يذكر الصحابي الجليل عدي بن حاتم رضي الله عنه: أنه كان جالساً يوماً في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجال يشكون ما يجدون من بلاء عندما يسافرون ويرحلون، حيث يعتدي عليهم الناس فيأخذون أموالهم، وقد يجلدون ظهورهم ويسفكون دماءهم، فقد كانت الجزيرة العربية قبل الهجرة النبوية أشبه بغابة، يتسلط القوي فيها على الضعيف، والأقوياء يسلبون أموال الناس، حيث كانت بعض القبائل تغير على بعض وتقطع الطريق.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعدي بن حاتم : (يا
قال عدي : فقلت في نفسي: فأين دعار طيء؟ أي: لصوص طيء، وكيف ستسير هذه الظعينة هذه المسافات الشاسعة ولا يعترضها اللصوص! فهو رضي الله عنه يتحدث عن قبيلته؛ لأن فيها لصوصاً.
ولا يمنع هذا أن يكون في القبائل الأخرى لصوص أيضاً، قال: (ولئن طالت بك حياة لتفَتحن -أو لتفُتحن- كنوز كسرى وقيصر، قلت: يا رسول الله!
يقول عدي بن حاتم عندما كان يحدث بهذا الحديث: فهأنذا أرى الظعينة تنتقل من العراق إلى مكة، وتسير في أرجاء الدولة الإسلامية، فلا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، أي: أنه كان أحد الجنود الذين فتحوا بلاد كسرى وقيصر، وأخذوا تلك الكنوز الهائلة التي كانت في خزائنهم.
قال عدي : ولئن طالت بكم حياة لترون الثالثة، أي: إذا طال بكم العمر سترون أن الثالثة ستقع، وقد وقعت الثالثة في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد كان الرجل يخرج زكاة ماله فلا يجد أحداً فقيراً يقبضها. قال المؤرخون: لقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس فلم يوجد فقير، وتسير في طول المدينة وعرضها تبحث عن فقير فلا تجد.
الطريق الأول: تربية النفوس وإصلاحها، وتعريفها بربها وخالقها تبارك وتعالى، ووصلها بالله عز وجل، وإشعارها بأن الله يراقبها وينظر إليها ويطلع عليها، وعند ذلك يصبح في النفوس وازعٌ، فيراقب الإنسان نفسه، ويحد من جهله ومن ظلمه، فالإنسان خلق جهولاً ظلوماً، فهو كثير الجهل كثير الظلم، والإسلام يحد من هذا الجهل من هذا الظلم.
إن هذه الأنوار الربانية التي جاء بها القرآن والسنة النبوية؛ لتملأ النفوس نوراً وصلاحاً وحياة، وعند ذلك لا يعتدي الإنسان على غيره ولا يظلم، وإن ظلم فإن نفسه تلومه، وكثيراً من الأحيان يتوب وينيب، ويرجع بنفسه الحق إلى صاحبه.
الطريق الثاني: أن الإسلام جاء بشريعة وقانون يحكم بين العباد، وهذا القانون قانون عادل؛ لأنه من عند العليم الخبير الحكيم سبحانه وتعالى، الذي ألزم الأمة بأن تقيم رجالاً يقومون على هذا القانون، من حكام وقضاة يحكمون به، فإذا لم تفلح التربية النفسية في إصلاح النفوس، وبقي ظلم العباد بعضهم لبعض؛ فإن سلطان الله تبارك وتعالى الذي يتمثل في شريعته والقضاة الذين يحكمون به، يعيدون الحق إلى نصابه، فتصلح حياة البشر، وعند ذلك فإن المظلوم ليس بحاجة إلى أن يثور؛ لأن هناك من يأخذ له بحقه، وكذلك الفقراء ليسوا بحاجة إلى الثورة؛ لأن حقوقهم ستصل إليهم، فلهم في مال الأغنياء حق، ولا يستطيع الأغنياء والأقوياء أن يعتدوا عليهم؛ لأن هناك من يحاسب في الدولة الإسلامية: (القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف منكم قوي عندي حتى آخذ الحق له) فالقوي فيكم ضعيف، والضعيف قوي، فهذا يأخذ الحق منه، وهذا يأخذ الحق له، وهذا جزء من الخطبة التي افتتح بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه خلافته، عندما نصب خليفة للمسلمين.
فمهمة الحاكم أن يمنع هذا الظلم، وعند ذلك لا يحس الفقير بحاجة إلى أن يثور، وإلى أن يفسد في الأرض؛ لماذا؟ لأنه يرى أن حقه سيصل إليه، فليس له حاجة في أن يثور وأن يفسد ويخرب.
فقد زعموا أن الشريعة الإسلامية كانت عقبة في سبيل تقدم المسلمين، فحطموا دولة الخلافة زاعمين أنهم يريدون الرقي والحضارة، ثم غيروا القوانين الشرعية وأحلوا محلها القوانين الوضعية، بحجة أنهم يريدون بنا رقياً وحضارة وتقدماً، ثم ماذا كان؟
كان أن تجزأت الديار الإسلامية وضعفت، واعتدى عليها أعداؤها وأذلوها، ثم كان الفقر والجريمة، والإفساد في الأرض أينما توجهت في ديار المسلمين، ولم يزدنا هذا التقدم الذي يسمونه تقدماً وحضارة إلا فساداً وإفساداً.
وما نقلته الصحف في هذه الأيام، ووكالات الأنباء والإذاعات، مما يجري في مصر، وماذا يحدث أو ماذا حدث؟
مئات من الناس سقطوا قتلى، وأضعاف ذلك سقطوا جرحى، وخرج الناس يحطمون ويخربون ويفسدون، لماذا؟
الجواب: أمران، حسبما تناقلته وكالات الأنباء:
الأمر الأول: جوع البطن، فأصبح رغيف الخبز لا يوجد، وأقل الأطعمة شأناً في بلادنا -الأرز والعدس- لا توجد، فماذا يملك الفقير عندما يجد نفسه جائعاً وزوجته جائعة وابنه جائعاً، وهو لا يستطيع أن يفي بالحاجات الدنيا؟ ثم أين تذهب الأموال؟ فبين فترة وأخرى تكشف فضيحة في مصر وفي غيرها، وهذا ليس وقفاً على مصر، بل في أكثر البلاد الإسلامية، فضيحة مالية لا تقدر بالألوف وعشرات الألوف ومئات الألوف، ولا ملايين وعشرات الملايين، بل تصل إلى مبالغ خيالية جداً، عصابة من الموظفين أو المتنفذين يأخذون ثروات الأمة، وفرد يسلب عشرات الملايين ومئات الملايين، بينما عشرات الملايين من البشر لا تجد طعاماً تأكله، وهذا ليس بالأمر الخفي، بل هو أمر قد انتشر في كل مكان، وفضائح في كل مكان.
وهذا الذي أخذ الملايين نفسه عفنة قذرة خربة، فلم يلامسها نور الوحي، ولم يعلم أن هذه الدنيا زائلة، وأنه غداً سيقف بين يدي الله فيحاسبه عما قدم، فيظن نفسه أنه أخذ غنيمة وخيراً، وفي الحقيقة هو أخذ شراً، ثم النتيجة الأخرى أنه ظلم غيره في هذه الحياة الدنيا وحرم غيره من لقمة العيش.
الأمر الثاني: أن هذه الشعوب وإن حرمت من تحكيم شريعة الله، فهي لازالت شعوب إسلامية للإسلام صدى في نفوسها، فهي ترى هذا الفساد من السينمات والمسارح التي تنتهك فيها الفضيلة والحرمات، وتهدر فيها أموال الأمة، فاتجهت إلى تخريب هذه الأماكن المفسدة في الأرض؛ لأنهم مسلمون، ويشعرون بأن هذا من المنكر الذي فرض عليهم تغييره.
وليس هذا في مصر فحسب، فهذه عدن قد سقط فيها ألوف من الناس، لتحكم الشيوعية عليهم، وحتى انقسم الرفاق على بعضهم.
وهذه الحروب بين العراق وإيران يسقط فيها كل يوم ألوف الضحايا، فما السبيل؟
الله تبارك وتعالى جعل الإسلام طريقاً إلى جنته ورضوانه، وجعل الإسلام في الدنيا قانون شريعة، إذا رضي الناس به وحكموا به عند ذلك تصلح حياتهم، والله تبارك وتعالى عندما أهبط آدم من الجنة وضع له ولذريته قانوناً يحكم البشر منذ عهد آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
فهذا قانون: من اتبع هداي فلا يضل في هذه الحياة ولا يشقى، لا في دنياه ولا في أخراه، والشقاء قد يكون في داخل النفس الإنسانية، وقد يكون في داخل الأسرة، وقد يكون في داخل المجتمع، وإن كان المال وفيراً والخير كثيراً؛ لكن الإنسان يكون شقياً، قال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، أي: في الحياة الدنيا.
وبلاد المسلمين من أكثر بلاد العالم خيراً وثراءً، ومع ذلك فالناس يموتون جوعاً وآخرون يشقون بأموالهم، ولا يستطيعون التصرف في أموالهم تصرفاً حكيماً يذهب البلاء الذي يحيط بهم.
إن العليم الخبير قد شرع لنا تشريعات تصلح النفوس وتصلح المجتمعات، وليست هذه نظريات خيالية، فهذا أمر طبقه المسلمون عبر تاريخهم زمناً طويلاً، وقد يكون التطبيق كاملاً مائة في المائة كما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وقد يكون ناقصاً، وبمقدار تطبيق هذا الإسلام تصلح حياة البشر وتصلح نفوس البشر.
فعجيب أمر المسلمين، فالبلاء يصب من فوقهم، وفي مجتمعاتهم، وربهم يقول لهم: هذا هو العلاج، وهذا هو البلسم والدواء، ومع ذلك نأبى إلا أن نتغنى بحب أمريكا، وبحب روسيا، ومجلس الأمن، وهيئة الأمم، وأن نتغنى بالنظريات التي جاء بها الشرق والغرب، ونأتي بالخبراء من هنا وهناك، والدواء عندنا في خزائننا، وليس دواءنا فحسب، ودواء العالم بأسره، ونأبى كل الإباء أن نتخذ هذا الدين منهجاً ودستوراً وقانوناً يصلح.
والمشكلة أن الذين بيدهم هذه الأوضاع يعلمون أن المسلمين في ديار المسلمين يريدون دين الله وشريعة الله تبارك وتعالى، ولكنهم يأبون إلا أن ينفذوا شرائع البشر وأفكار البشر وقوانين البشر.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله،،،
لن يخسر المسلمون إذا أصروا على تطبيق شريعة الله، وأن يكون تأثير الدين الإسلامي في مدارسهم ومجتمعاتهم كبيراً، ومهما بذلوا في سبيل ذلك من التضحيات فلن يخسروا كثيراً؛ لأن الخسارة في الجانب المقابل أكثر وأعظم بكثير من الخسارة التي يبذلها المسلمون إذا أرادوا تطبيق شريعة الله ودين الله تبارك وتعالى، وأعظم خسارة -كما تشير آيات القرآن- أن غضب الله تبارك وتعالى ينزل بالأمة التي تعرض عن شريعة السماء، وخاصة إذا كان العلم عندها، وكتابها يحدثها، وعلماؤها يخبرونها ويحثونها، ثم تأبى الأمة ذلك؛ فعند ذلك ينتقم الله من عباده بنفسه، أو ينتقم منهم بأعدائهم، أو بالفتن التي تهب في صفوفهم، وهي كافية لأن تجعل غضب الله وانتقامه واقعاً بينهم، وهذا الذي نشاهده من العدوان من أعدائنا علينا في كل مكان، فتجد عدواناً في الهند، وفي الفلبين، وفي كل ديار الإسلام، ثم تجد الفرقة والخصام والنزاع في الأمة، وتجد سقوط الضحايا من المسلمين، فكم سقط من المسلمين بين العراق وإيران؟ وهل كان ذلك بأيدي روسيا وأمريكا واليهود؟! لا، ولكن بأيدي المسلمين أنفسهم.
وكم سقط في اليمن من أناس ينتسبون للإسلام، ويتسمون باسم الإسلام؟!
فقبل خمس عشرة سنة سقطت ألوف مؤلفة، وبالأمس القريب أيضاً سقطت ألوف مؤلفة، والمسلم الذي يتسمى بالإسلام يقتل المسلم أيضاً، وهذه الخسائر بأيدي المسلمين أنفسهم، فهذه فتن كما قالت عائشة : (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) .
فهذه الفتنة لا تقف على طائفة قليلة من الناس، وإنما تعم الصالح والطالح؛ فتصيب هؤلاء وتصيب هؤلاء، فإذا ما بذل المسلمون جهودهم وأفكارهم وأنفسهم لرفعة هذا الدين وتحكيم شريعة الله -مهما كانت الخسائر- فلن تكون أكثر مما يفقده المسلمون بسبب عدم تطبيقهم لهذه الشريعة ولهذا الدين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وألهمنا رشدنا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر