شهادة، وارزقنا بعد الموت جنة ونعيماً، اللهم ول أمورنا خيارنا، يا رب! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، يا رب! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، علّمنا من القرآن ما جهلنا، ذكّرنا من القرآن ما نُسّينا، ارزقنا حب القرآن، وفهم القرآن، ونور القرآن، وعطاء القرآن، بيّض وجوهنا بنور القرآن، احفظ أعراضنا ببركة القرآن، بارك لنا في أرزاقنا ببركة القرآن، اجعلنا من أهل القرآن يا ربنا! اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
آمين آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر