إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد:
تسيطر على حياة كثير من المسلمين اليوم سحابة قاتمة من اليأس، ويشعر طائفة منهم أن الواقع الذي يعيشونه اليوم واقع لا مناص لهم منه ولا خلاص، سواء كان هذا الأمر على مستوى الأفراد، أو على المستوى الأمة والمجتمعات، فكثير من المسلمين يشعر أن واقعه لا يمكن أن يتفق مع ما يقتنع به، وما يرى أنه يجب أن يكون عليه، ويصل به الأمر إلى اليأس من تغيير هذا الواقع الذي يعيشه.
إنك حين تدعوه وتناصحه يخبرك أنه يعلم علم اليقين أن هذا الواقع الذي يعيشه لا يرضي الله تعالى، يعلم علم اليقين أنه على خطأ، لكن قد سيطر عليه اليأس من تغيير واقعه، إنه يقول لك بلسان حاله وربما بلسان مقاله: إنني أعرف أن الحق خلاف ما أنا عليه، لكنني لا أستطع أن أغير ما أنا عليه.
والأمر يتجاوز ذلك إلى واقع الأمة وواقع المجتمع، واليوم لست بحاجة إلى أن تقنع أحداً من المسلمين بسوء واقع الأمة وسوء حالها، لكن هذا قد أدى بطائفة من المصلحين، بل طائفة من الغيورين الصادقين إلى أن سيطر عليهم اليأس، وأدركهم القنوط، وشعروا أن الأمر قد خرج عن طوقهم وإرادتهم.
وهذا اليأس الذي سيطر على كثير من المسلمين اليوم أدت إليه عوامل عدة:
أول هذه العوامل: انتشار الفساد وغربة الدين:
من يتأمل واقع مجتمعات المسلمين اليوم يجد أن مظاهر الفساد قد انتشرت في حياة المسلمين، فالمنكرات الظاهرة أصبحت معلماً بارزاً وظاهراً في بلاد المسلمين، بل أصبح إنكارها تدخلاً في شئون الآخرين، وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً في مجالات وجوانب كثيرة من حياة المسلمين، بل إن بعض المسلمين يستنكر ويستنكف ويعترض عليك حين تنكر عليه مخالفته لما شرع الله عز وجل، وامتد الأمر إلى المراجعة والمناقشة في مدى شرعية هذه الأمور، وبدأ الناس يعيدون قراءتهم للأحكام الشرعية والنصوص الشرعية؛ لأجل أن يشعروا أو يقنعوا أنفسهم أن هذا الواقع الذي يعيشونه واقع شرعي.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الدين بقوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).
انتشار هذا الفساد، واستمرار المنكرات، وظهورها في مجتمعات المسلمين وحياتهم أدت بفئة كثيرة من المسلمين إلى اليأس من تغير الأحوال، والشعور بأن هذا الفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقع المسلمين وحياتهم.
العامل الثاني: اتجاه التغير وحركته:
صحيح أن الواقع اليوم فيه فساد، لكن يزيد ذلك أن الاتجاه يسير إلى مزيد من الانفتاح على الفساد، ويسير إلى مزيد من الغربة، وحين يقارن المسلم واقع مجتمعه اليوم بما كان عليه قبل عشر سنوات يجد أن الاتجاه يتجه نحو الفساد، والأمة تسير نحو مزيد من التغريب، ولهذا فكأنه يقول: إنك تريد أن تعكس هذا الاتجاه، وتسبح ضد التيار، وهذا أمر مستحيل.
أمر ثالث: المتغيرات الجديدة وهي تنذر بمستقبل لا يعلم حاله إلا الله عز وجل، في ظل عصر العولمة، وعصر الانفتاح على العالم الآخر، ستزول خصوصية المجتمعات المحافظة، المجتمعات المنغلقة، المجتمعات المتدينة، ستنفتح على العالم الآخر بكل ما فيه.
إن مجتمعاتنا اليوم تعيش انفتاحاً على المجتمعات الأخر من خلال التواصل المباشر عن طريق السفر والاحتكاك بالمجتمعات الكافرة والمجتمعات الغربية، أو من خلال وسائل الاتصال والمواصلات، لكن هذا الاتصال سيصبح بالنسبة لما يستقبل سيصبح لا شيء، فسيصبح الإنسان وهو في غرفته في قرية منعزلة ليس بينه وبين أن ينفتح على العالم بكل ما فيه من ثقافة، أو ملة، أو نحلة، أو دين، ويخاطب أي رجل، ويتعامل مع أي مجال وباب من أبواب الشهوات أو الشبهات؛ ليس بينه وبين ذلك إلا مجرد ضغطة زر، فالحاسب الآلي سينفتح على هذا العالم.
ومع اتجاه العولمة والانفتاح ستذوب هذه الفوارق، فتصبح سيطرة المجتمعات ومحافظتها أقل مما هي عليه من ذي قبل، بل ستصبح سيطرتها محدودة في ظل هذا السيل الجارف من الغزو العالمي، إن في البعد الثقافي للعولمة وخطورته، أو في البعد الاجتماعي والذي ينادي أول مبادئها بالتحرر من القيم والأخلاق والروابط الاجتماعية.
مبدأ الأسرة مبدأ غير وارد في ثقافة العولمة، الأسرة يمكن أن تكون من ذكر وأنثى، الأسرة يمكن أن تكون من ذكرين، الأسرة يمكن أن تكون من أنثيين، أي إنسان حر في أن يختار نوع العلاقة ونوع الأسرة التي ينشئها، الإنسان حر في أن يتصرف ويفعل ما يشاء، هذه من أبسط المبادئ مبادئ العولمة الجديدة التي ستكتسح بلاد ومجتمعات المسلمين.
أيضاً: الجانب الاقتصادي، وخلفياته وآثاره:
الجانب الاقتصادي سيؤذن بمزيد من الانفتاح على الشركات الأجنبية، والشركات العالمية، وسيحتك المسلمون بالآخرين والمجتمعات الأخرى، لن تكون هناك قيود على حركة الأفراد، لن تكون هناك قيود على حركة السلع، وما يصاحب النشاط الاقتصادي من حركة الإعلان والدعاية، والتي لا تخلو من قيم، ولا تخلو من معان وافدة تعكس ثقافة وقيم المجتمعات التي نشأت فيها، أيضاً هي الأخرى سوف تغزو مجتمعات المسلمين المحافظة البعيدة عن هذا العالم.
آثار الوضع الاقتصادي الجديد على واقع دول العالم الإسلامي وهي تعيش في منظومة دول العالم الثالث، وضعف الفرص التنافسية للمجتمعات والأفراد في ظل هذا الغزو الاقتصادي، هذه الآثار ستولد متغيرات اجتماعية ومتغيرات ثقافية جديدة.
زوال القيود على حركة الثقافة والمطبوعات وما يتعلق بها، كل هذه الأمور تؤذن بتحول وتغير جديد، ولئن عاشت -مثلاً- بلاد الخليج تحولاً مع اكتشاف النفط، فإنها ستعيش تحولاً لا يقارن مع عصر العولمة العصر الجديد.
أقول أيضاً: هذا مما يزيد اليأس عند طائفة من الناس، فالواقع فيه فساد، الاتجاه يسير نحو الفساد، المتغيرات المتوقعة في المستقبل تؤذن بفساد أوسع وأكبر.
الأمر الرابع: مواقع قوى التغيير:
هناك قوى تغيير في المجتمع، هناك قوى تقود المجتمع نحو الصلاح، قوى تتمثل في الاتجاهات التي تسعى لإصلاح المجتمعات والعودة بها إلى المنهج الشرعي، وهناك قوى تسير بها وتدفعها نحو التغريب، وهي قوى شتى متباينة ومختلفة في مدارسها، لكن نستطيع أن نصنفها في معسكرين:
المعسكر الذي يريد أن يعيد المجتمعات إلى أصالتها وإلى منهجها الشرعي، والقوى التي تريد أن تقود المجتمعات إلى الفساد، حينما نقارن بين اتجاه وقوى الإصلاح واتجاه وقوى الفساد، ننظر ماذا يملك هؤلاء من الإمكانات والوسائل، وماذا يملك أولئك؟ وما هي الفرص المتاحة لهؤلاء والفرص المتاحة لأولئك؟
والقضية ليس فيها مجال للمقارنة، وليس فيها مجال أن توازن بين هذا وذاك، ولا أن تقول: إن هذا الاتجاه أو الاختيار أقوى وذاك أقوى، إن هذا الاتجاه لا يساوي شيئاً بالنسبة لهذا التيار الجارف، فرؤية مواقع قوى التغيير أيضاً تزيد هؤلاء يأساً، فالقوى التي تدفع المجتمع للفساد أقوى وأكبر وأكثر ضغطاً، بينما القوى التي تشدهم إلى الأصالة، وتريد أن تعود به إلى الأصالة قوى ضعيفة هزيلة.
الأمر الخامس: إخفاقات الصحوة وأمراضها:
قامت الصحوة الإسلامية في وقت كان لا يتوقع الأعداء أن تقوم، قامت هذه الصحوة وقدمت خيراً للأمة، وأعادت للأمة الاعتزاز بالإسلام، والشعور بأن الإسلام يمكن أن يحكم حياة الناس المعاصرة، وأحيت العلم الشرعي، ومظاهر التدين، حتى أصبحت ظاهرة لا ينكرها أحد، وقوى اجتماعية لا يستهان بها.
لكن حين يتأمل هؤلاء في واقع الصحوة فإنهم سيجدون إخفاقات وأمراضاً ومشكلات، وهي أمراض لم تعد سراً اليوم، فمن أمراض العمل الإسلامي الخلاف والتفرق، وضآلة الوعي حيث إن كثيراً مما تتعامل به الصحوة ليس على مستوى الواقع، وليس على مستوى التغيير.
أقول: هناك أمراض وضعف وإخفاقات مرت بها الصحوة، تزيد هؤلاء يأساً وإحباطاً.
هذه العوامل الخمسة حين تضيف إليها طريقة تفكير هؤلاء، والتي دائماً تنظر إلى الجانب المظلم، والحديث الذي يتألم على واقع الأمة، وغالباً ما يكون حديثاً ناقداً متشائماً، هذه العوامل أدت إلى بروز ظاهرة اليأس وسيطرته، والأمر يهون حين يكون الشعور باليأس عند فئة محدودة من المسلمين، لكنك تجد أن هذا اليأس يتسرب إلى فئة ممن ينتظر منهم أن يشاركوا في التغيير والإصلاح، وتجد أن هذه اللغة تسيطر وتسود في كثير من مجالس الصالحين، فلا يكادون يتحدثون إلى عن الأمراض، الفساد، الانحراف، التغير الهائل المحدث.
أقول: هذه العوامل والمتغيرات صحيحة ولا إشكال فيها، لكن النتيجة التي أدت إليها هي التي تحتاج إلى أن نناقشها في هذا اللقاء.
اليأس أيها الإخوة! يولد مشكلات عدة وآثار عدة:
أولها: أن اليائس لا يمكن أن يصنع شيئاً.
اليأس لا يدفع إلى العمل، اليأس لا يحرك ساكناً، اليأس لا يثير همة، بل غاية ما يتركه على صاحبه أن يجلس ينتظر النهاية التي تنتظره.
لو أن إنساناً في هذا المكان فشب فيه حريق، وسيطر عليه شعور بأنه ليس هناك مخرج، فماذا يصنع؟ لن يصنع شيئاً، لن يفكر، لن يحتال، سيبقى ينتظر الموت، وهي النهاية التي تنتظره، وهكذا اليأس.
إذاً: حين يسيطر علينا اليأس، وحين نسعى إلى غرس اليأس في نفوسنا وفي نفوس الآخرين، من حيث نشعر أو من حيث لا نشعر، فإننا لن نصنع شيئاً.
أحياناً نتصور أن مزيد التألم على الواقع، وأن ارتفاع حدة السخط على الواقع والتضايق منه دليل على الغيرة، وأن هذا ربما يكون أكثر دفعاً للإصلاح.
نعم، المسلم المؤمن يغار لحرمات الله، يتحرك قلبه إذا رأى المنكرات، إذا رأى الفساد، لكن هذا ينبغي أن يقف عند حد معين، فإذا تجاوز ذلك وزاد لا يمكن أن نحرك ساكناً، حتى في أبسط المواقف، خذ على سبيل المثال منكراً محدوداً عند شخص معين -فضلاً عن قضية تتعلق بالواقع- فحينما ترى شخصاً يقع في منكر، وتهم أن تناصحه وأنت يائس من استجابته فلن تندفع إلى العمل، ولن تعمل، ولو افترضنا أنك تجرأت وأتيت لتناصحه، أو تنكر عليه هذا المنكر، فإنك غاية ما تقوم به وغاية ما تفعله أن تسجل موقفاً فقط أنك اعترضت، أن تسجل أنك قلت كلمة، أما أن تعمل وأنت تنتظر التغيير فهذا لا يمكن أن يحصل مع حال اليأس.
إذاً: فاليأس لا يصنع شيئاً، ولا يدفع إلى العمل.
ثانياً: اليأس يقضي على أي اتجاه نحو الإصلاح والتغيير:
حين يفكر الإنسان بالتغيير سواء في واقعه هو، أو في واقع أسرته، أو في واقع أكبر كواقع المجتمع والذي نأمل ونتمنى أن يحمل هذا الهم المسلمون جميعاً، وأن يشعروا أنهم مسئولون عن تغيير واقع مجتمعاتهم، وأنهم قادرون على هذا التغيير.
أقول: حين يسيطر اليأس على الإنسان فإنه لا يمكن أن يفكر في التغيير، ولا يمكن أن ينطلق نحو التغيير.
الأمر الثالث: اليائس يثبط من حوله:
اليائس لا يقف ضرره على نفسه إنه يثبط الآخرين، فتراه دائماً يتحدث مع الآخرين أنه لا أمل، ويقول: أنت تتعامل مع واقع محدود والسيل جارف، والأمر أكبر مما تتصور، فلا تشغل نفسك بمثل هذا الأمر، فانشغل بخاصة نفسك، أو انتظر حتى تحصل تغيرات، أو أمور أخرى غير محسوبة.
واليائس يئد المشاريع والأفكار الطموحة، فأحياناً تثار أفكار ومشروعات فيها نوع من الطموح، مشروعات فيها تميز، مشروعات يتوقع منها أصحابها أن تنتج وتثمر، وهذه المشروعات حين تثار في مجتمع اليائسين فإنها توأد، لأن هؤلاء ينظرون إلى جوانب الفشل في هذه المشروعات، ويتنبئون بفشل مثل هذه المشروعات وهذه الأعمال قبل أن يتنبئوا بنجاحها.
الأمر الرابع: اليأس يولد نفسية تفهم الأحداث فهماً خاطئاً، ويؤثر على تفكير صاحبه، فتراه يفترض مخاطر لم تقع أصلاً، ويتوهم أموراً لم تقع، وتتحول الأوهام عنده إلى حقائق، وتصبح الأحلام واقعاً ملموساً لدى هؤلاء، هذا على مستوى ما لم يقع.
أما على مستوى الأحداث التي تقع فهو يفهمها فهماً آخر يتفق مع نفسيته اليائسة التي سيطر عليها الوهن، تسيطر عليه دائماً النظرة التآمرية، يشعر أن هذه الأحداث مؤامرة، وأنها مؤامرة ضخمة، وأنها قد حيكت خيوطها، ودبرت بليل.
فكل حدث يتوقع ما لم يحدث، والحدث الذي يحصل ولو كان حدثاً عفوياً يفهمه بصورة تتفق مع طريقة تفكيره، لأن الإنسان في طريقة نظرته للأحداث لا يمكن أن يتخلص من طريقة تفكيره، لا ينظر إلى الأحداث كما هي، لا ينظر إليها نظرة موضوعية، أو نظرة محايدة، إنما ينظر إليها من خلال نفسيته وطريقة تفكيره، فالإنسان اليائس ينظر إليها نظرة يائس، والإنسان المتفائل ينظر إليها بروح التفاؤل، الإنسان سيئ الظن ينظر إليها بنظرة الريبة، والإنسان حسن الظن ينظر إليها بنظرة أخرى.
يندر أن ينظر الإنسان وأن يتعامل مع الأحداث تعاملاً موضوعياً، وأن يتعامل معها كما هي، فاليائس يتخيل ما لم يحدث، والأحداث يفهمها على خلاف ما هي عليه، يبالغ في تصور المؤامرات، حتى تجد أنه يخرج لك بنتائج لا تتفق مع مستوى عقله وتفكيره.
قبل أيام سمعت حديثاً من شخص درس في بلاد الغرب، يقول لي: إن الإنترنت كلها مؤامرة للتجسس على المسلمين، وكلها مؤامرة للدخول على خصوصيات المسلمين.
فانظر هذا المستوى من التفكير، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يعملوا، ولو عملوا عملوا بروح الفشل والهزيمة، والشعور بأن كل صيحة يمكن أن تدور عليهم وتصبح عليهم.
الأمر الخامس: أن هؤلاء اليائسين يفهمون الأحداث المبشرة فهماً يتفق مع نفسيتهم، فهو يشكك في صحة الأخبار السارة، فعندما يأتي خبر سار يشكك في صحته، أو يهون من شأنه.
إنك مثلاً حين تحدثه عن الصحوة وانتشارها، فإنك تراه يهون من شأنها، ويقول لك: إن هذه الظاهرة محدودة وضعيفة وهزيلة وفيها أمراض، فهي من حيث الحجم أقل مما تصورون، ثم هي من حيث الكيف ومن حيث المحتوى ضعيفة وضئيلة، وأقل من أن تواجه و.. و.. إلى آخره.
بل حينما تحصل مثلاً أخبار سارة تجد أنه يبحث لها عن تفسير يتفق مع طريقة تفكيره، فيشكك في الدوافع التي كانت وراء هذه الأحداث، تارة يتصور أن هذا استدراج من العدو حينما يعطي مثل هذه الفرص، ويقول: إن هذه مؤامرة يراد من خلالها الانقضاض أو كشف صفوف الأخيار .. إلى آخره.
المهم أن هذه الروح تسيطر على أمثال هؤلاء، تسيطر عليهم فيما لم يقع من الأحداث، فيتوهمون ما لم يقع، تسيطر عليهم في الأحداث السيئة فيبعدون في تفسيرها، ويبالغون في تضخيمها.
أيضاً اليائس في تقويمه ينظر في المشروعات والأعمال إلى السلبيات فقط، ويضخم السلبيات والأخطاء، وفي المقابل يتغاضى عن الإيجابيات والمشاكل، حين يقيِّم أي ظاهرة تجد أن نظره دائماً يتجه نحو السلبيات والأخطاء، والجهد البشري لا يمكن أن يسلم من الخطأ أبداً، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، فـ (كل بني آدم خطاء) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمرء لابد أن يذنب، ولابد أن يقصر، والقصور صفة ملازمة للبشر أياً كانوا.
وهذا لابد أن يظهر أثره على مستوى المشروعات العامة، لأنها نتاج أعمال البشر، ونتاج تفكير البشر، ولهذا هي لا تسلم من أخطاء وقصور وضعف البشر.
المجتمعات أيضاً حينما تحللها إلى وحداتها الأولية فهي مجموعة الأفراد الذين يبقى القصور والضعف أمراً ملازماً لهم، ولهذا فأي عمل بشري لا يخلو من قصور، ولا يخلو من الضعف، وتأمل هذا في واقعك أنت وحياتك حينما تقوم بمشروع ثم تنهيه، وعندما تعود إليه بعد فترة ستجد أنك وقعت في أخطاء، فأنت حينما تكتب مقالة أو كلمة أو تكتب كتاباً أو تلقي كلمة، وتعود مرة أخرى فتقرأ ما كتبت، أو تستمع إلى ما تحدثت عنه، ستجد فيه أخطاء، ستجد فيه قصوراً، ستجد أنك لو عدت من جديد لتكتب أو لتنفذ هذا المشروع، فإنك ستنفذه بصورة غير تلك التي قمت بها، وهذا من شأن البشر، وهو أمر ملازم لهم.
إذاً: فأي عمل بشري وأي جهد بشري لابد أن يكون فيه قصور، ولابد أن يكون فيه سلبيات، واليائس ينظر إلى هذا الجانب المظلم السلبيات ويضخمها، ويتغاضى عن الإيجابيات ويهون من شأنها ويقلل من شأنها.
إذاً: أيها الإخوة! سيطرة اليأس تخرج لنا في النهاية أفراد محبطين غير عاملين، أفراداً لا يمكن أن يصنعوا شيئاً، وحين يسيطر على المجتمع فإن المجتمع سيستلم ولن يسعى للتغيير، وإذا لم يقتنع الأفراد بأنهم يستطيعون أن يغيروا واقعهم، وإذا لم تقتنع المجتمعات بأنها تستطيع أن تغير واقعها، فإن التغيير الذي نريده وننتظره لا يمكن أن يحصل.
كيف نتخلص من اليأس؟
أولاً: ينبغي أن ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلا في مقام الذم عند الناس.
الناس حين يتخلصون أحياناً من ضغط الواقع ومؤثراته، ويفكرون تفكيراً مجرداً؛ فإنهم يرون أن وجود جذوة من الأمل والتفاؤل أمر مطلوب ولابد منه، فأن يعمل المرء ولا ينجح خير من أن يكون يائساً لا يصنع شيئاً ولا يعمل شيئاً.
واليأس لم يأت في نصوص الشرع إلا في مقام الذم والعيب، بل حين يصل بالإنسان اليأس إلى يأسه من روح الله ورحمة الله، فإن هذا من صفات الكافرين، كما قال عز وجل: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وهذا حكاه الله عز وجل على لسان يعقوب، قاله عليه السلام حين أوصى بنيه أن يبحثوا عن يوسف بعد سنين طويلة مرت من يوم ألقوا فيها يوسف في الجب، وتخيلوا أنه قد هلك ومضى، فلما حصل ما حصل، وافتقد ابنه الآخر، قال: يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87]، حتى قالوا له: تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:85-86]، وفعلاً كان الأمر كما كان يعلمه نبي الله يعقوب، وكما كان حسن ظنه بالله تبارك وتعالى.
فمن هنا ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع للعمل، جميل أن ندرك سوء واقعنا، سواءً واقعنا الشخصي أو واقع مجتمعاتنا، ومن المهم أن ندرك حجم التحديات والمخاطر التي تواجهنا، وحجم الانحراف الذي يصيب مجتمعاتنا، لكن ينبغي ألا يتجاوز هذا الإدراك حده؛ لأنه لا يمكن أن يدفعنا للعمل، بل سيدفعنا فيما بعد للقعود والاستسلام.
حين ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلى في مقام الذم والعيب، ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع للعمل، بل هو يدفع للقعود والتواني والكسل، وهذا الإدراك سيدفعنا هذا إلى أن نتجاوز حالة اليأس التي نعيشها.
أيضاً من الأمور المهمة: الاعتدال في النقد:
أحياناً يكون تفكيرنا تفكيراً متطرفاً، فلا نجيد إلا الإعجاب المطلق المبالغ فيه، أو الذم والنقد والعيب المبالغ فيه، وهذا نراه مثلاً في أقرب صورة محسوسة حينما نتعامل مع الجانب المادي أو الواقع المادي، حينما تقوم سلعة من السلع، وتبحث عن آراء الناس فيها، تجد أنهم يتفاوتون بين من يقول لك: هذه سلعة متميزة، ولا يعلى عليها، ولا يقاس غيرها بها .. إلى آخره، وبين من يذمها ذماً مطلقاً.
فما بالك بما هو فوق مستوى الماديات فيما يتعلق بإصدار الأحكام على الظواهر الاجتماعية، إصدار الأحكام على الظواهر التربوية، إصدار الأحكام على الأفراد، على المجتمعات؛ في هذه الحالة تجد أن الاعتدال تقل مساحته ويزداد التطرف، سواء في هذه الزاوية أو في تلك الزاوية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
النقد مطلوب حتى نصحح واقعنا كأفراد، وحتى نصحح واقع مجتمعاتنا لابد من النقد، ولابد أن نمارس النقد الذاتي؛ حتى يؤدي دوره وثمرته، فإما أن ننتقد أنفسنا، أو ينتقدنا الآخرون، لكن النقد ينبغي أيضاً أن يكون بموضوعية واتزان، فحين نبالغ في النقد، ويتجاوز النقد حده، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس.
جيء برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فسبوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان عليه)، العقوبة الشرعية التي يستحقها أخذها وهي الجلد، حينما يذمونه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليها أكثر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)، يعني: لا يجمع عليها بين العقوبة الشرعية وعقوبة أخرى، فليقم عليها العقوبة الشرعية التي شرعها الله عز وجل وهي الحد، لكن لا يؤنبها ويلومها ويثرب عليها.
وكذلك نهاهم صلى الله عليه وسلم عن أن يلعنوا هذا الرجل الذي شرب الخمر، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا فيه إعانة للشيطان على أخيهم.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المبالغة في ذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم)، فأهلك الناس هو الذي يصل به الحد إلى اليأس من واقع الناس، فيتهمهم بالهلاك.
يقول الإمام الخطابي رحمه الله: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم، بما يلحقه من الإثم في عيبه، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم، والله أعلم.
من الأمور المهمة أيها الإخوة! التي تجعلنا نتخلص من اليأس: النظر في السنن الربانية، وهذا الأمر أمر مهم، من ذلك مثلاً أن ننظر أن هذا الدين جاء من عند الله تبارك وتعالى الذي له الخلق وله الأمر، فهو الذي خلق الناس، وهو عز وجل أعلم بهم، بل هو تبارك وتعالى أعلم بالناس من أنفسهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
وشرع الله تبارك وتعالى لهم هذا الدين، والله عز وجل لم يشرع للناس إلا ما يطيقون.
وهذا يقودنا إلى نتيجة بدهية أن كل ما أمرنا به الله عز وجل فهو مما نطيق فعله، وأن كل ما نهانا الله تبارك وتعالى عنه فهو مما نطيق تركه والتخلي عنه، ولو عشنا فترة فأنسنا واقعاً سيئاً في ذوات أنفسنا، أو أنسنا منكراً أو معصية داومنا عليها وتخيلنا أنها أصبحت جزءاً منا، فهذا من كيد الشيطان وتلبسيه.
وإلا فمادام الله عز وجل قد نهانا عنها، وحرمها علينا، وكلفنا بالتخلي عنها، فهذا يعني أننا نطيق أن نتجنبها ابتداءً، ونطيق أن نتخلى عنها حينما نقع فيها، وحينما نواقعها، وقد فتح تبارك وتعالى لنا باب التوبة، وباب التوبة لا يغلق.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات هناك حقيقة مهمة في هذا الدين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى الثقلين الجن والإنس، بعث إلى الناس عامة، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالات، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبي ولا رسالة ولا شريعة للناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن منزلة هذه الأمة وكرامتها على الأمم السابقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، أما هذه الأمة فليس فيها إلا نبي واحد، لكن فيها طائفة منصورة إلى قيام الساعة.
جاء هذا الدين من عند الله خير الأديان، جاءت هذه الشريعة خير الشرائع، اختص الله عز وجل بها خير رسله صلى الله عليه وسلم، واختار الله تبارك وتعالى لها خير الأمم هذه الأمة، وجعل هذا الدين رسالة وشريعة للأمة إلى أن تقوم الساعة.
وهذا يعني أن البشرية تستطيع في كل الظروف والمتغيرات منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة أن تقيم حياتها على أساس هذا الدين، وأن تستوعب كل المتغيرات الجديدة وتقيم حياتها على هذا الدين، وإلا لما كان هذا الدين ديناً خاتماً، ولما كانت هذه الرسالة رسالة خاتمة، لما كان هذا النبي خاتماً للأنبياء لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
هذا يعني أن المسلمين قادرون على أن يلتزموا بدينهم، أن يقوموا بهذه الرسالة التي حملهم الله إياها، فهم خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقودون البشرية للهداية، والأمم الأخرى هي مخاطبة أيضاً بهذه الرسالة.
أقول: إدراك هذه القضية البدهية يقودنا إلى هذه النتيجة: أن هذه الأمة، بل البشرية كلها يمكن أن تستقيم على هذا الدين في ظل أي متغير، وفي ظل أي عصر، وفي ظل أي ظروف تأتيها، وأنه لا يمكن أبداً أن يتعارض هذا مع التقدم العلمي والتقني، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة حتى يأتي أمر الله)، وفي رواية: (حتى يقاتل آخرهم
صحيح أنه تمر بهم حالات مد وجزر، وحالات ضعف وهوان، لكن ستبقى هذه الطائفة إلى أن يقاتل آخرهم الدجال في آخر الزمان.
أيضاً مما يزيل اليأس من النفوس النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام، ومنها ما جاء في كتاب الله عز وجل من وعد الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة:14]، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
فهذا وعد من الله تبارك وتعالى لابد أن يتحقق، والذين في قلوبهم مرض أو الذين يسيطر عليهم ضغط الواقع قد تغيب عنهم هذه الحقائق من وعد الله تبارك وتعالى وما أخبر به عز وجل، فالله تبارك وتعالى قد وعد بني إسرائيل، وحقق لهم ما وعد تبارك وتعالى، يقول عز وجل: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ [القصص:4]، ثم قال تبارك وتعالى في الآية التي تليها: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6].
وانظر كيف صارت الأحداث، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، بدأ الأمر من هنا منذ أن ولد هذا الرضيع الذي سيحطم الله عز وجل على يديه عرش فرعون، وسيمكن على يديه لبني إسرائيل، ولم تذكر قصة موسى بهذا التفصيل في مرحلة ما قبل الرسالة أكثر مما ذكرت في هذه السورة؛ لأنها تتحدث عن قضية التمكين وطغيان فرعون وعلوه.
ثم بعد ذلك ختمت هذه السورة بطغيان قارون وعلوه، ثم كيف أهلكه الله عز وجل، ومكن لبني إسرائيل.
إذاً: فقد وعد الله تبارك وتعالى بني إسرائيل هذا الوعد، ومتى كان هذا الوعد؟
هذه الآية أتت بعد وصف الله عز وجل لحال طغيان فرعون: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4].
هذا الواقع لا يوصف وصفاً مبالغاً فيه، إنه كلام الله تبارك وتعالى لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، ثم يأتي هذا الوعد ويتحقق.
إذاً: الوعد الذي تحقق لبني إسرائيل في ظل ذاك الواقع المظلم البائس، لابد أن يتحقق لهذه الأمة، وهذه الأمة قد اصطفاها الله عز وجل، فهي أبر وأتقى وخير من بني إسرائيل، وأعلى منزلة عند الله تبارك وتعالى، وهي خير الأمم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
في نصوص السنة أيضاً نجد شواهد كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب).
وأيضاً ما في المسند من حديث تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وكان تميم يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية.
في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يكون بيت في الأرض إلا ودخله هذا الدين، ولن يكون هناك مكان يصله الليل والنهار إلا وسيصله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل.
والنصوص التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن النصر والتمكين نصوص كثيرة ليس هذا مقام الإفاضة في الحديث عنها، لكن الشاهد -كما قلت- أن إدراك هذه النصوص مما يزيل اليأس.
أيضاً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج، فالفرج عادة ما يأتي بعد شدة اليأس في عالم المادة وعالم المحسوس، ويأتي بعد أحلك المواقف والصعوبات:
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما بها الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غيث يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
وقال آخر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج
أيضاً الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً، قد يكون حدثاً لا يرى منه الناس إلا الوجه السيئ، فيصبح خيراً والناس لا يعلمون، والله تبارك وتعالى يقول: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
ودعوني أضرب على ذلك مثالاً أو أمثلة: في قصة الإفك حين قذفت عائشة رضي الله عنها بالزنا، واتهمت بذلك، هل كان يدور في بالها حين سمعت هذه المقولة أن هذا الحدث سيكون خيراً لها؟ أو هل كان يدور في ذهن أحد ممن عاش الحدث ذاك الوقت أن هذا خير لها؟ ثم نزل قول الله تبارك وتعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].
وفعلاً حصل هذا الأمر، فبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وهي كانت تقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآناً يتلى. وكان غاية ما تؤمله رضي الله عنها أن يري الله نبيه رؤيا يبرئها فيها.
إذا: هذه الحادثة التي كانت تظنها شراً صارت خيراً لها، ومثل ذلك ما حصل لمريم حين حملت بعيسى، حتى تمنت أنها لم تولد قبل هذا الموطن فكان خيراً لها، وحملت بنبي من أولي العزم من الرسل.
وفي حادثة الهجرة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب المادية، واختبأ وصاحبه في الغار، ثم انصرفا، فجاء رجل يتحدث وسراقة مع طائفة من قومه، فقال: رأيت هاهنا سواداً أظنه محمداً وصاحبه، ففطن سراقة لذلك وعلم أنه قوام النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنه فلان وفلان، يريد أن يصرف الناس عن ذلك، وأمر أهله أن يجهزوا فرسه من خلف الدار وانصرف، وركب فرسه، ثم لحق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اقترب، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هذا سراقة قد رهقنا. فحصل ما حصل، وخارت قوائم فرسه، والقصة معروفة.
الشاهد أن الذي يقرأ الحدث الآن ويعيشه يفترض محمداً صلى الله عليه وسلم وصاحبه رجلين أعزلين من السلاح، خرجا فراراً من قومهما، وقد جعل قومهما لمن يأتي بأحد هذين الرجلين حياً أو ميتاً جائزة عظيمة، وهذا الرجل على وشك أن يظفر بها.
والمتبادر إلى الذهن أنه خطر محقق، ولهذا أصاب أبا بكر رضي الله عنه القلق والخوف على النبي صلى الله عليه وسلم وحق له ذلك، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينظر بنور الله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أعلى منزلة من أبي بكر رضي الله عنه، فخارت قوائم فرس سراقة ، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم ييئس مرة ثانية وثالثة، حتى عرف سراقة أنه ممنوع.
فلما انصرف سراقة كان كل من لقيه يقول: قد كفيتم ما هاهنا، فأي إنسان يرى سراقة قد جاء من هذا المكان ولم يجد أحداً يعلم أن هذا المكان لا يمكن أن يجد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
فانظر كيف تحولت الصورة وانقلبت، ولهذا قال الراوي: فكان في أول النهار طالباً لهما، وفي آخر النهار صاداً عنهما، يعني: هذا الحدث الذي يبدو في أوله حدثاً سيئاً لا يتمنى أن يحصل صار فيه الخير، فصار سراقة هو الذي يصد الناس عنهما.
إذاً: أيها الإخوة! الأحداث التي تحصل قد يكون ظاهرها سيئاً، بل قد يكون فيها سوء، لكنها تنقلب بعد ذلك إلى خير، تنقلب إلى صلاح، مثلاً: بعض الناس قد يكون مسلماً مقصراً مفرطاً، لكن على الأقل محافظ على العبادات الظاهرة، ثم يهوي ويقع في معصية أو كبيرة من الكبائر، لا شك أن هذا شر للإنسان، لكن وقوعه في هذه المعصية قد يكون سبباً في توبته، وإذا تاب تغيرت حاله، وصار على حال الصالحين المتقين، فصار وقوعه في هذا الذنب خيراً له، فقد وقع في هذا الذنب فتاب منه، فقبل الله عز وجل توبته، وتغيرت حاله من فساد إلى صلاح.
الشاهد والخلاصة: أن الأحداث السيئة قد تكون خيراً، والمتفائلون هم أولئك الذين يبحثون في الأحداث عن البشائر والمبشرات، ليسوا هم أولئك الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط، حينما نأتي رجلان إلى قرية فيها فقر مدقع وجهل وتخلف، ويأتينا رجلان رجل متشائم ورجل متفائل، فالرجل المتشائم كل ما يراه في هذه القرية يزيده إحباطاً، يشعر أن الأمية منتشرة فيها، فمستوى التعليم فيها لا يشجع، فيها فقر، ليس فيها بنية اقتصادية، ليس فيها طرق، ليس فيها إمكانات، ليس فيها بيئة يمكن أن تهيئ استثمارات تحرك النشاط الاقتصادي في البلد، الناس يعانون من بطالة، يعانون من أمراض، هذه نظرة، فكل ما يراه في البلد يؤيد عنده هذه الحقيقة.
يأتينا شخص آخر متفائل فيرى أن هذه القرية تعيش في وضع سيئ، لكن هو يتلمس الجوانب التي يمكن أن ننطلق منها، يقول: البلد فيها بطالة، لكن هذه البطالة يمكن أن أستفيد منها، يمكن أن نشغل هؤلاء ولو بأجور محدودة، وهؤلاء يمكن أن يكونوا نواة لإقامة مشروعات يمكن أن تحيي البلد مثلاً، يمكن أن يكون فيها بيئة جيدة للتعليم.
المهم أن الموقف الواحد ينظر إليه هذا الرجل على أنه سلبي، والرجل الآخر ينظر إليه على أنه إيجابي.
أقول: حينما نعيش روح التفاؤل فنحن لا نعيش في أحلام، ولا نتغافل عن المخاطر، لكن إذا كنا نريد الإصلاح والتغيير، فلنبحث عن الجوانب التي يمكن من خلالها أن نصلح، والتي يمكن أن نستثمرها ونستغلها.
حينما تأتي الأحداث السيئة فلا تسيطر علينا النظرة إلى السلبيات، فلنبحث عن الثغرات التي نستطيع من خلالها أن ندخل إلى هذه الأحداث، مثلاً: لو جاء مثلاً لص يريد أن يسرق بنكاً من البنوك، فاللص حينما يفكر يبحث عن نقطة ضعف، فلا يأتي ويقول: والله هذه النقطة حصينة وهذه حصينة، بل يبحث عن نقطة واحدة يتسلل من خلالها، فيأتي إلى هذه المبنى من هنا فيجد أنه محصن، ومن هنا محصن، ومن هنا، ومن هنا، فيجد ثغرة محدودة يستطيع أن يتسلل من خلالها، هذه الثغرة تمثل 1% ، 2%.
هو الآن نظرته مسلطة على هذه الثغرة الذي يستطيع أن يتسلل من خلالها، ويحصل على ما يريد ثم يخرج، وكل العوامل الأخرى التي هي بالنسبة له خطر يتغافل عنها، فهو يبحث إذاً عن مدخل يدخل إليه، فلماذا لا نتعامل مع الأحداث التي تواجهنا بهذه الروح؟ أن نبحث عن مواطن الثغرات التي يمكن أن نستثمرها، التغير الهائل الذي سيواجهنا اليوم لماذا لا نبحث عن كيفية استثماره في الإصلاح، وكيفية استثماره في تغيير واقع المسلمين؟
صحيح أننا نرى أنه في مجمله شر، نرى أنه في مجمله لا يؤذن بخير، وأن الأمر لو كان بأيدينا لما تمنينا أن يحصل، لكن نحن ليست مسؤوليتنا أن نبحث عن جوانب الخطورة، إنما الذي ينبغي أن نفكر فيه أن نبحث عن نقاط نتسلل من خلالها، ونستثمر مثل هذه الأحداث لتكون منطلقاً لإصلاح أوضاعنا.
بل حتى الأوضاع السيئة يمكن أن نستثمرها للإصلاح، حتى الأفراد الذين لديهم رغبة في التغيير هم يستثمرون واقعهم السيئ لينطلقوا من خلاله إلى الإصلاح، ولأضرب على ذلك مثالاً وإن كان بعيداً، لكن حتى أقرب الصورة، حين جيء بالإمام أحمد رحمه الله ليجلد في الفتنة، ووضعوه في السجن مع اللصوص وقطاع الطريق، وأتوا به ليفتن جذبه رجل، فقال: أتعرفني؟ قال: لا، فذكر له ما هو عليه من السرقة وقطع الطريق، وقال: إني جلست كذا وكذا في السرقة، ومع ذلك لم يردني ذلك عن السرقة، وأنت تجلد على الحق فأنت أولى مني أن تثبت.
هذا رجل مجرم ولا يزال مصراً على جريمته، لكن عنده بذرة خير، جاء لينصح الإمام أحمد أو ليتثبت الإمام أحمد ، فهو يبحث عن شاهد من واقعه ينطلق به فلا يجد إلا تاريخ فساد مظلم، فيستغل تاريخه ليكون منطلقاً يثبت من خلاله الإمام أحمد ، فيقول: إذا ثبت أنا وأنا على الفساد، فأنت أولى مني أن تثبت على الحق، فزاد ذلك الإمام أحمد رحمه الله تثبيتاً.
من الأمور المهمة قراءة التاريخ، فحين نقرأ التاريخ سنجد أن الفرج دائماً يأتي بعد الشدة، ويأتي بعد الضيق، ولنضرب على ذلك نماذج سريعة:
في قصة موسى مع بني إسرائيل، جاء موسى وقد تسلط فرعون كما قلنا قبل قليل على بني إسرائيل، واستعبدهم واستذلهم، ثم حصل ما حصل، فأمره الله عز وجل أن يخرج ببني إسرائيل فخرج، فلحقه فرعون وقومه، حتى كانوا أمام الخطر المحدق، البحر أمامهم وفرعون وراءهم، بالمنطق المادي قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قال موسى: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
قمة الخطر على بني إسرائيل، قمة سوء الأوضاع هنا، في السابق كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فهو وضع فيه استعباد، لكن كان يمكن الناس أن يعيش بعضهم، لأنه فرعون وقومه ما أرادوا أن يهلكوا بني إسرائيل، لكن الآن بنو إسرائيل محصورون هنا، وليس أمامهم هنا إلا البحر وراءهم فرعون، فليس أمامهم إلا الإبادة، فقد شعروا بأن حياتهم انتهت، فحصل لهم الفرج، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [الشعراء:63-65]، وأهلك الله فرعون، فانظر كيف أتى الفرج بعد هذه الشدة!
مات النبي صلى الله عليه وسلم وأصاب المسلمين ما أصابهم، وارتدت قبائل العرب، حتى ما بقي إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولهم من المؤمنين الصادقين، حتى كاد طائفة من المؤمنين أن يشعروا باليأس والإحباط، ثم فرج الله لهم، حتى أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت سنتين وأشهراً، وما انتهت خلافة أبي بكر إلا وقد أخضعت الجزيرة كلها، وعاد المرتدون إلى دولة الإسلام، وبدأت الفتوحات في بلاد فارس وفي بلاد الروم، بعد أن كاد أن يصل بهم اليأس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وحين ارتدت طوائف العرب.
استقرت دولة الإسلام، وحصلت أحداث، ولعلنا نشير إلى حدثين:
حدث غزو الصليبين لبيت المقدس:
يقول ابن كثير رحمه الله: ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وفيها أخذت الفرنج بيت المقدس، قال: لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار.
فنقل الحافظ ابن كثير قصيده لـأبي المظفر الأبيوردي يقول فيها:
مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراحم
وشر سلاح المرء دمع يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فأيها بني الإسلام إن وراءكم وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وفيها:
وبين اختلاف الطعن والضرب وقفة تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها ليسلم يقرع بعدها سن نادم
فللن بأيدي المشركين قواضباً ستغمد منهم في الكلى والجماجم
يكاد لهن المستجير بطيبة ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتي لا يسرعون إلى العدا رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم
أيرضي صناديد الأعاريب بالأذى ويغضي على ذل كماة الأعاجم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى فهلا أتوه رغبة في المغانم
هذا الشاعر كأنه يحكي واقعنا اليوم، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، وبقي في أيدهم تسعين سنة، ثم بعد ذلك كتب الله النصر والتمكين للأمة وأعيد لهم.
ثم حصلت كارثة أخرى كارثة التتار، وأنقل لكم نماذج مما ذكره الحافظ ابن كثير لعلي اختصر فيها اختصاراً للوقت فقد أطلنا في الحديث.
يقول: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، فيها أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
يقول: ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله.
يقول: ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
قال: وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء:4-5].
قال: وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.
يقول: وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.
ثم قال: ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً؛ بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد؛ حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام؛ فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله حول ما أصاب المسلمين في غزو التتار.
هذه المآسي وقعت للأمة في بغداد، حتى سيطر على المسلمين اليأس، وشعروا أن التتار قوة لا تقهر، ثم استفاقت الأمة بعد ذلك، وقاتلوا التتار وهزموهم، وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها.
إذاً هذه النماذج أيها الإخوة! الأمة التي استفاقت بعد أحداث الردة، الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين، الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم، قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر.
وقراءة التاريخ يعطينا الدرس والعبرة، لكن اليائسين لا ينجحون، والنصر لا يكتب لليائسين، والتغيير لا يمكن أن يتم على اليائسين.
اللهم إنا نعوذ بك أن نيئس من روحك ورحمتك، إنك سميع مجيب.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر