أما بعد:
فلا زلنا مع كتاب الحج والعمرة، باب ( صفة الحج).
قال المصنف رحمه الله: [ وإذا كان يوم التروية، فمن كان حلالاً أحرم من مكة وخرج إلى عرفات، فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما ]، ويوم التروية هو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة، وسمي بيوم التروية، لأنهم كانوا يتروون فيه الماء، حتى إذا ما صعدوا إلى عرفة أو ذهبوا إلى منى يكون معهم الماء، والمتمتع في اليوم الثامن يُحرم من مكانه الذي هو فيه، فإن كان في الفندق فله أن يغتسل ويطيب المفارق ويلبس الإزار والرداء، ثم يصلي ركعتين، وليس هناك ركعتين تسمى بـ (ركعتي الإحرام)، فهذا خطأ وهو شائع، لكن إن كانت هناك فريضة صلاها، وإن كانت نافلة صلاها، أو سنة الوضوء أو تحية المسجد، أي: أنها صلاة مسببة، ثم يلبي من مكانه: لبيك حجاً، لأنه قد لبى بالعمرة من الميقات، ويقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. وهذا كله قبل الظهر يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يتوجه إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، فيقصر الصلاة دون أن يجمع، أي: أنه يصلي الظهر ركعتين والعصر ركعتين والمغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين والفجر ركعتين، وكل فريضة في وقتها، وهناك صحابي جليل من الخلفاء الراشدين قد أتم الصلاة في منى، وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه، وصلى خلفه عبد الله بن مسعود فقال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم في منى فقصر، وصليت خلف أبي بكر فقصر، وصليت خلف عمر فقصر، فلما جاءت خلافة عثمان أتم عثمان ، وقد اعتذر العلماء لفعل عثمان بأعذار عديدة، منها: أنه تأول، هل القصر في منى من النسك أم هو رخصة؟ من النسك، فلو أن رجلاً بيته في منى، فهل يصلي قصراً أم يتم؟ يصلي قصراً؛ لأن القصر من النسك وليست رخصة للمسافر دون غيره، ومن السنة أن يبيت في منى، وليس ذلك واجباً من واجبات الحج، ولا ركناً من أركانه، فإن بات في منى صلى الفجر فيها صبيحة اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة، وهو خير يوم طلعت فيه شمس العام، ثم بعد أن يصلي الفجر في منى ينتظر حتى يسفر النهار، ثم يتوجه بعد ذلك إلى عرفة.
قوله: [ وخرج إلى عرفات ] أي: خرج إلى عرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، وكما تعلمون أن بعض المعاصرين يقترح على الأمة أن تعدد أيام عرفة لأجل تخفيف الزحام! أي: أنه بدلاً من أن يكون يوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة ممكن أن يكون التاسع من شوال، وممكن أن يكون التاسع من ذي القعدة، والغريب أن الصحفي الذي كتب هذا المقال في جريدة الأهرام أو الأخبار -على ما أذكر- قال: وهذا اقتراح جدير بالدراسة، عرفة يتعدد وهو يوم واحد في السنة! وليس هناك عرفة سواه، ولكن أحياناً العقول تضل.
وقوله: [ فإذا زالت الشمس يوم عرفة ]، أي: انحرفت عن وسط السماء، [ صلى الظهر والعصر يجمع بينهما ]، أي: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر مع العصر في عرفة يجمع بينهما.
ولو أن رجلاً وقف على عرفة بعد غروب الشمس ولم يقف بالنهار، فحجه صحيح.
ولو أن رجلاً ترك الوقوف على عرفة بالنهار، ولكنه وقف بالليل، فحجه صحيح ولا شيء عليه؛ لأن الوقوف بعرفة يكون ليلاً، فمن أدركها بالليل فقد أدرك الحج ولا شيء عليه؛ والجمع بين الوقوف في عرفة ليلاً ونهاراً سنة، ومن أدرك عرفة فقد أدرك الحج.
ولو أن رجلاً خرج من بلده وتوجه مباشرة إلى عرفة، فأدرك عرفة قبل أن يؤذن الفجر، فحجه صحيح وعليه دم، لأنه ترك المبيت بمزدلفة ليلة العيد.
قال: [ فخطب الناس صلى الله عليه وسلم ]، أي: أنه خطبهم خطبة الوداع قبل أن يصلي الظهر مع العصر، وخطب -كذلك- بعد زوال الشمس، أي: بعد أن دخل وقت الظهر، فقام فيهم خطيباً في خطبة جامعة لم يعرف التاريخ ولن يعرف مثلها في تمامها وكمالها.
قال: (ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً) ]، أي: أنه صلى الظهر والعصر جمعاً، وهذا من النسك.
قال: [ (ثم ركب حتى أتى الموقف واستقبل القبلة حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص) ]، أي: أنه لم يترك عرفة إلا بعد غروب الشمس، فجمع صلى الله عليه وسلم في الوقوف في عرفة بين الليل والنهار.
قال: [ (حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء) ]، أي: جمع تأخير؛ لأن المغرب حان عليه في عرفة قبل أن يخرج منتصف الليل، لكن بعض الحجاج قد يركب السيارة فيكون هناك زحام، فيصل إلى مزدلفة في الساعة الثانية أو الثالثة فجراً، ويؤخر العشاء والمغرب إلى هذا الوقت! وهذا لا يجوز، يقول علماؤنا: إن خرج منتصف الليل نزل من سيارته وصلى في أي مكان، وليس شرطاً أن يصلي في مزدلفة؛ لأنه حبسه حابس عن الوصول إلى المزدلفة، لكن إن يسّر الله له فوصل إلى مزدلفة قبل منتصف الليل صلى بها المغرب والعشاء جمع تأخير.
قال: [ (فصلى بها المغرب والعشاء -أي بمزدلفة- بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئاً) ]، أي: أنه لم يصل النافلة؛ لأن الذي يجمع الصلاة ليس له أن يصلي النافلة، ومن باب أولى الذي يجمع ويقصر، لكن لو أتم صلى نافلة، والفريضة جُبرت عنه، فمن باب أولى النافلة.
قال: [ (ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر) ]، أي: أنه صلى المغرب والعشاء ثم اضطجع، ولم يصل قيام الليل، لأنه ليس من السنة قيام الليل في ليلة المبيت بمزدلفة، ولأنه يحتاج إلى جهد لأداء النسك.
ثم قال: [ (فصلى الصبح حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة) ]، أي: أنه صلى الصبح في مزدلفة، ولذلك من واجبات الحج المبيت بالمزدلفة، لكن رُخّص لأهل الأعذار أن يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل، كالساقي أو الرجل معه النساء وغير ذلك.
قال: [ (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره وهلله ووحده، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) ]، أي: أنه مكث واقفاً في مزدلفة حتى ظهر ضوء النهار، وأسفر بمعنى: بدا وظهر، قال تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [المدثر:34]، ومنه سفور المرأة، أي: ظهور مفاتنها، وسمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، فلا تعرف الرجل إلا إذا سافرت معه، فتعرف أخلاقه الطيبة من معايبه.
قال: [ (فدفع قبل أن تطلع الشمس -أي: في يوم مزدلفة قبل طلوع الشمس- حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى) ]، وهذا في صباح يوم العيد؛ لأنه بات في مزدلفة ليلة العيد، ثم توجه إلى منى ليسلك الطريق المؤدي إلى جمرة العقبة الكبرى أو العظمى، بحيث يرمي الحاج جمرة واحدة بسبع حصيات، وإجمالي ما يرميه الحاج في حجه 49 حصاة إذا تعجّل، وإذا تأخر 70 حصاة، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].
قال: [ (حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي صلى الله عليه وسلم) ]، أي: يرمي كل حصاة منفردة لا كما يفعله بعض الحجاج، فيرمي الحصيات كلها دفعة واحدة! وهنا تحسب حصاة واحدة، وهذا اختيار شيخ الإسلام في الطلاق بلفظ الثلاث، فالجمهور يرى أن من قال لزوجته: أنتِ طالق ثلاثاً، يقع الطلاق ثلاثاً، وخالفهم ابن تيمية فقال: لا يقع إلا طلقة واحدة، وهذا يوافق المنقول والمعقول، فلو أن رجلاً بعد الصلاة قال: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر ثلاثاً وثلاثين، فإنها تحسب مرة واحدة، وكذلك الطلاق بلفظ الثلاث، وهذا هو المعمول به اليوم في المحاكم، فتركوا رأي الجمهور وأخذوا برأي ابن تيمية ؛ لأن رأي ابن تيمية مع المعقول والمنقول، أيضاً: ويكبر مع كل حصاة، ولا بد أن تقع الحصيات في الحوض، ويفصل بين كل حصاة وأخرى قائلاً: الله أكبر الله أكبر، والحصى يكون في حجم الخذف، أي: كحبة الفول، ومن الخطأ أن البعض يرمي بالحذاء أو بالساعة أو بالنظارة، وهذا من الجهل، لأن من السنة أن رمي الجمرات يكون بالحصاة، بل هو من واجبات الحج.
وبعض النساء تقف على بعد نصف كيلو من حوض الجمرات فتلقيها على رءوس الذين يرمون، وتظن أنها بذلك قد أدت الواجب الذي عليها، وهذا من الخطأ، لأن المرأة إذا لم تستطع أن ترمي الجمرة فلها أن توكل غيرها، وذلك بدلاً من أن تترك واجباً.
قال: [ قال جابر : (ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى
قال: [ (وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجُعلت في قدر وطبخت وأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه) رواه مسلم ].
قال: [ وقال محمد بن يحيى : ما أرى للثوري حديثاً أشرف منه، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل عرفة موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) ]، أي: أنه صلى الله عليه وسلم وقف في عرفة وقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)، ولذا فليس من المعقول أن يقف الناس في الموقف الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالتحديد، ولكن لهم أن يتوزعوا في عرفة، وصعود جبل الرحمة في عرفة ليس من السنة؛ لأن البعض يقتتلون من أجل صعود جبل الرحمة، ويعتبرون ذلك من السنة، وهذه من المخالفات التي يقع فيها الحجيج، ولذا قال المصنف: [ ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزه كما لو وقف بمزدلفة ].
ثم قال: [ ويكون راكباً وهو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكباً ]، أي: وقف في عرفة راكباً، وطاف بالبيت راكباً، حتى أن أسامة بن زيد قال: (وقع خطام دابته من يده وهو يدعو الله عز وجل في يوم عرفة).
يقول: [ ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس؛ لأنه يوم ترجى فيه الإجابة، ولذلك أحببنا له الفطر ليتقوى على الدعاء ]، وأما غير الحاج فله أن يصوم التسع من ذي الحجة، وغالب علماء السنة على مشروعيتها، فلا داعي أن نبدّع من صامها، ونكون بذلك قد خالفنا ابن القيم وشيخ الإسلام وابن عثيمين والنووي وابن حجر وغيرهم من حفاظ الأمة، وذلك بدون أن نبحث في المسألة، يقول الشيخ ابن عثيمين : إن الأصل فيه موجود: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)، والصيام من العمل الصالح، فلا داعي أن نبدّع الناس بذلك.
قال: [ قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو -عز وجل- ثم يباهي بكم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)].
ثم قال: [ ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، ويسر لي أمري)، وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، اللهم اهدني بالهدى، وقني بالتقوى، واغفر لي في الآخرة والأولى، ثم يرد يده فيسكت قدر ما كان إنسان قارئاً بفاتحة الكتاب، ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك، ولم يزل يفعل ذلك حتى أفاض، وسئل ابن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فقيل له: هذا ثناء وليس بدعاء -أي: أنهم سألوه عن الدعاء فأجاب بالثناء- فقال: أما سمعتم قول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء ].
أي: هل أذكر حاجتي أم الثناء عليك يكفي؟ ومن أكرم من الله عز وجل؟ فإذا أثنى العبد على ربه سبحانه فإن هذا بمثابة الدعاء.
قال: [ وقوله: (إلى غروب الشمس)، معناه: أنه يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس، ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غربت الشمس. كذا في حديث جابر ].
أي: في أي بقعة من الأرض أمطرت فسيأتيني خراجك إن شاء الله، ومعنى هذا: أن الإسلام قد شمل كل بقاع الأرض، وأن الأرض كلها كانت تخضع للإسلام ولولي أمر المسلمين، فتأملوا في هذا وانظروا إلى ما وصلنا إليه!
وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه حينما جاء من أرمينيا أو أذربيجان اقترح على ذي النورين أن يجمع المصحف على حرف واحد؛ لاختلاف القراء، فهذا يقرأ بلغة وهذا بلغة أخرى، والقرآن قد نزل على سبعة أحرف، فتأمل كيف أن حذيفة جاء من أقصى الدنيا، أي: أن الإسلام قد عم الأرض جميعاً، ولذا فلا أمان ولا اطمئنان في هذا العالم إلا إذا ساده الإسلام، فهو دين الله عز وجل الذي ارتضاه للخلق أجمعين.
قال: [ وهو الوالي الذي إليه أمر الحاج من قبل الإمام، فالمستحب أن يقف حتى يدفع الإمام، ثم يسير نحو المزدلفة على طريق المأزمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلكه وإن سلك الطريق الآخر جاز، ويكون عليه سكينة ووقار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام حين دفع وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب موركة رحله ويقول بيده اليمنى: (أيها الناس السكينة السكينة) ].
ويحضرني الآن قول عمر رضي الله عنه حينما نظر إلى الحجاج فوجد العدد كبير: الركب كثير والحاج قليل، أي: من ذهب طلباً لرضا ربه ومغفرته، وأتقن العمل، ويخاف ألا يتقبل الله منه، فهو حاج، وهؤلاء قليل، ومن ذهب ليقال: إنه قد ذهب ليحج، حتى أنك ترى السيارات والأعلام البيض، والطبل والمزامير في انتظاره، وبعد عودته من الحج لم يتغير سلوكه، فهؤلاء ركب وهم كثير.
ثم قال: [ وقال عروة : (سئل
قال: [ فإن ذكره مستحب في جميع الأوقات وهو في هذا الوقت آكد؛ لقوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [البقرة:198]؛ ولأنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى والتلبس بعبادته والسعي إلى شعائره، فيستحب الإكثار فيه من ذكره، ويستحب التلبية، قال الفضل بن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة) ]، وقد أردف النبي صلى الله عليه وسلم خلفه ابن عباس ومعاذاً وأسامة بن زيد ، وهنا في حجة الوداع أردف النبي صلى الله عليه وسلم خلفه الفضل بن عباس ، فرأى امرأة محرمة لكنها كشفت وجهها، فجعل ينظر إليها فصرف النبي عليه الصلاة والسلام وجهه عنها وقال: (رأيت شاباً وشابة، فكيف آمن الشيطان عليهما؟)، وكلما عاد الفضل لينظر صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجهه، وهذا دليل لمن قال بعدم وجوب غطاء الوجه للمرأة، فنقول له: هذا في الحج، والمرأة قد أُمرت ألا تغطي وجهها في الحج إذا أمنت مخالطة الرجال، فإن قال قائل: فكيف ينظر إليها الفضل وقد خالطت الرجال؟ نقول: المرأة كانت تأمن من عدم المخالطة، لكن الفضل نظر فرآها وليس على وجهها حجاب، فلما نظر إليها جذبه النبي صلى الله عليه وسلم، فمعنى ذلك: حرمة النظر إلى الوجه؛ لأن الوجه يجمع المحاسن، ولذلك فهذه مؤامرة خبيثة على هذا الزي الإسلامي الذي عرفته الأمة منذ قديم الزمان.
قال: [ ثم يبيت بها -أي: بمزدلفة- والمبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم، وقال بعضهم: من فاته جمع فاته الحج ]، أي: أن بعضهم قال: إن المبيت بمزدلفة ركن وليس واجباً، فانظر إلى خطورة المسألة، فمعظم الحجاج المصريين يدفعون من عرفة إلى الجمرة إلى منى ولا يبيتون بمزدلفة، بحجة أن المطوف قد فعل ذلك، فيا عبد الله! إن المبيت بمزدلفة واجب فلا ينبغي أبداً أن تتركه، وأقول لك: حتى يكون حجك صحيحاً خذ عنوان الفندق وأد النسك في اطمئنان وسكينة، ولا تخش على نفسك.
قال: [ ولنا قوله عليه السلام: (الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه)، يعني: من جاء من يوم عرفة ].
ثم قال: [ ثم يصلي الفجر بغلس ] أي: بظلام. قال: [ السنة أن يبيت بمزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح ]، وهذا استدلال على أن وقت صلاة الفجر لا شبهة فيه، وقد نشرت مجلة التوحيد في عدد لها فتوى حول هذا الأمر؛ لأن البعض يؤخر الفجر عن الجماعة الأولى، ويظل يطعن في موعد الفجر حتى نام ولم يصل الفجر بعد، فيكفي في دخول الوقت غلبة الظن، وما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين، وإن قلت لأحد الإخوة: أنت الآن تشكك في موعد الفجر، فقال: نعم، قلت له: إذاً في رمضان كل واشرب بعد النداء، فقال: لا يجوز؛ احتياطاً للصيام، فإذاً هو غير متأكد وغير متيقن مما يقول، فلا داعي أبداً أن نثير هذه الشبهات والقلاقل في مواعيد استقرت، وأهل الخبرة أو أهل التخصص قد وضعوها في النتيجة، وإن كان هناك خطأ في التقدير فعليهم، وأنت الآن تصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء في موعد محدد، فلماذا تطعن في الفجر يا عبد الله؟! يقول: هناك أقوال كذا وكذا لبعض العلماء أو الدعاة! وأنا أعتقد أن هذه المسألة قد حسمت قديماً فلا داعي أبداً لهذا؛ لأن الفتنة لا زالت تذهب إلى بعض القرى، فبعض الناس لا يصلي الفجر مع الجماعة الأولى بحجة أنهم يصلون بليل، فيؤخر الجماعة فيخالف، أو يصلي مع الجماعة الأولى ثم يعود فيصلي مرة ثانية! ولا صلاة مرتين في اليوم، فيقع في المخالفات العديدة بسبب هذا الموضوع.
قال: [ والسنة أن يعجلها في أول وقتها ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام ]، وهذا دليل آخر أيضاً، فيصلي الفجر في أول الوقت بغلس، أي: بظلام، وقد استدل علماؤنا على ذلك بأن نساء المؤمنين زمن النبي كن يخرجن من صلاة الفجر بغلس فلا يُعرفن، أي: أن الصلاة تنتهي والجو لا يزال مظلماً، فلا تعرف المرأة أختها، وفي البخاري : أن الرجل كان ينظر فلا يميز بين الرجل والأنثى من شدة الظلام، فلا داعي لمثل هذه الأمور، وهذا كلام مستقر، لذا فأقول: إن السنة أن يعجلها في أول وقتها.
قال: [ وفي حديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح حين تبين له الصبح، وفي حديث: أنه صلى الفجر حين طلع الفجر، وقائل يقول: قد طلع، وقائل يقول: لم يطلع ]، أي: أن الصحابة اختلفوا، فمنهم من يقول: قد طلع الفجر، وقائل يقول: لم يطلع بعد، فصلى عليه الصلاة والسلام في هذا الوقت؛ حتى يتمكن من الدعاء عند المشعر الحرام.
قال: [ ويستحب أن يكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه، فوفقنا فيه لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:198-199].
ثم قال: [ فيبدأ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف، ويقطع التلبية عند الرمي، وبعد رمي جمرة العقبة يحل له كل شيء إلا النساء، وبعد الرمي والذبح والحلق يكون قد تحلل تحللاً أصغر ]، فيحل له كل شيء إلا النساء، وإن جامع بعد أن تحلل التحلل الأصغر فعليه دم، ويذهب إلى التنعيم فيحرم ويطوف بالبيت وهو محرم، وإن جامع قبل التحلل الأول، أي: قبل أن يرمي جمرة العقبة فقد فسد حجه ولزمه الإتمام وعليه بدنة، ويقضي من قابل، والبدنة يذبحها في الحرم في مكة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر