إن التوحيد الذي هو دين الإسلام بل دين الله جل وعلا الذي أرسل به الرسل كلهم هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وهذا يتكون من شيئين:
الأول: شهادة ألا إله إلا الله.
الثاني: شهادة أن محمد رسول الله، وهما ركن واحد من أركان الإسلام، والإسلام مبني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج لمن يستطيع إليه.
ولما كان أصل الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، فكل إنسان يشهد ألا إله إلا الله ولا يعمل بذلك، لا يفيده هذا ولا يجعله مسلماً، فلابد أن يعمل بهذه الشهادة وينضم إليها شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا الكتاب من أوله إلى آخره بني على هذه الشهادة، ومن أول الكتاب إلى هذا الباب كله في بيان شهادة أن لا إله إلا الله.
والمؤلف رحمه الله بدأ بقوله: [كتاب التوحيد] وبين معنى التوحيد وأنه العبادة، وبين أن العبادة لا يمكن أن تكون عبادة إلا إذا كانت حسب الأمر وخالصة لله جل وعلا، ثم ذكر بعض الأبواب وقال: [باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله]، وذكر النصوص التي توضح هذا وتبينه، ثم قال: [وتفسير هذا الباب ما بعده من الأبواب إلى آخر الكتاب]، وكل ما ذكره بعد هذا الباب من الأبواب فهو تفسير للتوحيد وشهادة ألا إله إلا الله، ولما كان الأمر معلوماً لدى جميع المسلمين الذين يعرفون حقيقة الاسلام أن شهادة ألا إله إلا الله بدون شهادة أن محمداً رسول الله لا تجدي ولا تنفع ولو شهد الإنسان بذلك فإنه لا يكون مسلماً أراد بهذا الباب أن يبين معنى شهادة أن محمداً رسول الله، ومراده بهذا الباب بيان الركن الثاني من الشهادة؛ لأنها ركنان: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقوله تعالى: (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) يبين أن ادعاءهم الإيمان مجرد زعم والواقع أنهم لم يؤمنوا.
والسبب في كونه كذباً ظاهراً هو أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، وقد جاء الأمر في جميع الشرائع بالكفر به، وكونهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت -والإرادة: هي القصد الجازم- يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين.
وقوله: (كل ما تجاوز به العبد حده) سبق أن شرحناه وبينا معناه، وحد المخلوق: أن يكون عبداً لله، فإذا تجاوز حد العبودية لله جل وعلا والخضوع له والذل بأن جعل له نصيباً منها، أو تجاوز حد الطاعة التي هي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطاع في معصية الله أو في تحليل الحرام أو تحريم الحلال أو ما أشبه ذلك فإنه يكون طاغوتاً أو يكون متبوعاً على الهوى وبدون حق، ولهذا لما ذكر ابن القيم هذا التعريف قال: وهذه طواغيت العالم إذا نظرت إليها وجدت الأرض مملوءة من هذه الطواغيت، ولا يخلو الإنسان الذي يترك شرع الله وعبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يكون عابداً لهذا الطاغوت.
والمقصود هنا بيان معنى شهادة أن محمداً رسول الله على ما أراده المؤلف، وأورد هذه الآية من أجل ذلك، وذلك أن العباد كلفوا بعبادة الله وبطاعته واتباع أمره بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يعبدوا الله أو يفعلوا فعلاً يتعبدون به أو يتركون شيئاً يتعبدون به إلا إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء به وبينه لهم، ومن ذلك التحاكم وفض النزاع والخصومات، وكذلك الخلاف الذي يقع بين الناس يجب أن يرجع فيه إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يفعل الإنسان ذلك فمعنى هذا أنه ما جاء بشهادة أن محمداً رسول الله على الوجه الأكمل والمطلوب الذي ينجو به؛ لأن العبادة وكذلك الطاعة وكذلك الحلال والحرام لا يجوز أن يؤخذ من قول فلان ولا من فعل فلان، وإنما يجب أن يؤخذ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومعنى هذا أن الإنسان لا اختيار له فيما يفعله تعبداً، وإنما الأمر إلى الله، وأمر الله الذي كلف به الإنسان ما يتبين للإنسان إلا بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول جل وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36] يعني: ما لهم الاختيار ولا يجوز أن يكون لهم اختيار في ذلك، بل يجب عليهم أن ينفذوا ويمتثلوا وإلا لم يكونوا مؤمنين.
فعلى هذا يكون معنى (شهادة أن محمداً رسول الله) أنه رسول جاء بالرسالة من الله وفيها العبادة وفيها الأمر والنهي وفيها التكليف، وأنه لا يقدم الإنسان على عبادة أو أمر يصبح فيه ثقل بينه وبين من خالفه أو يكون فيه حكم بينه وبين من خالفه إلا إذا اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وصار الحاكم هو قوله أو قول ربه الذي جاء به، فهذا هو معناها الحقيقي، وهو الذي أراده المؤلف عند استدلاله بهذه الآية.
ومعنى ذلك أنه يجب التحاكم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحاكم أمر عام، سواءً أكان في فض النزاعات التي فيها حقوق، أم إنهاء الخلاف في مسائل العلم أم غيرها مما يحدث فيه خلاف بين الناس -ولابد من الخلاف-، فلابد أن يكون مردوداً إلى ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكون هو الحاكم، فيرضى المحكوم عليه بهذا ويسلم وينقاد، وإلا فلا يكون مسلماً إن لم يفعل هذا، ولهذا ختم هذه الآيات بقوله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]، فبين في هذه الآيات أن الذي لا ينقاد إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما أنه عابد للطاغوت أو يكون منافقاً يظهر الموافقة ويبطن الكفر ويريد أن يوفق بين الحق وبين الباطل على حد زعمه، وهذا مستحيل لا يمكن، ولكن هكذا يزعمون أنهم يوفقون بين هذا وهذا برأيهم وبعقولهم، وهو ظن بعيد جداً عن الصواب، بل مصدره من الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك، ولهذا أخبر جل وعلا أن الشيطان يريد أن يضلنا ضلالاً بعيداً، وهو حريص على اضلالهم وقد أطاعوه في هذا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال العماد ابن كثير رحمه الله: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا.
وتقدم ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في حده للطاغوت، وأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به؛ فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بها].
هذا الحد قد يحتاج إلى تبيين.
وقد سبق أن بيناه في موضعه، ولكن قوله: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده) العبد هنا فاعل التجاوز، فهو كل ما تجاوز به العبد حده، والضمير في قوله: (حده) مفعول عائد على الطاغوت الذي حدث به التجاوز.
ومعنى ذلك أن الذي اتُبِع أو عُبِد لا يخلو إما أن يكون إنساناً عاقلاً، فإن كان إنساناً عاقلاً فهو مكلف بأن يكون عبداً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يخرج عن حد العبودية، فإن خرج عن حد العبودية بأن دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي أن يكون مشاركاً لله جل وعلا في شيء من العبادة صار طاغوتاً.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان الذي هو التجاوز، فهو طغى على حد العبودية، وخرج منها إلى الربوبية أو الإلهية، أما إذا كان غير عاقل مثل الشجر أو الحجر فالشجر والحجر خلق للانتفاع والعبرة، وليس له تصرف.
أي: أن العاقل ينتفع به، ويعتبر في خلقه فقط، وليس عنده نفع ولا ضر يمكن أن يوجده، فإن قصد منه شيء مما هو خارج عما خلق له فإنه قد جعل طاغوتاً، أي: خُرِجَ به عن حده وتجاوز به الذي أخرجه حده الذي حد له، وهو أن يكون مخلوقاً ينتفع به في بناء أو في سدود، أو ما أشبه ذلك إذا كان حجراً، وأما إذا كان شجراً فيكون متاعاً للبهائم، أو وقوداً للنار، وما أشبه ذلك من الانتفاع الذي ينتفع به الإنسان.
فإن طلب منه بركة، أو نفعاً غيبياً، أو مستقبلياً، أو جعل له شيئاً من التصرف فقد تجاوز به الحد وجعله طاغوتاً كطواغيت الكفار من الأحجار والأشجار.
وإذا كان قبراً فالقبر وضعه مثل وضع الحجارة والأشجار؛ لأن المقبور أصبح رفاتاً وتراباً لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذا اتجه إليه بالدعاء وطلب منه النصر، أو ما أشبه ذلك فقد جعله طاغوتاً.
وكذلك إذا جعل مخلوقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً يتحاكم إليه في فض النزاعات ويرجع فيما اختلف فيه إليه فقد تجاوز به حده؛ لأن حده أن يكون متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا، فهذا معنى قوله: (كل ما تجاوز به العبد حده).
ثم فصّل فقال: سواء أكان هذا الذي تجوز به الحد معبوداً، أم كان متبوعاً، أم كان مطاعاً؛ لأن المطاع يجب أن تكون طاعته بأمر الله وأمر رسوله، فيطاع لأنه أمر بأمر الله وأمر رسوله، أما إذا تجاوز إلى غير ذلك فإنه يكون خارجاً عن حد العبودية، وإذا اتبع على ذلك صار المتبع له يتبع طاغوتاً.
وسواء أكان معنى أم كان شيئاً قائماً بنفسه مجسداً يلمس وينظر إليه، فلا فرق بين هذا وهذا.
قال الشارح رحمه الله: [ فمن حاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عن ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها، وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت.
فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:28-30].
وكقوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41] ].
يعني أن المعبود الذي يعبد من دون الله قد يكون رجلاً مطيعاً صالحاً، فكيف يسمى طاغوتاً؟! فهل يطلق عليه أنه طاغوت؟ لا وإذا كان كذلك فالطاغوت هو من أمر بعبادته وهو الشيطان، وأما الرجل الصالح فلا يمكن أن يرضى بأن يعبد من دون الله أو يأمر بذلك، وقد عيد كثير من الناس الملائكة، والأنبياء والصالحين.
فإذا كان يوم القيامة جمعهم الله جل وعلا وسأل المعبودين من الملائكة ومن الأنبياء وغيرهم ويقول لهم أمام العابدين: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40]؟ فيتبرءون منهم.
فمنهم من يقول: كنا غافلين عن ذلك ما لنا علم؛ لأنهم أموات لا يعرفون ماذا يقع، والملائكة يقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41]، والمقصود بالجن الشياطين، فهي التي أمرتهم بعبادة غير الله.
ولهذا تكون العبادة للشيطان، وكذلك إذا كان المعبود غير عاقل فإن العبادة للشيطان؛ لأن الله جل وعلا جعل في عقل الإنسان تمييزاً بين من يتصرف ومن لا يتصرف، ولكن الشيطان هو الذي يزين بأن هذا ينفع وأن هذا يشفع وأن هذا ينفع وأن هذا يضر.
ولهذا فإن الذين يعبدون الشمس يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بعبادتها، فإذا سجدوا لها ذهب ووقع مقارناً للشمس فيقع السجود له، كما في صحيح مسلم من حديث عمرو بن عبسة أنه لما سأله عن الصلاة قال: (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار).
وكذلك إذا غربت تغرب بين قرني الشيطان، فإن الشيطان يقارنها حتى يقع السجود والعبادة له.
ولهذا لما لما نزل قول الله جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98] جاء أحد الكفار ليخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسأله: أليس عيسى يعبد، وأمه تعبد، والعزير يعبد، والملائكة تعبد؟ فإذاً يكون هؤلاء حصب جهنم! فأنزل الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:101-102]. والعبادة التي وقعت ممن عبدهم تكون للشيطان.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة الطويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع الشفاعة الكبرى إلى الله جل وعلا بأن يفصل بين خلقه أن الله يشفعه في ذلك، ثم يأتي الرب جل وعلا فيخاطبهم جميعاً، ويقول لهم: إني أنصت لكم منذ خلقتكم فأسمع كلامكم وأحصي أعمالكم فأنصتوا لي الآن، فلابد من الحساب خضوعاً وذلاً، ويقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ ما الجواب؟ الجواب: بلى فهو العدل، فيؤتى بكل معبود كان يعبد في الدنيا وينصب أمامهم، سواء أكان المعبود من الأصنام أم من غيرها.
أما إذا كان المعبود ملكاً أو نبياً أو رجلاً صالحاً فإنه يؤتى بالشيطان على مثاله، ويقال لعابده: هذا معبودك فاتبعه، فتذهب المعبودات إلى جهنم فيتبعها العابدون، فيكبكبون فيها جميعاً، ويبقى في الموقف المؤمنون فقط، ومعهم المنافقون الذين كانوا يحكم عليهم ظاهراً بأحكام الإسلام، ولكنهم في الباطن كفرة، فيقول الله جل وعلا لهم ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس -أي: ذهبوا إلى جهنم-؟ فيقولون: إنما فارقناهم أشد ما كنا إليهم حاجة. أي: في الدنيا فارقناهم وتركناهم وكنا نحتاج إليهم، واليوم لا نحتاج إليهم، فليس لنا بهم حاجة؛ لأنهم لا يغنون عنا شيئاً.
والمقصود أنه يؤتى بالإنسان المعبود إذا كان المعبود رجلاً طائعاً لله جل وعلا من نبي أو ملك، أو رجل صالح، ثم يؤتى بالشيطان على مثاله وصورته التي كان يتخيلها العابد؛ لأن العابد لابد أن يتخيل شيئاً عند عبادته، فيتخيل أن هذا النبي كان كذا وكذا، وهذا النبي كذا وكذا، فيؤتى به على ذلك القوام الذي كان يتخيله، ويقال له: هذا معبودك فاتبعه.
والواقع أنه ما عبد إلا الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمره بذلك فهو يطيعه، ولهذا إذا استقروا في النار جميعاً وتكاملوا فيها يقوم الشيطان خطيباً فيهم في النار، يقول بعض المفسرين: إنه ينصب له منبر في وسط جهنم والمهم أنه يقوم فيهم خطيباً؛ لأنه رئيسهم وقائدهم وإمامهم، فيقول لهم: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]
يعني: ما كان لي حجة ولا برهان في دعوتي إياكم، إنما هي مجرد دعوة: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، فيكفر باتباعهم له ويتبرأ منهم، ويقول: أنتم اليوم لا تغنون عني شيئاً. وأنا لا أغني عنكم شيئاً، فالنتيجة هي الحسرات والعذاب الذي لا نهاية له، ويأتيهم العذاب من جميع جوانبه من الحسرات السابقة، ومن العذاب اللاحق الذي هم فيه.
وهكذا ذكر ربنا جل وعلا في قصة إبراهيم لقومه أنه أخبرهم أنه إذا كان يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وهكذا أهل الباطل الذين يتبعون الباطل لابد أن يتبرأ كل واحد من الآخر ويلعنه ويمقته.
وكذلك في الآية الأخرى يقول جل وعلا: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166] .
والأسباب التي تقطعت بهم هي الأمور التي كانوا يتخيلونها ويزعمون أنها مودة بينهم، وأنهم سيشفعون لهم أو ينفعونهم، فصارت سراباً، ثم يقولون بعد ذلك: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً [البقرة:167] يعني: عودة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا [البقرة:167].
يعني: يتبرءون من الذين تبرءوا من المتبوعين كما تبرأ هؤلاء منهم، وهذا من الحسرات، فكل واحد يرى أن هذا عدوه.
وذكر الله جل وعلا في آيات كثيرة أن الرؤساء والسادة يعود عليهم الضعفاء والأتباع باللعنة، ويدعون ربهم ويطلبون منه أن يضاعف لهم العذاب، ويقولون له: هؤلاء أضلونا، ثم أولئك أيضاً يعودون إليهم ويقولون: أنتم ضللتم، وليس لنا عليكم من سلطان، ولكن أنتم اتبعتم الضلال وضللتم.
وذكر جل وعلا في أهل النار أيضاً أنه كلما دخلت أمة من أمم الكفر في النار لعنت أختها، وكل واحدة تلعن التي قبلها؛ لأنها هي التي سنت لها هذا الشرك، ثم التي قبلها تلعنها فتلعن أولاهم أخراهم، وكذلك الأخرى، و(الأخرى) هنا بمعنى (الحقيرة)، وليست الأخرى من الآخرة المتأخرة، بل الحقيرة، و(الأولى): المتبعون والرؤساء والسادة.
والمقصود أن هذا أمر واضح وضحه الله جل وعلا في القرآن، بين في دعوة كل رسول وليس في دعوة رسولنا فقط، فالرسل كلهم بينوا هذا ووضحوه؛ لأن القرآن قص علينا قصص الأنبياء السابقة حتى نكون معتبرين بذلك لئلا يحل بنا ما حل بهم؛ لأن سنة الله لا تتغير.
فالتوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، كما قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه.
قال الإمام مالك رحمه الله: الطاغوت: ما عبد من دون الله] .
أي: ما عبد من دون الله مطلقاً، إلا أن يكون نبياً أو ولياً أو ملكاً، فهو يحتاج إلى قيد: (ما عبد من دون الله وهو راضٍ بهذه العبادة) إذا كان عاقلاً مكلفاً، فلابد أن يقيد بأن يكون راضياً، أما إذا كان غير راض أو غير عالم بذلك فأن العبادة تقع على الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمر بذلك.
ومع ذلك إذا كان المتوجه إليه بعد موته في قبره فإن هذا القبر يكون وثناً، ويكون طاغوتاً، ولكن المقبور إذا لم يكن راضياً بهذا ولا آمراً به فليس كذلك، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فيدعو أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فدل على أنه لو عبد لكان وثناً، ولكن الله جل وعلا حماه من ذلك.
وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ومن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه وإن زعم أنه مؤمن؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: (يزعمون) من نفي إيمانهم؛ فإن (يزعمون) إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60]؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً ].
آية البقرة هي قوله جل وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، فبدأ أولاً بالكفر بالطاغوت، مما يدل على أنه لابد من الكفر به، والكفر به معناه أن يتبرأ الإنسان منه ويبتعد عنه، ويبتعد عن أهله والذين يحكمون به أو يعملون به ولابد من ذلك، أما كونه يتركه فقط فلا يكفي، بل لابد من تركه وكراهته والتبرؤ منه؛ لأن الله جل وعلا يقول: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ [المجادلة:22].
ويقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ [المائدة:51]، ويقول: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، فلما ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض سواء أكانوا من المهاجرين المقاتلين أم من الذين لم يهاجروا وإنما اشتركوا بالإيمان والطاعة والإتباع ذكر أن بعضهم أولياء بعض، ثم ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال بعد ذلك: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
يعني: إن لم تحصل موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وكونهم معتزين بأنفسهم معادين للكفار منابذين لهم حصلت الفتنة والفساد الكبير، فهذا هو التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكلف كل مكلف به، وليس هذا من الأمور التي فعلها مستحب ومن تركها لا لوم عليه، بل هذا أمر فرض على كل إنسان ولابد أن يعتقده ويعمل به.
وقوله: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60] يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه، ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى.
ففي الآية أربعة أمور:
الأول: أنه من إرادة الشيطان.
والثاني: أنه ضلال.
والثالث: تأكيده بالمصدر.
الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
فسبحان الله! ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه! وما أدله على أنه كلام رب العالمين أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليهما.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين.
قوله: (ويصدون) لازم، وهو بمعنى (يعرضون)؛ لأن مصدره صدوداً].
أي: أنه لازم، ولو كان متعدياً لكان مصدره (صداً)، فإذا كان مصدره (صدوداً) دل على أنه لازم، يعني أن الصدود لازم لهم، أي أنهم هم الذين يصدون ولم يصدهم غيرهم، فهذا هو معنى كونه لازماً؛ لأن الصد وقع من أنفسهم ولم يقع عليهم من غيرهم؛ إذ لو كان واقعاً من غيرهم لكان متعدياً، وكان مصدره (صداً).
قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من اتصف بهذا الوصف، خصوصاً ممن يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطئ كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به، فصار المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريباً، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا.
فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع، والله المستعان].
هذه الآية يقصد بها أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم فساد، وأن صلاح الأرض في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] يعني: بزعمهم، وهم في الواقع يفسدون في الأرض؛ لأنهم لا يطيعون الله ولا يطيعون رسوله، فكل معصية يعصى الله جل وعلا بها ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أمراً ونهياً، تكون من الفساد في الأرض، ومن ذلك أنهم يتحاكمون إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يريدون التحاكم إلى غيره، فإنه من الإفساد في الأرض، هذا هو وجه الاستدلال بالآية ، فكل معصية وقعت من الناس فهي فساد في الأرض، وكل طاعة تكون من الصلاح، لأن الله أصلح الأرض بالرسالة، والذي يخالف ما جاء به الرسول يكون مفسداً، سواء أكان عالماً بأنه مفسد أم غير عالم فالفساد واقع.
ولهذا فإن إخوة يوسف لما سمعوا المؤذن يقول: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [يوسف:70-72] قالوا بعد ذلك: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ [يوسف:73] ؛ لأن السرقة إفساد في الأرض، فكل معصية تقع من الناس فهي إفساد في الأرض، وكل طاعة -ولا تكون الطاعة إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم- تكون إصلاحاً للأرض، فالله أصلح الأرض برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك رسالة الرسل قبله فإنها للإصلاح، ومخالفتها تكون إفساداً، ومن ذلك كون الإنسان يريد أن يفض النزاع وينهي الخلاف بشيء غير الوحي الذي جاء به الرسول بشخص أو غيره، فإنه يكون من الإفساد في الأرض.
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] قال أبو العالية في الآية: يعني: لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله.
وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ [يوسف:70-73] فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض ].
وكذلك قصة شعيب عليه السلام بمحاجته قومه، فقد أمرهم بأن يوفوا الكيل والميزان ولا يطففوا، وقال لهم بعد ذلك: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] وهذا يدل على أن تطفيف الميزان وعدم الوفاء به إفساد في الأرض، فدل ذلك على أن كل معصية تكون فساداً في الأرض.
قال الشارح رحمه الله: [ ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض.
وفي الآية التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى، وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ].
وهذا يفيدنا أنه ينبغي للإنسان أن يتفطن لأقوال الناس وأعمالهم ويعرف ويميز بين ما هو موافق للكتاب والسنة، وبين ما هو مخالف، فيقبل ما وافق الكتاب ويرد المخالف للكتاب والسنة، ولا يغتر بتزيين الكلام فإنه قد يراد به باطلاً، فقد يكون الإنسان ذو مقدرة على تحسين الكلام، وتزيينه، وإلباسه لباساً يستدعي الاستماع إليه، وقبوله، وهو في الواقع باطل.
ولهذا يقول الله جل وعلا في سورة المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] يعني: أنهم لهم المرأى الحسن والمنظر الجميل والطلعة البهية واللباس الفاخر، فإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم -أي: مناظرهم- وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] يعني أن عندهم بلاغة وفصاحة وبياناً يستطع أحدهم أن يلفت النظر إليه بهيئته، ويلفت الأسماع بقوله، وهؤلاء من أضر الخلق على الخلق، ولهذا حذر منهم جل وعلا، فقال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ [المنافقون:4]، فأخبر أنهم هم العدو، وليس معنى ذلك أن العدو محصور فيهم، ولكن لشدة ضررهم وعداوتهم على المسلمين والإسلام حصر العداوة فيهم، وإلا فهناك أعداء غيرهم.
قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض، ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومَنَّ عليه بقوة داعي الإيمان وأعطاه عقلاً كاملاً عند ورود الشهوات، وبصراً نافذاً عنده ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] ].
سبق أن المعاصي هي التي يقع بها الإفساد في الأرض، فكل معصية تكون فساداً، وإن كانت محصورة على المفسد نفسه؛ لأنه أفسد في نفسه، والأرض خلقها الله جل وعلا لتكون متاعاً لعابديه، ثم قال جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29].
والخطاب للمؤمنين الذين يؤمنون به، أما الذين يفسقون -والفسوق: الخروج عن الطاعة- فإنهم لا يستحقون أن يكونوا في أرض الله وفي ملك الله؛ لأنهم خرجوا عن طاعته، والله جل وعلا لا يفوته شيء، وإنما يمهلهم حتى يوافوه فيجازيهم بما يستحقون، فكل معصية وقعت في الأرض فهي من الفساد، ومعروف أن الفساد يتفاوت.
وقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] المقصود بالإصلاح إصلاحها بالدعوة التي جاءت بها الرسل، وفي هذه الآية جعل الإفساد مطلقاً، فتبين بهذا أن كل خروج عن طاعة الله جل وعلا يكون فساداً في الأرض.
والشاهد من الآية أن الخروج عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تحكيمه في النزاع وغيره من الفساد في الأرض، بل هو من أعظم الفساد في الأرض، بل ربما يكون أصل الفساد في الأرض عدم الانقياد للأوامر التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن القيم رحمه الله: قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله.
فإن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والإتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة.
ومن تدبر أحوال العالم وجد أن كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. اهـ.
ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] ].
معنى قوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) يعني: نوكله إلى العمل الذي يعمله والشيء الذي يستند إليه، فإذا كانت المعصية فإنه يتمادى فيها حتى الموت؛ لأنه من جزاء المعصية: المعصية وبعدها، ومن جزاء الحسنة الحسنة وبعدها، وهذا في الغالب، وقد يتوب الله جل وعلا على من يشاء، فتوليته ما تولى إذا كان تولى هواه أو تولى شهواته، أو تولى مخلوقاً يطيعه في معصية الله فإنه يوكل إليه ويتخلى الله جل وعلا عنه.
ومن وكل إلى مخلوق أو إلى نفسه فإنه يكون ضائعاً وهالكاً، وقوله: (ونصليه جهنم) هذا في الآخرة، فيولى ما تولى في الدنيا في حياته، ثم بعد موته يصلى جهنم، وهذا من أعظم الوعيد، نسأل الله العافية.
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) يعني أن كل من طلب أن يتحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يطلب حكم الجاهلية ويريده.
والله جل علا قد أنزل كتابه حاكماً بين خلقه، وهو خير الحاكمين، وحكمه أحكم الأحكام وأعدلها وأقومها، فمن ابتغى غيره فإنه منتكس في عقله وفي دينه، واعتاض بالجاهلية عن العلم والإيمان والحق وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون ضلال ذلك واضحاً لمن هداه الله جل وعلا وبصره.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضعه لهم (الياسق)، وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير ].
هذا يقوله الحافظ ابن كثير رحمه الله في وقته، في القرن الثامن الهجري، ولم يكن هناك في ذلك الوقت من الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية التي وضعت واعتيض بها عن شرع لله جل وعلا في كثير من البلاد الإسلامية، وإنما هذا وقع من التتار، والذي وقع بعده أعظم مما فعله جنكيز خان وأتباعه بكثير؛ لأنهم جعلوا هذه القوانين حاكمة في البلاد بدل شرع الله مع علمهم أن لله شرعاً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به، وأن الله أوجب أن يحكم به.
وهذا مبدأ ظهور ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن القرآن يرفع في آخر الزمان، فإنه إذا ترك العمل به واعتاض الناس عنه بغيره.. بآرائهم وأفكارهم وأوضاعهم وما يرونه يناسبهم مع قصور آرائهم -ولا شك أنها قاصرة- إذا اعتاضوا عنه بذلك فانه يرفع فيسرى عليه في ليلة واحدة فيرفع من المصاحف ثم من صدور الرجال فلا يبقى منه حرف واحد، ثم بعد ذلك على هؤلاء الذين رفع منهم القرآن تقوم الساعة، وهم شر خلق الله، كما جاء في صحيح مسلم : (شر الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة).
وفيه أيضاً أنها تقوم الساعة إذا أصبح لا يقال في الأرض الله الله، وإنما يتهارجون تهارج الحمر، والمقصود أن هذا مبدأ الإعراض ومبدأ رفع القرآن؛ لأن القرآن نزل للعمل ولم ينزل ليتبرك به أو يداوى به المرضى، أو ليجعل في المساجد فقط، وإنما نزل ليكون حاكماً في شئون الناس كلها ويكون حاكماً في حياتهم، وإذا لم يكن كذلك فلا يكون الإنسان مسلماً الإسلام الذين ينجيه، وإنما يكون عاصياً يستحق عقاباً من الله جل وعلا، فلابد أن يحكم كتاب الله جل وعلا في جميع شئونه في الشيء الذي يخصه وفي الشيء الذي بينه وبين الخلق، سواء أكانوا قريبين أم بعيدين.
فالواجب المتعين على كل فرد أن يكون الحاكم في نفسه وفيما شجر بينه وبين غيره هو كتاب الله جل وعلا، وهذا أمر لا يخفى وأمر واضح وجلي، ولكن الأمور الضرورية التي تعرف من الدين بالضرورة قد تخفى إذا كثر الباطل، وكثرة المجانبة لها فقد تخفى على بعض الناس.
وفي الآية التحذير من حكم الجاهلية واختياره على حكم الله ورسوله، فمن فعل ذلك فقد عرض عن الأحسن -وهو الحق- إلى ضده من الباطل ].
قوله: [من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك].
يعني أن أفعل التفضيل إذا جاء في اللغة العربية فلابد أن يكون له مشارك يقابله ، تقول: فلان أفضل من فلان ولابد أن يكون بينهما شيء من الاتصاف والعمل الذي يتصفون به ويعملون به، ولا يصح أن تقول: الإنسان أفضل من هذا الحجر.
فلابد أن يكون الذي فضل عليه مشاركاً له في الأوصاف، وفي الأعمال، ومعلوم أن الإنسان لا يشارك الرب جل وعلا في حكمه، وفي علمه، وفي أحكامه، وفي عدله، وفي غير ذلك من صفاته وأفعاله، فقال: إنه استعمل فيما لا مقابل له؛ لأن هذا حكم الله.
وهذا كثيراً ما يأتي، كقول الله جل وعلا: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل:59]، وليس هنا أحد ممن يعقل يقول: إن الأوثان نظير الله أو مماثلة لله جل وعلا، فضلاً عن أن يقول: إنها خير منه تعالى الله وتقدس.
وكذلك قوله: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، فهل بين الجنة، وبين النار شيء من الاشتراك حتى يقال: إنها أفضل؟ وإنما هذا يستعمل في الشيء الذي لا يكون له مقابل يشاركه فيه، وهذا مثله.
والمقصود أن هذا أسلوب جاء به القرآن، وهو أسلوب عربي، ويفهم من هذا الخطاب أن المقابل لا يشارك من فضل عليه بشيء.
أما الجاهلية فهي كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء أكان قبل مجيء الإسلام، أم بعده، ولا يلزم أن تكون سابقة، بل قد تكون الجاهلية اللاحقة أسوأ من الجاهلية السابقة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر