الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
فهي فرصة طيبة أن نلتقي بإخواننا الشباب هذا اللقاء المبارك في هذه البلدة التي تشرفنا بزيارتها، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
معشر الشباب! عنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: ماذا بعد الهداية؟
ظاهرة نشهدها كثيراً ونراها، وربما نكون نحن أيضاً من نتاج هذه الظاهرة، ترى صورة ذاك الشاب الذي عاش فترة من الغفلة والإعراض والجرأة على ما حرم الله سبحانه وتعالى، وعاش مرحلة من التيه والضياع، ثم من الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية، فهداه الله عز وجل، وسلك طريق الخير والاستقامة.
أو ذاك الشاب الذي قد لا يكون كصاحبنا، قد لا تكون له تجربة في الفساد والإغراق فيه والانحراف، لكنه هو الآخر له تجربة قريبة من هذه التجربة، قد يكون عاش شخصاً عادياً لا اهتمام له، وغاية ما يشكل عنده أهمية فوز فريق رياضي أو تقدمه، أو قضية صغيرة أو كبيرة، أما قضية الاستقامة وقضية الدين فلا تقدم عنده ولا تؤخر كثيراً، ثم من الله سبحانه وتعالى عليه هو الآخر بالهداية، ونعتبرها في الواقع نقلة مهمة، فسلك مع الشباب الأخيار طريق الخير والاستقامة، فصار مع هذا الرأي.
ومن ثم كان لابد لهؤلاء وأولئك ولجميع الذين سلكوا هذا الطريق من حديث خاص حول هذه المرحلة التي انتقلوا إليها وسلكوها، ولئن كان الحديث فيما قد يبدو لنا خاصاً بأولئك الذين هم حدثاء عهد بهذه المرحلة إلا أني أتصور أنه قد يعنينا جميعاً، وسنجد جوانب من هذا الحديث تعنينا ونشترك فيها جميعاً.
الجانب الأول: هذه الهداية إنما هي عودة إلى الأصل:
فإن الله سبحانه وتعالى يقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:30-31].
أي: أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس منيبين إليه، ومسلمين له، ومتوجهين له، فالبعض قد يتصور أنه ما دام هو قد تحول إلى هذا الطريق، أو ما دام فلان من الناس أياً كان هذا الشخص قد تحول إلى هذا الطريق، فإن هذا يعني أنه قد سلك طريقاً آخر، ومسلكاً آخر، ودرباً آخر.
ولكن نحن نقول: إن هذا الشخص إنما عاد إلى الأصل، وعاد إلى المسار الطبيعي الذي كان ينبغي أن يسير فيه، والذي كان هو عليه أصلاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه فطر الناس منيبين إليه، ومتوجهين له، ومسلمين له.
ونلمس هذا المعنى أيضاً واضحاً، بل قد يكون بصورة أدل وأقوى في الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يقول: (خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن ذكر الله عز وجل، فحرمت عليهم ما أحللت لهم).
إذاً: الجميع خلق أصلاً على هذا الطريق، وخلق في هذا المسار، ثم جاءته الشياطين فاجتالته، فأخذ المسار الآخر، فعندما يهتدي فإنه يعود إلى الأصل الذي كان هو عليه وخلق عليه.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، حتى يعجم عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
هذا جانب من الجوانب التي تعطينا دلالة على أن هذا الشاب الذي سلك هذا الطريق لم يسلك طريقاً جديداً أصلاً، ولم يسلك مساراً مبتدعاً، إنما عاد إلى الأصل وإلى الوضع الطبيعي والمسار الذي كان عليه.
جانب آخر أيضاً: اخرج خارج المدينة وتأمل فيما أمامك تجد الجبال والأشجار، ومظاهر هذا الكون، وارفع نظرك إلى السماء تر السماء والنجوم وتر ما فيها، وحينئذٍ ستتذكر قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18].
إذاً: فترى هذا الكون أمامك بكل ما فيه يسجد لله سبحانه وتعالى، يسجد له عز وجل من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب، حتى كثير ممن حق عليه العذاب هو في حقيقة أمره في بعض جوانب حياته يخضع ويسجد ويسلم لله سبحانه وتعالى.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15]، لعلك تبحث عن الظل لتجلس تحته، أو لتوقف سيارتك في مكان تستظل به، ثم تتذكر فعلاً هذا الظل الذي يمتد ويعود مرة أخرى ويرجع، فتراه في الصباح يبدأ يتناقص، ثم في المساء يبدأ يزيد.
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا [الفرقان:45] هذا الظل يسجد لله سبحانه وتعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15].
وجانب آخر: التسبيح: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
وكل شيء في هذا الكون يسبح لله سبحانه وتعالى، ويعلن بالخضوع له.
إذاً: فهذا الإنسان الذي يسلك طريق الهداية يسير في اتجاه متوازن، مع الكون هذا بكل ما فيه، فالجميع كله خاضع لله سبحانه وتعالى.
أما الشخص الآخر الذي يسلك طريق الغواية والمعصية، فإنه يسير في طريق معاكس للجميع، وإن كان تخيل له أن الغالب على الناس الضلال والإعراض: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] فهو يتصور أنه يسير مع التيار والواقع أنه المعاكس للتيار، فهو بدءاً بعباد الله الصادقين المنيبين معاكس للطريق الذي هم عليه، وانتهاءً بهذا الكون العريض بكل ما فيه، حتى الظل الذي هو يستظل تحته لأجل المعصية، أو المكان الذي يختبئ فيه ليعصي الله سبحانه وتعالى، هذا المكان يسبح لله، ويسجد لله سبحانه وتعالى، ويخضع لله.
عندما تدرك هذه المعاني تشعر أنك أنت الذي تسير على الجادة، ولو كنت وحدك فافترض أنك وجدت في مجتمع وفي مكان أصبحت فيه الوحيد الغريب، فلست الغريب في الحقيقة، إنما الغريب هو ذاك الذي عصى الله سبحانه وتعالى.
لك أيضاً مع هذا امتداد تاريخي ليس لغيرك، امتداد تاريخي عريق بآدم ونوح، وتلك القرون التي كانت بين آدم ونوح -وهي عشرة قرون- كانت على الإسلام، وأنبياء الله سبحانه وتعالى، وكل من أسلم لأنبياء الله وتابعهم وسار وراءهم، كل هؤلاء يعتبرون امتداداً تاريخياً لك أنت، فأنت من خلال الواقع الذي تعيشه، ومن خلال الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومن خلال هذا الكون الفسيح أمامك، ومن خلال هذا الامتداد التاريخي الذي ليس لأحد إلا لك، أنت وحدك الذي تسير على الجادة.
لست أنت وحدك بشخصك لكن بمنهجك، فالآن عندما عدت إلى الهداية لن تسلك طريقاً آخر، إنما عدت كنت أنت قد انحرفت بك الجادة والمسار فعدت إلى الطريق الصحيح.
وهي قضية قد تبدو لك لأول وهلة قضية جدلية فلسفية بحتة، لا، فهناك فرق بين إنسان يشعر أنه سلك طريقاً آخر وإنسان يشعر أنه عاد إلى ما كان ينبغي أن يسير عليه أصلاً، عاد ليعيش في تواءم مع هذا الكون كله.
إذاً: فأنت عندما اتخذت هذا القرار سرت وفق المسار الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لك، الذي وجدت أصلاً لأجل أن تسير على هذا الطريق، وجدت لعبادة الله سبحانه وتعالى، وللخضوع والتسليم له.
ثانياً: الفضل لله وحده:
قد تتساءل بعد فترة فتقول: وفقت لسلوك هذا الطريق نتيجة قدراتي العقلية، لأني إنسان عاقل ومتزن، أملك قدرة على التفكير، و..، و..، وغير ذلك، فتبدأ تحلل بعض الأسباب التي أدت بك إلى العودة إلى الطريق الصحيح، وتنسى السبب الأساس والأهم وهو فضل الله سبحانه وتعالى وحده.
وهي قضية يجب أن تتصورها، وألا تغيب عن بالك، فهي من باب الاعتراف بالفضل لأهله، فالله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113].
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان محتاجاً إلى فضل الله، وإلى رحمة الله، وإلى توفيق الله؛ ليصرف الله سبحانه وتعالى عنه كيد أولئك الذين هموا أن يضلوه.
وأبونا إبراهيم الذي سمانا المسلمين كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه، يقول وهو يدعو ربه: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [الأنعام:77]، فإبراهيم غير مستغن عن هداية الله سبحانه وتعالى، وتوفيق الله عز وجل له.
والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم).
إذاً: فأنت ما لم تستمد الهداية والتوفيق من الله سبحانه وتعالى فأنت في ضلال وفي خسران.
والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يصور لنا حقيقة هذا الإنسان، ومدى قدرته على التحكم في نفسه، أو مدى قدرته على الاستغناء عن مولاه سبحانه وتعالى، فيقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء)، ومفهوم تقليبها ليس مفهوماً ضيقاً، فنحن نفهم مثلاً أن هذا الحديث خطاب لمن كان مستقيماً على الخير والطاعة أنه قد ينحرف.
لكن أيضاً حتى الإنسان الفاجر العاصي يمكن أن يقلب الله سبحانه وتعالى قلبه ليتحول إلى خير رجالات هذا الدين، بعد أن كان من أفسق الناس وأشقاهم.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا).
إذاً: الذي يقلب هو الله سبحانه وتعالى.
فالشاهد إذاً: أننا يجب أن ننسب الفضل لأهله، وأن نعرف أن المتفضل الأول والأخير هو الله سبحانه وتعالى، بدءاً بالهداية الأولى حين بين لنا هذا الحق، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسل للناس الرسل، وأنزل لهم الكتب هداية، فقد قال سبحانه وتعالى عن ثمود: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، مع أن ثمود لم يسلموا كما تعلمون، ولكن هذه الهداية التي هدى الله بها ثمود هي أن أرسل إليها الرسول.
فنحن يجب أن نعترف لله سبحانه وتعالى بالفضل أولاً: أن أرسل إلينا الرسل، وأنزل إلينا الكتب، وأبلغنا هذا الدين وهذه الدعوة.
لقد كان يمكن أن تكون أنت يهودياً، أو نصرانياً، أو وثنياً تعكف على وثن، أو تكون من الطوائف الضالة البعيدة عن الإسلام، فتكون رافضياً تتعبد إلى الله عز وجل بالخرافات والخزعبلات، أو تكون قاديانياً تدين بنبوة ذلك الطاغوت، أو تكون صاحب نحلة أياً كانت.
فلقد منَّ الله عليك بأن اتضح لك الطريق، بالهداية والدلالة والبيان والإرشاد، فكم من إنسان يلتبس عليه الحق بالباطل، ثم الفضل الآخر أن وفقك الله لسلوك هذا الطريق، ولو شاء الله عز وجل لكنت ممن قال:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
عندما قال هذه الأبيات ومات وهو يردد هذه الأبيات؛ مات على ملة عبد المطلب ، وقائل هذه الأبيات هو أبو طالب ، عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عنده قناعة تامة، وأيقن بهذا الحق، لكنه لم يسلك هذا الحق، مع كل ما بذله من جهد في حماية النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه، صحيح أنه خفف عنه عذاب الله عز وجل، لكنه بقي في النار خالداً، ولا يمكن لأمثال هؤلاء أن يدخلوا الجنة حتى يسلموا لله سبحانه وتعالى.
أقول: حتى مع وضوح الحق يبقى التوفيق في سلوك الحق -أيضاً- هي منة أخرى لله سبحانه وتعالى.
فيجب أن نستحضر هذه القضية دائماً، وأن تستحضر أنك إذا وفقت لأداء عبادة من العبادات، أو وفقت لتوبة صادقة، أو وفقت لعمل صالح، أن تعرف أن صاحب الفضل أولاً وأخيراً هو الله سبحانه وتعالى.
(لا أحد أحب إليه الثناء من الله سبحانه وتعالى) كما قال صلى الله عليه وسلم، (ولا أحد أغير من الله عز وجل).
قد يكون فلان من الناس كان له فضل بأن دعاك، أو نصحك، أو أثر عليك، فيجب أن تعرف له حقهم (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، لكن يبقى أن أثني عليه، وهداني الله على يديه، وأدعو له، وأذكره بكل مكان ومجلس، لكن لا ينسينا ذلك المتفضل الأول الذي هداه هو ابتداءً، ثم وفقني أنا لقبول ما يقول، فقد يدعوني فلان، ويبدئ ويعيد، لكن إذا لم يوفقني الله عز وجل فلا يمكن أن أستجيب.
أرأيت أبا طالب كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم معه ما فعل، ومع ذلك لم يوفق لسلوك هذا الطريق؟!
إذاً: أقول باختصار: إننا يجب ألا نحدث أنفسنا يوماً من الأيام أننا أصحاب فضل وعلو على الناس، وأننا حصلنا هذه الهداية التي ضل عنها الناس، وألا نزهو بهذا الأمر وننسى أنها نعمة من الله سبحانه وتعالى، وأن الذي أعطانا هذه النعمة قادر أن يسلبها.
الجانب الثالث: هذه المرحلة بداية حياة جديدة:
صحيح أنك عدت إلى الطريق، لكنك عدت بعد أن تشعبت بك الطرق والوديان، ومن ثم ستبدأ حياة جديدة بكل ما تعنيه هذه الحياة، فتجد الشاب تغير عندما هداه الله سبحانه وتعالى، وأول ما تبدو مظاهر التغير في مظهره، فأزال المخالفات التي كانت موجودة عليه في المظهر، ولهذا عندما ترى مظهر الإنسان تأخذ انطباعاً معيناً عن هذا الشخص.
ثم الأمور والمظاهر العامة في عبادته وفي قضاياه أصبح القريب والبعيد من حوله يعرف أن فلاناً هداه الله سبحانه وتعالى وأنه قد تغير.
هذا صحيح، لكن يجب ألا نقف عند هذا الحد، وأن نتصور أنها نقلة بعيدة، وإذا أحسست أنك ما انتقلت إلى هذه النقلة فلابد أن تعيد حساباتك مرة أخرى، فقد تبقى عندك بقايا، فيجب أن تبدأ حياة جديدة، أولاً: في المظهر، وهذه قضية واضحة، والدليل على هذا أنك مجرد أن ترى الإنسان يمكن أن تأخذ تصوراً عنه، تقول: هذا فلان مستقيم أو هذا فلان لا أرتاح له من خلال المظهر، صحيح أن المظهر ليس كل شيء، لكنه يعطي دلالة واضحة نلمسها جميعاً، ونجدها في أنفسنا ضرورة.
لكن أيضاً مع ذلك هناك تغيرات يجب أن تحصل لديك، وإذا لم تحصل لابد أن تعيد النظر فيها:
فأولاً: يجب أن تتغير اهتماماتك، فأنت في السابق مثلاً كنت إنساناً ساذجاً، تعيش اهتمامات تافهة، فأهم قضية عندك قضية الكرة والرياضة، قضايا تافهة إذا تطورت في الأمر صارت قضايا دنيوية بحتة، يعني: إذا صرت جاداً إلى آخر حد تكون أهم شيء عندك دراستك، أن تنجح وتتفوق وتتخرج، هذه هي قضية القضايا عندك، وهي كل شيء، وهي التي تسيطر على تفكيرك.
وقد تكون الاهتمامات بجوانب هي مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد تكون تسيطر عليك الشهوة، وقد يسيطر عليك أمر محرم فصار هو بؤرة اهتماماتك.
المهم: أياً كانت اهتماماتك ستبقى في محيط تافه، أما الآن فلا، فعندما هداك الله يجب أن تتغير اهتماماتك، وتفكيرك وخواطرك، فلا يليق بك الآن أن تهتم بالرياضة واللهو واللعب، صحيح أنك ستستمر في ممارسة هذه الأمور باعتبار أنها قضايا ليس فيها محذور شرعي، وقضايا لا يستغني عنها الشاب في مجال للترويح، لكن هناك فرق بين من يمارس ذلك، ومن تشكل هذه القضية في ذهنه قضية أساسية، فيمكن أن تجد اثنين من الشباب هذا الشاب رقم (أ) يمارس الرياضة بنسبة كبيرة، والآخر يمارسها بنسبة أقل، لكنك تجد الشخص الآخر قد استولت عليه، وصارت هي تفكيره.
وكما يقال: من كانت الدنيا في قلبه، ومن كانت الدنيا في يده، فقد تجد صعلوك ومع ذلك الدنيا هي عنده كل شيء، وهي حساباته، وقد تجد إنساناً قد وسع الله عليه، ومع ذلك الدنيا لا تساوي عنده شيء.
إذاً: فيجب أن تتغير اهتماماتك، وتصوراتك للحياة وتصوراتك للناس، ومقاييسك للناس، فأنت كنت في السابق تقيس الناس بمقاييس معينة وموازين معينة، يجب أن تكون الصورة تختلف، فأنت في السابق مثلاً كنت ترى شاباً يمر عليك وأنت واقف عند البيت فأخذت نظرة معينة عنه وصورة معينة تنظر إليه من خلالها، أو تراه في الفصل عندك، أو في المدرسة، وقد تكون هذه النظرة هذه سيئة مربوطة بالخطيئة، وتتحكم أحياناً في هذه القضية بنظراتك للناس، وقياسك لهم، لكنك الآن، أصبحت لك نظرة أخرى، وقياس آخر لهذا الإنسان.
في السابق كنت ترتاح لفلان من الناس؛ لأنه إنسان طريف، وإنسان واسع الصدر، عنده طرافة وعنده متعة الحديث، أما الآن فأصبحت تحب في الله وتبغض في الله، وأصبح المعيار الذي يجعلك تختار فلاناً وتجلس معه وتتخذه خلاً لك وصديقاً مصافياً هو طاعة لله سبحانه وتعالى، وعبادته لله عز وجل، وتقواه لله سبحانه وتعالى، والمعيار الذي يجعلك تضع على فلان علامة استفهام هو كون فلان عاصياً لله سبحانه وتعالى.
إذاً: تغيرت مقاييسك التي من خلالها تحكم على الناس وتتعامل معهم على أساسها.
أيضاً من التغيرات: تغيرك في النظرة إلى وقتك، فأنت مثلاً في السابق كنت تعتبر أن هذا وقت فراغ تريد أن تتخلص منه بأي صورة، وتريد أن تعطل وقت الفراغ الذي عندك في أي مجال، في محاضرة أمس أرسل لي أحد الشباب سؤالاً، وكانت المحاضرة عن الاهتمامات، فيقول: كيف تطلب منا هذا الأمر ونحن الآن نعيش في عطلة وفراغ، ونعاني من فراغ، فلابد لنا من الانشغال بالرياضة والانشغال بمثل هذه القضايا التي تراها اهتمامات غير لائقة بنا.
أنا أقول: يجب أن تصبح لك نظرة أخرى للوقت، فالرجل الجاد يبحث عن فراغ، ولا يشتكي من فراغ! ففي السابق كنت تقول هذه اللغة التي يقولها: كيف تطالبني ألا أتابع الرياضة، أو لا أتابع القضايا التي تسميها قضايا تافهة، وأنا أشتكي من الفراغ، وأعاني من الفراغ خاصة في هذه الإجازة، فلابد لي من مثل هذه الأساليب.
بينما الآن، أصبحت تفكر تفكيراً آخر، تقول: أنا أبحث عن الفراغ لأحفظ كلام الله عز وجل، أبحث عن الفراغ لأعبد الله سبحانه وتعالى، أبحث عن الفراغ لأستغل وقتي في بناء نفسي علمياً، وبناء نفسي تربوياً.
المهم أن أستغل هذا الفراغ في طاعة الله عز وجل، وأعتبر أن أثمن ما أملكه في هذه الحياة هو هذا الوقت وهذا العمر، فكيف أشتكي من هذه المشكلة؟! هذا شيء عجيب.
هل رأيت في يوم من الأيام إنساناً يشتكي من كثرة المال عنده؟! لا يمكن، حتى الإنسان الذي تأتيه الدنيا بحذافيرها تراه يستزيد، (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى أن يكون له وادٍ آخر)، ما رأينا يوماً من الأيام إنساناً يقول: أنا أشتكي من كثرة المال عندي، وعندي مال لا أدري ماذا أصنع به!
فالآن لو أسألك سؤالاً آخر: أيهما أثمن وقتك أو المال؟ لاشك أن الجميع سيجيب: الوقت أثمن، الوقت هو عمرك، وهو حياتك، وهو أنت أصلاً، فأنت لست إلا هذا الوقت؛ لأنك لك عمراً محدداً إذا انتهى هذا العمر انتهيت.
فكيف تشتكي من الفراغ، ومن توفر هذه الفرصة الثمينة لك في مقابل أنك لا يمكن أن تشتكي في يوم من الأيام من المال أو من غيره من الإمكانات؟
وأنت عندما نسألك أيهما أثمن لديك الوقت أو المال؟ تقول: لا، بل ترى بعض الناس يبذل المال حتى يحافظ على وقته، مثلاً يختار وسيلة من وسائل السفر السريعة كالطائرة، لأجل أن يوفر الوقت، يدفع مالاً لأمر معين لأجل أن يوفر لنفسه الوقت فقط لا أقل ولا أكثر.
وهذا -لاشك- أنه تصور صحيح وسليم، ويجب أن يكون لدينا هذا الشعور.
الآن أنت عندما دخلت عدت إلى المسار الصحيح، فصارت لك نظرة أخرى للوقت تختلف عن نظرة الآخرين، ونظرة لاستغلال الوقت تختلف عن نظرات الآخرين.
المهم وباختصار: عندما عدت إلى هذا الطريق فإنك بدأت مرحلة جديدة، صحيح أنك لم تسلك طريقاً جديداً، لكنك بدأت مرحلة جديدة بعد تلك المرحلة التي قضيتها، فيجب أن تتغير تصوراتك، ومفاهيمك، وأفكارك، ووقتك، وسلوكك، ونظرتك للناس، كل هذه الأمور يجب أن تعيد النظر فيها من جديد على ضوء هذه الخطوة الجديدة التي سلكتها.
وقد تقول: إنني قطعت مرحلة ولي سنوات في هذه المرحلة، ولا أشعر بهذه القضية، فأقول: يمكن أن يكون عندك خلل، فصحح الخلل، ولهذا قلت: إن هذا الموضوع قد يعنينا جميعاً ولو كنا لسنا في بداية الطريق.
الجانب الرابع: لابد من التربية:
فليست القضية الآن قراراً اتخذته وانتهيت، الآن هي بداية لمراحل أخرى، فالبعض يتصور أنه ألقى العبء الآن بعدما تاب، وأقبل على الله عز وجل، وترك الماضي، صحيح أنه خطا الخطوة التي تسهل عليه ما بعده، لكن أيضاً سيبقى يحتاج إلى التربية؛ ليزيل عنه رواسب الماضي، فستبقى رواسب عالقة من الماضي.
وأضرب لك مثالاً بسيطاً: تجد الشاب الذي في الشارع يتكلم الكلام البذيء الساقط وغير اللائق، ثم هداه الله، وصار مع الناس الطيبين، فهو متعود أن يلعب الكرة في الشارع، وميدان الكرة ميدان يبعث على الحماس، ويستنفر منا حماساً أكثر من اللازم، فمع الحماس يتفاعل الإنسان فلا يملك نفسه، فتجده تبدو منه أحياناً بعض العبارات التي يزل فيها وهو لا زال حديث عهد بالالتزام.
وهذا وضع طبيعي، يقول أبو واقد الليثي : (خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر)، يعني: أنهم مسلمون جدد، وبناءً عليه بقيت عندهم رواسب، قال: (وللمشركين شجرة ينوطون بها أسلحتهم ويعلقونها عليها، فتنادينا من جنبات الوادي، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، لا يزال عندهم هذا الراسب.
يأتي مثل هذا الشاب الذي هو حديث عهد بالهداية فتبدو منه فلتات في اللسان، وعندما يغضب يبدو منه ذلك؛ لأنه لا تزال عنده بعض الرواسب لم يتخلص منها، ثم هذه القضايا قد يتخلص منها سريعاً، لكن تبقى قضايا في الداخل تحتاج إلى مرحلة.
يعني: في السابق مثلاً قد يكون يتابع أفلام الفيديو، أو يتابع برامج التلفاز، أو صور المجلات، المهم أنه يتابع هذه القضايا لتؤجج عنده نار الشهوة في قلبه، وعندما يتوب وأقبل على الله عز وجل، وسلك هذا الطريق ستبقى بعض رواسب الماضي وصور الماضي تتحرك أمامه، ومن ثم يحتاج إلى التربية ليزيل كل هذه الرواسب التي جاء بها من خلال الطريق السابق أو المسار الذي كان قد انحرف إليه.
وأيضاً تحتاج إلى التربية لتكون معينة لك -بعد توفيق الله عز وجل- على الثبات على هذا الطريق، فإن القضية -كما قلنا في البداية- فضل وهداية من الله سبحانه وتعالى، فكما أنها توفيق من الله عز وجل يمكن أن يسلب عنك هذا التوفيق، فقد تضل عافانا الله وإياك.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يدعو بدعاء يدل على هذا المعنى، فكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، ومن الحور بعد الكور)، ومعنى (الحور بعد الكور) الضلالة بعد الهدى، والتحول من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
إذاً: عنايتك بالتربية تكون -بعد توفيق الله عز وجل- وسيلة لأن تجعلك تستمر وتثبت، وسنأتي لهذه القضية بمزيد من التوضيح في نقطة لاحقة.
ثالثاً: أنت تحتاج إلى التربية لترتقي ويزيد إيمانك، وترتقي في مراتب الخير والصلاح، فتحتاج إلى التربية لتزيد إيمانك بالله عز وجل، فالإيمان يزيد وينقص كما تعلمون، وتحتاج إلى التربية -أيضاً- لتعطيك رصيداً علمياً جديداً فيزيد علمك وتحصيلك، وتحتاج إلى التربية -أيضاً- لتضبط سلوكك وأخلاقك مع الناس، وتحتاج إلى التربية لتتخلص من أخلاق وجوانب القصور التي كانت في نفسك.
المهم أنك تحتاج إلى التربية لترتقي بنفسك، ولا يزال المرء محتاجاً إلى التربية حتى ولو تحول إلى أنه هو الذي يؤدي دور المربي.
إذاً باختصار: لابد من التربية، وسلوكك هذا الطريق يعني أنك ستبدأ -أيضاً- قضية أخرى وهمّاً آخر هو هم التربية؛ حتى تعلو وترتفع، وستستمر وتربي نفسك حتى تنتهي من هذه الحياة.
الجانب الخامس: سؤال يطرح كثيراً: كيف أتعامل مع الماضي؟
كان لك ماض سابق، فكيف تتعامل مع هذا الماضي؟
هناك عدة نقاط حول الماضي:
أولاً: أن بعض الشباب تكون له تجارب سيئة، كان يفعل معاصي وخطايا، فيتحدث بها مع زملائه ومع الناس، وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله سبحانه وتعالى، فيصبح فيقول: يا فلان! عملت كذا وكذا، بات يستره الله عز وجل ويكشف ستر الله عليه).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يخبر أن الأمة معافاة إلا المجاهرين؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهر أدعى للتوبة أصلاً، والناس لا يدرون ما عنده، فيتوب ويقبل على الله عز وجل، لكن الإنسان الذي يجاهر بالمعصية يعتبر مستخفاً بها، فقد يعاقبه الله فيصرفه عن التوبة، ثم -أيضاً- هذا الإنسان المجاهر صار تاريخه مكشوفاً أمام الناس، فصعب عليه أن يتخذ قرار التوبة والعودة إلى الله عز وجل.
فأقول: بعض الشباب يتحدث عن الماضي بما فيه أنه كان يفعل كذا وكان يفعل كذا، وفعل كذا، وهذه لها أخطاء أولها: أنها مجاهرة بالمعصية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن المجاهرة ليست إعلان المعصية، وإن كانت هي مجاهرة فعلاً، ومن أكبر وأشنع صور المجاهرة أن الإنسان يفعل المعصية أمام الناس، لكن قال: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله عز وجل، فيكشف ستر الله عليه، فيقول: يا فلان! فعلت كذا وكذا) أنه وقع في معصية في الليل أو في النهار المهم أنه لا يعلم عنها الناس، وقد سترها الله عز وجل عليه، فيبدأ يتحدث بها عند الناس.
أيضاً المجاهرة بالمعصية، أو الحديث عن الماضي يهون عليك أمر المعصية؛ لأن الإنسان الذي فعل المعصية وبقيت في داخله، تبقى تعتلج في داخله وتشكل عليه ضغطاً، وتدفعه للتوبة، والإكثار من الاستغفار والدعاء والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فتشكل عليه ضغطاً هو يحتاج إليه، لكنه عندما يتحدث بها ويعلنها أمام الناس تصبح القضية عنده سهلة.
مثلاً: أحياناً تجد الشاب عنده مخالفة لا يعلم بها والده، فيعيش في رهبة من والده يخشى أن يعلم بهذه القضية، ودائماً يقول: كيف لو علم عني والدي وإلى غير ذلك، قد يحصل أنه يطلع عليه والده وهو يمارس المعصية، فيكتشف الخطأ والخلل، فتنتهي القضية عند الابن، ويحس أنه مكشوف فصار من الممكن أن يجاهر بعد ذلك.
مثلاً: واحد يدخن ووالده لا يعلم أنه يدخن، وبعد فترة اكتشف والده أنه يدخن، فبعد ذلك صار عنده استعداد أن يشرب الدخان أمام والده لأن القضية صارت معروفة.
فكذلك هذا الإنسان الذي تكون المعصية بينه وبين الله عز وجل لا يعلم عنها أحد، تصبح تعتلج في نفسه وتشكل عليه ضغطاً، هذا الضغط يصب في مصلحته؛ لأنه يدعوه إلى التوبة والإقبال على ربه، لكن عندما يتحدث بها أمام الناس تهون عنده.
وأيضاً من نتائج الحديث عن المعصية: تهوينها على الناس؛ لأنك حين تجلس مع زميلك وتقول: أنا كنت أفعل كذا وكذا، ومن الله علي بالهداية، ومرة فعلت كذا وكذا، هونت عليه المعصية، وصارت -أحياناً- دعوة غير مباشرة للوقوع في المعصية.
إذاً: فالقضية الأولى التي تعنيك في علاقتك مع الماضي ألا تتحدث عن الماضي بكل ما في الماضي، فتتحدث عن معاصيك التي كنت تفعلها، اللهم إلا إذا كان لذلك حاجة، فتسأل عن قضية شرعية، هل هذه القضية عليها كفارة أم ليس عليها كفارة؟ أو لها توبة معينة أم ليس لها توبة؟ ففي هذه الحالة يمكن أن تسأل، أما ما سوى ذلك فلا ينبغي أن تتحدث هذا الحديث بما فيه من السلبيات التي أشرنا إليها.
ثانياً: يعيش بعض الشباب أزمة وهمّاً يفكر فيه بالماضي، فيشغله كثيراً، قد يكون فعل أخطاء ومعاصي وكبائر فتشكل عليه ضغطاً، فيبدأ يفكر فيها كثيراً، وتصبح هماً يشغله ويؤرقه ليلاً ونهاراً.
أيضاً: قد يكون هذا عائقاً من حيث لا يشعر، ولذا فلا داعي للانشغال بالماضي، أنت تبت إلى الله عز وجل، وأقبلت على الله، والتوبة تجب ما قبلها، فدع عنك التفكير في الماضي.
ثم -أيضاً- هذا التفكير لا ينفع أصلاً، هب أنك ستؤاخذ بما عملت، وأن توبتك أصبحت قاصرة، فإن التفكير الآن لن ينفعك، بل التفكير سيشغلك عما تحتاج إليه.
إذاً: فلا تنشغل بالماضي وليكن تاريخك ما كان، ولست أهون عليك شأن المعصية، لكن أنت الآن أمام مرحلة جديدة، أنت تماماً مثل إنسان يسير في الطريق، وكمية الوقود عنده قليلة، فأضاء عنده المؤشر ولم يهتم، بل يتجاوز محطات الوقود حتى نفد ما عنده من الوقود، فجلس يفكر ويقول: أنا إنسان مهمل؟! كيف فرطت؟!
نعم أنت مهمل، لكن هذه المرحلة قد انتهت ففكر تفكير واقعياً عملياً في المرحلة الجديدة ماذا ستفعل فيها، أنت أمام مشكلة فحل هذه المشكلة.
أنا أقول: إن واقع هذا الإنسان الذي ينشغل بالتفكير في الماضي مثل هذا الشخص، وقع في خطأ، لكن أنت الآن أمام مرحلة جديدة، فلا تشغل نفسك بما مضى، ففكر بالمرحلة الجديدة، ودعك من التفكير فيما مضى.
صحيح أن هذه المعاصي التي فعلتها، أو هذا التقصير أو هذا الإهمال يجب أن يدعوك إلى مزيد من التوبة والاستغفار والطاعة، والخوف من الماضي، لكن هذا شيء، وأن يستولي على تفكيرك، ويصير هماً دائماً يسيطر عليك، ودائماً تفكر: أنا كنت أفعل كذا وكنت أفعل كذا، هذا يعوقك عن العمل الذي تحتاج إليه.
ثالثاً: لابد من مداومة الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والشعور بخطر الماضي:
وأظن أنك تفرق بين القضيتين: بين التفكير المزعج الذي تفكر فيه في الماضي، وبين التوبة والإقبال، والخوف من شؤم الذنب، هذه قضية وتلك قضية أخرى، هذه قضية واجبة، وينبغي أن تكون همّاً يؤرقك، أعني: تتوب وتستغفر وتخاف من ذنوبك.
لكن الآن أنت تتذكر الماضي، فتتذكر أنك فعلت كذا وكذا، ومررت في الطريق ورأيت هذا المكان الذي فعلت فيه هذه المعصية، وهذا المكان الذي ذكرك بفلان، وذكرك بكذا وكذا، هذا لا يدعو إلى أن يصير هماً تفكر فيه، فاجعل هذا الموقف يدعوك إلى عمل صالح، يدعوك إلى الاستغفار، وإلى التوبة، بدلاً من أن يكون مجرد تفكير وهم يزعجك أكثر مما يكون عملاً منتجاً.
رابعاً -وهي نقطة مهمة-: يجب أن تتخلص من متعلقات الماضي كان في الماضي عندك أشياء تدعوك إلى هذا من صور، أو أفلام، أو مواقف معينة، وقضايا كانت تشدك وتجذبك إلى المعصية، وتجذبك إلى الماضي، يجب أن تتخلص منها، وتكون حازماً مع نفسك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا بد من مجالسنا، قال: فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر).
الآن لاحظ هنا النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بغض البصر ابتداءً، بل أمر بألا يجلس الإنسان في الطريق أصلاً، حتى يقطع الإنسان على نفسه كل طريق إلى المعصية، إذا جلست في الطريق لا محالة فغض البصر، مع أن هذا الخطاب كان موجهاً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذاك المجتمع النظيف، ذاك المجتمع الذي كانت المرأة تلتصق بفي الحائط، حتى تؤثر في الحائط كما ورد في الحديث.
إذاً: تخلص من القضايا التي تشدك إلى الماضي؛ لأنها يمكن أن تعيدك يوماً من الأيام، فتكون أنت في حالة ضعف، فيقوى عندك هذا الدافع فتهوي، والكثير من الشباب الذي يصاب بالحور بعد الكور، أو بالانتكاسة والضلال، السبب هو هذه القضية، هو بعض رواسب الماضي.
خامساً: أصدقاء الماضي:
أصدقاء الماضي يجب أن تتعامل معهم بصورة أخرى، فأحياناً الشخص له صداقات أيام غفلته وأيام إعراضه، وهؤلاء الأصدقاء يعرفون تاريخه، ويعرفون تفاصيل حياته، ويعرفون عنه كل شيء، هذا جانب.
والجانب الثاني أنهم يعرفون نقاط الضعف لديه، المهم أنه من أكبر نقاط الضعف عند الشاب أصدقاء الماضي الذين يشدونه ويجرونه إلى المعصية، إما أنه إذا رآهم تذكر المعصية، وقد يشتاق إليها، أو إذا رآهم حن إلى الماضي بما فيه، أو أن هؤلاء يضغطون عليه، فهم يعرفون تاريخه ويعرفون نقاط الضعف عنده، فيمكن أن يضغطوا عليه من خلالها، فيعرفون كيف يفكر، ويعرفون متى يرجو، ومتى يرغب، ومتى يرهب، ومتى يخاف، إلى غير ذلك.
الشاهد: أن من أكبر العوائق أصدقاء الماضي، ومن ثم لابد من التخلص -أيضاً- من أصدقاء الماضي، ويجب أن تحذر من أصدقاءك في الماضي أكثر من غيرهم، لأن الآخرين الذين يمكن أن يكونوا أكثر فساداً، هم أقل تأثيراً عليك من أصدقاء الماضي؛ لأن أصدقاء الماضي يعرفونك ويعرفون ما عندك.
وسؤال هنا كثيراً ما يطرحه الشاب يقول: هل أدعو مثلاً أصدقائي؟ فيرتبط معهم بحجة أنه يريد أن يدعو، وهذا شعور طيب، أن الإنسان لما منَّ الله عليه بالهداية يشعر أن أولى الناس ببره وإحسانه ودعوته هم الناس الذين كانوا من قبل أصدقاء الغفلة.
لكن هناك قضية أخرى، وهي أن هذه الدعوة قد تتسبب لك في أن تنجذب إليهم؛ لأنهم -كما قلت- يعرفون أسرارك وعلاقاتك السابقة، ويعرفون منك نقاط الضعف، فقد يكون وسيلة إلى جرك لهم؛ ولهذا فأنا أرى أنك لا تدعو أصدقاء الماضي، وينشغل بهم غيرك، ثم أنا لا أتصور أننا وصلنا إلى المرحلة التي ما عاد بقي أناس يحتاجون الدعوة إلا العشرة أو الخمسة عشر هؤلاء الذين كانوا أصدقاء لك في الماضي، فالمجتمع الذي حولك مليء بالناس الذي يمكن أن يستهلكوا كل جهدك وطاقاتك، وبرامج الدعوة والخير كثيرة، ستستهلك كثيراً من طاقتك ووقتك، فلم تعد ضرورة قاصرة عليك أنت حتى تدعوهم.
ثم نحن ما قلنا إن هؤلاء محرومون من الدعوة فليدعهم غيرك؛ لأن ارتباط الشاب بهؤلاء قد يكون سبباً في عودته إلى ما كان عليه.
إذاً: يجب أن تقطع علاقتك بالتفكير المغرق في الماضي وما كنت عليه، وإذا أتاك تفكير تحوله إلى عمل صالح أو توبة أو استغفار، أما مجرد التفكير والهم فإنه لا يقدم ولا يؤخر.
الانقطاع عن الماضي ورواسب الماضي بما فيه، الانقطاع عن الماضي وأصدقاء الماضي، الجوانب التي تجذبك وتشدك إلى أن تحن إلى الماضي وتعود إليه.
سادساً: كن على حذر من الضلالة بعد الهدى، والحور بعد الكور -التي أشرنا إليها قبل قليل-:
وهي نقطة يجب أن تكون هاجساً للجميع، فدائماً يسأل الله سبحانه وتعالى الثبات، ودائماً يخشى من هذه القضية، ويخشى أن يحال بينه وبين هذا الطريق، ويخشى أن يختم على قلبه، أليس النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان يقول: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي).
وكان يدعو في سفره، لأن الإنسان عندما يسافر يتغير من حال الإقامة إلى حال السفر، بكل ما في حياة السفر من متغيرات، فيذكره هذا بالقضية الأساس والأهم هو أنه كان مستقيماً على هذا الطريق، فيخشى أن يحال بينه وبينه.
يا أخي! إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يثبته، ويخشى من الحور بعد الكور، ويقول له ربه سبحانه وتعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]، فغيره من باب أولى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي، ويعبد الله عبادة حقه تعينه وتثبته على طاعة الله عز وجل، وهو أعلم الناس بالله، أما نحن فلنا شأن آخر، وحياة أخرى، ولنا جوانب كثيرة تشدنا إلى طريق الضلال والشهوات عافانا الله وإياكم.
ومن ثم فنحن أولى أن نخشع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فوالذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
فأقول: يجب أن يكون هذا هاجساً لنا يقودنا مرة أخرى إلى عمل، لا يكون مجرد تفكير، فنكون دائماً على حذر من هذه القضية، وهذا يقودنا إلى دعاء الله دائماً، وسؤال الله السلامة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن ندعو الله عند السفر، وقد علمنا أن ندعو الله عز وجل: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، وقد علمنا أن نستهديه دائماً، وقد علمنا أن نسأل الله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فإنه سبحانه وتعالى لو وكلنا إلى أنفسنا فإن هذا يعني الضلال والخسارة.
إذاً: هذه الخطوة نتيجة للخوف الداخلي الذي قادنا إلى الدعاء، والدعاء من أفضل الأعمال، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة)؟
جانب ثان أيضاً: أن يستزيد الإنسان من الأعمال الصالحة؛ لأنه يعرف أن الأعمال الصالحة تزيده تثبيتاً، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
فلو استجابوا لأمر الله سبحانه وتعالى، وفعلوا ما يوعظون به لكان خيراً وأشد تثبيتاً لهم، ولهدوا صراطاً مستقيما، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
فالأعمال الصالحة بعد توفيق الله عز وجل تكون عوناً للمرء على الثبات، وعلى سلوك طريق الاستقامة.
إذاً: هذه خطوة ثانية كانت نتيجة هذا التفكير، ونتيجة هذا الهاجس.
خطوة ثالثة: الحذر من أسباب الضلال، ومن أهمها المعاصي، فإن المعصية تقول: أختي أختي، فتجر أختها، وتجر أختها، حتى تصبح عادة، فيعتادها الإنسان فينتقل إلى ما هو أكبر منها، حتى يضل عافانا الله وإياكم، وكم من الناس من كانت معصية واحدة سبباً في ضلالة وغوايته.
إذاً: فيجب أن نحرص على هذه النعمة وأن نحافظ عليها، وقديماً كان يقال: المحافظة على النصر أصعب من الحصول عليه.
وهذه القضية ليست عبارة كروية كما نستعملها ويتبادر إلى الذهن، هذه يقصدون بها النصر العسكري، فالإنسان يمكن أن يحقق النصر وينتصر في معركة، لكن المحافظة على هذا النصر قضية صعبة، أنا ممكن أن أستجمع قواي وطاقتي كلها وأحقق انتصاراً حاسماً، لكن أن أحافظ على هذا النصر وعلى هذا الموقع الذي حققته هذه قضية صعبة.
فكذلك يجب ألا يقف تفكيرك عند هذا الحد، فتقول: أنا الآن استقمت وتجاوزت المرحلة! بل يجب أن تشعر أنك محتاج إلى الثبات، وإلى البحث عن أسباب عوامل الثبات حتى تسلكها لعل الله أن يوفقك إليها، وأن تكون على حذر باستمرار من الخلل أو أي انحراف يمكن أن يقودك إلى ذلك.
وقلنا أيضاً: إن هذه القضية يجب ألا تكون مجرد هاجس فقط، فإذا صارت هاجساً صارت مرضاً، فصارت القضية مجرد تفكير لا تقدم ولا تؤخر، بل مع هذا الهم وهذا الهاجس تتحول إلى عمل، هذا العمل يتمثل في الدعاء، وبفعل أسباب الثبات وعوامل الثبات وتجنب عوامل الانحراف والضلال.
سابعاً: سؤال كثيراً ما يطرحه بعض الشباب أو شكوى يشتكي منها يقول: أشعر أني بعد الاستقامة وبداية مرحلة الالتزام والاستقامة أشعر بحماس، وحب للخير، وإقبال على الطاعة، ثم بعد فترة أشعر بأني فقدت هذا الشيء الذي كنت أجده سابقاً، ويعتبر أن هذا مرض وقضية خطرة.
وتفكير الإنسان في نفسه قضية مهمة، وشعوره بالمرض والخطأ قضية مهمة، لكن أيضاً يجب -على الأقل- أن نعطي نظرة حول هذه المشكلة التي يشتكي منها الشاب.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أعلم الناس بأدواء النفوس والقلوب، لما جاءه عبد الله بن عمرو بن العاص وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويختم القرآن في كل يوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) الحديث رواه أحمد ، وصححه أحمد شاكر .
هذا الإنسان عنده اندفاع، وكل عمل له شرة وحماس، ثم لكل شرة فترة، وكل حماس لابد أن يخفت، فمن كانت شرته إلى سنة فقد أفلح، وهذا الحماس والاندفاع يجب ألا يخرجه إلى حد ابتداع غير السنة، ومن كانت فترته إلى أن تجرأ فوقع في المعصية وقصر في الطاعة، فهذا نذير هلاكه.
إذاً: لابد من الشرة والفترة، لابد من أن يكون الإنسان عنده في البداية إقبال وحماس، وشعور بالحرص على الطاعة والخير، ثم بعد فترة يشعر بالفتور.
فنقول: هذا الفتور إذا تحول إلى أنه يجعل الإنسان يتجرأ على المعاصي ويقع فيها، وتحول إلى إنسان يقصر عن الطاعة والفرائض، فهذا فعلاً معيار الهلاك، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
أما إذا كانت هذه الفترة ضعفاً في مشاعره الداخلية، وضعف الحماس لبعض السنن وبعض أفعال الخير المندوبة، فالقضية لا مناص منها، فإنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)، فلابد من الفترة، فيحرص الإنسان على أن يعالج نفسه ويستزيد، لكن لا يجب أن تؤدي بنا إلى القلق، وأن نتصور معها أنها مرض.
وتكون مرضاً إذا تحولت إلى التجرؤ على المعصية، وإلى التفريط في الفرائض، فحينئذٍ يجب أن نحاسب أنفسنا حساباً عسيراً، ونشعر أننا تجاوزنا الخط الأحمر، ودخلنا مرحلة الخطر.
أخيراً: أد شكر هذه النعمة:
هذه نعمة منَّ الله بها عليك فأد شكرها، من خلال:
أولاً: ما ذكرناه من الاعتراف بالفضل للمنعم، فإنه من أكبر النكران لأي معروف وأي نعمة ألا تعترف بالفضل له، فأنت -مثلاً- قد تقدم خيراً لإنسان ثم يقول: أنت لم تفعل شيئاً، وما قدمت لي شيئاً، فتشعر أن هذا أكبر نكران يمكن أن يقوم به، قد لا تطلب منه أحياناً جزاءً ولا شكوراً، لكن عندما تشعر أنه قد أنكر جميلك فأنت تشعر أن هذا من عدم الوفاء.
ولله المثل الأعلى، فإنه لا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل، فيجب أن تعترف اعترافاً داخلياً بقلبك وبلسانك أن صاحب الفضل والنعمة والمنة هو الله سبحانه وتعالى.
ثم الحمد والثناء باللسان، بأن تحمد الله بلسانك، وتثني عليه، فالله يحب الثناء، ولهذا أثنى على نفسه، ولا أحد أحب إليه الثناء من الله سبحانه وتعالى.
ثم بعد الاعتراف، وبعد الحمد والثناء، الخطوة الثالثة: أن تسعى في نقل هذه النعمة للآخرين، بالدعوة والنصح والتوجيه، وأن تقول للآخرين: ها أنا الآن عشت تلك التجربة، وها أنا سلكت هذا الطريق، ومن الله علي بسلوك هذا الطريق والعودة إليه، فهلم إلي، فأنا قد جربت ما أنتم عليه، وجربت هذا الطريق بكل ما فيه، واقتنعت قناعة تامة أن الحق هنا، فهلم إلي.
الشاهد: أنه من شكر الله عز وجل لنعمة الهداية أن يسعى الإنسان لنقلها للآخرين، من خلال النصيحة، والدعوة، ومن خلال استخدام تجربته السابقة، فيقول: أنا كنت على مثلما أنت عليه، وما وجدت والله اللذة، ولا وجدت الطمأنينة، ولا السكون، ولا الراحة، إلا في هذا الطريق الذي سلكته.
نكتفي بهذا القدر، ونترك بقية الوقت للإجابة على بعض الأسئلة.
السؤال: بعض الشباب سواء في المركز أو في الخارج يلاحظ عليهم ملاحظات من إسبال الثوب أو حلق اللحية، وإذا نصحتهم قالوا: الدين ليس في الثوب أو في حلق اللحية، نرجو توجيه نصيحة لهم، مع أنك قلت: أول ما نبدأ به المظهر؟
الجواب: بعض الناس عنده عبارة يقول: الدين ليس في المظهر، أو المظاهر ليست كل شيء، هذه عبارة فيها إجمال، صحيح أنك لا تحكم على الإنسان من خلال المظهر وحده.
لكن أنا أسألكم سؤالاً: نحن الآن في مجلس فدخل علينا شخص ونحن نشاهد التلفاز فقفز واحد وأغلق التلفاز، لماذا؟ لأنه عارف أن مظهره مظهر إنسان مستقيم، فهل أعطاك المظهر دلالة أم لا؟
أب رأى ابنه مع واحد من الشباب، فانزعج جداً لما رآه مع فلان، وهو لا يعرفه، ولا يعرف تاريخه، لكن ساءه مظهره، فغير صحيح إطلاقاً أن المظهر لا يدل على شيء.
صحيح أنه لا يعطيك تصوراً كاملاً عن الإنسان؛ لكنك تأخذ دلالة عن هذا الإنسان، وهذا الإنسان الذي عصى الله في المظهر أمام الناس قد يكون أكثر جرأة على ما سوى ذلك.
فهذه قضية غير صحيحة أنه لا عبرة بالمظهر، فنحن نجد في أنفسنا أننا نأخذ دلالات، فأنت ترى إنساناً فتأخذ قناعة وتصوراً عنه من مظهره، يمكن أن يعطيك دلالة أن هذا الإنسان خفيف العقل، هذا الإنسان ما عنده مروءة، هذا إنسان متزن، وهو ما تكلم بكلمة واحدة. هذا شيء.
والشيء الثاني: أن هذه واجبات شرعية لا مجال للنقاش فيها، فما دام هذا محرماً شرعاً فلا يجوز لك أنك ترتكبه، وما دام أنه هذا واجب شرعاً فيجب أن تعمله، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].
السؤال: أنا شاب لا أخشى ولا أخاف أن أنتكس بعد هداية، وحين أدعو بالدعاء الوارد لا أستشعر أنني من الممكن أن أعود وأرجع إلى طريق الضلال، فما رأيكم؟
الجواب: هذا خطأ لا شك، وهذا دليل على الإعجاب بالنفس والغرور، يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى التثبيت، فكيف بك؟! هل تتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عبثاً عندما يقول: (أعوذ بك من الحور بعد الكور)، أم أنه كان يرى أنه بحاجة إلى هذا الدعاء؟
ولعلكم تذكرون جميعاً عبارة السلف في النفاق: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.
فنعوذ بالله من أن نأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من أن يصل بنا الإعجاب بالنفس إلى هذا الحد، إلى أن يتصور الإنسان أنه قد جاز القنطرة.
وأقول: إذا وجدنا هذا في أنفسنا فيجب أن نشعر أن هذا مرض نعاني منه، أرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أليسوا كانوا يخافون من النفاق؟ وكما يقول ابن أبي مليكة : كل الذين أدركهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف النفاق على نفسه، ما فيهم أحد يقول: إيماني كإيمان أبي بكر وعمر . فما بالنا نحن لا نخشى على أنفسنا؟
السؤال: أنا شاب مستقيم أعمل بعض الصالحات والحمد لله كحفظ القرآن وغيره، لكن -كما لا يخفى عليكم- إنني كشاب لا أصبر عن بعض المعاصي، فبماذا تنصحونني؟
الجواب: لابد أن تجاهد نفسك، أحياناً يريد الشاب أن يصل إلى مرحلة أنه لا يكون عنده داع للمعصية، وأن شهواته كلها تنقطع، وهذا غير صحيح.
هذه حكمة، فالله عز وجل ركب الشهوات فينا لحكمة، والشاب في هذه المرحلة أقوى من غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: وشاب نشأ في طاعة الله)؛ لأن الشهوات عنده أقوى، ودواعي المعصية أقوى، والغفلة أقوى؛ ولهذا إذا نشأ في طاعة الله كان يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
فأقول: أنك تتصور أن تصل إلى مرحلة لا تدعوك فيها الشهوة إطلاقاً هذا مستحيل، فلابد من ذلك، ولابد من مجاهدة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، ولما خلق الله الجنة قال لجبريل: (اذهب فانظر فيها، فنظر فيها فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم أمر بها فحفت بالمكاره، فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا لم يدخلها، ثم خلق النار، فقال: اذهب فانظر فيها، فنظر فيها فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا لن يدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا دخلها).
الشاهد: أنك لن تصل إلى هذه المرحلة التي لا تخشى فيها من المعاصي، ولن تصل إلى المرحلة التي تستغني فيها عن الجهاد، لابد أن تجاهد نفسك، ولابد أن تعيش في صراع مرير مع الشهوات.
ثم جاهد نفسك، وحاول ألا تترك المعصية فقط، بل تتخلص من أسباب المعصية، والعوامل التي تدعوك إلى الوقوع في المعصية، وأنت أعلم بنفسك، وأيضاً لو وقعت في المعصية فتب إلى الله سبحانه وتعالى وأقبل إليه.
السؤال: بعض الشباب هداهم الله يتضايقون من ظاهرة انتكاس بعض الشباب الذين يلتزمون بالدين ثم ينتكسون، فما توجيهكم لهؤلاء الشباب؟ ثم ما هي أبرز أسباب الانتكاسة التي ترونها؟
الجواب: سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في محاضرة بعنوان: (الحور بعد الكور) فيمكن للأخ أن يرجع إليها.
السؤال: إذا كنت أعرف بعض الأصحاب قد ضل بعد أن كان مع الصالحين، فماذا أنصحه وأذكره به، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: تنصحه كما تنصح أي إنسان، فتذكره وتقول: إن هذه المعصية خطر عليك، وأنت لابد أن تطيع الله سبحانه وتعالى، ولابد أن تقبل على الله عز وجل، وقد تكون المعصية بوابة للكفر والخروج من دين الله عز وجل، وقد يختم للإنسان على غير ملة الإسلام ودين الإسلام.
فهذا الكلام الذي تقوله لأي إنسان يمكن أن تقوله لهذا الإنسان، ولا فرق بينه وبين الآخرين؛ لكن يمكن أن تضيف على ذلك أن تذكره بماضيه: أنت كنت تفعل كذا، وكنت تفعل كذا، وتفعل كذا، وكنت يوماً من الأيام تحدثني عن كذا، ويوم اجتمعنا قلت كذا وكذا، وأنت الذي كنت تنصحني وتدعوني؛ فهذا يجعله يحن إلى الماضي، ويفكر في الماضي.
أقول: إن التركيز على هذه القضية قد ينفع مع أمثال هؤلاء.
السؤال: أنا شاب رجعت إلى الله ولي أصدقاء ليسوا صالحين، وهؤلاء يعرفون أسراري وأحوالي، ويستهزئون بي، ويهددونني إن رجعت إلى الله أن سوف يكشفون أسراري، فكيف أعود إلى الله وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: أولاً: أسرارك لازم تكشف، فأنت أمام خيارين الآن، افترض فعلاً أنهم لا يجرءون على كشف هذه الأسرار؛ لأنهم ليس لهم مصلحة، وكشف الأسرار فضح لهم، لكن افترض أنك وصلت إلى نقطة أن أسرارك ستكشف، فليس الحل أن تتراجع، لأنك إذا رجعت فستكشف أسرارك مرة أخرى، لكن في موقف آخر: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
فيا أخي! بالله عليك قارن بين أن أسرارك تكشف في محيط مهما كان فهو ضيق، وبين أن تكشف أمام الله عز وجل وأمام الخلائق يوم القيامة، هذا جانب.
الجانب الثاني: أن هذا الأمر تهديد ومحاولة ضغط؛ ولهذا أنا قلت: ينبغي أن تبتعد عن أصدقائك السابقين، وللأسف بعض الشباب ينهار مع هذا الضغط، ثم ولو كشفت هذه الأسرار فما هي إلا معاص وكبائر كنت تفعلها، وافترض أنها كانت فواحش، فغايتها أن تقول: يا أخي! أنا فعلت هذا وتبت إلى الله عز وجل، وانتهينا.
يا أخي! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقعون في الشرك، وليس الفواحش فقط، وأكثر ما تتصوره في هذا الشاب أنه وقع في بعض الفواحش، فليقل ما يقال، أنا تبت إلى الله ورجعت، فلا تلتفت إلى مثل هذا الكلام.
وليس أيضاً من المصلحة أن تقول: نعم أنا كنت أفعل كذا وتبت، وإن كان هذا الكلام لو قلته فلن يلومك الناس، لكن يمكن أن تقوله بصورة أخرى، تقول: من يثبت هذا الشيء؟ تقول: كل إنسان قادر على أن يتكلم ويقول هذا الكلام.
فأنت لم تقل أمراً تؤاخذ به شرعاً، وأيضاً نفيت ما تتهم به، وهؤلاء الناس الذين يتجرءون على الكبائر يمكن أن يتجرءوا على الكذب.
وأقول: أبشر بطول سلامة، فالكثير من أمثالك يعانون، والمشكلة أن كثيراً من الشباب يمنعه من التوبة هذه القضية.
يا أخي! ضع نفسك أمام خيارين: إما أن تتوب وتستمر، أو ترجع مرة أخرى إلى الذي خفت أن يكشف عنك، ثم تكون عرضة لأن تكشف أسرارك أمام الخلائق يوم القيامة، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، تكون عرضة لأن تعيش أنت وأصدقاؤك هؤلاء في موقف الحساب فيتبرأ كل واحد منكم من الآخر: رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:38].
افترض أنك حوصرت وما بقي أمامك إلا هذا الخيار، فسيبقى خيار كشف الأسرار أهون عليك بكثير من أن تكشف يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى.
لكن أقول: استعن بالله سبحانه وتعالى، وادع الله عز وجل، وثق إن شاء الله أن الله سبحانه وتعالى سيعينك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، ويظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأشكر الإخوة الذين شرفوني بحضور هذا اللقاء، والحديث مع إخواني الشباب، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العمل بما علمنا، وصدق النية والإخلاص.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.ع
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر