إسلام ويب

نزول عيسى عليه السلامللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله عيسى عليه السلام، وجعله آية من آياته، ومعجزة دالة على كمال قدرته، وهو عبد من عبيد الله، ونبي من أنبيائه، أرسله الله إلى بني إسرائيل، فكذبه اليهود وأرادوا قتله وصلبه، فنجاه الله منهم، ورفعه إليه، وجعل نزوله علامة للساعة، وأخبر الصادق المصدوق أنه ينزل فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام.

    1.   

    عيسى بن مريم والميلاد المعجز

    بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. في رحاب الدار الآخرة. سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الدنيا، وتنبيه الناس وإيقاظهم من غفلتهم ورقدتهم الطويلة، فقد تأتيهم الساعة بغتة فتأخذهم وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون. وهذا هو لقاؤنا الخامس من لقاءات هذه السلسلة العلمية الهامة، وكنا قد أنهينا الحديث -في اللقاء الماضي- عن المسيح الدجال كعلامة كبرى من العلامات التي ستقع بين يدي الساعة، والتي ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال (... فقال المصطفى: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، وهي: الدخان، والدجال ، والدآبة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم). ونحن اليوم على موعد مع علامة أخرى من هذه العلامات الكبرى، وقد سبق أن ذكرنا أن المصطفى قد ذكر هذه العلامات بغير هذا الترتيب، ولكن إذا وقعت علامة من هذه العلامات وقعت العلامات الكبرى بعدها تباعاً، فالعلامات الكبرى كحبات العقد، إذا انفرطت منه حبة تتابعت بقية الحبات، كما قال المصطفى في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط مسلم، وأقر الحاكم الذهبي والألباني من حديث أنس بن مالك ، أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (الأمارات -أي: العلامات- خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً). فنحن اليوم على موعد مع علامة كبرى من هذه العلامات، ألا وهي: نزول عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فأعرني قلبك أيها الحبيب الكريم! وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف نركز الحديث -مع حضراتكم- تحت هذه العلامة في العناصر التالية: أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. ثانياً: بل رفعه الله إليه. ثالثاً: نزول عيسى إلى الأرض من السماء. فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.

    اصطفاء الله لمريم عليها السلام

    أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز. أيها الحبيب الكريم! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه فيقال له: عيسى بن مريم، فـمريم هي الأنثى الوحيدة في الوجود كله التي اختصها الله من بين النساء قاطبة؛ ليودعها سره الأكبر، في أصفى حمل وأعجز ميلاد، ومريم هي الفتاة العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله جل وعلا من بين نساء العالمين، فنفخ فيها من روحه، ومنحها هذه المكانة الرقيقة الرقراقة بين أمهات الدنيا، أمها حنة بنت فاقود ، وصلت سن اليأس، فتمنت على الله أن يرزقها الولد، لأنها تعلم أن الله على كل شيء قدير، فاستجاب الله دعاءها، وتحرك الحمل في بطنها، فأرادت أن تشكر الله على هذه النعمة، فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [آل عمران:35]، نذرت ما في بطنها لله جل وعلا، لخدمة بيت المقدس؛ جزاء ما رزقها الله تبارك وتعالى هذه النعمة، بعدما وصلت سن اليأس. ووضعت هذه البنت الجميلة التقية الطيبة، فنظرت إليها حزينة، وقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ [آل عمران:36]، فهو الذي رزق وهو الذي قدر، قال تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ [آل عمران:36] أي: الطاهرة: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا [آل عمران:36-37]. ثم اختلف الناس في بيت المقدس، من الذي سيكفل مريم؟ من الذي سيتولى رعايتها وتربيتها؟ فقالوا: نضرب القرعة فيما بيننا، ننطلق إلى النهر، وكل واحد منا يلقي قلمه، فأيُّ قلم يعاكس التيار -يمشي في عكس تيار الماء- فصاحب هذا القلم هو الذي سيكفل مريم، فانطلقوا جميعاً وكلٌ ألقى بقلمه، وانجرفت الأقلام كلها مع تيار الماء، إلا قلماً واحداً مشى في عكس اتجاه التيار، فأخرجوا هذا القلم فوجدوه قلم زكريا عليه السلام: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37]. وتعجب زكريا عليه السلام من هذا الطهر والتعبد والزهد والعفاف الذي تحلت به مريم البتول، ومن تلك المكانة العالية التي عند الله عز وجل، فكلما دخل عليها زكريا وجد عندها رزقاً، قال أهل التفسير: وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]. وهكذا أيها الأخيار الكرام! وضع الله مريم في بستان الورع، بين أزهار التقى والعفاف والصلاح والنقاء، وترعرعت هذه الزهرة والنبتة الطيبة، ونشأت مريم في هذا المكان وفي هذا الجو الإيماني الطاهر العفيف، فاصطفاها الله وبشرها بهذه البشارة: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:42-44] وظلت مريم ساجدة، وظلت مريم راكعة حتى أراد الله جل وعلا أن يمنحها تلك المكانة الرفيعة بين أمهات الدنيا، فنفخ فيها جل وعلا من روحه؛ لتنجب عيسى عليه السلام، فبين الله للخلق عظيم قدرته، فكما أنه خلق آدم من غير أب ومن غير أم، خلق عيسى من أم دون أب، وخلق سائر الخلق من أم وأب؛ وليعلم الناس جميعاً أن الله على كل شيء قدير.

    بداية قصة الحمل بعيسى عليه السلام

    في يوم من الأيام خلت مريم بنفسها لقضاء شأن من شئون العذراء الخاصة، وفجأة انحبس صوتها وشخص بصرها، إنها مفاجأة مذهلة تأخذ العقول! بل وتصدع الأفئدة، ما هذا؟! بشر سويٌ في خلوة العذراء البتول الطاهرة؟! وسرعان ما استغاثت بالله، ولجأت إلى الله، ونظرت إليه وقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18]، أي: إن كنت ممن يتقي الله وممن يخشى الله فإني أعوذ بالرحمن منك، ولم تقل: فإني أعوذ بالجبار منك، ولم تقل: فإني أعوذ بالغفار منك، وإنما استجاشت الرحمة في قلبه بذكر اسم الرحمن، فقالت: إني أعوذ بالرحمن منك، أي: ارحم ضعفي! وارحم أنوثتي! وارحم خلوتي!! وكانت المفاجأة الأخرى أن نطق هذا البشر السوي في خلوة العذراء البتول الطاهرة قائلاً لها: لا تخافي ولا تحزني، فأنا رسول من الله إليك: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:19-20]، فهي لا تتصور وسيلة أخرى مطلقاً للإنجاب إلا بهذه الوسيلة: أن يلتقي الرجل مع المرأة، وهي لم تتزوج بعد، ولم تفكر في الرذيلة من ناحية أخرى: قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]. وهنا يأتي هذا الرد الحاسم القاطع، فيقول هذا الملك والرسول الكريم: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21].

    عظيم قدرة الله تعالى

    إنها قدرة الله، يا إخوة! إن من يحاول أن يصل بعقله إلى حدود قدرة الله كمن يحاول أن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر، إن قدرة الله لا حدود لها: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فلا تفكر بعقلك لتصل إلى منتهى قدرة الملك، فإن قدرة الله لا تحدها حدود، ولا يعجز الله شيء في الأرض ولا في السماء، فمن الذي خلق السماء بغير عمد ترونها؟! من الذي خلق الأرض، وشق فيها البحار والأنهار، وزينها بالأشجار؟! من الذي خلق الإنسان بهذا الإبداع والجمال؟! يد من التي امتدت إلى عينيك وأنفك وأذنك، فجعلت ماء الأذن مراً، وماء العين مالحاً، وماء الأنف حامضاً، وماء الفم حلواً، وأصل هذا الماء واحد وهو رأسك أيها الإنسان؟! يد من التي امتدت إلى سنبلة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة الحصينة المكينة، وجعلت فوق كل حبة شوكة؛ لأن الله قد قدر أن تكون هذه الحبة طعاماً لك -أيها الإنسان- ولم يقدر أن تكون طعاماً للطيور أو غير ذلك؟! يد من التي امتدت إلى كوز الذرة فرصت على قولحته هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء بهذا الإتقان والجمال والإبداع؟! يد من التي نجت يوسف من غيابة الجب؟! يد من التي نجت يونس من بطن الحوت؟! يد من التي نجت الحبيب المصطفى ليلة الهجرة؟! يد من التي نجت الخليل إبراهيم من وسط النيران؟! إنه الله، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:22-23]. قل للطبيب تخطفتـه يـد الـردى يا زاعماً شفا الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدمـا عجزت فنون الطـب من عافاك قل للصحيح يموت لا مـن عـلة من بالمنايا يـا صـحيح دهـاك قل للبصير كـان يحـذر حفـرةً فهوى بها من ذا الـذي أهـواك بل سائل الأعمى خطاً وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاك وسـل الجنيـن يعيش معـزولاً بـلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا ء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسله من ذا بالسموم حـشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يـملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك إنه الله!! قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]، انتهى الأمر وقدره الله عز وجل. كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامـة تسـليك عما قد مضى فلـربما اتـسع المضيق وربـما ضـاق الفضا الله يفـعل مـا يشاء فـلا تـكن مـتعرضا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:21] فهو الذي خلق الخلق، خلق آدم يوم خلقه بلا ذكر أو أنثى، بلا أب أو أم!! الأمر لا يحتاج إلى تفلسف أو تعمق على الإطلاق: قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]، لا جدال فيه ولا نقاش ولا نزاع، فاطمأنت العذراء الطاهرة، وانشرح صدرها، واطمأنت نفسها وسكن فؤادها، وعلى الفور نفخ جبريل في جيب درعها -أي: في أعلى القميص- فحملت بأمر ربها: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12].

    ظهور الحمل والمخاض

    ثم ظهر الحمل، والراجح من أقوال المفسرين أن الحمل بعيسى كان حملاً عادياً تسعة أشهر، وإن كنا لا نشك أبداً أن الله جل وعلا قادر أن يجعل مريم تحمل بعيسى وتضعه في لحظة واحدة، نحن لا نشك في ذلك، لكن الصحيح الثابت من أقوال جماهير المفسرين: أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر. وبدأت بوادر الحمل كما هو معلوم للجميع، وهنا نظر يوسف النجار ذلكم الرجل الذي كان يخدم بيت المقدس مع مريم، نظر إلى بطنها تعلو يوماً بعد يوم فيتعجب! ولكن يدفع عن نفسه هذه الخواطر لعلمه بطهر مريم، ولكنه لم يستطع السكوت فقال لها: يا مريم! إني سائلك عن شيء ولا تعجلي علي، فقالت مريم: سل عما شئت يا يوسف ، وقل قولاً جميلاً. فقال لها: يا مريم! هل ينبت زرع بغير بذر؟! وهل ينبت شجر بغير غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟!!! فقالت مريم: نعم يا يوسف. قال: كيف ذلك يا مريم؟!! فقالت: يا يوسف ! ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم أنبته بغير بذر؟! وأنبت الشجر يوم خلقه بغير غيث أو مطر؟! وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم؟! قال يوسف : أشهد أن الله على كل شيء قدير! وجاء مريم المخاض، وأوشكت على أن تضع هذا الرضيع وهذا الوليد، فخافت وخشيت الفضيحة، فحملت حملها في بطنها، وانطلقت إلى مكان بعيد: فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23] ولك أن تتصور امرأة ضعيفة تضع لأول مرة، لا يوجد معها أحد إلا الملك، ويا لها من معية، تضع رضيعها عليه السلام، وتبكي مريم وتقول قولاً يقطع الأكباد: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، ماذا أقول للناس؟! لن يصدقني أحد. وتبكي مريم، وفي وسط هذه المحنة وهذه الآلام التي تدك الجبال دكاً، تسمع صوتاً رقراقاً رقيقاً جميلاً يسكب في قلبها الأمل، ويثبت في قلبها اليقين، يا إلهي!! من صاحب هذا الصوت؟! إنه صوت الطفل الرضيع.. إنه صوت عيسى الذي ولد منذ لحظات! ينادي على أمه بهذه الكلمات الطيبة، ويقول لها: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:24-26]، لقنت الحجة، وثبت الفؤاد، فحملت هذا الطفل المبارك الميمون الطاهر بكل قوة، وانطلقت به تحمله إلى قومها. والتف القوم حولها.. يا للفضيحة!! يا للعار!! يا مريم!! يا أخت هارون في الزهد والورع والتقى والعبادة! مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28] يا للعار! تحملين من الزنا، وبكل بجاحة تأتين بهذا الولد إلينا؟!! يا للفضيحة!! فلما ضاق الحال، وانحصر المجال، وانقطع المقال، عظم التوكل على ذي العظمة والجلال، فأشارت إليه فأنطقه الله في الحال: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:29-36].

    حمل المسيح وولادته يدلان على أنه عبد الله

    أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه ويا عجباً لقبر ضـم ربـاً وأعـجب منـه بطن قد حواه أقام هناك تسعاً من شهـور لدى الظلمـات من حيض غذاه وشـق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفـاً فـاتحاً للـثدي فـاه ويـأكل ثم يشـرب ثم يأتي بـلازم ذاك هـل هـذا إله تعالى الله عن إفك الـنصارى سيـسأل كـلهـم عـمـا افتراه لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، وصدق الله إذ يقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، لا ند له، ولا ضد له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا زوج له، ولا ولد له، ولا والد له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. لا أريد أن أطيل في هذا العنصر لأعرج على بقية العناصر، وإلا فوالله إنه يحتاج إلى لقاء مستقل، بل إلى لقاءات، ولكن أرى أنه من الجمال أن أختم هذا العنصر بهذا الحوار المبارك الكريم، الذي يبرئ به ربنا ساحة نبيه عيسى في آخر سورة المائدة فيقول سبحانه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118].

    1.   

    بل رفعه الله إليه

    ثانياً: بل رفعه الله إليه. زعم اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة- أنهم قتلوا عيسى بن مريم وصلبوه، وزعم النصارى -بجهل وغباء- أن عيسى قتل وصلب ودفن، وخرج من قبره بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه! وهو ينتظر إلى يوم الخلاص؛ ليقضي بين الأحياء والأموات!! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]. فبين الله الحق، وكذّب اليهود والنصارى فقال سبحانه: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:157-159]. قال أهل التفسير: إن الله عز وجل لما أراد أن يرفع إليه نبيه عيسى إلى السماء، بعدما انطلق اليهود لقتله، ألقى الله شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الخائن، الذي أخذ اليهود ليدلهم على مكان نبي الله عيسى، فابتلاه الله فألقى عليه شبهه، فأخذه اليهود فقتلوه وصلبوه. هذا قول. القول الآخر: ما جاء عن ابن عباس -كما روى ذلك ابن أبي حاتم والنسائي بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء- أنه قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى البيت في اثني عشر رجلاً من الحواريين -أي: من حوارييه وأنصاره- فخرج عليهم نبي الله عيسى، وقال: إن منكم من سيكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال لهم: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي؛ ليقتل مكاني فيكون معي في درجتي في الجنة، فقام أحدثهم سناً وقال: أنا، فقال له نبي الله عيسى: اجلس، فجلس، ثم أعاد عيسى القول مرة ثانية، فقام نفس الشاب، فقال له عيسى: اجلس، فجلس، ثم أعاد عيسى قوله للمرة الثالثة، فقام نفس الشاب فقال عيسى: هو أنت، فألقى الله على هذا الشاب شبه عيسى، ورفع الله عيسى إلى السماء. وجاء الطلب من اليهود -أي: الذين يطلبون عيسى لقتله- فأخذوا هذا الشاب فقتلوه وصلبوه، فكفر بعض أتباع عيسى ممن آمنوا به كما ذكر لهم من قبل.

    1.   

    الحكمة من نزول عيسى عليه السلام

    ثم ينزل الله عز وجل عيسى بعد ذلك؛ لحكم عديدة منها: أن الله تبارك وتعالى سينزل عيسى عليه السلام؛ ليكذب اليهود الذين زعموا أنهم قتلوه، وليكذب النصارى الذين جهلوا هذه الحقيقة، وليبين للناس جميعاً أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأن الموحدين معه من أمته أولى الناس بعيسى؛ لأنه سيحكم العالم كله بكتاب الله وبشريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، روى ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وسيكون موته في الأرض. وقد يقول قائل: فما قولك إذاً في قول الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]؟! والجواب كما قال جمهور المفسرين: إن الوفاة في الآية معناها الوفاة الصغرى وهي النوم، كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60]. وكما في قول الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] وكما في قول المصطفى إذا استيقظ من نومه: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) فقوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي: ألقى الله عليه سِنَةً من النوم، وهذه هي الوفاة الصغرى باتفاق، ثم رفعه الله عز وجل، ثم ينزله الله تبارك وتعالى بعد ذلك في الوقت الذي يشاء. قال ابن عباس : فانقسم الناس في رفع عيسى إلى ثلاث فرق: فقالت فرقة: كان فينا الله -والعياذ بالله- ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء هم اليعقوبية، وهي فرقة من فرق النصارى. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء هم النسطورية. وقالت فرقة ثالثة: كان فينا عبد الله ورسوله، ما شاء الله له أن يكون ثم رفعه الله إليه، ثم ينزله إذا شاء، وهؤلاء هم المسلمون. قال ابن عباس : فتظاهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المسلمة، فقتلوا الفرقة المسلمة، ثم طمس الإسلام ولم يظهره الله إلا ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبين لنا الحق في هذه القضية، وقرأ علينا قول ربنا جل وعلا: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] إلى قوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] إلى قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159] أي: ليؤمنن بعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]. والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    1.   

    نزول عيسى إلى الأرض من السماء

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد:

    نزول عيسى علامة للساعة

    فيا أيها الأحبة الكرام! بين لنا الحق جل وعلا أنه رفع عيسى إليه إلى يوم الوقت المعلوم، الذي سينزله فيه مرة أخرى إلى الأرض؛ ليكون علامة كبرى على قيام الساعة، فقال تبارك وتعالى في سورة الزخرف مخاطباً نبيه المصطفى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57]، إلى قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61]. وفي قراءة ابن عباس ومجاهد (وإنه لَعَلَم للساعة) فنزول عيسى علامة وأمارة على قيام الساعة. (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أو: (وإنه لَعَلَم)، أي: لعلامة وأمارة على قيام الساعة. بل وروى ابن جرير بسند صحيح أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وَإِنَّهُ لَعلمٌ لِلسَّاعَةِ) هو خروج عيسى عليه السلام، فإن نزل فهذه علامة كبرى تدل على قرب قيام الساعة، وقال تعالى في الآية التي ذكرت آنفا: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] أي: قبل موت عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام. وقد بينت السنة الصحيحة المتواترة نزول عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- إلى الأرض من السماء. تدبر معي بعض هذه الأدلة: ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد). قوله: (والذي نفسي بيده) قسم من المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً) أي: عادلاً (فيكسر الصليب) ليبطل زعم النصارى: أن هذا الصليب هو الذي صلب عليه عيسى -تعالى الله عما يقولون- قوله: (ويقتلُ الخنزير) أو: (ويقتلَ الخنزير) واللغتان صحيحتان، قوله: (ويضع الجزية ويفيض المال)، أي: يكثر المال حتى يخرج الرجل بماله وبصدقته يتمنى أن يمر عليه فقير؛ ليأخذ الصدقة فلا يجد، اللهم عجل بهذه الخيرات والبركات يا رب الأرض والسماوات!

    صفات عيسى الخَلْقية والخُلُقية

    أيها الحبيب! لا تعجب إذا قلت لك: بأن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، قد بين وحدد لنا شكل عيسى ووصف لنالونه ووجهه عليه السلام، بل وثيابه ورأسه وعرقه، وفي أي مكان ينزل. اسمع ماذا قال الحبيب! والحديث رواه أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، إنه رجل مربوع -أي: ليس بالقصير ولا بالطويل ولا بالنحيف ولا بالسمين- إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر ماء من غير بلل). وفي رواية النواس بن سمعان في صحيح مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين)، وفي رواية: (بين ممصرتين أو مهرودتين -أي: ثوبين مصبوغين بصفرة خفيفة يسيرة- واضعاً كفيه على أجنحة ملكين). ثم يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ) أي: إذا رفع عيسى رأسه نزلت حبات من الماء على وجهه كحبات لؤلؤية فضية بيضاء، وإذا رفعه تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ، وصف عجيب! وينطلق نبي الله أول الأمر إلى بيت المقدس -اللهم طهره من دنس اليهود يا عزير يا حميد- وأبشر أيها الحبيب! فهناك حيث حاصر الدجال المسلمين حصاراً عنيفاً، وفتن المسلمين فتنة قاسية شديدة، قال المصطفى: (فينزل نبي الله عيسى على المسلمين الموحدين -من أتباع سيد النبيين- وهم يصلون صلاة الصبح)، فإذا رأى الإمام الفطن الذكي نبي الله عيسى عرفه فتقهقر -أي: أراد أن يرجع إلى الخلف- ليتقدم نبي الله عيسى، فيقول له نبي الله: لا، ويأخذه من كتفه ويقدمه، ويقول: صل أنت فإن الصلاة لك أقيمت، فإن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله لأمة محمد)، أي: تكرمة الله لهذه الأمة الميمونة المباركة، فمن بين أضلاع هذه الأمة من يصلي إماماً بنبي الله عيسى!

    قتل عيسى للدجال

    يا لها من كرامة! لأمة الحبيب المحبوب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم: (فيصلي نبي الله عيسى خلف إمام المسلمين، فإذا انتهوا من الصلاة انطلق نبي الله عيسى إلى باب بيت المقدس، وأمرهم أن يفتحوا الباب، فإذا فتحوا الباب رأوا الدجال خلف الباب، معه سبعون ألف يهودي بالسيوف، فإذا نظر الدجال إلى نبي الله عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيتبعه نبي الله عيسى ويمسك به عند باب لد الشرقي) انظر إلى التحديد العجيب! ولد: مدينة معروفة الآن بفلسطين، (فيقتله. ثم يريد أن يثبت لهم أنه قتله، فيري نبي الله عيسى دم الدجال على رأس حربة) كما في رواية. وهكذا أيها الأخيار! يريح الله المؤمنين من شر الدجال على يد نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام، وتعيش الأرض بعد قتل وهلاك يأجوج ومأجوج -كما سأفصل إن شاء الله بعد ذلك- حالة فذة.. حالة فريدة في تاريخ البشرية كله، ينزل الأمن والرخاء والاستقرار، وتخرج الأرض بركتها، حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو وضعت حبك على الصفا -أي: على الحجر- لنبت).

    1.   

    الرخاء بعد مقتل الدجال

    جاء في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان، وصحح السند الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (فيهلك الله في زمان عيسى الملل كلها إلا الإسلام).. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وكما وعد في قرآنه: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]: (فيهلك الله الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله المسيح الدجال ، وتنزل الأمنة في الأرض -أي: الأمان- حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم) الله أكبر! وفي حديث أبي أمامة وسنده صحيح، قال المصطفى: (فيكون الذئب مع الغنم كأنه كلبها، ويمر الوليد على الأسد فلا يضره، وتمر الوليدة على الحية فلا تضرها)، رفع الظلم واستقر الأمن والأمان والرخاء، وزادت البركة، وكثر الخير. بل وفي رواية النواس بن سمعان قال صلى الله عليه وسلم: (فيقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، ويبارك في الضرع حتى إن اللقحة من الإبل -وهي التي وضعت ولدها حالاً- لتكفي الفئام من الناس -أي: لتكفي الجماعة الكبيرة من الناس- وإن الرمانة لتكفي الفئام من الناس، وإنهم ليستظلون بقحطها) بكسر القاف أي: بقشرة الرمانة. بركة عجيبة! فهذه الرمانة التي تراها في يدك، سترى لها حجماً آخر في أوقات البركات التي تتنزل على الأرض من رب الأرض جل وعلا. وهكذا -أيها الأحبة- تعيش الأرض حالة فريدة، وفي الحديث الذي رواه الديلمي والضياء المقدسي وصححه الألباني في الصحيحة من حديث أبي هريرة، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعيش بعد المسيح! طوبى لعيش بعد المسيح! يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في الإنبات، حتى لو وضعت حبك على الصفا -أي: على الحجر- لنبت)! وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن يملأ قلوبنا وإياكم إيماناً باليوم الآخر، وأن نأخذ هذا الكلام مأخذاً يجعلنا مستعدين لذلك اليوم وتلك اللحظات، وللقاء رب الأرض والسماوات، فإن الحديث عن الآخرة وعلاماتها ليس من باب الترف الفكري، ولا من باب الثقافة الذهنية الباردة، وإنما الإيمان باليوم الآخر وعلاماته ركن من أركان الإيمان. أسأل الله أن يملأ قلوبنا وإياكم إيماناً به، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً. اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين ولا مغيرين ولا مبدلين. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء برحمتك يا رب الأرض والسماء! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن إنك على كل شيء قدير. أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه، ثم يلقى في النار. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768285430