يقول المؤلف رحمه الله: (واعلم) وهذا من باب التنبيه كي يجذب انتباه الذهن، ومعناه: اجزم وتيقن أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فكل بدعة تحدث يموت مثلها من السنة، فالسنة تقابل البدعة والبدعة تقابل السنة، وإذا أحيت سنة ماتت البدعة المقابلة لها، وهذا شيء واضح لا شك فيه.
ثم قال: (فاحذر المحدثات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة وأهلها في النار)، هذا مأخوذ من الأحاديث التي جاء فيها التحذير من البدع، قال عليه الصلاة والسلام: (وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة) وفي لفظ آخر: (وكل بدعة ضلالة) وفي رواية النسائي : (وكل ضلالة في النار).
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي لفظ لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فكل عمل وكل حدث في الدين يخالف أمر الله وأمر رسوله فهو بدعة.
أي أن المؤلف يقول: إن عليك أن تجتنب البدع حتى ولو كانت صغيرة، ولو كانت بدعة قولية، مثل ما يقوله بعض الناس: كأن ينطق بالنية حينما يصلي، فإذا صليت بجواره فإنه يقول: نويت أن أصلي فرض الظهر أربع ركعات خلف هذا الإمام، وإذا أراد أن يصوم، قال: نويت أن أصوم هذا اليوم من رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإذا أراد أن يطوف بالبيت قال: نويت أن أطوف بالبيت سبعة أشواط طواف العمرة أو طواف الوداع، أو نويت أن أسعى بين الصفا والمروة مع الحج، وهذه بدعة ليس لهم عليها دليل، ولهذا قال بعض السلف: لو عمرت عمر نوح ثم فتشت في الكتاب والسنة لم تجد دليلاً يدل على شرعية النطق بالنية، فهذه بدعة صغيرة يتساهل بها بعض الناس، لكن قد تجره إلى البدع الكبار.
وكذلك أيضاً بعض الناس إذا توضأ فإنه يأتي بأذكار لا أصل لها، فإذا غسل وجهه قال: اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه، وإذا غسل يده اليمنى قال: اللهم أعطني كتابي بيميني وهذه بدعة لا أصل لها، فالمؤلف رحمه الله يقول: (احذر صغار المحدثات من الأمور فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً)، فالصغير يجر إلى الكبير.
ثم قال المؤلف: (وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها)، يقول: كل بدعة حينما تحدث تكون صغيرة تشبه الحق من وجه فيغتر بها بعض الناس فيدخلون فيها فإذا دخل ما استطاع الخروج منها، وهكذا ينتقل من بدعة إلى بدعة حتى يصل إلى الكفر نعوذ بالله، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فعظمت وصارت ديناً يدان بها)؛ بسبب الإلف والاعتياد، فهو يبتدع أولاً بدعة صغيرة ويغتر بها، ثم لا يستطيع الخروج منها، ثم تعظم وتصير ديناً اعتاده الناس فخالف الصراط المستقيم وخرج بذلك من الإسلام.
فمثلاً بعض الناس في بعض المجتمعات اعتادوا أن المرأة لا تحتجب عن أقاربها من بني عمها وجيرانها، فالمرأة تسلم على ابن عمها وتكشف له وجهها وتسافر معه وقد تأكل معه، وابن خالها وجارها، لكن إذا خرجت للشارع تتحجب، وزوج الأخت لا تحتجب عنه، فبعض الناس إذا نهيته قلت: يا فلان! لا يجوز لك أن تترك امرأتك تسلم على جارك أو تسلم على أخيك وتكشف له وجهها، فيقول: لا نستطيع تركه فقد نشأنا عليه، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (إن البدعة تعظم وتصير ديناً يدان بها) لا يستطيع الفكاك عنها، لكن لو جاهد نفسه وكان شجاعاً قوياً في الحق لنصح أهله وجاره وابنه وبني عمه وبني خاله ويقول: هذا لا يجوز وهو محرم ولا يجوز للمرأة أن تكشف لهم وجهها، لكن هذا التساهل الذي نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير جعل هذه البدعة أو هذه المعصية لا يستطيع الإنسان الفكاك عنها، وهذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: (وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع الخروج منها فعظمت وصارت ديناً يدان بها فخالف الصراط المستقيم فخرج من الإسلام)، يعني: أن هذه البدعة وإن كانت صغيرة فقد خالف صاحبها بها الصراط المستقيم، والصراط المستقيم هو العمل بالسنة وترك البدعة.
وقد تجر هذه البدعة الصغيرة إلى ما هو أكبر منها، وصدق الشاعر حين قال:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
فحينما يأتي الرجل الأجنبي إلى امرأة فيقول: السلام عليكم، تقول: عليك السلام، وما عندهم أحد، ثم يكلمها، فهذا كلام، ثم لقاء، حتى يصل إلى فعل الفاحشة حتى يصل إلى الزنا، وأول شيء كان كلاماً، نظرة فسلام فكلام ثم لقاء، نظرة أولاً نظر إليها، ثم سلم عليها، ثم صار بينهما الكلام ثم لقاء، وهكذا يتدرج الإنسان من المعصية إلى المعصية، فكذلك البدعة ينتقل من بدعة إلى بدعة إلى بدعة حتى يصل إلى الكفر، فيخرج بذلك عن الإسلام كله، نسأل الله السلامة والعافية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فانظر رحمك الله! كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن ولا يدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر، هل تكلم به أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء فإن أصبت فيه أثراً عنهم فتمسك به ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئاً فتسقط في النار ].
قول المؤلف رحمه الله: (فانظر رحمك الله) بمعنى تأمل، وليس المراد النظر بالعينين، وإنما المراد النظر بالقلب، كقوله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:50].
(رحمك الله)، هذا من نصح المؤلف رحمه الله أن يسأل لك الرحمة، يعني: اللهم ارحمه.
ومعنى كلامه: إذا رأيت أهل زمانك يتكلمون في شيء أو يعملون شيئاً فتأمل ولا تستعجل ولا تدخل في شيء من هذه الأمور، ولا تتكلم في هذا الشيء الذي تكلموه ولا تعمل هذا العمل الذي عملوه إلا بعد أن تتأمل، وتسأل وتنظر، وإذا كنت طالب علم فابحث في كتب العلم ومع أهل العلم، فانظر هذا الأمر الذي يعمله الناس مثل رفع اليدين في الدعاء أو الزيارة والصلاة في المقبرة، فإذا رأيت بعض الناس يصلي عند المقبرة وأنت لا تدري ما الحكم، فانظر وتأمل ولا تستعجل فتصلي عند القبر تقليداً لمن يفعل ذلك، حتى تنظر وتتأمل هل تكلم فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من العلماء، فإن وجدت فيه أثراً فتمسك به، وإن وجدت أن هذا العمل مشروع فاعمل به، وإذا وجدتهم ينهون عنه ويحذرون منه فاتركه.
(ولا تجاوزه لشيء ولا تختر عليه شيئاً فتسقط في النار) يعني: أن المعاصي توصل إلى النار، فعلى الإنسان ألا يعمل شيئاً ولا يقل شيئاً إلا بدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور بقوله: (لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقبرة، فالصلاة في المقبرة من وسائل الشرك وهذا حرام.
إذاً: لا تفعل شيئاً تقليداً لمن فعله، فكل عمل لابد أن تنظر فيه وتتأمل وتعمل بالسنة ولا تجاوزه إلى غيرها فتسقط في النار، والمعنى: أن البدع والمعاصي توصل إلى النار وهي بريد الكفر.
وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين فهو ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من يعرفه أن يحذر الناس منه ويبين لهم قصته؛ لئلا يقع في بدعته أحد فيهلك ].
(اعلم) يعني: تيقن (أن الخروج من الطريق يكون على وجهين) يعني: الذي خرج عن الطريق المستقيم وخالف السنة له حالتان: الحالة الأولى: (رجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك)، هذا النوع من الناس أو هذه الحالة هو من لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك، يعني: أنه لم يتعمد ترك الحق ولكنه خالف الحق، فهذا لا يقتدى به ولو كان من الصحابة أو التابعين.
وأما قول المؤلف رحمه الله (فإنه هالك) فهذا فيه تفصيل: إن كان عالماً مجتهداً واجتهد وهذا هو الذي وصل إليه باجتهاده فهو مأجور على اجتهاده وخطؤه مغفور، ولكن لا نقتدي به وإنما نترحم عليه ما دام أننا عرفنا أنه مخالف للنص حتى ولو كان من الصحابة.
ومثال ذلك: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع منهم من أحرم بحج فقط ومنهم من أحرم بعمرة وحج، ومنهم من أحرم بالحج مفرداً، ومن أحرم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، ومنهم من أحرم بالعمرة مفرداً، فلما قربوا من مكة أمر عليه الصلاة والسلام الذين لم يسوقوا الهدي أن يقلبوا إحرامهم إلى عمرة، ثم لما طافوا وسعوا عند المروة حتم عليهم وألزمهم أن يتحللوا فتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ وذلك لإزالة اعتقاد الجاهلية؛ فقد كان أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيل اعتقاد أهل الجاهلية وأمرهم أن يجعلوها عمرة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: يا رسول الله! أيذهب أحدنا إلى منى وذكره يقطر منياً، فخطبهم، وقال: لولا أني سقت الهدي لأحللت. تطييباً لخواطرهم، لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعتمرون في وقت الحج.
فأخذ العلماء من هذا مشروعية فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي، وقالوا: إن هذا هو الأفضل، ولا شك أنه الأفضل، وقد أفتى بذلك علي رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري وابن عباس ، ثم اجتهد الخلفاء الثلاثة رضوان الله عليهم أبو بكر وعمر وعثمان وصاروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس أن يحرموا بالحج مفردين، وقالوا إن العمرة يؤتى بها في وقت آخر حتى يستمر الإحرام ولا يزال هذا البيت يحج ويعتمر، وقالوا: إن اعتقاد أهل الجاهلية زال، فكانوا يفتون الناس بالحج مفردين، وبقي ابن عباس وعلي يفتيان بالتمتع.
ولما اختلف علي وعثمان ، فقال علي لـعثمان : ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد. وكذلك أبو موسى الأشعري ، حتى إن جماعة ناظروا ابن عباس ، وقالوا له: كيف يا ابن عباس ! تأمر بالعمرة وأبو بكر وعمر يأمران بالحج؟ فاشتد ابن عباس رضي الله عنه في الإنكار عليهم؛ لأنهم خالفوا السنة، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر .
فهذا قول للخلفاء الثلاثة وقد اجتهدوا رضي الله عنهم، لكن الصواب مع ابن عباس ، ومع علي ، ومع أبي موسى الأشعري ، فمن خالف السنة باجتهاد فهذا له أجر على اجتهاده كالصحابة ومن بعدهم من العلماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). يقول المؤلف رحمه الله: (فإنه هالك) وهذا فيه تفصيل، فإن كان متعمداً ترك الحق فهذا هالك، أما إذا كان عن اجتهاد فليس بهالك.
والحالة الثانية: قال: (وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين فهذا ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة)، فإذا عاند الحق وترك الحق عن هوى لا عن اجتهاد بل عن اتباع للهوى فهو ضال مضل، وهو شيطان مريد في هذه الأمة، هذا إذا كانت مخالفته كبيرة توصل إلى هذا الحد، أما إذا كانت مخالفة يسيرة فقد لا يكون بهذا الوصف، حيث إن هذا الوصف من قوة المؤلف رحمه الله، وشدته على أهل البدع، وقوة الدفاع عن الحق، ولشدة تحذيره من أهل البدع وإلا هذا فيه تفصيل أيضاً، فالذي خالف الحق في بعض المسائل الواردة في السنة مثل رفع اليدين في الصلاة، أو جلسة الاستراحة وغيرها من المسائل التي لا توصل إلى هذا الوصف فيكون قد خالف السنة ولا يكون بهذا الوصف، وإن كان قد خالف الحق في المسائل التي خلافها مؤثر حتى يكون فاعلها ضالاً مضلاً فهو بهذا الوصف.
فيجب على الإنسان أن يحذَّر من البدع ويحذَّر من أهل البدع وأهل الضلال حتى لا يقعوا في بدعته فيهلكون.
قوله: (اعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد حتى يكون متبعاً مصدقاً مسلماً) فلابد أن يكون مصدقاً أي: مقراً ومعترفاً بما جاء عن الله وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون لسان حاله ومقاله: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وبذلك يتم إسلام العبد ويكون متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم مصدقاً مسلماً مسلِّماً، فمن لم يصدق بالباطن يكون منافقاً، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] فهم يقولون: آمنا بألسنتهم وما هم بمؤمنين بقلوبهم، وقال سبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
لا يتم إسلام العبد حتى يكون مسلِّماً لأمر الله وأمر رسوله ولا يكون معترضاً، فمن اعترض على أمر الله وعلى أمر رسوله فهذا كفر وضلال، فإبليس قابل أمر الله بالاعتراض والرد وهو لم يكذب بل هو مصدق لكنه معترض على الله ورد أمر الله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [البقرة:34] وهذا اعتراض ورد لما أمره الله بالسجود لآدم ما أنكر أمر الله، وهو معترف أن هذا أمر الله، لكنه اعترض ورد أمر الله لأن آدم مخلوق من الطين وهو مخلوق من النار، والنار أحسن من الطين وأفضل ولا يمكن أن يخرج بزعمه عن الفاضل إلى المفضول قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، فكفر وطرد من رحمة الله بالرفض والرد والاعتراض على الله.
(فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد كذبهم) أي: من زعم أن هناك شيئاً ما نقله الصحابة ولا وصل إلى أيدينا من الدين فقد كذب الصحابة.
ثم قال: (وكفى به فرقة وطعناً عليهم) من كذب الصحابة فقد أعظم الطعن عليهم، ومن كذب الصحابة فهو مبتدع ضال مضل محدث في الإسلام ما ليس منه.
قال: (واعلم رحمك الله أنه ليس في السنة قياس) يعني: المراد بالقياس القياس الفاسد وهو الذي يعارض به النصوص مثل قياس إبليس، فهو أول من قاس القياس الفاسد، قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، ولهذا قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
والقياس الفاسد: هو أن يستعمل القياس مقابل النص، فإذا جاءك نص فلا تقس، ومثال ذلك: حرم الله تعالى الربا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، فالمشركون قاسوا وقالوا: إن البيع مثل الربا، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وهذا القياس فاسد مقابل النص، فالنص هو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [البقرة:278]، فالقياس الفاسد هو الذي يكون في مقابلة النصوص، فإبليس كان عنده نص وهو: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34]، فقام بالقياس الفاسد وهو: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (واعلم رحمك الله أنه ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال)، يعني: لا يضرب لكلام الله وكلام رسوله الأشباه والنظائر، فيقول: إن هذا مثل كذا وهذا مثل كذا فيكون حكمه كذا، فأمر الله وأمر رسوله يتلقى بالتصديق والقبول والامتثال، ولا تتبع فيه الأهواء، فالله تعالى حرم عليك الربا، لكن الإنسان يهوى أن يتعامل بالربا حتى يحصل له ربح، فهذه شهوة وهوى فاترك الهوى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وقدم أمر الله وأمر رسوله على الهوى.
(وإنما هو التصديق بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا شرح)، يعني: لا يقال: لم، ولا كيف؟ فإذا جاءتك النصوص فلا تعترض، لا تقول: لم ولا كيف؟ لا يقال: لم في الأفعال، وكيف في الصفات، فلا تقول: لماذا أوجب الله علينا الصلوات الخمس، لماذا لم يجعلها ست صلوات؟! لماذا جعل الله هذا فقيراً وهذا غنياً، وهذا طويلاً وهذا قصيراً، وهذا ملكاً وهذا مملوكاً؟! والجواب: لأن الله حكيم لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]؛ لكمال حكمته ولا تقل: الله استوى على العرش، كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يتكلم؟ لا تقل شيئاً، فهو ينزل بلا كيف، ويتكلم بلا كيف، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم -أي: معلوم في اللغة العربية- والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فالواجب على المسلم التصديق بآثار الرسول صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا شرح يخالف النصوص، أو يكون فيه اعتراض على أمر الله وأمر رسوله.
(والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث) يعني: الخصام والنزاع والجدال في أمور الدين وفي مسائل الاعتقاد بدعة محدثة.
(يقدح الشك في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة)، حتى ولو أصاب صاحبه الحق فلا ينبغي للإنسان أن يتكلم في الصفات وفي مسائل الدين بالشبهة التي توقع الشك، ولهذا كان السلف رحمهم الله يكرهون الكلام في الصفات وفي الأفعال، وكانوا لا يودون الكلام فيها، لكن لما تكلم أهل الباطل وأهل البدع بالباطل اضطر العلماء إلى الرد عليهم، وإلا فالأصل أنه لا يتكلم فيها، فقد كان أحد الصحابة إذا وقع في نفسه الشك كتم، واستعظم الكلام فيه وحاربه، ولهذا لما قال الصحابة: (يا رسول الله! إن الإنسان يجد في نفسه ما لأن يخر من السماء خير له من أن ينطق به -وفي لفظ- لأن يكون حمماً خيراً له من أن ينطق به، قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان)، أي إن كتم الوسوسة ومحاربتها واستعظام الكلام بها صريح الإيمان، لكن المتأخرين صاروا يتكلمون بالوساوس وكتبوها وألفوها فحصلت الشكوك والبدع، فاضطر العلماء إلى الرد عليها.
وفق الله الجميع لطاعته ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
الجواب: هذا غلط كما سبق، فالطائفة المنصورة هم أهل الحق وهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم، كما بين ذلك الإمام شيخ الإسلام رحمه الله في رسالته (العقيدة الواسطية) الرسالة عظيمة التي تكتب بماء الذهب، فقال: إن أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة وهم أهل الحق وهم الصحابة والتابعون، فهذا التفريق لا وجه له.
الجواب: ضابطه النصوص وما دلت عليه النصوص؛ لأن المروق من الدين يكون مروقاً، وما لم تدل عليه النصوص أنه لا يكون مروقاً فلا يكون مروقاً.
السؤال: ما معنى قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال: لابد من إقامة الحجة المعتبرة في الحكم على الإنسان، وكذلك قوله رحمه الله: وأنا وإن كنت لا أكفر الرجل الذي يطوف حول قبر البدوي، فكيف أكفر من هو دونه؟
الجواب: المراد من ذلك أن من جهل شيئاً وكان هذا الشيء الذي يجهله من الأمور الدقيقة الخفية على مثله فإنه لابد أن تقام عليه الحجة، أما من أنكر أمراً واضحاً لكل أحد فلا يعذر، إنما الذي يعذر من جهل شيئاً من الأمور الدقيقة الخفية الذي مثله يجهل ذلك، أما من كان يعيش بين المسلمين ويفعل الكفر فلا يعذر، وهذا يختلف باختلاف المجتمعات، مثال ذلك: لو تعامل إنسان بالربا في مجتمعنا المسلم، وظل عائشاً فيه عمراً طويلاً، فلما أنكرنا عليه تعامله بالربا قال: أنا جاهل، لا أدري أن الربا حرام، فهذا ليس بمعذور؛ لأن مثل هذا لا يجهل، لكن إذا أسلم شخص في أمريكا وبعد عشرة أيام رأيناه يتعامل بالربا، فأنكر عليه، فيقول: أنا جاهل لا أدري، فنقول: كلامه صحيح فهذا جاهل؛ لأنه عاش في مجتمع ربوي ولا يعلم هذا.
الجواب: هذه المسألة خلافية بين أهل السنة والجماعة، فمن العلماء فمنهم من قال: إن ثواب القراءة يصل، ومنهم من قال: لا يصل، والأصل في هذا أن النصوص إنما جاءت بإهداء ثواب الدعاء والصدقة والحج والعمرة، وبعض العلماء قاس عليها إهداء ثواب القراءة، وإهداء ثواب الصيام، والذكر، وتلاوة القرآن، وبعض أهل العلم قال: لا نقيس؛ لأن العبادات توقيفية.
والصواب أنه يقتصر على هذه الأمور الأربعة: الدعاء والصدقة والحج والعمرة ومنه الأضحية، وأما إهداء ثواب القراءة أو إهداء ثواب الصيام، فهذا ليس عليه دليل إلا الصيام الواجب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، فإذا كان الصيام الواجب أو صيام نذر أو كفارة فيصوم، أما صيام تطوع أو إهداء ثواب القراءة أو إهداء التسبيح والتهليل فهذا ليس عليه دليل، فالأرجح والأفضل في هذا أنه يقتصر على ما جاءت به النصوص.
الجواب: رفع اليدين من أسباب قبول الدعاء، كما جاء في الحديث: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) فإذا صلى الإنسان مثلاً رفع يديه ودعا في الضحى أو في الليل أو في أي وقت فهذا من أسباب قبول الدعاء، إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم يديه فلا نرفعها، مثل الدعاء بين السجدتين في الصلاة، فلو رفع الإنسان يديه وقع في بدعة؛ لأن هذا ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الدعاء في آخر التشهد فلا ترفع يديك، والدعاء بعد الفريضة كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، كذلك رفع اليدين أثناء الدعاء في خطبة الجمعة فهذا بدعة؛ لأنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم لا من الخطيب ولا من المصلي إلا إذا استسقى الإمام فإنه يرفع يديه ويرفع الناس أيديهم.
والخلاصة في هذا أن رفع اليدين من أسباب قبول الدعاء إلا في المواضع التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع فيها فلا نرفع أيدينا فيها.
الجواب: الضابط كما قال الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] فتعرض أقوال العلماء على النصوص فما وافقها قُبل وما خالفها رد، وفي مسألة التلفظ إن كان مقصود السائل التلفظ بالنية فهذا ليس عليه دليل، وإن قال به بعض الفقهاء المتأخرين وحجتهم أنه يتلفظ بالنية استحباباً حتى يتوضأ القلب واللسان، لكن هذا الاستحباب لا دليل عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر