شرع الله تعالى لعباده ما يضاف من الحسنات إلى ما بعد الموت، وهو الوصية لغير الوارث، وقد كانت واجبة للوالدين والأقربين ثم نسخت بآية المواريث، وبقي محل استحبابها في الأقارب من غير الورثة ونحوهم إذا ترك المرء مالاً عظيماً لا تضر به الوصية، وقد حرم تعالى على ورثة الموصي تبديل الوصية وتغييرها، كما أجاز لمن يلي أمر الوصية أن يقوم عوجها بما يوافق أمر الشرع إذا جنف الموصي فيها أو حاف.
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت...)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين، وقد كان ذلك واجباً على أصح القولين قبل نزول آية المواريث، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل منة الموصي ].
يعني أن الله تعالى هو الذي قسم المواريث بنفسه، فليس فيها منة؛ لأنها حلال، وهي ملك قهري يدخل في ملك الوارث، فإذا مات الشخص صار المال للورثة قهراً، فإذا أراد الوارث بعد ذلك أن يتبرع به فهو في ملكه، وهو مال له حلال، وإذا كان من غير طريق شرعي فإثمه على من اكتسبه.
وكذا رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس به، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح على شرطهما. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين، فأنزل الله آية الميراث، فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخاً في اصطلاحنا المتأخر؛ لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ].
أي: إنما يسمى ذلك تخصيصاً ولا يسمى نسخاً، والصواب أنها منسوخة، وهو الذي عليه الجمهور.
أما قول الرازي : إن أكثر العلماء على أنها تخصيص، فليس بظاهر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية بأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت، فأما من يقول: إنها كانت واجبة -وهو الظاهر من سياق الآية- فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع، بل منهي عنه للحديث المتقدم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث). فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند الله لأهل الفروض والعصبات يرفع بها حكم هذه بالكلية، بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث استئناساً بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي.
والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم كثيرة جداً ].
ولهذا تكون الوصية لغير الأقارب مستحبة استئناساً بهذه الآية، وللأدلة التي فيها الإحسان إلى الأقارب وبذل المعروف لهم، فالذين لا يرثون يستحب أن يوصي لهم الثلث فأقل، كأن يوصي -مثلاً- لأبناء أبنائه؛ لأنهم محجوبون بالأبناء، ويوصي لإخوته؛ لأن الأخ لا يرث إذا كان للميت أبناء، أو أن يوصي لأخت له أو عمة أو خالة أو أبناء بنت؛ لأنهم لا يرثون.
وأما الوصية ذاتها ففيها تفصيل: فإن كان له ديون على الناس أو عليه ديون لهم وليس فيها بينة فإنه يجب عليه أن يوصي؛ لأنه إذا لم يوص أخذها الورثة، أما إذا لم يكن له ولا عليه فالوصية مستحبة، ويستحب له أن يوصي بالثلث فأقل في أعمال البر، وفي أعمال الخير، فيوصي لبعض الأقارب غير الوارثين.
ثم منهم من قال: الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر، كالوراثة.
ومنهم من قال: إنما يوصي إذا ترك مالاً جليلاً، ثم اختلفوا في مقداره، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري قال: أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قيل لـعلي رضي الله عنه: إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص. قال: ليس بشيء، إنما قال الله: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا.
وقال أيضاً: وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال: حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان - عن هشام بن عروة عن أبيه أن علياً دخل على رجل من قومه يعوده فقال له: أوصي؟ وقال له علي : إنما قال الله: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ إنما تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك.
قال الحاكم : قال طاوس : لم يترك خيراً من لم يترك ثمانين ديناراً. وقال قتادة : كان يقال: ألفاً فما فوقها ].
الصواب أن المال الجليل يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، فإذا ترك الإنسان مالاً جليلاً فيستحب له الوصية، أما إذا ترك مالاً قليلاً فالأولى أن يبقيه لورثته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) وقد تختلف الأحوال والأزمنة والأشخاص، فما قد يكون في زمن مالاً جليلاً قد يكون في زمن آخر مالاً قليلاً، فالمال الجليل يختلف باختلاف الأحوال، فالألف ريال ليس لها قيمة الآن، لكن في بعض الأزمنة كان يعتبر من يملكها من الأغنياء الكبار، ويختلف المال الجليل باختلاف المكان، فقد يكون عندنا الألف ريال قليلاً، لكن في بعض الأماكن وبعض الدول الفقيرة يعتبر كثيراً، أما تحديد بعضهم الخير الذي يتركه المتوفى بقوله: ستين ديناراً أو نحوه فليس بجيد، والصواب أن هذا يختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، ويعود إلى العرف.
ومن ترك مالاً قليلاً فالأولى أن يبقيه للورثة، لكن إذا كان شيئاً كثيراً جليلاً بالعرف، والورثة قلة، فإنه يستحب له أن يوصي.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله: بِالْمَعْرُوفِ أي: بالرفق والإحسان، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أحمد قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار قال: حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فقال: نعم، الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر. والمراد بالمعروف: أن يوصي لأقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير ].
فيوصي بالخمس مثلاً، أو بالسدس، أو بالربع، فقد أوصى بعض السلف بالسدس مثل الصديق وجماعة، وبعض الناس الآن يتقيد بالثلث، ولا يتعدى الثلث، فيجوز الثلث، والربع، والخمس، والسدس، بحسب ما يظهر له من احتياج الورثة.
ولكن لا يجوز له الزيادة على الثلث، فأقصى حد هو الثلث، إلا بإذن الورثة، فإذا أذنوا وكانوا كلهم كباراً، راشدين جاز، وكذلك الوصية للوارث، فلا يوصى له بشيء لا بقليل ولا بكثير إلا بإذن الورثة.
أنه خيره من خمس إلى عشر إلى خمس عشرة إلى عشرين إلى ثلاثين إلى أربعين، وقوله: (لا، لا، لا) هذا فيه نكارة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول هكذا، والسند ضعيف.
فالإنسان له أن يوصي بالثلث فأقل، وما دام أن الموصى به أقل من الثلث ولو كان مائة من الإبل فإنه يجوز، والله تعالى تصدق على المسلم بأن يوصي بالثلث إذا كان لغير وارث.
تفسير قوله تعالى: ( فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ... )
وهذه الآية فيها بيان أن الموصي إذا أوصى وقع أجره على الله، فإذا غيره المغير فبدل أو زاد أو نقص أو كتمه بالمرة، فهو الذي يتحمل الإثم، وهذه الآية فيها الوعيد الشديد للمغير، فقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[البقرة:181] تهديد ووعيد، يعني أن الله سميع لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد، عليم بأحوالهم، وسوف يجازي المغيِّر المبدل بما يستحق، فالآية فيها تهديد ووعيد لمن غير الوصية أو بدلها أو كتمها.
تفسير قوله تعالى: ( فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً ... )
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقوله تعالى: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا[البقرة:182] ، قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي : الجنف: الخطأ. وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها، بأن زاد وارثاً بواسطة أو وسيلة، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني محاباة، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل، إما مخطئاً غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر، أو متعمداً آثماً في ذلك، فللوصي -والحالة هذه- أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به؛ جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء، ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك؛ ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل، والله أعلم ].
يعني أنه إذا رأى أن الوصية فيها جور وفيها مخالفة للحق فله أن يغيرها؛ لأنه مصلح في هذه الحالة، فإذا أوصى لوارث، أو حاد في الوصية فإنه يرفع ذلك إلى الحاكم الشرعي، والحاكم الشرعي ينظر فيها، ثم تغير الوصية إلى ما يوافق الشرع.
وكذلك العطية في حال الحياة، فإذا أعطى بعض أولاده وفضلهم فإن هذا لا يجوز، فينصح، فإن لم يقبل فإنه ترفع القضية إلى الحاكم الشرعي، ويلزم الأب بأن يعدل بين أولاده، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم). وإذا كان الموصي في حال الحياة وأراد أن يوصي بما فيه جور وجنف فإن على من حضره أن ينصحه ويبين له في وقت الحياة، ويقول له: يا فلان! لا يحسن لك هذا، ونحو ذلك، وإذا كان قد توفي فإنها تُغير إذا كانت مخالفة للشرع، ولكن لا تغير إلا بأمر الحاكم الشرعي، ولا يغير الإنسان بنفسه، بل يسلك الطريق الشرعي، وذلك عن طريق الحاكم الشرعي.
الجانف هو: المبتعد عن الحق، يعني: تعدل البيانات إلى ما يوافق الحق، مثال ذلك: إذا أعطى عطية فضل فيها بعض أولاده، فهذا جنف، فبقية الأولاد ينصحون الأب، فإذا أبي رفع الأولاد أمره إلى الحاكم الشرعي، وهو يأمر الأب بأن يسوي بين أولاده، كما أن الميت إذا أوصى الوصية الجائرة تغير، والمجنف وكذلك المائل كلاهما يطلقان على المائل عن الحق.
يعني أن ابن أبي حاتم يرى أنه موقوف على عروة ، وهذا على طريقة المتقدمين، أما على طريقة المتأخرين فإن الزيادة من الثقة مقبولة، والوليد بن مزيد ثقة، وعلى هذا فيكون الحديث مرفوعاً.
هذا يدل على أن من الكبائر الجنف في الوصية، لكن الحديث فيه شهر بن حوشب ، وفيه كلام، ثم إن بين وفاة شهر بن حوشب وأبي هريرة ما يقرب من خمسين سنة.
ولا يجوز للمرء أن يوصي لأحد بنيه بشيء خاص إذا كان يعمل عملاً خاصاً، بل يجعل له أجرة كغيره، فيعطيه أجرة في وقت الحياة، أما أن يخصه بشيء فلا، فإذا كان يعمل عملاً خاصاً من دون إخوته فإنه يعطيه أجرة عمله، ويعتبره مثل الخادم الذي يستخدمه.