قال الحافظ المنذري رحمه الله في الترغيب في الزهد:
[ وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله، فقيل: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنخُل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنخُلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله، فقيل: فكيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ فقال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار وما بقي ثرَّيناه)، رواه البخاري.
وعن أم أيمن رضي الله عنها: (أنها غربلت دقيقاً فصنعته للنبي صلى الله عليه وسلم رغيفاً، فقال: ما هذا؟ فقالت
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل إلينا آل
ويتعود في هذا الشهر على الجوع ويستشعر بما يستشعره الفقراء والمساكين، وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الجوع فيربي نفسه على ذلك ويفطم نفسه عن الدنيا، وليس كل ما يريده الإنسان يناله في هذه الدنيا، وإنما يعتاد أن يترك الشيء الذي يقدر عليه، فيجعل بينه وبين الحرام سداً وحاجزاً، ويترك من الحلال حتى لا يستنفذ الحلال، فيقع في الحرام بعد ذلك.
هذا أنس رضي الله عنه وقد أغناه الله عز وجل ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له: اللهم بارك له في ماله وفي ولده، فأعطاه الله مالاً وأعطاه غنى وأعطاه أولاداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأى ذلك أخذ يذكرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير هذه الأشياء ولم يأكل على خوان حتى مات عليه الصلاة والسلام.
والخوان: طاولة يجلس حولها وقت الطعام، فلم يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع له طعامه على خوان ولكن على سفرة، وكلمة سفرة معناها: مفرش ينحط على الأرض، سميت بذلك لأنها تسفر عما بداخلها، فهي مفرش يوضع على الأرض ويوضع عليه طعامه صلى الله عليه وسلم.
يقول أنس رضي الله عنه: (ولم يأكل خبزاً مرققاً حتى مات)، يعني: خبزاً منقىً وخبزاً مغربلاً ومنخولاً.
(ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط)، يعني: شاة مسلوخة ومشوية بعد سلخها، ولكن كانوا يسلخون جلد الشاة فتوضع في السيخ وتشوى على حالها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير الأشياء التي يراها المنعمون، وليس معنى ذلك أن هذه الأشياء محرمة، ولكن الله سبحانه وتعالى لم يجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم ليس لهوانه على الله عز وجل، بل لهوان الدنيا وأنها لا تستحق ذلك فلا تستحق من الإنسان أن يتعب من أجلها، وأن يقتتل مع أخيه من أجلها، وأن يطمع وأن يستكثر منها، لا داعي لمثل ذلك.
يقول سهل : (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله)، قال السائل: فكيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ هذا سهل بن سعد والذي يليه ويروي عنه ويسأله من التابعين، وكأن المال كثر فاعتادوا على هذا الشيء، فلما اعتادوا نسوا ماذا كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل عن الخبز كيف يأكله عليه الصلاة والسلام؟ فيسأل سؤال المستغرب المتعجب كيف تصنعون الخبز؟ كيف إذا كان الأمر على ذلك؟ فالإنسان عندما يعيش في النعم ينسى أن غيره لا يجد ذلك.
يعني: نحن الآن حين نأكل طعامنا كيف نأكل القمح، فمن الضروري أن يكون مطحوناً ومنخولاً، وعندما نتذكر شخصاً يأخذ القمح من الحقل مباشرة فيفرك القمح في يده، ثم يأكله نتعجب لهذا الشيء، من الذي يأكل القمح بهذه الصورة؟ وكانوا يأكلونه من قبل على هذه الصورة، وكان يشبعهم ذلك الذي يأكلونه، فلم يروا من الدنيا إلا الشيء القليل.
يقول هنا: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ فقال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار وما بقي ثريناه، أي: والباقي نضع عليه ماء ونعجنه ونأكله.
ومن الأحاديث حديث أم أيمن رضي الله عنها وهي حبشية وكانت حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بحبه زيد بن حارثة وولدت له أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه أم أيمن أحبت أن تتحف النبي صلى الله عليه وسلم بشيء تملكه، فغربلت دقيقاً، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم أنها غربلت الدقيق، لكن أتت بدقيق أبيض أمامه صلى الله عليه وسلم، فكانت قد غربلته ونخلته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟ قالت: طعام نصنعه بأرضنا)، يعني: في الحبشة كنا نصنعه هكذا، نغربل الدقيق حتى يكون أبيض، قالت: فأحببت أن أصنع لك منه، أحبت أن تكرم النبي صلى الله عليه وسلم برغيف، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (رديه) أي: ردي النخالة فيه.
وهذا دليل على أنهم في مرحلة من المراحل كانوا في غاية الفقر، وقد كان أبو بكر من أغنى الناس في مكة، فأنفق ماله كله على دين رب العالمين سبحانه، فهذا الذي يقدر عليه في هذه المرحلة أن يرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بيد شاة.
(قالت: فأمسكت وقطع النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني: هذا شأنهم في الليل، فقد كانوا في ظلمة، فالسيدة عائشة أمسكت وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بالسكين وقطع أو العكس.
فيقول الراوي للسيدة عائشة رضي الله عنها: تقطعون يد الشاة على غير مصباح، فقالت عائشة رضي الله عنها: (إنه ليأتي على آل محمد صلى الله عليه وسلم الشهر ما يختبزون خبزاً، ولا يطبخون قدراً).
فراوي الحديث يقول: يا أم المؤمنين -هذه رواية الطبراني - تقطعون على غير مصباح؟ فقالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، فلم يكن عندهم غاز ولا بترول يوقدون به المصباح!
فانظر للحال الذي كان عليه بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لا نور في البيت ولا مصباح ولو كان هناك دهن للمصباح لأكلوا هذا الدهن، لذلك لا تعجب عندما يدعى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام إلى خبز شعير وإهالة -دهنة- سنخة يعني: قد مكثت في الجراب فترة طويلة حتى بدأ طعمها يتغير، فيذهب النبي صلى الله عليه وسلم ويأكل من ذلك.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم. أي: حتى التمر، وقد كانت المدينة مليئة بالبلح والتمر، لكنها تقول: من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم!
وفي الحديث الآخر أن سائلاً يسأل السيدة عائشة رضي الله عنها يقول: يا خالة! ما كان يعيشكم؟
فتقول: الأسودان يعني: الطعام السائد الذي عندنا التمر والماء، فقد كانوا يمكثون شهرين اثنين وتطلع ثلاث أهلة عليهم في شهرين وليس في البيت طعام ولا خبز، وإنما في بيت النبي صلى الله عليه وسلم التمر، ويا ليته يشبع منه صلوات الله وسلامه عليه!
تقول: من حدثكم أن كنا نشبع من التمر فقد كذبكم، فلما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم قريظة أصبنا شيئاً من التمر والودك!
يعني: في يوم من الأيام وجبريل جالس مع النبي صلى الله عليه نزل ملك من السماء، وأول مرة ينزل هذا الملك من السماء إلى الأرض من ساعة ما خلقه الله سبحانه وتعالى، فيقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك: أملكاً أجعلك أم عبداً رسولاً؟)، يعني: نزل الملك يخير النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنت مقامك عالٍ عند رب العالمين، وهو يحب أن يخير نبيه صلى الله عليه وسلم.
والحكمة من أن ينزل ملك آخر غير جبريل لكي يكون جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم وزيراً وناصحاً ومشيراً، فنزل الملك الآخر يخير النبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن تصبح ملكاً رسولاً أم تبقى عبداً رسولاً؟ فنظر جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأشار إليه: تواضع لربك يا محمد!
فربنا يخيرك، فإذا تواضعت فإنه ما زاد الله عبداً بتواضع إلا عزاً، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بل عبداً رسولاً)، يعني: أكون عبداً رسولاً.
ولذلك كان يجلس جلسة العبيد، ويقعد على الأرض ولا يقعد على الكرسي أو على عرش، وينام على السرير، وكانت حبال السرير تؤثر في جنب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهنا كان صلى الله عليه وسلم غاية في التواضع ليري الناس أن الدنيا لا تساوي شيئاً.
قال ابن مسعود : (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه)، أي: أعواد الحصير أثرت في جنبه صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : (يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً) أي: فرشاً ليناً، فقال صلى الله عليه وسلم : (مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها).
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يضرب هذا المثال العظيم الذي يحدث الناس به حتى يعقلوا، فيقول: أنا مثلي مع هذه الدنيا كراكب نزل تحت ظل شجرة، وفي رواية أخرى قال: (كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها) الذي يسير في الصيف ينزل تحت شجرة في أثناء الطريق ليرتاح قليلاً ثم يكمل سيره مرة أخرى.
هكذا يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نزهد في الدنيا حتى يحبنا الله سبحانه، وأن نزهد في ما في أيدي الخلق حتى يحبنا الخلق.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل الله اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر