وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض-: أنه قال رجل في غزوة تبوك: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء). يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك : كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر : كأني أنظر إليه متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]) ما يلتفت إليه وما يزيده عليه ].
والاستهزاء معناه: أن يسخر به، وليس لازماً أن يكون مجداً في سخريته، بل ولو كان على وجه المزاح المزح وما يضحك به القوم فإنه يكون بذلك كافراً كما دلت الآيات على ذلك.
والاستهزاء بالله: أن يكون بشيء من صفاته أو من أسمائه أو من أفعاله.
وأما الاستهزاء بالقرآن والسخرية به فكأن يسخر من آية منه، أو من معنىً من معانيه، أو من حكم من أحكامه.
وأما الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم فكأن يستهزي بشيء من صفاته الخلقية أو الخلقية، أو بشيء مما يأمر به ويفعله أو ينهى عنه، كل هذا يدخل في الاستهزاء.
وذكر المؤلف أن سبب نزول هذا الآية: أن قوماً قالوا هذه المقالة في غزوة تبوك، وقد كانت في السنة التاسعة، وعوف بن مالك يسمعهم، قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء، والقرآء: هم حفظة القرآن الذين يعرفون معانيه ويعملون به، هذا هو الذي يسمى قارئاً في لسان السلف، أما من يحفظه وهو لا يعرف معانيه فهذا ليس بقارئ، ولم يطلق عليه ذلك إلا لما جُهلت اللغة، وضاعت لغة العرب في لغة العجم واختلطت، وصار الناس لا يعرفون معاني القرآن لهذا السبب.
قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء -يعنون: الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم- أكذب ألسناً وأرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء، والواقع خلاف هذا كله، وإنما قاله من قاله ليضحك به القوم على سبيل المزاح، وهذا هو السخرية؛ لأن المزح واللعب لا يكون محله دين الله ولا شرعه ولا رسله ولا كتبه، وقوله في هذا: (من استهزأ بشيء فيه القرآن أو الرسول) لا يقصد به القرآن خاصةً ولا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم فقط، بل جميع الرسل وجميع الكتب التي أنزلها الله جل وعلا والشرع الذي أنزله على عباده داخل في ذلك.
أما ذكر الله فيدخل فيه ما ذكر من أسمائه وصفاته وآياته الكونية والشرعية، وكذلك حكمه الكوني القدري الذي يتضمن الخلق، كأن يستهزئ بكون الله جل وعلا خلق الذباب مثلاً، أو بأنه خلق الحيات، أو خلق العقارب المؤذيات، أو ما أشبه ذلك مما قد لا تظهر حكمته لكثير من الناس، أو استهزأ وسخر بأن بعض الناس عقولهم قاصرة ثم يتحصلون على أموال طائلة في الدنيا، وأن غيرهم قد يكونون أعلم منهم ولا يحصل لهم شيء من ذلك، كما يحدث لبعض الزنادقة من الشعراء وغيرهم، فإن هذا من السخرية التي تجعل الإنسان كافراً. نسأل الله العافية.
وأما الآيات الشرعية فكأن يسخر من سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي يسخر -مثلاً- من تربية اللحية وهو يعرف أنها سنة، أو يسخر من السواك وهو يعرف أنه سنة، أو يسخر من أي سنة من السنن التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبتت في كتاب الله جل وعلا.
وأما السخرية بمن يحمل الدين ويعمل به فإن قصد بسخريته السخرية به في ذاته وليس لتدينه، فهذا له حكم غيره من الاستهزاء بالناس، وهذا من الأمور المحرمة ولا يكون بذلك كافراً.
وكذلك الآيات التي أنزلها ربنا جل وعلا على رسله، كأن يقول مثلاً: وهذه أحكام لا تناسب الوقت الحاضر، لا تناسب التمدن ولا تناسب تقدم الإنسان وحضارته، فإن هذا كفر بالله جل وعلا، وإن كان مسلماً فهو يرتد بذلك، وإن كان كافراً من الأصل فيجب أن يمنع إذا كان عند المسلمين مقدرة على منعه، أو أن يسخر بأن المرأة لا تأخذ من الإرث إلا نصف ما يأخذ الرجل، وهذه أمثلة وإلا فالأمر في هذا واسع.
وأما اللعب فكأن يذكر الأمور على سبيل المزح الغير مقصود، وإنما يقول مزحاً أو يقول كلاماً لا يعرف معناه أو لا يقصد معناه؛ لأن آيات الله ورسول الله وكذلك أسماء الله وصفاته ليست محلاً للعب، بل يجب أن تعظم غاية التعظيم وتحترم وتقدر، ولهذا أمر الله جل وعلا بتقديره وبتعظيمه وكذلك تعظيم شرعه وتعظيم رسله، فهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية جاء أن منهم من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر ويقسم بالله أنه ما أراد حقيقة الكلام ومدلوله، وإنما قال ذلك على سبيل الترويح عن النفس؛ لأن المسافر يتعب فإذا ذكر شيئاً فيه ترويح عن النفس يجد نشاطاً، فهو يقول: أردنا هذا فقط، ومع ذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يقبل عذره، وصار لا يزيد على قول الله جل وعلا: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66].
وقول ابن عمر : (كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قدميه لتنكب الحجارة)، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ارتحل بعد هذه المقالة، وصار أحدهم ممسكاً بناقة رسول الله، والنسعة: هي الحبل الذي يمسك رحل الناقة من الخلف، وقد يدخل من تحت ذنب الناقة لئلا يسقط الرحل إذا نزلت في منخفض، فهو ممسك به للمبالغة في الاعتذار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسرع في سيره، وأرجل هذا الرجل تضرب الحجارة، وهو لا يلتفت إليه ولا يزيد على أن يتلو عليه قول الله الذي أمره أن يقوله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فهو لا يزيد على ما قال الله جل وعلا له، ولم يقبل عذره، ولم يقبل أنه ما كان قاصداً، فدل هذا على أن عدم قصد الحقيقة بالكلام والسخرية واللعب يكون كفراً، وقوله جل وعلا في هذا: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] الذي ذكر أنهم قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء! فهم وصفوهم بالقراءة، وبحفظ القرآن، ومن أجل ذلك قالوا لهم هذا القول، وقولهم: (أرغب بطوناً) يعني: أن بطونهم كبيرة واسعة، ومعنى: (أرغب بطوناً) أي: أكبر بطوناً، يأكلون أكلاً كثيراً، وهذا كذب.
(وأكذب ألسناً) الكذب يكون في المنافقين، والصحابة قد وصفهم الله جل وعلا بأنهم صادقون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم.
وقولهم: (أجبن عند اللقاء) الجبن: هو خلق يدعو من اتصف به إلى الهروب عن لقاء العدو؛ خوفاً من القتل، وهذا أيضاً من الكذب، وكونه قولاً على خلاف الواقع ضحك بعضهم منه، فهذا الذي قال الله جل وعلا: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65] لأن هؤلاء تحلوا بما أمرهم الله جل وعلا، واتصفوا به، فحفظوا القرآن وعملوا به، والقرآن يأمر بالصدق، ويأمر بترك الرغبة في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ويأمر بقتال الكفار وأن يكونوا في قتالهم كالبنيان المرصوص لا يتزعزعون، وهم يمتثلون ذلك، فهذا القول صار سخرية؛ لأنه خلاف الواقع وكذب.
وقد جاءت الآثار أنهم قالوا أكثر من هذا، وأن منهم من قال: يرجو هذا الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يهزم الروم أو يقتل الروم، وهم يحسبون قتال الروم كقتال العرب! فكأننا بهم غداً مقرنين في الحبال؛ يقولون هذا جبناً، وكذلك يقولونه حتى يرهبوا المسلمين؛ لأن هذه المقالة لا تصدر إلا من منافق لا يريد الحق، ولا يحبه، ولا يريد انتصاره.
وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ناقته فقال قائل منهم: هذا يزعم أنه يخبر عما في السماء وهو لا يدري أين ناقته!
وهذه كلها يجوز أن تكون وقعت في وقت واحد، ويجوز أن يكونوا قالوها في أوقات متفرقة ونزلت الآية بها.
وجاء ضد ذلك: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الحق لا يلقي لها بالاً يكتب الله جل وعلا له بها رضاه)، فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه، وأن لا ينطق إلا بالشيء الذي يعرف أنه ينفع.
وقوله جل وعلا: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] يدل على عدم قبول العذر في هذه الأمور، والمعتذر هو النادم الذي يظهر التوبة والأسف على ما فرط منه، فيبدي عذراً له أنه ما قصد الحقيقة، ومع هذا منع الله جل وعلا قبول عذره.
وقوله: قَد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66] يدل على بطلان قول من قال: إن هؤلاء الذين قالوا هذا القول منافقون؛ لأن المنافق لم يزل كافراً، وإنما يظهر الإيمان بلسانه، وقول الذين نصروا هذا القول بأن معنى قوله: (كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان بألسنتكم، وهذا لا يصح؛ لأنهم قالوا هذه المقالة فيما بينهم، ولم يزالوا مظهرين ذلك لخواصهم، وبعضهم لبعض، وإنما يدل على أنهم كان عندهم إيمان، ولكن إيمانهم كان ضعيفاً ليس قوياً بحيث يمنعهم أن يقعوا في مثل ما وقعوا فيه؛ لأن المؤمن الإيمان القوي لا يدخل في مثل هذا؛ لأن هذا ليس محلاً للخوض واللعب، وإنما هذا محله التعظيم والتقدير والعمل والإيمان.
وقوله جل وعلا: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:66] الطائفة يصح أن تقع حتى على الرجل الواحد، فيصح أن يقال للواحد: طائفة.
وقد جاء أن اثنين منهم جاءوا يعتذرون ويقولون: إننا لم نتكلم وإنما حضرنا، وقد أنكر من أنكر منهم وقال: ووددت أننا نقاضى على كل كلمة نتكلمها كل واحد منا يضرب مائة سوط وأن لا ينزل فينا القرآن.
وجاء عن رجل يقال له: مخشي بن حمير أنه هو الذي كان يعتذر، ومع ذلك لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره، وكان يقول: إني أسمع آيةً تتلى في كتاب الله أنا المعني بها تقشعر منها الجلود، وكان يسأل ربه ويقول: اللهم اجعل موتي قتلاً في سبيلك حتى لا يقول قائل: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت.
وذكروا أنه لما كان يوم اليمامة تتبعوا القتلى الذين قتلوا من الصحابة فوجدوهم إلا هذا الرجل لم يعثر له على أثر وجثة، ولعل هذا هو الذي أراده جل وعلا بقوله: (نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) أي: أن الله عفا عنه.
وقوله: (نُعَذِّبْ طَائِفَةً)يعني: أن هؤلاء يصيبهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة، أما عذاب الآخرة فهو بعد الحياة عند الموت.
وقوله: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الإجرام: هو ارتكاب الجرم والذنب العظيم، وهذا من أعظم الذنوب: الاستهزاء والسخرية واللعب بآيات الله، أو بشيء فيه ذكر الله، أو شيء فيه دين الله وشرعه، وهذا في الواقع قد يكون باللسان، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالقلب نفسه، وقد يشتمل على أمور تكون مكفرة ومخرجة من الدين الإسلامي؛ كعدم الاقتناع بالدين، وأنه دين باطل، وأن غيره أحسن منه؛ لأنه حكم بكذا.. وأمر بكذا.. ونهى عن كذا.. ولو لم ينطق بذلك، إذا كان هذا في قلبه فإنه يكفيه في الهلاك أنه داخل في ذلك، وإنما الواجب على العبد أن ينقاد لتعظيم شرع الله، ويمتثل له، ويكون مستسلماً خاضعاً لربه جل وعلا، معظماً لأمره، مجتنباً لنهيه، وأن يحذر أشد الحذر أن يقع في شيء مما يذهب بدينه، ويكون سبباً لهلاكه.
وفي هذه القصة مع الآية دليل على أن الجاهل لا يعذر بجهله في كل شيء، وإنما العذر في بعض الأمور، بل يجب عليه أن يتعلم ويعمل، فإن قصر في ذلك فهو الملوم.
قوله: وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].
قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى مثل قرائنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66])، وإن رجليه ليسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال
وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مخشي بن حمير ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال؛ إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لـعمار بن ياسر : (أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا، فانطلق إليهم
وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: كان رجل ممن -إن شاء الله- عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آيةً أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود، ويجب منها القلب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره ].
رواية ابن عمر : أن عوف بن مالك سمع هذه المقالة فجاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواية أخرى: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل
ثم المقالة التي اعتذروا منها كلهم يقولون: إننا ما قصدنا الحقيقة، وإنما قصدنا الترويح عن أنفسنا، وأن نقطع بهذا الكلام وعثاء الطريق؛ لأن الإنسان إذا تروحت نفسه تنشط وذهب الكلال والتعب، وهم يقولون: هذا الذي قصدناه، وما قصدنا الحقيقة، ولكنهم أخطئوا؛ لأن هذا محله التعظيم، وليس محله الهزل واللعب، ولذلك قيل لهم: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:66]، والآية صريحة واضحة في أنهم كانوا مؤمنين قبل هذه المقالة، وأن الكفر وقع لهم بسبب هذا القول.
قد يقال: لماذا ما أقام عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الحد؛ لأن أمرهم ظهر وهو كفر، ومن كفر بعد إيمانه يقتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والمبدل لدينه المفارق للجماعة)، فالذي يبدل دينه يكفر بعد إيمانه، ويجب أن يقتل إلا أن يتوب؟ وأجيب بأنهم -كما ذكرنا- اعتذروا وقالوا: ما قصدنا الحقيقة، وأظهروا التوبة والندم، فإذا كانوا كذلك فيقال لهم: هذا ليس محله، ولكن عذرهم غير مقبول، ويوكل أمرهم إلى أن يظهر من أفعالهم هل كانوا تائبين أم أنهم مصرون على الكفر؟ هذا أمر.
وهذا الذي أخذ منه العلماء: أن الشريعة الإسلامية جاءت بتنمية المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وحصرها مهما أمكن، وإذا صار الأمر دائراً بين مفسدة ومصلحة فينظر إن كانت المفسدة أغلب فإنه يترك، وهذا من هذا القبيل، ولا يكون فيه دليل على أن المستهزئ والساخر أو المكذب لدينه لا يقتل؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، وكذلك كلام الله جل وعلا.
[ قوله: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: بهذا المقال الذي استهزأتم به.
(إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ) أي: مخشي بن حمير .
(نُعَذِّبْ طَائِفَةً) أي: لا يعفى عن جميعكم، ولابد من عذاب بعضكم.
(بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) أي: مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى ].
أي: أن حديثهم هذا الذي وقع بعضهم مع بعض ليس مع غيرهم، فلا يقال: إنهم أظهروه للناس؛ لأن هذا شأنهم دائماً في جميع حالاتهم، وإن كان حضرهم من حضرهم كـعوف بن مالك وأنكر عليهم، وإنما كانوا يتحدثون بعضهم مع بعض.
قال الشارح رحمه الله: [ وقال رحمه الله في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:47-51]، فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان. انتهى ].
قال الشارح رحمه الله: [ وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطراً إرادات القلوب، فهي كالبحر الذي لا ساحل له، ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة ].
أما النفاق الأكبر: فهو بغض الحق وكراهيته، كبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض بعضه، أو كأن يود ويفرح ألا ينتصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يظهر، أو يود أن دين الكفار يظهر وينتصر على الإسلام، فمن كان عنده واحدة من هذه الأمور فهو من المنافقين الذين يخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وكان مع المسلمين.
وهذا النفاق يكون في القلوب، فهو من أعمال القلوب لا يظهر، ولهذا كان الصالحون المتقون يخافون أن يكون عندهم شيء من ذلك، حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان الذي قيل له: أنت صاحب السر، يقول: أسألك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً، يعني: لو سألني أحد أن أخبره أنه سماه أو ما سماه لما أعلمته.
وحذيفة رضي الله عنه أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض أسماء المنافقين، وذلك عند رجوعه من غزوة تبوك، حين مر بعقبة في جبل، ومسلكها كان صعباً وضيقاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني سالك هذا الطريق، أي: لا يذهب معه أحد، فانتهز بعض المنافقين الفرصة وقالوا: الآن نتمكن من قتله، فذهبوا وكمنوا في أثناء الطريق في وسط الجبل، يريدون أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيسقط في هذا الجبل، فأمر
والله جل وعلا أنزل في هذه الغزوة سورة التوبة، وفيها كثير من الآيات تبين أوصافهم، ولهذا يسميها الصحابة: الفاضحة؛ لأنها فضحتهم، يقولون: لم يزل الله جل وعلا يقول: ومنهم.. ومنهم.. حتى تبين بأوصافهم لهم كثيراً منهم، وعدم ذكرهم بأسمائهم سببه تأليف الناس؛ لأن هؤلاء كانوا من قبائل الأنصار، غير أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد تقوى الإيمان وعظم واعتز، فلم يجدوا بداً من المصانعة، وقلوبهم منطوية على التكذيب.
وبعض العلماء يقول: إنهم انتهوا في الأخير؛ لأن الله جل وعلا يقول: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [الأحزاب:60]، فالله جل وعلا لم يغره بهم، فدل على أنهم انتهوا عن أفعالهم في آخر الأمر، وبقي قليل منهم، ولكن الأوصاف التي ذكرها الله جل وعلا فيهم كثيرة، وهي تبينهم في كل وقت، وقد ذكرها في سورة التوبة وكذلك في سورة المنافقون، وقد ذكر من أوصافهم أشياء عجيبة، بحيث أنه ذكر أنهم لهم أجسام، ولهم مناظر حسنة، ولهم فصاحة وبلاغة في كلامهم وخطابهم؛ لأنه جل وعلا يقول: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] تعجبك أجسامهم: في مناظرهم وملابسهم، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] يعني: لفصاحتهم وبلاغتهم، ويقول: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79]، ويقول: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49].
والمقصود: أن تسمية حذيفة : صاحب السر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر إليه بعض أسماء المنافقين وليس كلهم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا؟ فإن صلى عليه صلى عليه.
وكون الصحابة رضوان الله عليهم يخافون من النفاق؛ لأن القلب قد يعمل أعمالاً يخشى أن يكون خالف فيها الحق، أو كره الحق فيها، فيخشى أن يكون منافقاً، ولهذا كان الحسن البصري رحمه الله يقول: والله ما خافه إلا مؤمن -يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن- ولا أمنه إلا منافق. يعني: الذي يأمن النفاق على نفسه يكون منافقاً، أما الذي يخاف أن يكون منافقاً فهو المؤمن.
ومن ذلك قول ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه أن يكون منافقاً. ومن النفاق أن تحب إنساناً على شيء من الباطل فهذا نفاق، أو تكره إنساناً على شيء من الحق فهذا نفاق.
فالنفاق فيه كبير وفيه صغير، فيه مكفر وفيه مفسق، فيه ما يكون كفراً وخروجاً من الدين، وفيه ما يكون فسقاً وكبيرة من كبائر الذنوب.
الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا أنه كافر ].
يعني: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو هزل بالقرآن أو بشيء من القرآن.
والمقصود بالذي فيه ذكر الله: إما بأسمائه أو صفاته، أو آياته الكونية الخلقية، أو دينه وشرعه الذي شرعه كأمره ونهيه.
وإذا كان الهزل كفراً فكيف الذي يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أو يسب القرآن أو يسب الدين؟ هذا أعظم من السخرية، ولهذا إذا صدر ذلك من إنسان إن كان هذا بالنسبة للرسول فإنه يجب أن يقتل على كل حال، سواء تاب أو لم يتب، حتى وإن تاب وأظهر الندم فيجب أن يقتل، ولا تقبل توبته ظاهراً، وإذا قتل إن كان تائباً ومظهراً التوبة فيصلى عليه، ويدفن مع المسلمين.
أما إن كان سباً للدين أو لله جل وعلا فإنه إذا تاب تقبل توبته، وليس معنى ذلك أن مسبة الرب جل وعلا أسهل من مسبة الرسول، بل هي أعظم، ولكن لأن الله جل وعلا أخبر أنه قبل توبة التائبين من الذين يسخرون ويكفرون، فإذا كان جل وعلا قبل التوبة فليس للخلق اعتراض على ذلك.
وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يأمر بالذين يسخرون منه بأن يقتلوا.
المقصود: أن الذي يقع منه استهزاء بدين الله أو بشيء من آياته، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو بمن يحمل الدين ويقول به ويعمل به، أن حكمه حكم أولئك، هذا معنى تفسيرها؛ لأن الآية لم تنزل في أناس معينين، فإن السبب وإن كان خاصاً، إلا أن اللفظ والحكم عام في الأمة إلى يوم القيامة.
المقصود: هو قول عوف بن مالك حين قال: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يخبره، نقول: هذه ليست من الغيبة والنميمة، وإنما هذه نصيحة، فالذي يقع في المعصية مرتكباً لها ويعرف أنه قاصد لذلك فيبلغ أمره إلى ولي الأمر؛ حتى يردعه ويمنعه، ويقيم عليه الحد الذي يستحقه، ولا يكون ذلك من باب النميمة وإنما هي نصيحة.
وهذا يؤخذ من قوله: إنه رآه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! والله إنما كنا نخوض ونلعب، نتحدث حديث الركب نقطع به وعثاء السفر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه ولا يزيد على قوله: ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون) * (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يعني: لا يزيد على ما قاله الله له، فلا يلتفت إليه أكثر من ذلك، ومثل هذا لا ينبغي أن يقبل عذره، بل يقابل بالغلظة، وبما يستحقه مما اقترفه من السخرية بآيات الله جل وعلا، أو برسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالمؤمنين الذين يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، إذا سخر بهم من أجل ذلك.
من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل، مثل اعتذار هؤلاء فيما اعتذروا به، وهذه الأعذار لم يقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرق بين من وقع في خطأ غير قاصد، وكان ذلك فيما سبيله الاجتهاد وبين من وقع في خطأ ولو كان غير قاصد، مثل الخوض في آيات الله أو صفاته، أو في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرق بين هذا وهذا، فالذي يخطئ مثلاً في أمور اجتهادية هذا يقبل عذره، أما الذي يخطئ في الخوض في آيات الله والسخرية، والاستهزاء بها، وإن كان ما قصد الحقيقة وإنما ليضحك الناس، فمثل هذا لا يجوز أن يقبل عذره.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر