من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [التوبة:31]، وهذه الآية يقصد بها اليهود والنصارى.
والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وأما المسيح عليه السلام فهو رسول الله الذي جاء بالإنجيل وجاء بالرسالة التي فيها التخفيف على بني إسرائيل، ووضع كثيراً من الآصار التي كانت عليهم، وهو من أولي العزم، فاتخذوه إلهاً مع الله؛ لأنه -كما هو معلوم- آية ظاهرة من آيات الله جل وعلا، حيث وجد من أنثى لم يتصل بها ذكر، وإنما خلقه الله جل وعلا من مريم بواسطة نفخة الملك الذي أرسل إليها وهو جبريل عليه السلام، كما ذكر تفصيل ذلك ربنا جل وعلا في سورة مريم وفي غيرها، فلما كان بهذه المثابة زين الشيطان للناس أنه الله أو ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة، يعني: أن الآلهة ثلاثة: الله ومريم وعيسى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فالمقصود هنا كونه قرن اتباع الأحبار والرهبان مع العلم بمخالفتهم لأمر الله؛ بعبادة النصارى لعيسى فإنهم عبدوه عبادة واضحة ظاهرة.
فكونه قرن الرهبان والأحبار مع عيسى يدلنا على أنه لا فرق بين أن يطيع الإنسان مخلوقاً في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وبين أن يعبده عبادة صريحة واضحة، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح هذا المعنى تمام الإيضاح؛ فإنه صلى الله عليه وسلم: (لما قدم
فلما ذهبت كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: كيف تركت عوراتك وهربت؟! ليس هذا فعل أبيك ولا فعل من يهمه أمر أهله؟ ثم قالت: ائت إليه فهو والله خير من أبيك، وهو يعطي العطاء الذي لا يستطيع أبوك أن يعطيه، ائت إليه وضع يدك في يده فلن تجد إلا خيراً وحسناً، فجاء ممتثلاً لأمرها، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو لا يعرفه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مع أصحابه لا يتميز عنهم، فليس له مجلس مرتفع لا كرسي ولا غيره، وإنما يجلس معهم في مجلسهم فإذا جاء الغريب لا يعرفه.
فوقف فقال: أيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟! فقال من عنده للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا عدي بن حاتم ، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم رؤساء الناس وكبارهم، فقام معه صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بيته، يقول عدي : (فصار يتلو هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31]، فقلت: يا رسول الله: إننا لم نعبدهم، قال: بلى، ألم يحللوا لكم الحرام فتتبعوهم؟ ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، قال: تلك عبادتهم)، هذا أمر واضح جلي؛ لأن طاعة المخلوق في معصية الله جل وعلا عبادة له.
فبين في هذا أن الطاعة لا يجوز أن تكون للمخلوق إلا إذا كانت تبعاً لطاعة الله جل وعلا، أما قول الله جل وعلا: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فقد فسر العلماء (أولي الأمر): بأنهم العلماء، وبعضهم يقول: الأمراء، وبين ابن القيم رحمه الله أن الأمراء والعلماء كليهما مقصود في الآية، فالعلماء يبينون أمر الله ويوضحونه والأمراء ينفذون أمر الله، فالله أمر بطاعتهم: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، فأولو الأمر هم العلماء والأمراء.
وإنما يطاعون إذا كانت طاعتهم تبعاً لطاعة الله، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الحث على طاعة الأمراء وولاة الأمر منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أطيعوا ذوي أمركم وإن تأمر عليكم عبد حبشي مقطع الأطراف يقودكم بكتاب الله فأطيعوه)، وإن جاء أن الأمراء من قريش، إلا أن هذا إذا لم يحصل ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله).
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على سرية من السرايا أميراً وحث على طاعته، فقال: (من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني) ثم إنه في أثناء السفر غضب الأمير على من معه، فقال لهم: اجمعوا لي حطباً فجمعوا الحطب، فقال: أججوا فيه ناراً، فأججوا النار فقال: ألم يأمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: ادخلوا في النار، قالوا: لا ندخل في النار، من النار فررنا! فبقوا هكذا حتى طفئت النار وذهب غضبه، ثم لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له ذلك، فقال: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة بالمعروف، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق }.
إذاً: فهذه الآية غير مخالفة للآية التي ترجم بها المؤلف رحمه الله، يعني: أن الطاعة التي أمر بها لذوي الأمر إنما هي في طاعة الله جل وعلا، أما إذا كانت في معصية الله فلا يطاع.
إذاً: فكل مخلوق سواء كان والدك أو من هو دونه إذا أطعته في معصية الله فأنت عاصٍ وقد اتخذته إلهاً من دون الله، وإن لم تسجد له وتدعوه؛ لأن من خصائص الله جل وعلا التي لا يجوز أن ينازع فيها: الأمر والنهي والتحليل والتحريم، ولذلك صار من فعل ذلك واتبع عليه صار رباً، وهذا هو سر التعبير بالأرباب في الآية: اتخذوهم أرباباً؛ لأن الرب هو الذي يأمر وينهى وهو الذي يحلل ويحرم، ولا يجوز لمخلوق أن يحلل شيئاً أو يحرم شيئاً فإذا وقع ذلك من مخلوق ثم اتبع عليه فقد اتخذ رباً من دون الله جل وعلا.
ومعلوم أن هذا الأمر مناف للتوحيد ولذلك أراد المؤلف رحمه الله أن يبين هذا الأمر حتى يكون الإنسان على بينه ولا يقع في الخطأ أو في مناقضة التوحيد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما هذا الكلام بمناسبة أنه كان يأمر بالمتعة -متعة الحج- ويقول إنها أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها آخر الأمر وكرر ذلك وأكده وسئل عن ذلك فقيل له: (أهذا لنا خاصة؟ فقال: بل للناس عامة) وكان أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه يودان أن الإنسان يأتي بالحج مفرداً وبالعمرة مفردة ويقولان: حتى لا يخلو البيت من طائف وزائر؛ لأنه إذا اجتمعت العمرة والحج في سفرة واحدة قل رواد البيت القاصدين له، مع أنه جاء في قول الله جل وعلا: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]: أن إتمام الحج وإتمام العمرة أن يأتي بهما في سفرة واحدة من الميقات، هكذا فسروا الآية.
فهذه وجهة نظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في النهي عن المتعة، وليس نهياً من باب المنع والتحريم، بل يقولان: هذا أفضل، حتى لا يبقى البيت خالياً من القاصدين والزائرين والطائفين، فكان ابن عباس يخالف ذلك وينهى عن هذا ويقول: بل يؤتى بالحج متمتعاً يعني: بالحج والعمرة معاً، فقالوا له: إنك تأمر بشيء ينهى عنه أبو بكر وعمر فقال: يوشك -يعني: يقرب ويسرع- أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ؟! فهذا من فقهه رحمه الله ورضي الله عنه وتعظيم السنة.
ومعلوم أنه لا أحد يوازى بـأبي بكر وعمر من الأمة مع أن قصدهما معروف، ولم ينهيا عن التمتع نهي تحريم، وإنما للفضل والاختيار، ومع ذلك يقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ لأنكم فعلتم فعلاً أو قلتم قولاً تستحقون به نزول الحجارة وهو: أني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر!
فدل هذا على أنه لا يجوز أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول الله جل وعلا بقول أحد من الناس مهما كان، وهذا هو الحق، وقد دل كتاب الله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته على أنه لا يجوز أن يعارض شيء من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس.
لما كانت الطاعة الخاصة هي العبادة، والمقصود بالطاعة الخاصة: الطاعة في التحليل والتحريم؛ لأن هذه من خصائص الله جل وعلا، وهي في الواقع أن يأمر بالشيء فيطاع، وينهى عن الشيء فيمتنع منه، فكان الذي يشاركه في هذا ويتبع عليه بمنزلة الرب، ولذلك ذكر الرب هنا؛ لأن الرب جل وعلا هو المالك المتصرف الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، ومن تصرفه الأمر والنهي، فيشرع لعباده شرعاً ويأمرهم أن يفعلوه، ويمنعهم من موانع ويعينها لئلا يقربوها.
ولا يجوز أن يشارك الرب جل وعلا في هذا أحد من الخلق فإن شاركه أحد من خلقه فقد نازعه في ربوبيته وملكه، ثم الذي يتبع هذا المخلوق في التحليل والتحريم والتشريع يكون متخذاً لهذا المخلوق رباً من دون الله, ومعلوم أن الحكمة من خلق الخلق هي طاعة الله جل وعلا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، قال: (إلا لآمرهم وأنهاهم)، فيكون الأمر والنهي في التشريع من خصائص الله جل وعلا، ولهذا نص المؤلف على هذا الأمر لأن تركه مضاد للتوحيد، أي أن من أطاع غير الله في التحليل والتحريم فقد وقع في الشرك الأكبر، وقد ذكر الله جل وعلا في آيات كثيرة حال هذا النوع يوم القيامة فقال: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:67-68]، ولكن هذا لا يفيد في شيء؛ لأن التابع والمتبوع يجتمعان في جهنم.. في عذاب النار، ويا ليت وما أشبه ذلك لا تفيد شيئاً في ذلك اليوم.
والمقصود: أن المقلد في هذا لا ينفعه تقليده ولو اعتذر بالجهل أو اعتذر بالغرور، ولذلك فالواجب على العبد أن يخلص نفسه.
وقلنا: في الطاعة الخاصة؛ لأن طاعة المخلوق إذا لم تكن في معصية الخالق فإنها غير ممنوعة.
والمعصية إما أن تكون في تحليل الحرام أو تحريم الحلال وليس شرطاً أن ينص على هذا بقوله: هذا حلال وهذا حرام، ولكن إذا كان أمره مخالفاً لأمر الله ومصادماً له فهذا هو المحذور والذي لا يجوز أن يقع من الإنسان، وهو الذي يكون فيه الشرك أكبر، ولهذا أمر الله جل وعلا بطاعة أولي الأمر تبعاً لطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإن الولاة والعلماء يطاعون إذا أمروا بطاعة الله، أما إذا أمروا بمعصية فلا طاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، وهذا عام يشمل الوالد ويشمل من هو أبعد منه، فكل مخلوق لا يطاع في معصية الله جل وعلا فإن أطاعه وهو يعلم فقد اتخذه رباً، أما إذا كان جاهلاً ولا يعرف بل يتصور أن طاعته ليست مخالفة لأمر الله فإذا كان هذا الأمر من الأمور الواضحة الجلية فهو داخل فيمن يطيع وهو يعلم، أما إذا كان فيه خفاء فأمره إلى الله وله حكم أهل الجرائم، ولكنه لا يكون كافراً.
ثم استدل على هذه المسألة بأدلة كعادته التي سار عليها في هذا الكتاب، أنه يعتمد على آيات من كتاب الله ثم يأتي بأحاديث تكون موضحة لهذه الآيات، وربما تكون بعض هذه الأحاديث التي يأتي بها فيها شيء من الضعف؛ لأنه ليس العمدة عليها، وإنما العمدة على الآيات التي يذكرها، وهذه تأتي من باب البيان والتفسير، وهذه طريقة العلماء.
والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتمتع في الحج، يعني: أن الذي أحرم بالحج مفرداً أو أحرم بالعمرة والحج معاً لما وصل إلى مكة قال لهم: (طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة ثم حلوا)، وكان هذا الأمر مستعظماً في الجاهلية، ويرون أن الإتيان بالعمرة في أيام الحج من أفجر الفجور! فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبطل هذا الاعتقاد وهذه العادة السيئة بأمره الذي أمرهم به، وأكد ذلك عليهم تأكيداً مكرراً ومبالغاً فيه، حتى إنهم راجعوه وقالوا له: ما بقي بيننا وبين يوم عرفة إلا أربعة أيام أو ثلاثة أيام، فقال: (أقول لكم فافعلوا ما أقول لكم)، فامتثلوا ذلك.
وقد فهم كبار الصحابة من هذا أن مقصوده صلى الله عليه وسلم الرفق بأمته وأن يأتوا بالنسكين في سفرة واحدة وفي عام واحد، ورأوا أن الفضل أن يكرر الإنسان الإتيان للبيت، وقد صرح بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حيث قالا: نكره أن يخلو البيت من طائف فيه وقاصد له، فكانا يأمران أو يفعلان الإفراد في الحج، فحدث في ذلك إشكال على بعض الناس، فلما سئل ابن عباس أخبرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: أبو بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال هذا القول: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون لي: قال أبو بكر وعمر !) يعني: أنكم تعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر، فبذلك تستحقون الرجم من السماء، مع أن قول أبي بكر وعمر خرج عن اجتهاد ودين وقصدا به عبادة الله، وليس فيه مصلحة لهما، فكيف بالذي إذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: ولكن فلاناً يقول: كذا وكذا!.. ولكن مذهب فلان كذا وكذا.. ولكن رأي فلان كذا وكذا.. يخشى على هذا أن يكون قد نزع منه الإيمان نهائياً.. يخشى أن يكون خرج من الدين الإسلامي؛ لأنه جعل فلاناً بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكماً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتبين أن التقليد في الأمر الواضح لا يجوز، أما الإنسان الجاهل فعليه أن يقلد العلماء الموثوق بعلمهم وتقواهم، فإن هذا هو الذي يستطيعه، والله جل وعلا يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فهذه وظيفتهم، فإذا لم يعلم سأل أهل الذكر وأخذ بقولهم، هذا هو الواجب عليه بنص كلام الله جل وعلا، ولكن يجب أن يكون المسئول من أهل الذكر وأهل الذكر: هم الذين يعلمون ويعملون بعلمهم ويتقون الله جل وعلا، وليس أهل الذكر الذين يجانبون الحق وإن كان عندهم علم.
وكان عدي بن حاتم نصرانياً من نصارى العرب، وعدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور الذي يضرب بجوده المثل، ولكن حاتماً مات في الجاهلية كافراً فلا ينفعه جوده ولا ينفعه كرمه؛ لأنه لم يكن مسلماً، وكان عدي كريماً مثل أبيه ورث منه ذلك، ولكنه كان متنصراً وكان في طيء، أي: في حائل، وكان له مال وغلمان، وكان يحذر من دعوة الرسول، فكان يقول لغلمانه إذا رأيتم خيل محمد فأخبروني، وقد أعد له نجائب فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة علي بن أبي طالب إلى طي فوصلوا إليه فجاء أحد غلمانه وقال: ما كنت صانعاً إذا جاءتك خيل محمد؟ فركب مطاياه وذهب إلى الشام.. إلى النصارى.. إلى أهل دينه، وترك أهله وماله فاراً بدينه كما زعم، ولكنه يفر إلى الشيطان، إلا أن الله يمن على من يشاء، فأخذت الخيل أخته مع السبايا التي سبيت، وأخته كانت كبيرة في السن.
فلما وصلت إلى المدينة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر السبايا قالت له: (مُنَّ عليَّ من الله عليك فقد ذهب الوافد وقل الرافد)، يعني: ليس لها شيء تفدى به وليس لها من يطالب بها، فقال لها: (ومن الوافد؟ قالت:
فجاء إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرفه، فدخل عليه وهو جالس في المسجد مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل الغريب إذا جاء إليه لا يميزه من أصحابه؛ لأن مجلسه بينهم وليس له مجلس مرتفع عليهم، بل يجلس معهم كأحدهم ولا يدع أحداً يقف، بل إذا جاء وهم جلوس لا يدع أحداً يقوم وينهى عن ذلك أشد النهي، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، كان الرجل إذا جاء يقول: أين محمد بن عبد الله؟ أو أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيشيرون إليه.
فلما جاء كان في أصحابه من يعرف عدي فقال له: يا سول الله! هذا عدي بن حاتم ، وكان صلوات الله وسلامه عليه يكرم كرماء الناس، فلما قالوا له قام معه إلى بيته، وقال: هلم، وكان في رقبة عدي صليب من ذهب، فقال له صلى الله عليه وسلم: ألق هذا الوثن عنك، ثم قال له: أتفر أن يقال: لا إله إلا الله! وهل تعلم إلهاً يستحق العبادة غير الله؟! ثم قال: أتفر أن يقال: الله أكبر! وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يدعوه إلى الدخول في الإسلام، يقول عدي : فلقيته امرأة في الطريق قبل أن يصل إلى بيته، فقالت: إن لي إليك حاجة، فترك عدياً وأقبل عليها حتى قضى حاجتها، تستفتيه أو تسأله شيئاً يقول: فعلمت أنه ليس ملكاً، لأن الملك لا يقف مع المرأة الضعيفة في مثل هذا الموقف، يقول: فدخل إلى بيته فألقيت له وسادة فوضعها لي، فقلت: لك! فجعلها بيني وبينه، ثم تلا الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً [التوبة:31]، عند ذلك قال له عدي : (يا رسول الله! إننا لم نعبدهم، فقال له: بلى، ألم يحلوا لكم الحرام فتتبعوهم، ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى قال: تلك عبادتهم)، يعني: أن اتباعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال هي العبادة التي قصدت في الآية، عند ذلك قال عدي : إني حنيف مسلم يقول: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل مسروراً فرحاً بإسلامه حيث أسلم.
والمقصود هنا: أن قول الله جل وعلا: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ، الأحبار: العلماء، أما الرهبان فهم العباد، والأحبار غالباً من اليهود، واليهود يغلب عليهم العلم ولكن تغلب عليهم القساوة والجفاء والعناد والكبر والإباء وعدم العمل بالعلم، ولهذا صاروا أهل غضب الله عليهم ولعنته.
أما النصارى فيغلب عليهم الجهل ويكثر فيهم التعبد والترهبن، فالرهبان منهم، والرهبانية هي ترك الدنيا والتخلي للعبادة والتقشف والانعزال عن الخلق، يكون الواحد منهم في صومعة يترهبن وهذا يوجد في النصارى بكثرة، ولكنهم على ضلال وعلى جهل، فالجهل يغلب عليهم، ولكن الناس -غالباً- جبلوا على طاعة العلماء وتعظيمهم وكذلك العباد الذين يتعبدون ويتزهدون، فلهذا قال جل وعلا: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].
وعدي بن حاتم بين أنهم ما كانوا يسجدون لهم وما كانوا يدعونهم في كشف الخطوب وإزالة الكروب وإيهاب المرغوب، وإنما كانوا يطيعونهم إذا أمروهم بأوامر ويعرفون أن هذه الأوامر ليست في التوراة التي نزلت على موسى، ولا في الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليهما الصلاة والسلام، فأحسنوا الظن بهم فاتبعوهم في ذلك وقالوا: هم الذين يعرفون المعاني ويفسرون كلام الله جل وعلا ونحن نتبعهم ونكتفي بأقوالهم، فصاروا بذلك متبعين لهم عابدين لهم.
فالمقصود بالخطاب من يمتثل الخطاب ويؤمن به ويقبله، ولهذا ذكر في المسائل: أن طاعة الفقهاء في كونهم يقولون الحكم كذا وكذا.. وهو مخالف لقول الله وقول رسوله أنه مثل اتخاذ الأحبار أرباباً، وأن طاعة العباد والزهاد في تشريع ما يقترحونه ويقولونه ويأتون به أنه من عبادتهم.
ثم يقول: (ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين) أي: بالمعنى الأول، وهم أناس متعلمون وليسوا علماء، فاتبعوا على ذلك فصار ذلك الاتباع عبادة لهم، وعبد بالمعنى الثاني من ليس من العباد بل هو من الشياطين، يعني: الذين يعلمون أنهم يتعبدون بالبدع ويدعون أنهم أولياء فيضلون الناس، ومقصوده أن يطبق ذلك على الواقع الذي كان في زمنه ولا يزال هذا في بلاد المسلمين، والأمر أعم من هذا وأشمل، فكل من أطاع مخلوقاً في معصية الله جل وعلا وهو يعلم فإنه داخل في هذه الآية وفي هذا الحكم، وإن كان والده أو والدته فضلاً عن غيرهما فلا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليها رجلاً من الأنصار وحضهم على طاعته فقال: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) فغضب عليهم أميرهم فقال لهم: ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له حطباً كثيراً فلما جمعوه قال: أججوا فيه ناراً فأججوا فيه النار عند ذلك قال: اقتحموا في النار فوقفوا وقالوا: لا نقتحم في النار نحن من النار فررنا، ولما سكن غضبه وطفئت النار وعاد الأمر على ما هو عليه، يعني: ساروا في طريقهم وفي مقصدهم ثم لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له القصة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها، لا طاعة لمخلوق في معصية الله إنما الطاعة بالمعروف)، والمعروف هو الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خالف الشرع فقد أتى بمنكر لا بمعروف.
إذاً: تكون طاعة المخلوق تبعاً لطاعة الله جل وعلا ولاسيما أولي الأمر فإنهم ينفذون أمر الله والعلماء يبينون أمر الله ويطاعون تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر