لما كان السحر لا ينفك عن الشرك، أراد المؤلف أن يبين أن السحر مناف للتوحيد، فإنه وضع هذا الكتاب لبيان التوحيد ولذكر المضادات له أو المنقصات له؛ لأنها تنافيه.
أما تعريفه في الاصطلاح: فهو رقى وعزائم وعقد وأمور من أدعية مع النفث فيها والعقد بواسطة الشيطان، وتؤثر في الأبدان والقلوب، فتمرض، وقد تميت، وتفرق بين المرء وزوجه، ولها حقيقة تؤثر، وليست خيالاً.
وهو أنواع متعددة، منها: ما هو سحر حقيقي، ومنها: ما يلحق بالسحر لخفائه، وإن كان بحيل وشعاوذ، وليس بسحر، ولكن يلحق به لأجل أنه يعمل عمله أو قريباً من ذلك، ولهذا ألحقت النميمة بالسحر؛ لأنها تعمل عملاً كعمل الساحر، تفرق بين المرء وصاحبه وصديقه، وتفرق بين القريب وقريبه، وبين المحب ومحبه، وتجعل المحبة بغضاء، وتعمل أعمالاً تفسد المجتمع والديار، فألحقت بالسحر.
ومن السحر شيء تخييلي لا حقيقة له، كما قال الله جل وعلا: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]يعني: الحبال والعصي التي ألقوها، فقوله: ( يخيل إليه ) يعني: يدلنا على أن الواقع أنه ليس كذلك، وأنها لا تسعى، وإنما هو خيال.
وقد قال بعض العلماء: إنهم فعلوا حيلة، فأخذوا العصي، ونحتوا وسطها، وملئوها زئبقاً، وكذلك الحبال لفوا عليها زئبقاً، وجاءوا إلى الأرض التي يريدون أن يلقوا عليها هذه الأشياء، وحفروا فيها خنادق ووضعوا فيها النيران لكي تحمي الأرض فألقوها، والزئبق إذا ألقي بهذه الصفة على أرض حارة صار يتحرك، فصارت الحبال والعصي تتحرك بسبب ذلك، فهذه حيلة إذا كان كذلك، وهو نوع من السحر.
وقد يكون السحر في أعين الناس، تخيل إليهم أن هذا الشيء كذا وهو ليس كذلك، مثلما يقع لبعض الناس أنه يأخذ سكيناً فيطعن بها نفسه ويخرج الدم، وقد يلقي نفسه في النار وما أشبه ذلك، وهذا يكون في عين الإنسان فقط، والواقع أنه لا يعمل شيئاً من ذلك، وهذه حيل، وبعض الأذكياء قد يعمل أعمالاً خفية، ويظهر للناس أنه يعمل أشياء ويلفت أنظارهم إلى شيء آخر، ثم يأتي بشيء خلاف ذلك بسرعة، فيخيل إليه أنه فعل شيئاً عجيباً وغريباً.
ثم هناك سحر من نوع آخر: بواسطة عبادة النجوم ومخاطبتها، واستنزال ما يسمونه: روحانياتها، ويزعمون أنها أرواحها أو أنها ملائكة تقوم على تدبيرها وتسخيرها، والواقع أنها شياطين تضلهم، ولهذا يبنون لها هياكل على صورها كما زعموا، وقد يضعون في هذه الهياكل أصناماً، ثم يلبسون ثياباً على صفة معينة، ويدخنون بأدخنة وأبخرة، ويدعون بدعوات ونداءات معينة، ويستمعون لذلك، وهي دعوات الشياطين، فتكون بواسطة الشيطان، فيأتيهم الشيطان ويقضي بعض مآربهم بواسطة أمور يعملها.
وقد يكون السحر نوعاً آخر بواسطة الشيطان، وهو الذي كثيراً ما يقع من أن الساحر يعبد الشيطان عبادة صريحة ويدعوه، ثم إذا جاءه من يريد السحر اجتهد في دعوة هذا الشيطان، وقدم له عبادة، وصار يناديه ويتضرع له حتى يأتي إليه، فيشترط عليه شروطاً: أنك تعمل.. وتعمل كذا.. فيلقي شروطه على الذي يريد أن يسحر له، يقول: لابد أنك تذبح كذا.. أو تأتي بطعام على صفة كذا.. أو أنك تبقى في المكان الفلاني في مكان معين خالٍ من الناس فتبقى وأنت كذا وكذا.. فإذا امتثل ذلك أرسل ذلك الشيطان الكبير -الذي عبده وصار يتضرع له- شيطاناً آخر يجعله واسطة بينه وبين المسحور، يراقب هذا المسحور ويذهب إليه، فإذا انتهز فرصة تلبس به، وإن كان هذا المراد سحره يتحصن بالأذكار والإيمان لا يستطيع أن يأتي إليه، ويصعب عليه جداً، وقد يراقبه وقتاً طويلاً فإذا غفل أو حصل له انفعال من غضب أو ما أشبه ذلك تلبس به فعمل فيه السحر، وقد يلقي السحر في بدنه، وقد يعمله في خارج البدن وغير ذلك، وهذا النوع كثيراً ما يحصل، فيحس الساحر أنه وقع سحره في شيء يحفظه.
والمقصود: أن هذا كله عبادة لغير الله جل وعلا، وتقرب إلى الشيطان بما يحب من إضرار الناس، وإفساد أبدانهم وأخلاقهم وأديانهم، فلهذا يجب محاربة السحر، وسيأتي أن حكم الساحر أن يقتل.
السحر من الكبائر التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: فعد منها السحر)، فجعل السحر موبقاً، والموبق: هو المهلك، بمعنى: أن الساحر يكون هالكاً.
والسحر أنواع منه: ما هو كفر بالله جل وعلا وشرك، والمشرك والكافر ما ينفعه أي عمل ولو تصدق أو صلى أو صام ولو عمل أي عمل، وكما قال الله جل وعلا: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].
وكذلك قوله عن أعمالهم: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور:39].
وكما قال في الآية الأخرى: كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] هذه أعمال الكفار بهذه الصورة التي يمثلها لنا ربنا جل وعلا والمشركون.
والمشرك إذا مات على شركه فهو خالد في النار أبداً، ولا يغفر له، وكذلك الكافر إذا مات على كفره فهو خالد في النار، والجنة عليه حرام، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ في المجامع ويأمر منادياً ينادي: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) حتى يعلم الناس ذلك.
والإيمان ليس كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب، وإنما الإيمان في القلب والجوارح والسلوك والعمل، وليس في القلب فقط، والإيمان الذي في القلب لا يكفي إذا لم يكن هناك عمل.
فالساحر يتقرب إلى الشيطان بما يصنعه من العقد التي ينفث فيها، والعزائم والأبخرة والأدعية التي يدعو الشيطان بها؛ حتى ينعقد ما أراده بإذن الله الكوني القدري، فيحصل للمسحور الأذى إما مرض وإما تغير حال، يصبح بدل الحب بغضاً أو بالعكس، أو قد يغير مزاجه، وقد يمرضه، وقد يموت، وقد ذكروا: أن السحر له أنواع متعددة، ولكن بعض الأنواع التي ذكرت ليست من السحر المحرم، وإنما هي حيل، ولهذا جاء في اللغة: أن السحر هو الصرف، يعني: أن يصرف الإنسان عن الشيء الذي يراه على غير حقيقته، ومن ذلك قولهم: ( سحرت الصبي إذا خدعته واستملته ) ومن ذلك ما جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً)وذكر أن سبب هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابن الأهتم لما حضر مع الزبرقان وقال للرسول صلى الله عليه وسلم عن الزبرقان: إنه لقوي العارضة، مطاع في أنديته، وإنه كذا وكذا.. فقال الزبرقان: والله إنه ليعلم أكثر من ذلك، ولكنه يحسدني، فقال: أنا أحسدك؟ ثم قال: والله إنه للئيم الخال، حديث المال.. كذا وكذا.. ثم قال: والله يا رسول الله! ما كذبت في الأولى ولا كذبت في الثانية، ولكني رضيت فقلت أحسن ما أعلم، وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) يعني: أن الذي عنده مقدرة على البيان قد يصف الباطل فيجعله بصورة الحق، فيخيل للإنسان أنه حق فيسحره يعني: يصرفه عن الحق بهذه الصورة.
وهذا على مذهب المحدثين أنه على سبيل الذم، يعني هذا القول: (إن من البيان لسحراً)على سبيل الذم، والمقصود: أن السحر في اللغة هو هذا.
أما السحر في الاصطلاح فهو -كما ذكر العلماء-: عزائم وعقد ينفث فيها كما قال الله جل وعلا: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]يعني: السواحر، عقد وعزائم ورقى وأدخنة وأبخرة يتقرب بها إلى الشيطان، فتجتمع نفس الساحر مع نفس الشيطان على أذية المسحور، بواسطة ما يفعله من الأبخرة وغيرها، أو الأدوية التي يجمعها فينعقد ما أراده بإذن الله جل وعلا القدري الكوني، فهذا هو السحر الذي يكون شركاً وكفراً.
ولما كان السحر لا ينفك عن الشرك أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن هذا مناف للتوحيد، وأنه يجب على الموحد أن يعرف ذلك حتى يجتنبه ولا يقع فيه.
قال الشارح: [قوله: باب ما جاء في السحر أي: والكهانة ].
الكهانة سيأتي لها باب مستقل، ولكنه قال: والكهانة؛ لأنها أدخلت فيه، بل ومن أنواع السحر النميمة كما سبق، وهناك أنواع ألحقت بالسحر مثل: اقتباس علم النجوم والنظر فيها والتأثير فيها، ومثل الحيل التي يصنعها بعض الناس، ويصرف وجوه الناس عنها، ومثل قوى النفس، فقد يكون لبعض الناس تأثيراً قوياً في نفسه فيؤثر على الآخرين بإصابة العين وما أشبه ذلك، كل هذا وغيره أدخل في السحر، ولكن الواقع أنه ليس من السحر.
وسمي السحر سحراً؛ لأنه يقع خفياً آخر الليل.
قال أبو محمد المقدسي في الكافي: السحر: عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، وقال سبحانه: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه ].
هذا إشارة إلى أن بعض العلماء قالوا: إنه لا حقيقة له، وهذا في الواقع قول ضعيف جداً، والذي قال به قلة كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره، وقد ذكروا أنواعاً من السحر متفق عليها، ومنه ما هو كفر، الذي هو عقد ورقى ينفث فيها الساحر، وقد يكون بغير عقد ورقى؛ بواسطة أشياء يعالجها كما سيأتي في كون النبي صلى الله عليه وسلم سحر في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر، ووضع في بئر يقال لها: بئر ذروان، فهذا نوع وهو، أشد السحر، وهذا يكون بواسطة الأرواح، وبواسطة العلاجات، فيؤثر على الروح والبدن، وهو أعظم السحر وأشده.
ونوع آخر وهو كفر أيضاً يكون بمساعدة الشيطان فقط، يدعوه ويخضع له ويذل له، ويكون عابداً له، فيفعل الشيطان الشيء الذي يريده، وهذا قد يكون على الروح فقط بالتخيلات.
ونوع آخر مثل سحر أصحاب الكواكب الذين يجعلونها مؤثرات على ما في الأرض، ويزعمون أن لها روحانيات، والروحانيات: هي أرواح -حسب زعمهم- تتنزل عند عبادة خاصة يتعبدونها لهذه الكواكب، ويعبدون الكواكب السبعة السيارة: الشمس، والقمر، والمريخ، وزحل، وعطارد، والزهرة، فهذه الكواكب يزعم هؤلاء السحرة أنها روحانيات، وهم في الواقع يعبدون شياطين، فتنزل عليهم وتعمل معهم بعض الذي يريدونه، ولهذا تكون بواسطة أبخرة وأدخنة ودعوات وعبادة خاصة يتعبدون بها، فهؤلاء هم الكلدانيون الذين بعث فيهم إبراهيم، وقد ذكر الله جل وعلا أنه أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وكذلك أخبر أنهم يتبعون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102].
فهذه الآية توضح لنا أن السحر له حقيقة، وأنه يمكن تعلمه، ويمكن أن يكون الإنسان ساحراً بالتعلم، وبواسطة الشياطين، فالشياطين هي التي تعلم الناس ذلك، وعلى القول الصحيح الذي اختاره أكثر السلف أن الملكين ببابل هاروت وماروت كانوا يعلمون الناس السحر، قال: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ).
وقد ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية روايات عن الصحابة مثل ابن عباس وغيره، وعن سعيد بن المسيب وقتادة وغيرهم: أن سليمان عليه السلام أخذ كتب السحر من الشياطين ودفنها تحت كرسيه، والشياطين لا تستطيع أن تقرب إلى كرسيه، فلما مات سليمان عليه السلام جاءت الشياطين واستخرجت هذه الكتب ونشرتها في الناس وقالت: هذا الذي كان سليمان يسخر به الجن والإنس والدواب، فاعتقد اليهود وأهل الكتاب الذين أخذوا ذلك أن سليمان ساحر، فلما نزل القرآن وذكر سليمان عليه السلام مع الأنبياء أنكر ذلك اليهود وقالوا: سليمان ساحر، ولا يزال اليهود إلى الآن يعتقدون أنه ساحر؛ فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة:102] يعني: بهذه الكتب التي زعمت أن سليمان هو الذي صنعها، وهو الذي يستعملها، وهي من صنع الشياطين؛ لتضل الناس بذلك، ولهذا قال: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102] ثم ذكر: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102] (الملكين) بفتح اللام عند أهل القراءات المشهورة، وقد جاء في قراءة شاذة: (الملكين)، ولكن صحت الروايات عن مفسري السلف: أنهما من الملائكة، وذلك أن الملائكة لاموا بنو آدم على ارتكابهم المعاصي، يعني: حسب الروايات التي جاءت، فقال الله جل وعلا للملائكة: اختاروا اثنين ليكون لهما التركيب الذي في بني آدم، وينزلا في الأرض فيحكمان بين الناس، فاختير هاروت وماروت، فنزلا إلى الأرض، وركبت فيهم الشهوة التي في بني آدم، والطبائع التي في بني آدم، فصارا يحكمان بالعدل وبالحق حتى جاءت إليهما امرأة جميلة، فافتتنا بها فوقعا في المعصية، عند ذلك اختارا أن يعذبا في الدنيا، فعلقا برجليهما في بئر برهوت إلى يوم القيامة، وصار عليهما أن يعلمان السحر.
وبعض العلماء أنكر ذلك وقال: لا يمكن أن الملائكة تقع في مثل هذا، وهذا يحتاج إلى دليل ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنكروا ذلك وقالوا: المعنى أن هذا نفي، يعني: والله ما أنزل على الملكين السحر، الله لا ينزل السحر الذي يتعلم الناس منه، وإنما ينزل الوحي والحق.
والمقصود: أن السحر حق ثابت وله حقائق، ومن أنكر حقيقته فهو مكابر، إلا أن يكون الإنكار للسحر الذي يقلب أعيان الأشياء كما يزعم كثير من الناس، ويتناقلون فيما بينهم حكايات وقصصاً لا حقيقة لها، ولو طلب من إنسان أن يثبت على ذلك دليلاً ما استطاع، فينقلون: أن الساحر يستطيع أن يقلب الإنسان حيواناً أو يقلبه حجراً أو بالعكس، وهذا ينكر؛ لأن هذا ليس له شيء ثابت.
فهذه الحكاية سندها صحيح، وبعض العلماء طعن فيها وقالوا: لا يمكن أن يقلب السحر الأشياء، فيجعل الحب ينبت في الحال، ثم يستوي، ثم يحصد فيخرج من أكمامه، ثم ينطحن، ثم ينعجن، ثم ينخبز، ثم يستوي هذا لا يمكن؛ لأنه قلب الأشياء عن حقائقها، قالوا: وإن صح السند إلى عائشة فهذه المرأة قد خرج إيمانها فلا نصدقها بقولها هذا، والصحابة هابوا أن يقولوا لها شيئاً أو أن يفتوها بشيء، مع أنها كانت نادمة وكانت تبكي بكاءً شديداً، وتقسم أنها لا تفعل شيئاً.
فالمقصود: أن هذا من أدلة القائلين أن الساحر يمكن أن يحول بعض الأعيان إلى غير عينها، واستدلوا بهذه الحكاية فقط، وقد طعن فيها من طعن، وقالوا: إن هذه لا يعتمد عليها، وهي حكاية عن امرأة أقرت على نفسها أن الإيمان خرج منها فكيف نصدقها؟ لا نصدقها، ولو كلف إنسان من السحرة أو من غيرهم أن يقلب حيواناً إنساناً أو العكس ما استطاع، ولا نفتيه بشيء من ذلك، وإنما هي تخيلات تخيل على العيون، فيتخيل لبعض الناس أن ذلك كذلك وهو ليس كذلك، كما قال الله جل وعلا: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66].
وستأتي قصة جندب الخير مع الساحر الذي كان يدخل في البقرة من فمها ويخرج من دبرها، ويدخل من دبرها ويخرج من فمها، ويقطع رأسها ثم يقول لها: قومي فتقوم، وهذا تخييل؛ ولهذا لما رآه جندب يصنع هذا جاء مشتملاً على سيفه وضرب عنقه وقال: إذا كنت صادقاً فأحي نفسك؟
كان يخيل الشيء للناس، فيتخيل لهم أنه يصنع هذا الشيء، وهو ليس كذلك، ولهذا إذا جاء من لا يفطن له الساحر من جهة أخرى يرى أنها طبيعية تماماً وليس فيها شيء من التغيرات.
هذا الحديث رواه البخاري في خمسة مواضع من صحيحه، ورواه مسلم في السحر، ومعروف أن مسلماً رحمه الله لم يبوب الأحاديث التي ذكرها في كتابه على التراجم، وإنما يسند الأحاديث مرتبة بدون تراجم، والتراجم التي في صحيح مسلم الآن وضعها الشراح مثل النووي والقاضي عياض والقرطبي، وليس القرطبي صاحب التفسير، فهؤلاء هم الذين وضعوا هذه التراجم، فرواه في كتاب السحر في آخر الصحيح.
ومسلم رحمه الله ما كان يكرر الحديث، وإنما كان يذكر الأحاديث التي موضوعها واحد في مكان واحد، بخلاف البخاري فإنه يهتم بالتراجم أكثر من اهتمامه بمتون الحديث، ولهذا يقول العلماء: فقه البخاري في تراجمه، وقد جعل التراجم أكثر من الأحاديث؛ لأن تراجمه بلغت أربعة آلاف وثمانمائة وبضعة عشر، وأحاديثه بدون التكرار ألفان ومائتان وثلاثة عشر فقط، هذا هو المحرر الصحيح، والتراجم صارت مضاعفة؛ لأنه يكرر الحديث ويضع عليه عدة تراجم، ويكفي الإنسان أن يعرف أنه لما ذكر حديث جابر : في بيع الجمل عليه، لما غزا على جمل ضعيف، وفي رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من الغزوة صار الجمل يتأخر ولا يلحق الجيش، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه، فوجد جابراً قد أنخذل عن أصحابه وتأخر، فسأله فقال: الجمل لا يسير، فزجره الرسول صلى الله عليه وسلم وضربه، فصار يسير سيراً حثيثاً حتى قال: كنت أقهقره لئلا يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ثم قال له صلى الله عليه وسلم وهو يحادثه ويؤانسه كما هي عادته صلى الله عليه وسلم: (هل تزوجت يا
هذا الحديث ذكره البخاري في ستة وثلاثين موضعاً وجعل عليه ستاً وثلاثين ترجمة، فهذا هو الفقه الذي يفيد وينفع، ويتأمله الإنسان، وهذا الكتاب لا يستغني عنه طالب العلم، ويجب أن يعتني به، ويردده ويكرره، ويتفهم التراجم مع مطابقة الأحاديث التي ذكرها البخاري ، فإنه بذلك يخرج وقد علم شيئاً كثيراً بإذن الله.
وهناك شيء آخر يجب أن يتنبه له أيضاً فعله البخاري عمداً، وهو أنه إذا وضع ترجمة لا يأتي بالحديث الذي يدل على مضمونها دلالةً ظاهرة، وإنما يأتي بشيء فيه خفاء؛ ولهذا كثير من العلماء الشراح يعسر عليهم فهم مطابقة الحديث للترجمة؛ والسبب في هذا أنه يريد أن يدرب الطالب على الفهم والفقه، وعلى الاستنتاج، فهو في الواقع كتاب تعليم وتدريب وتفقيه، فهو كتاب عظيم جداً، مع أنه انتقى الأحاديث المهمة التي لا يستغني عنها طالب العلم، وهذا شيء عارض، والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم سحر.
ثم كذلك هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند في عدة مواضع، وروي عن ثلاثة من الصحابة: عائشة وأنس وزيد بن أرقم ، وهناك روايات أخرى غير هذه، والحديث ثابت.
والقاضي عياض حاول أن يؤول هذا الكلام، وقال: معنى (أنه يخيل إليه) يعني: مثلما يحدث للإنسان في نومه أو في يقظته أنه اتصل بأهله ولم يتصل، وليس معناه أنه أثر في عقله أو في فكره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه معصوم من ذلك، هكذا قال القاضي عياض لئلا يقع في ذلك طعن.
ومعلوم أن السحر الذي وقع عليه هو في بدنه صلوات الله وسلامه عليه، وبدنه ليس معصوماً من أن يناله الأذى، ولهذا جرح يوم أحد، وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته، وسقط في حفرة من الحفر التي كان يحفرها الفاسق عامر ، وحصل له ما حصل، فأنزل الله جل وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمران:128].
وكذلك كان يمرض صلوات الله وسلامه عليه، فكان يصيبه صداع ويصيبه غير ذلك مما يصيب البشر، فكان بدنه كأبدان الناس، كما قال الله جل وعلا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6].
أما فكره وعقله وما يوحيه الله جل وعلا إليه فمعصوم مما يخل به. ويدلنا هذا الحديث على أن السحر قد يؤثر في أي إنسان كان، وقد لا تمنع منه التعوذات والأوراد والأذكار وقد لا تنفع، فالرسول صلى الله هو أكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقلبه دائماً مع الله جل وعلا، وكذلك هو بنفسه دائماً في عبادة وذكر، ومع ذلك حصل له ما حصل.
وذكر الواقدي عن مدة سحره وعن وقته: أن ذلك كان بعد رجوعه من غزوة الحديبية، والمدة ذكر فيها روايتين وذكرهما تلميذه ابن سعد أحدهما: أنه بقي مسحوراً أربعين يوماً، والأخرى: أنه بقي مسحوراً ستة شهور صلوات الله وسلامه عليه، وكان في أول الأمر وكل الأمر إلى الله، وترك العلاج توكلاً على الله واعتماداً عليه، ثم لما أثر فيه عالجه بالعلاج الصحيح وهو الدعاء، فلهذا تقول عائشة : (سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ولا يصنعه، فلما جاء عندي ذات يوم أو ليلة دعا ودعا، ثم قال لي: يا
وقوله: (إنه لبيد بن الأعصم ) هذا يهودي من اليهود السحرة، وهو من بني زريق.
وقوله: في (مشط ومشاطة) المشط: هو الذي يمشط به الشعر، والمشاطة: هي التي تخرج عند مشط الشعر من الشعر والوسخ وما أشبه ذلك، أخذها ووضعها مع المشاطة في طلع نخلة ذكر يعني: كافور النخلة الفحل، أخذ هذا الشيء ووضعه في الكافور ثم وضع هذا الشيء في البئر، وهذا مع النفث، ومع الشيء الذي يكون بواسطة الشيطان.
وهكذا يصنع السحرة! ولهذا إذا أخرج السحر وأحرق أو أتلف فإنه يبطل سحره، ولهذا يحافظ السحرة على هذا الشيء الذي يصنعونه، وبعضهم ربما وضعه في معدن وغلق عليه برصاص فحافظ عليه كثيراً حتى يبقى السحر؛ لأنه إذا ذهب وزال انتهى السحر.
فذكر صلوات الله وسلامه عليه أنه دعا، فاستجاب الله وشفاه، ولكن بعد ما عرف أنه سحر بواسطة الملائكة، وأن هذا هو الذي سحره.
ولم يعاقب هذا الرجل الكافر الخبيث، ومعلوم أن المعاهد إذا فعل مثل ذلك ينتقض عهده.
ولهذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث: أنه لا يقتل الساحر، وليس كذلك؛ لأن هذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلق بنفسه وبجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وله أن يحكم به بحكم الله، وله أن يعفو، فعفا مثل ما عفا عن اليهودية التي وضعت له السم في اللحم ولم يقتلها، مع أن الذين أكلوا معه أحدهما مات من السم، والعلماء يقولون: إذا وضع شخص سماً لأحد حتى قتله فإنه يقتل به، فالمقصود أن هذا لا يكون دليلاً على عدم القتل، وسيأتي أن حده ضربة بالسيف حتى يموت، وفي هذا دليل على تأثير السحر بالبدن، وفيه دليل على أن السحر يشفى الإنسان منه بالأدعية والرقية بكتاب الله وبأسمائه، وهذا أمر مجرب نافع جداً، ولكن ما وجد لكل أحد، إن كان الإنسان عنده إيمان وقوة وتصديق في ذلك فإنه بإذن الله يزول بسرعة، ويشفى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبطل سحر الساحر بذلك، ولا سيما إذا عزم عليه بالآيات التي تناسب مما ذكر فيها السحر وإبطاله، وأن الساحر لا يفلح وما أشبه ذلك، وآيات الله كلها فيها شفاء كما قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [الإسراء:82] والصواب أنه شفاء عام، شفاء للأبدان، وشفاء للقلوب، وشفاء للأمراض والشبهات والشهوات وغيرها، هو شفاء عام، لكن لا يجوز أن يستعمل الاستعمال السيئ الذي يستعمله بعض الناس، حيث يجعله طريقاً لكسب المال فقط، ثم يلبس على الناس ويصير مقصوده فقط استغلال الناس وابتزاز أموالهم، وهذا لن يشفى أحد ممن يقصده إذا كانت هذه طريقته وهذا مقصوده، ولكن قد يشفى إنسان منهم بإرادة الله، وليس بسبب علاج هذا الذي يريد الدنيا.
فهذا يدلنا على أن العصمة التي أخبر الله جل وعلا عن نبيه أنه يعصمه ليست في بدنه، وإنما هي فيما يبلغه عن الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء: أن الشيء الذي يبلغه عن الله جل وعلا من الدين وغيره أنه معصوم فيه، وأنه يقع فيه شيء خلاف ما أوحاه الله جل وعلا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر