أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنني في بداية هذه الكلمة المتواضعة، أحب أن أشكر أشياخي وأساتذتي، الذين حرصوا على تشجيع تلميذٍ صغير من تلاميذهم، فحضروا في هذه الليلة، وأحب أن أقول: إنني كنتُ أعتقد أنها لا تعدو أن تكون كلمة في إحدى أُسَرْ هذا المعهد وعلى كل حال، فإنني أشكر لهم تكرمهم بهذه الجلسة، التي أرجو أن يكون من ورائها إن شاء الله الخير الكثير، وحول هذا الموضوع، بل وحول كل موضوع أحب أن أقول: إننا دائماً لسنا بحاجة إلى المعلومات المجردة، بقدر ما نكون بحاجة إلى الاستفادة من هذه المعلومات، فكم وكم من الناس من تجد لديه العلم والمعرفة في كثير من الأمور، وقد يبرز في هذا أهل الاختصاص وأهل الفن، ولكن تجد استفادته وانتفاعه بهذه المعلومات قليلاً أو معدوماً، وهذا ممن كتب عليه الشقاء، كما قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
فالقضية -أيها الإخوة- ليست في كوننا نعرف فقط، بل القضية في كوننا نستفيد مما نعرف، والإنسان يشاهد في واقعه العملي أحياناً أشياء مادية ملموسة يستغربها، وأضرب لذلك مثلاً: لو افترضنا أن رجلاً من الناس يعاني من مرض من الأمراض، ويخاف من هذا المرض أشد الخوف، ثم ذهب إلى الأطباء، فقالوا له: إن علاجك يكون في الحمية، أي: أن تمتنع عن تناول أطعمة بعينها، وأعطوه قائمة بألوان وأنواع الطعام التي يجب أن يمتنع منها، فأخذ هذه القائمة، وحفظ هذه الأسماء وأتقنها، وظل لا يحتمي منها، ولا يمتنع عنها، هنا نقول: هذا الإنسان عرف السبيل إلى العلاج، لكنه لم يستفد، لأنه لم يمتنع، ولماذا لم يمتنع؟
قد يكون عدم امتناعه في الغالب ناتجاً عن ضعف إرادته، فهو يعلم أن هذا فيه ضرر عليه، لكنه لا يستطيع أن يمنع ويقهر نفسه عن تناول هذه الأطعمة، ويكون في هذه الأشياء حتفه.
كذلك الحال بالنسبة لمكائِد الشيطان، من منا يجهل العداوة التي قدرها الله سبحانه وتعالى وقضاها بين الإنسان وبين الشيطان؟
وكيف يجهلها المسلم، وهو يقرأ القرآن الكريم الذي يشير دائماً وأبداً أن الشيطان كان خلف جميع النكبات التي أصابت هذا الإنسان؟!
وخروج أبينا آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة كان بحيلة من هذا العدو اللعين، وقد حكاها الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وبين كيف وسوس إليه الشيطان، وأغراه بمخاطبة غريزة موجودة ومفطورة في قلب الإنسان، وهي حب الخلود وحب البقاء، فقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] وأيضاً أغراه بقضية حب التملك، حتى أخرجه من الجنة.
وما من مصيبة نـزلت بالإنسان إلا ومصدرها الشيطان، وسببها الشيطان، ومع ذلك كله تجد كثيراً من الناس على رغم معرفتهم القوية بهذه الألاعيب وهذه الأحاديث قد يقعون فيها، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول لنا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6] ثم يقول: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6].
الفقرة الأولى من الآية تؤكد العداوة، وأنها موجودة: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر:6] وهذه القضية نظرية، وهي معرفة عقلية مجردة، كل الناس يؤمنون بها، ولذلك عقب الله سبحانه بقوله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6] أي: عاملوا هذا الشيطان كما تعاملون عدوكم، واعتبروا كل ما يأمركم به الشيطان أو يدعوكم إليه الشيطان كيد العدو لعدوه، ومن ينتظر من عدوه خيراً أو أمراً بخير؟!
وهذا التحذير الإلهي يأتي أيضاً في سورة أخرى، فبعد أن يذكر الله تبارك وتعالى لنا قصة الشيطان مع أبينا آدم ورفضه للسجود له، كما في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] هذه هي قصة العداوة التاريخية بين الإنسان وبين الشيطان، يعقب الله تبارك وتعالى عليه بقوله: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50].
وقد يكون غريباً أن هذا المخلوق الذي يعلن الله سبحانه وتعالى في كتابه في غير موضع أنه عدوٌ لنا، قد يكون من الغريب أن كثيراً من الناس يتبعون هذا العدو، ويتخذونه ولياً من دون الله: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً [النساء:119].
لكن هذه الصورة ساذجة، صورة بدائية من صور عبادة الشيطان، إنما مفهوم عبادة الشيطان أوسع من هذا كله، فإذا كان الله عز وجل، يدعوك إلى أمر، والشيطان يدعوك إلى أمر يخالفه، فعصيت الله وأطعت الشيطان، فهذه شعبة من العبادة، وكم وكم تجد الإنسان يستجيب لداعي الشيطان حين يضعف فيه وازع العقيدة والإيمان.
ولم يكن والد إبراهيم ممن أقاموا المعابد والهياكل وصلوا فيها وسجدوا فيها لإبليس، بل كانوا يعبدون الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب وغيرها، وإنما إعراض الإنسان عن عبادة الله إلى عبادة الصنم، هي في الحقيقة عبادة الشيطان، حتى ولو برزت في بعض الأحيان أنها عبادة لملكٍ مقرب أو لنبيٍ مرسل، فالذين يعبدون الملائكة هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، والذين يعبدون الأنبياء هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، والذين يعبدون الأولياء والصالحين هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، ولذلك إذا كان يوم القيامة يحضر الله سبحانه وتعالى الناس في صعيدٍ واحد، ويحضر آلهتهم المدعاة، فمن كان يعبد شيئاً تبعه؛ فيأتي هؤلاء الناس الذين كانوا يعبدون الملائكة في الدنيا، يحضرهم الله تبارك وتعالى، ويحضر الملائكة، الذين ادعوا أنهم كانوا يعبدونهم، ويسأل الله سبحانه الملائكة، فيقول: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] هؤلاء الذين كانوا في الدنيا يتظاهرون بعبادة الملائكة.. هل كانوا يعبدونكم فعلاً وحقاً أيها الملائكة؟
فماذا تقول الملائكة؟
تقول كما قال عنها: قَالُوا سُبْحَانَكَ [البقرة:32] فبدءوا بتنـزيه الله سبحانه وتعالى: أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ:41] أي: وإن ادعوا عبادة الملائكة، فالملائكة تبرأ من هذه العبادة وتنكرها، وتقول: نحن عبيدٌ مربوبون نتوجه بالدعاء والعبادة لله رب العالمين، فلا ينبغي أن نُعبد: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41].
إذاً: أنكر الملائكة أن يكون هؤلاء يعبدونهم، وقالوا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41] وما المقصود هاهنا بالجن؟
المقصود بالجن: الشياطين، لأن إبليس هو أبو الجن كما تعلمون، إذاً: فالإنسان حتى وهو يخيل إليه أنه يعبد ملكاً من الملائكة، حقيقة الأمر أنه يعبدُ الشيطان، وكيف يعبد الشيطان؟
لو قيل له: إنك تعبد الشيطان؟
لأبى ونفر وتخلى عن هذه العبادة، لكن نقول: يعبد الشيطان، لأن الذي دعاه إلى هذه العبادة وزينها له، وأغراه بها هو الشيطان، فقد سلك طريق الشيطان وأعرض وأبى عن طريق الله سبحانه وتعالى، هذه صورة من صور عبادة الإنسان للشيطان.
وخلاصة القول فيها: أن الشيطان يدعو الإنسان إلى أمرٍ واحد فقط، هو أن يعبده!!
وما المعاصي إلا دليل إلى عبادة الشيطان، فهي صورة مصغرة من صور العبادة، فأنا وأنت حين نعبد الله تعالى، نصلي ونسجد وندعو ونقرأ القرآن ونتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذه هي العبادة، أو هذه هي بعض صور ومظاهر العبادة، كذلك نفس الشيء إذا صرفت هذه الأشياء لغير الله، أو انحرف الإنسان عن الطاعات إلى المعاصي، يكون وقع في شيءٍ من عبادة الشيطان، فالذي يرتكب معصية، نقول هذه المعصية انحراف، وفيها نوع من عبادة الشيطان أو طاعة الشيطان، لأن الذي أمرك بهذه المعصية هو الشيطان.
فأصل العبادة: هي الطاعة والاتباع، فما دام الإنسان أطاع الشيطان بهذه المعصية، نقول: إن هذه شعبة من العبادة، لكن حذار أن نقول: إن وقوع الإنسان في هذه المعصية أنه عبد الشيطان! هو أخطأ لا شك، واتبع الشيطان في هذه المسألة، وهذه شعبة من شعب العبادة، لكن يبقى الإنسان مسلماً، ما دام لم يصدر منه سوى هذه المعصية، يبقى مسلماً لأنه يعبد الله أكثر أحيانه، ويؤدي المفروضات الواجبات عليه، وإنما زل ووقع في هذه معصية، فهذه المعصية تبقى إثماً يحاسب عليه، وقد يعذبه الله سبحانه وتعالى إن لم تتداركه رحمته، لكن يبقى مسلماً، إنما إذا خلع ربقة العبودية لله، وتوجه بكليته إلى عبادة الشيطان، فترك الصلاة، وترك الدعاء، وترك الإيمان بالله، وصار يتبع الشيطان، ولا يرد له أمراً، هنا نقول: إن هذا الإنسان قد انخلع تماماً من العبودية والإيمان بالله سبحانه وتعالى، وصار عابداً للشيطان بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى.
والشيطان أولاً: وهبه الله سبحانه وتعالى أسلحة قوية وفتاكة، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى. وثانياً: اكتسب خبرة طويلة جداً تصل إلى آلاف السنين أو أكثر من ذلك، الله أعلم، منذ عاش تجربته مع آدم عليه السلام، وإلى أن يموت وينتهي، والشيطان يكتسب تجارب يوماً بعد يوم، وقد يقع في مزلق مع إنسان، فيستفيد منه للمرات القادمة، فالشيطان ذكي، ولا يمكن أن يبارئ الإنسان، أو يطلب منه أمراً يعرف منذ البداية أن نفسه تنفر منه، كما يفعل أولياء الشيطان من الناس، فجنود الشيطان الذين جتدهم في هذه المهمة، عندما يريدون أن يضلوا الإنسان أو يصرفوه عن طريق الحق، يبدءون معه بصغار الأمور قبل كبارها، أمرٌ أو درسٌ تلقوه على يد شيخهم وأستاذهم، فالشيطان يبدأ بالإنسان أولاً: بالكفر، فإذا كان ذلك ممكناً بوسيلة أو بأخرى، أن يدعو الشيطان الإنسان إلى الكفر، فهو أغلى ما يريد، لأنه بذلك يضمن أن هذا الإنسان سوف يكون مرافقاً له في النار، والعياذ بالله..!
فإذا استطاع الشيطان أن يدخل الإنسان إلى الكفر فعل، وذلك بأحد طريقين:
ولكن قبل أن نغادر هذه النقطة، أقول: يجب أن نفرق بين الوساوس التي قد تعرض لكل إنسان، وبين العقيدة المستقرة في القلب، فما من إنسان إلا والشيطان يحاول أن يغريه، ويحاول أن يثير عليه الشكوك والوساوس، وخاصة في فترة الشباب وفترة التفكير، فيبدأ الإنسان يضرب يمنةً ويسرةً ويفكر، وقد يحاول الشيطان أن يلقي إليه بقدر ما يستطيع بعض الشبهات، فتجد هذا الإنسان -وكم رأينا من بعض الشباب، حتى الذين فيهم خيرٌ وصلاحٌ واستقامة- تجده يعيش حياته في قلق، لا يهدأ له بال، ولا يستقر له ضمير، ولو فتشت لوجدت أن الشيطان قد ألقى في قلبه شبهة من الشبهات، أو وسوس له بشيءٍ ما نغص عليه حياته.
ثم بدأ يقول له: أنت الآن على حال من الكفر، أو شك في الدين، ومن الممكن أن الموت يداهمك اليوم أو غداً، فتموت كافراً، وهذا الشعور يقلق الإنسان كثيراً، يقلقه كثيراً أن يشعر أنه لم يستقر الإيمان في قلبه، وأن الموت يهدده في كل لحظة، فهو حريص على أن يمتلئ قلبه إيماناً، لكن ليس بإمكانه ذلك بين عشية وضحاها.
فأقول: هنا يجب ألا ننخدع بهذه القضية، لأن هذه ألعوبة محبوكة من الشيطان، لكن يجب أن نكون منتبهين لها، ربما يكون قصد الشيطان هنا، إضافة إلى أنه يحرص بطبيعة الحال على أن يضل الإنسان، قد يكون قصده من جانبٍ آخر، وهو أنه ينغص على المؤمن عيشه، ولا تظن أن الشيطان لا يفكر في هذه الأمور، حتى الحزن، يحرص الشيطان على أن يكون الإنسان حزيناً، وقد ذكر الله تعالى هذا في كتابه، فقال: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10] والشيطان حريص على أن يكون الإنسان فقيراً: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268] فربما يكون قصد الشيطان هنا أن ينغص عليك الحياة، ويجعلك في حال من التوتر والهم والحزن شديد، على الأقل ربما يكون من نتائج هذا أن الإنسان قد يكون عنده رغبة في الخير وحرص على الطاعات، فيضعف ويصبح إنساناً عادياً، يؤدي الفرائض، ولا يهتم بأمرٍ آخر.
فإذا قيل له: اتق الله وفكر في أمور دينك، وفكر في الآخرة، قال: يا أخي أنا لا أحب أن أفكر في هذه القضايا، لماذا لا تحب أن تفكر فيها؟
قال: لأني إذا فكرت فيها، تبدأ الوساوس، والشكوك، والهواجس تتسرب إلى قلبي، ثم إني أحب أن أبقى إنساناً لا أفكر في هذه الأمور، ولا تخطر لي على بال، يكفيني أن أكون كعوام المسلمين، أصلي وأصوم وأزكي وأحج، ولا أحب أن أدخل في نفسي مثل هذه المتاهات، وهذا لأن الشيطان يحرص على اصطياده، ولاحظوا كيف وصل الشيطان إلى ما يريد، بطريقة قد تخفى على الإنسان، فإذا وجد إنسان شيئاً من ذلك في قلبه، فأقول:
أولاً: يجب أن يقنع نفسه بأن الحالة التي يعيشها، ليست حالة شك، وإنما هي حالة وسوسة تدل على صريح الإيمان في قلبه، وفي الصحيح أن الصحابة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في قلبه ما يتعاظم أن يتكلم به} وفي بعض الروايات قالوا: {إن أحدنا يجد في قلبه ما لأن يحترق حتى يصير حمماً، أحب إليه من أن يتكلم به} نفس الشعور الذي عندك جاء إلى الصحابة، وأخبروا سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم، فقال لهم : {أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} وفي أحاديث أخرى صحيحة قال: {ذاك صريح الإيمان } وقوله: ذاك اسم إشارة قد يكون راجعاً إلى الوسوسة التي ألقاها الشيطان، لأنهم قالوا: {إن أحدنا يجد } ثم قال: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال ذاك صريح الإيمان}.
فيكون ما وجدوه هو صريح الإيمان، وقد يكون الضمير راجعاً إلى شعورهم الذي عبروا عنه بقولهم: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به} أو {ما لأن يحترق أحدنا حتى يصير حمماً أحب إليه من أن يتكلم به} والمقصود أنك أيها الإنسان الذي قد تشعر بنفسك أحياناً بهذا الشعور، لو سألناك أنت الآن فإننا نجدك متأثراً وخائفاً، تخاف من ماذا؟
تقول: والله أخاف أن أموت على هذه الحالة، هذا نفسه دليل على أنك مؤمن، لأنه لو لم يكن عندك إيمان لما كان يهمك أن تموت على هذه الحالة، أو أن تموت على أي حال، لكن خشيتك أن تموت على هذه الحال، لأنك تعلم في قرارة قلبك أن موتك على حالٍ من الشك في نظرك يكون نتيجته أن تكون من أهل النار، وهذا الشعور يجعلك تخاف، فهو دليل على أنك مؤمن وعندك صريح الإيمان، فلا يجب أن تقلق لكن لا أقول لك لا تأبه ولا تهتم بهذا الشعور، لا.
بل ينبغي للإنسان أن يكافح هذا الأمر، يكافحه بقراءته القرآن الكريم، بالذكر، بالعبادة، بصرف التفكير عن هذه الأمور، بقراءة الكتب التي تصرف هذه الهواجس والوساوس، وأهم من ذلك، لا أقول أهم من العبادة، لكن أهم من قراءة الكتب، أن تتصل ببعض الشيوخ الذين تثق فيهم، وتعرض عليهم ما تجد، حتى لا تبقى وحدك في المعركة، بل تستعين بمن قد يكون خاض هذه الأمور أو عاشها، أو جربها، أو عرف عنها أكثر مما تعرف.
يا إخوة: الإنسان حينما يسمع -مثلاً- قصيدةً من القصائد الجميلة، أو كلمة أو يشاهد مشهداً من المشاهد، تجده مشدود الأعصاب مهتم يشعر بنشاط لهذا الأمر، لكن إذا أراد أن يقرأ القرآن، مع أن القرآن هو أبلغ الكلام وأعظم الكلام وخير الكلام، ويكفي أنه كلام رب العالمين سبحانه.
حينما يسمع القرآن تجد الإنسان يبدأ ينعس أحياناً، أو يتشاغل أحياناً، وهذه والله لو تأملناها لوجدناها غريبة فعلاً، ما الذي يجعل الإنسان هكذا، إنه كيد الشيطان ووسوسته للإنسان، فهو يغري للإنسان هنا بترك الطاعة.
فإذا عصا الإنسان الشيطان وفعل الطاعة، وصلى وصام وقرأ القرآن، لا ييأس الشيطان هنا، بل يأتي ويحاول أن يفسد عليه هذه الطاعة، يفسدها عليه بالرياء، ويفسدها عليه بالعجب.
الرياء: هو أن يعمل الطاعة من أجل الناس، ومن أجل أن يراه الناس، والعجب لا يكون كذلك، فربما فعل الطاعة لله وبنية خالصة، ولكن بعد ما فعل، أصابه الزهو والغرور والإعجاب بنفسه والعياذ بالله وصار يشعر أنه فلان بن فلان، فهذا يحبط عمله، والعياذ بالله.
ولذلك -أيها الإخوة- تجدون الغرور لا يسلم منه طائفة من الطوائف، كلها تصاب بالغرور، لكن غرور يناسب ما هي عليه، فالشيطان قد يدعو الإنسان إلى الغرور، إن كان جميلاً بجماله، وإن كان غنياً بماله، وإن كان فصيحاً فبلسنه وفصاحته، وإن كان عالماً أغراه بعلمه، وإن كان عابداً أغراه بعبادته، وكلكم تعرفون قصة الإسرائيلي الذي كان يعبد الله دهراً طويلاً، فذكر له رجل من الفساق المدمنين على المعاصي، فقال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: {من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟! لقد غفرت له وأدخلتك النار} أو كما ورد في الحديث القدسي.
فالذي دعا الإنسان إلى هذه الكلمة والعياذ بالله هو الغرور، ولذلك قال بعض السلف: لا يبلغ الإنسان حقيقة التواضع، إلا أن يرى لكل إنسان لقيه من المسلمين فضلاً عليه، لأنك حين ترى أنك خير من الناس، هنا تصاب بنوع من الغرور والعجب، وما أكثر ما يوجد هذا في طلاب العلم والعباد!
ومن أسباب كثرة وجوده: أنهم آمنون من هذا الأمر، والمثل يقول: من مأمنه يؤتي الحذر، وقد يكونون يجاهدون الشيطان في المعاصي، أي: لو جاء الشيطان لإنسان عالم، وقال له: الزنى -عياذاً بالله- هذا العالم لا يفكر مجرد تفكير في الزنى، ويعتبره معصية، أو السرقة لا يفكر في هذه الأمور، أو جاءه يشككه في الجنة أو في النار، لا يمكن أن يستجيب لهذه القضايا، لأنه في حال من العبادة والزهد والورع مع الله سبحانه وتعالى، التي تجعل هذه الأمور بعيدة عنه كل البعد، ولكن يأتيه الشيطان فيقول له: الناس في نومهم وأنت تتعبد، الناس في لهوهم وأنت قائم أو راكع أو ساجد، أنت الذي حصَّلت من العلم كذا وكذا، وحصَّلت من العبادة كذا وكذا، ولا يزال به حتى يوقعه في العجب.
ولذلك من داء العباد العجب، فتجد العبد في المجلس يحرك شفتيه، لأنه لا يريد أن يجهر بالذكر حذراً من أن يكون مرائياً، فيحرك شفتيه، وينسى أن هذه أحبولة ذكية وخبيثة من أحابيل الشيطان، فهو يحرك شفتيه ليقول لمن حوله: انظروا إنني عابد، ومع أنني عابد فأنا بعيد عن الرياء ولا أجهر بعبادتي، بل بيني وبين نفسي حتى لا أفسدها بالرياء، وهذه نفسها وسيلة وكيد من كيد الشيطان، فهذا مدخل لطيف وذكي جداً من مداخل إبليس اللعين.. أعاذني الله وإياكم منه.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر |
فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر |
أي: إذا قمت بشكر النعمة، فهذا الشكر نفسه نعمة جديدة تحتاج إلى شكر جديد، وهكذا تنتقل من شكر إلى شكر إلى شكر، حتى تموت وما أديت شكر نعمة الله، فهذا الشكر جعل الإنسان يرفض وسوسة الشيطان في موضوع العجب والغرور.
ثم ينتقل الشيطان إلى المرحلة الرابعة، وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا دخل الإنسان في الصلاة، بدأت المعركة مع الشيطان، وهذا دأبه، وكلنا نشتكي من هذا الأمر، ونطرحه في مجالسنا ونشتكي منه، ونتكلم فيه، ولكننا واقعون فيه، وهذه من الأمور التي يقال فيها: إن عند الإنسان علماً بها، لكنه لم يستفد من علمه، وعند الإنسان معرفة لكنها معرفة عقلية مجردة، كلنا ندخل في الصلاة، فنكبر، ولا ننتبه إلى الصلاة إلا بالتسليم، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري قال: {إن الشيطان إذا أُذن للصلاة أدبر، وإذا انتهى الأذان جاء، فإذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهت الإقامة جاء حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر}.
وفي هذا المجال قصة، وهي أن رجلاً جاء لـأبي حنيفة وقال له: إني نسيت كذا وكذا -وضع شيئاً في مكان ونسيه- فقال له أبو حنيفة: صلِ عشر ركعات، وسلم من كل ركعتين، وسبح واستغفر، ولن تتم العشر إلا وقد عرفت أين وضعت الشيء، فلما قام هذا الرجل صلى الركعتين الأوليين، ثم اتنفل من صلاته -انصرف من صلاته- وجاء إلى أبي حنيفة ودعا له، وقال: جزاك الله خيراً، وصية ناصح، قال: لماذا؟ قال: إني قد ذكرت هذا الشيء، فضحك أبو حنيفة رحمه الله، وقال: هذا الشيطان اللعين، عرف أنك سوف تصلي عشر ركعات، فأحب أنه يذكرك بالأمر قبل أن تتم العشر، وبعد أن صليت الركعتين ذكرك بهذا، ليقطع عليك بقية الركعات التي أمرتك بأدائها.
فهذا أمر كلنا يعلمه، ولذلك لو استطعنا أن نخلص بمجاهدة الشيطان في هذه الأمر، لحصلنا من وراء ذلك خيراً كثيراً، وفي الحديث الصحيح: {من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه} والرسول صلى الله عليه سلم صلى ذات يوم وكان في قبلته ستارة فيها تصاوير، فقال لـعائشة رضي الله عنها: {أميطي عنا قرامك هذا، فإن تصاويره لم تزل تعرض لي في صلاتي}.
ولما أهدي له أبو جهم أنبجانية وكان فيها أعلام وخطوط، فلما انتهى من الصلاة خلعها، وقال: {اذهبوا بأنبجانيتبي هذه وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي} فيجب على المصلي أن يحرص ما استطاع على أن يستحضر قلبه في صلاته، ووسائل استحضار القلب في الصلاة كثيرة، ليس هذا مجال ذكرها والحديث عنها، ويمكن للإنسان أن يرجع إلى كتاب مختصر منهاج القاصدين أو كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فإنه يجد فوائد في ذلك.
وبمناسبة ذكري لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، أقول: إن هذا الكتاب مفيد جداً في هذا الباب، لكن يجب أن يكون قارئه على حذر شديد، فالكتاب مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، ومليء بخرافات الصوفية التي سيطرت على الأمة الإسلامية في وقت من الأوقات، وهي سقطات كبيرة وخطيرة أيضاً ليست بالبسيطة، أما في مجال ترقيق القلوب والمعاني الإيمانية فإنه مفيد، فإذا انتبه الإنسان إلى هذه المزالق التي أشرت إليها، استفاد منه، وإلا فليدعه وليستفد من غيره من الكتب.
فيقول له: أنت عابد، مصل صائم تخلصت من كيد الشيطان، ويجره إلى مزيد من الخير، حتى يوقعه في الطرف الآخر، فكما أن المعاصي ضرر ووسيلة وبريد للشيطان، كذلك البدعة والغلو في الدين وسيلة للشيطان. وخذوا مثالاً واضحاً في هذا:
قضية الخوارج الذين ظهروا في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما بعده، ما أتاهم الشيطان من جهة العبادة.
كان ابن عباس يذهب إليهم ويقول عنهم: كانت جباههم كأخفاف الإبل، قد تمتنت من طول السجود والعبادة، وكانوا شباباً إذا رأيتهم أنضاء عباده وأطلاح سهر، تقول: بهم مرض وما بهم من مرض، ولكنه من طول الصيام والعبادة والقيام، لكن كان الصحابة إذا رأوهم يبكون كما بكى أبو بكرة رضي الله عنه وغيره، ويقولون: [[كلاب النار، كلاب النار]] ويقول بعضهم: لولم أسمع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها مرة ولا مرتين ولا ثلاث ما قلتها، وقال صلى الله عليه وسلم: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد}؛ لأنهم زادوا في العبادة والزيادة في العبادة ممنوعة كالنقص فيها؛ لأن العبادة تشريع وتوقيف من عند الله ولا أعني بالزيادة أن تقوم الليل فتصلي أكثر من ثلاث عشرة ركعة، فهذا لا يدخل في هذا الباب، وإن كان من الأولى والأفضل للإنسان دائماً الالتزام بالسنة في كل شيء، ولا على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من مزيد، لكن لأنهم زادوا في العبادة بمعنى أنهم غلوا، وصارت نتيجة عبادتهم أنهم أصيبوا بالغرور، وأصيبوا بالعجب الذي جعلهم ينظرون إلى الناس، على أنهم عصاة وفساق وجهلة ومرتدون، وهم وحدهم المسلمون، حتى كفروا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والشيطان يضحك عليهم، وهم يعتقدون أنهم قد أرغموا الشيطان، وقد أهانوا الشيطان، وداسوه بأقدامهم، والحقيقة أن الشيطان يرقص في رءوسهم ويضحك مسروراً بهذا، لأن هذا يشبع رغبة عدد من الناس.
لقد ابتلي بالمحنة فصبر وخرج منها كما يخرج الذهب من النار نقياً مصفى، ووقف هو في طرف والدنيا كلها بما فيها الخليفة في طرف آخر، وضُرب وجُلد وكان يغمى عليه، ويسيل الدم منه وهو صابر، فيعرضون عليه الطعام فيأبى أن يفطر، وكان يصلي والقيود في رجليه والدماء تسيل منه، فهذه صورة من صور الثبات على المبدأ، لو كانت عند غيرنا، ولو كانت عند الأمم الأخرى الكافرة، لشغلوا بها الدنيا، وملئوا بها أسماع الناس.
المهم أن هذا الإمام الجليل حفظ الله فحفظه الله، فلما كان آخر لحظة من حياته حاول الشيطان محاولة أخيرة أن يضعف بعض هذا المستوى الإيماني الرفيع الذي وصل إليه الإمام أحمد، فمر من عنده الشيطان، وقال: فتني يا أُحَيمِد، فُتّني يا أُحَيْمِد أي يقول: أفلت منى ويئست منك، فقال له الإمام أحمد: لا بعد، لا بعد -وكان في نوع من الغيبوبة- فلما صحا قالوا له: إنك تقول كذا، قال: إن الشيطان عرض لي، يقول: فتني يا أُحَيْمِد، فأقول له: لابعد، لابعد، أي: ما فتك، لأنه لو وافق الإمام أحمد الشيطان على أنه فاته، لكان هذا مدخلاً ذكياً للشيطان أن يضعف المستوى الإيماني عند الإمام أحمد في اللحظة الأخيرة من لحظات حياته.
فالشيطان إذاً يعمل هذه الأشياء كلها، بل هو مع نجاحه فيها، يحرص على أن يسيء للإنسان الخاتمة، وهذا الأمر كان يقلق بال الصالحين ويقض مضاجعهم، حتى وهم يعبدون الله يخافون أن يأتيهم الشيطان وهم في حال الاحتضار، فيغريهم أو يضرهم، ولا عصمة للإنسان من هذا إلا أن يكون في حال حياته مع الله سبحانه وتعالى كثير الاستعاذة من الشيطان، ويحصن نفسه من الشيطان بالحصون المنيعة من الذكر والقرآن والدعاء والعبادة وصحبة الأخيار وغير ذلك.
فأبى أن يخبره، فأصر عليه، وقال: إما أن تخبرني وإما أفارقك فلا أصحبك أبداً، فما قيمة الصداقة إذا كنت تخفي عني أموراً ولا تبديها، فقال له: يا أخي الأمر شديد وخطير، كان لي أخ، وكان رجلاً مسرفاً على نفسه، واقعاً في المعاصي، فمرض وضعف واشتد به المرض حتى كان في حال الاحتضار، فقال لي: اذهب وأتني بالمصحف، يقول: فتطلع قلبي وسررت، وقلت: لعل الله كتب لأخي أن يتوب في هذه اللحظة من حياته، لعله يريد أن يضعه على صدره، يموت مطمئناً، فبعض الناس يكون لهم هذا الشيء، بغض النظر عما إذا كان هذا الأمر مشروعاً أو غير مشروع يقول: فأحضرت المصحف، فقال لي والعياذ بالله: إنه كافر بهذا القرآن، يقول: فوالله إن الدنيا كلها أظلمت في عيني؛ لأنني في الماضي كنت أرى فعل الفسق، وأراه على المعاصي وأشك فيه، لكن كان الأمل عندي موجوداً، ورحمة الله سبحانه وتعالى واسعة، لكن بعد ما لفظ هذه الكلمة في اللحظة الأخيرة من عمره، يقول: صرت أتصور أخي وهو في هذا العذاب الذي لا يفتر، ثم أتصور ما يئول إليه في يوم القيامة من العذاب الذي لا يمكن أن ينفك عنه أبداً.
أعتقد أنني قد أكون أطلت عليكم، فأكتفي بما ذكرت، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجيرني وإياكم من مكايد الشيطان، وأن يحفظنا على ذلك حتى نلقاه، وإنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: يذكر الله سبحانه وتعالى شياطين الإنس والجن جنباً إلى جنب، فمراتبهم قد تكون نسبية لأن مهمتهم واحدة، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:112] فمهمتهم زخرفة القول وتضليل الناس به، وشياطين الإنس هم في الحقيقة جند للشيطان الأكبر إبليس اللعين، ولكنهم في بعض الأحيان قد ينجحون في طرق ووسائل يفشل فيها شيطانهم ورئيسهم الأكبر؛ لأنهم منا ومن بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ويوسوسون للإنسان، ويستطيعون في بعض الأحيان أن يصرفوه عن طريق الخير إلى طريق الشر، فهم قد ينجحون في أعمال ووسائل يفشل فيها الشيطان أولاً، أو لا يستطيع الشيطان أن يصل إليها إلا عن طريقهم، ولذلك فالإنسان كما يحذر من الشيطان ويستعيذ بالله منه في كل لحظة وفي كل حين، يجب عليه أن ينتبه وأن يحذر من شياطين الإنس، الذين يتدسسون بالإنسان ويتزينون له بكافة الصور، وكم والله من ضحية ذهبت بسببهم -ومع الأسف الشديد- لأنهم أصدقاؤه، وقد يحبهم ويحبونه فعلاً، لكنهم يأتونه بمداخل من الشر حتى ينجرف.
وأنتم تعلمون اليوم ما يعانيه مجتمعنا من انتشار بعض المنكرات، كالمخدرات التي شاعت في أوساط الشباب -مثلاً- والأفلام وغيرها، على رغم الجهود المبذولة لتلافي هذه الأشياء، فالجهات الشرعية من جهتها تنصح وتحذر وتذكر، والجهات الأمنية تتابع هذه الأمور وتعاقب عليها أشد العقاب، ومع ذلك تجد الأمر يزداد خطورة، صحيح أن هناك تجاراً يتاجرون بهذه الأشياء، لكن أيضاً هناك شياطين الإنس الذينيجرون أصدقاءهم إلى هذه الأمور، فالحذر الحذر من شياطين الإنس والجن.
الجواب: أولاً: الرسول أرشدنا إلى الاستعاذة بالله من الشيطان، فإذا حال بينك وبين صلاتك ودعاك إلى الوسوسة أو شغلك، فاستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا أمر.
الأمر الثاني: هو الأمر الإيجابي، وهو أن تشغل نفسك عن الشيطان، لأن نفسك إذا لم تشغلها، شغلها الشيطان، ففكر في ماذا تقرأ؟
وفكر في صلاتك؟
لو فكرنا في هذه الأمور أيها الإخوة لاستفدنا منها كثيراً.
جلست في يوم من الأيام مع بعض الجيران، فسألتهم ما معنى سبحان ربي الأعلى، أو سبحان ربي العظيم.. كلمة نقولها في كل حين، وفي كل وقت، لكن ما معناها؟
فوجدت أن أكثرهم لا يعرف ما معناها، وهذا دليل على أننا أخذنا الصلاة وغيرها من الأعمال بالوراثة والتقليد، وصرنا نفعلها، ولذلك لا تترك فينا أثرها، فاعلم وفكر أولاً ما معنى الأذكار، وما معنى الآية التي نقرؤها؟
فتجد أن هذا بإذن الله خير عاصم من الشيطان.
وهناك مثال آخر غير سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، وهو إذا رفع الإنسان رأسه من الركوع يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وإذا سلم من الصلاة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاثاً، ثم قال، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
وكل هذا ثابت صحيح، فما معنى لا ينفع ذا الجد منك الجد؟
أعتقد أن أكثر الإخوة قد يكون سمعها من الأشرطة، أو يفهم معناها، ولذلك تعلم أنك أنت تخاطب الله، ولو أن إنساناً كلمك بكلام لا يفهمه هو، لكان هذا خطأً فادحاً فكيف تكلم رب العالمين، تقول: اللهم. وأنت لا تدري ما معنى الكلمة التي بعد اللهم؟
بالمناسبة (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: صاحب الغنى والحظ والنصيب لا ينفعه ذلك الغنى والحظ والنصيب، إنما ينفعه العمل الصالح، ولا ينفع ذا الجد، أي صاحب الجد وصاحب الغنى، لا ينفعه منك: أي عندك، الجد أي: الغنى، وإنما ينفعه العمل الصالح.
الجواب: أولاً: أقول: تعبيرك بأَشُك ليس بجيد، ولا أعتبر أن هذا شك، وإنما هو نوع من الوسوسة، والوسوسة ليست نقصاً في الإيمان، ولكن ينبغي للإنسان أن يدافع الوسوسة وكيد الشيطان، ولكن في الحقيقة هنا أمر مهم جداً وثمين، وأذكر هناك أناساً كثيرين كانوا في فترة أو مرحلة من مراحل حياتهم يحتاجون إلى هذا الأمر الذي سأقوله، فالشيطان أحياناً يأتيك، فيحاول أن يصور لك صوراً لا تليق بالله عز وجل، وهذا يضيق به الإنسان، وفعلاً كما قال الصحابة: [[لأن يحترق أحدنا حتى يكون فحماً أحب إليه من أن يذكر هذا الأمر]] فيصور لك في ذهنك رب العالمين بصورة نقص.. فهنا الحل بسيط جداً، وهو يتمثل في القاعدة التي ذكرها بعض الأئمة وهي: إذا تصورت الله في صورة فاعلم أن الله على خلافها، فهناك لا توجد مشكلة، فهذه إذا كانت صورة صورها لك الشيطان، أما لو وجد عند الإنسان شك حقيقي، فيجب على الإنسان أن يتصل ببعض الشيوخ والعلماء، ويسألهم في هذا الأمر حتى يشفوا علته، لكن من الصعب أحياناً على الشاب أن يفرق بين الشك وبين الوسوسة، لأن الوسوسة تظهر في مظهر الشك، ولا يحل هذا الإشكال إلا أن يستعين الإنسان بالله ثم ببعض المشايخ والعلماء الذين يميزون له ويبينون له الفرق إذا كان وسوسة أو إذا كان شكاً حقيقياً.
أما إذا كان شكاً، فهذا ضعف في الإيمان.
الجواب: لا شك أنه يموت، فالشيطان طلب من الله كما حكى الله عنه في قوله: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14] فلم يجب الله دعاءه، ولم يقل إلى يوم يبعثون، لكن قال: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:38] والشيطان يموت، والملائكة يموتون حتى ملك الموت يموت قبل يوم القيامة، ويبقى الله سبحانه، وهذا هو الشق الأول.
أما الشق الثاني: أعتقد أن موضوع الكلمة كله يتعلق بموضوع وسوسة الشيطان وإيراد بعض مصايده، والذي يظن أنه تمر به مرحلة خالصة من وسوسة الشيطان ومكائده فقد أخطأ، ولذلك قلنا: الشيطان يوسوس حتى وأنت على فراش الموت، والحرب سجال يوم لك ويوم عليك، فإذا قوي إيمانك وصحت نيتك غلبته.
وفي المناسبة أذكر قصة ذكرها الإمام ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وهو من الكتب المفيدة في هذا المجال، مفيد جداً يقول: إن عابداً من العباد كانت في أيامه شجرة يعبدها الناس، فقام وأخذ فأسه وذهب إلى هذه الشجرة ليقطعها، فجاءه الشيطان، وقال له: أين تريد؟
قال: أريد الشجرة الفلانية لأقطعها، فحاول الشيطان أن يمنعه من ذلك، فقام هذا العابد وأخذ الشيطان وقعد عليه حتى صار الشيطان تحته، فقام العابد فلحقه الشيطان إلى الشجرة، فقال له: الشجرة تقطعها اليوم ثم تنبت من جديد ويعبدها الناس، ألا أدلك على خير من ذلك؟
قال: نعم، قال: اذهب إلى صومعتك، واجلس في عبادتك، وأنا أعطيك في كل يوم دينارين، تستغني بها عن الناس وعن الحاجة، وتتصدق أيضاً بها على الفقراء والمساكين، ففكر العابد فوجد الأمر مناسباً له، فقال: نعم، فرجع العابد إلى صومعته، ففي اليوم الأول جاءه بأربعة دنانير، وفي الثاني جاءه بدينارين، وفي الثالث جاءه بدينار واحد، وفي اليوم الرابع انقطع، فخرج العابد مغضباً، وحمل فأسه على كتفه، وفي هذه المرة خرج أكثر انفعالاً أكثر من الأولى، فقال له الشيطان: أين تريد؟ قال: إلى الشجرة لأقطعها، قال: هيهات لا تستطيع، فقام العابد يصارعه، فصرعه الشيطان، فقال العابد: الآن أستسلم لك، فأخبرني، قال: المرة الأولى خرجت من أجل الله فغلبتني، أما هذه المرة فلم تخرج من أجل الله فغلبتك.
فالإنسان يصارع الشيطان فيصرعه مرة، والشيطان يصرع الإنسان مرة، والإنسان يصرع الشيطان أخرى، لكن إذا خلصت النية فالله سبحانه يساعده ويعينه.
أفيدونا جزاكم الله خيراً مع الدليل؟
الجواب: هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله قديماً، وذلك بحسب قواعد الأدلة، فقال بعضهم: إن إبليس كان من الملائكة حقيقة؛ لأن الله عز وجل استثناه منهم كما قال: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ [البقرة:34] فقال: كان إبليس من الملائكة حقيقة، والدليل هذه الآية، وذهب آخرون إلى أن إبليس لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، وإنما ورد استثناؤه في القرآن، لأنه كان معهم، وربما كان في ظاهر الأمر قريباً منهم فشمله الخطاب، وهذا رجحه عدد من العلماء، لأنهم قالوا: إن الملك مجبول على الخير في أصله لا يعرض له وازع الشر ولا البغي ولا الاستكبار، فالملائكة كما قال الله عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] هذان قولان في المسألة.
الجواب: في الحقيقة أنا لا أفترض أن أسأل هذه الأسئلة، لأنها تقديم بين أساتذتي، وأن أجيب على هذا الشيء، ولكن في هذا الموضوع، أقول: قد ساءني في الحقيقة كلام بعض الناس حول هذا الموضوع، من جهة جهلهم في الدين وكلامهم فيه بغير علم، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى وجود البلبلة عند الناس، وأقصد بذلك أننا أحياناً نكابر الواقع، نسمع خبر الكسوف قبله بفترة، وكل الناس يؤمنون بها، فيأتي بعض المسلمين الآن ويقولون لك: هذا كذب، فإذاً هذه مكابرة للواقع لأن حركة الشمس وحركة القمر يمكن أن تضبط وتدرك، وقد تكلم العلماء في هذا كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، والذين أنكروا أن يقال مثل هذا الأمر لم ينكروا أنه يمكن أن يدرك بالحساب، وإنما قالوا: إنه لا ينبغي أن يعلن على العامة، لأن الإعلان قد يؤدي إلى بلبلة، وهذا ليس فيه شيء، فمن الممكن أن نقول: أن مثل هذا لا يعلن للعامة، لكن أن نقول: إن هذا كذب وتزوير وليس بصحيح، ثم إذا وقع قلنا حصل موافقة وابتلاءً واختباراً، هذا في نظري هو من المكابرة، والمسلم لا يعبد الله على رأي فلان ورأي علان أبداً، القرآن والسنة فيصل بين الناس فيما يختلفون فيه.
أما هل يكون آية وهو يدرك بالحساب فأقول: إن الله سبحانه وتعالى يقول: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12] بعضهم قال: آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، فالقمر بحده حتى قبل أن يكسف هو آية، والشمس آية.
نحن نعلم أن الشمس تطلع كل صباح وتغيب كل مساء فهي آية، وأنت أيها الإنسان آية، والكسوف آية، والخسوف آية، وكل شيء له آية سبحانه، وإنما الكسوف يكون آية من جهة أنه مخالف لمجرى العادة، فهو ينبه الناس أن الذي جعل الشمس والقمر ينخسفان أو ينكسفان قادر على أن يزيلهما البتة، فلا نتمتع بشمس ولا قمر، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص:71-73].
وهل النفس واحدة أم أنواع؟
وهل إبليس أبو الجن أم أبو الشياطين؟
وما هو الفرق بين الجن والشياطين؟
الجواب: أما الأمر الأول وهو التفريق بين الشيطان وبين النفس، فالشيطان هو شئ خارجي، أما النفس فهي نفس الإنسان، لكن النفس قابلة للخير والشر، قال تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] وقال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] فالنفس قابلة للهدى والضلال، ولذلك إذا وسوس لها الشيطان، تحركت وازع الضلال في النفس واستجابت للشيطان.
أما النفس هل هي واحدة؟
فهذا كلام تكلم فيه القدماء، وفي نظري أنها فلسفة لا يجب أن نشغل أنفسنا فيها، إنما الذي يجب أن نعلمه أن النفس على مراتب، هناك أناس نفوسهم أشرقت، فأصبحت نفوسهم عندها إيمان لا يكاد يوسوس لها الشيطان إلا نادراً، وهذه هي النفوس التي تبشر عند موتها لقوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر:28].
النوع الثاني: نفس فيها خير، ولكن يكيد لها الشيطان فتعصي ثم تتوب، وتعصي ثم تتوب، وتلوم نفسها على هذه المعصية، فهذه النفس اللوامة، وقد أقسم الله بها فقال: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2].
النفس الثالثة: هي الأمارة بالسوء، وهي التي زادت فيها عناصر الشر والفجور، وصارت أقرب إلى استجابة الشيطان.
أما إبليس فالمعروف والمشهور أنه أبو الجن, والله أعلم.
الجواب: ورد فيه خرافات وروايات إسرائيلية وأقاويل وأقاصيص، ليست لها أسانيد؛ لكن الكتاب جيد جداً، وأنا أنصح بقراءته، والإنسان عنده حاسة تمييز، فالأشياء الذي يرويها مطلقة ليس لها زمام ولا خطام، الإنسان غير ملزم بما فيها والتصديق بها، لكن فيه كشف مداخل الشيطان ووساوسه فهو جيد، خاصة إذا علمنا أن ابن الجوزي رحمه الله كان واعظاً، حتى كان يحضر حلقته في بغداد الآلاف المؤلفة، وكان يسلم أعداد كبيرة من اليهود والنصارى على يديه.
وبالمناسبة أقول: الكلام عن موضوع ترقيق القلوب والسلوك مع الأسف الشديد صار وقفاً على الصوفية، وقد دخلوا فيه فأفسدوه، وحشدوا فيه من الخرافات والانحرافات والضلالات ما الله به عليم، ولكن يوجد من شيوخ وأئمة أهل السنة من كتب في هذا الموضوع ومن أفضلهم الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله، ثم الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، ثم ابن الجوزي.
الجواب: إن الشيطان أحياناً يغري الإنسان بترك الطاعات بطريقة خاصة، فإذا شعر أنك تصلي أدخل عليك الشيطان الرياء، ويمكن أن يدعوك الشيطان إلى أن تعالج هذا الرياء بأن تترك هذه الصلاة والعياذ بالله، وقد تستغرب إذا قلت لكم: إن إنساناً بدأ الشيطان يأتيه من هذا الجانب، فبدأ يترك صلاة الجماعة، ويصلي في البيت، أمام والديه وإخوانه، ثم بدأ الشيطان يوسوس له، أنه قد يكون مرائياً في هذا، فبدأ يصلي في غرفته، ويقفل باب الغرفة على نفسه، لئلا يراه أحد، فهذه مشكلة.
إن الشيطان قد يدعوك إلى ترك الطاعة، بأن يدخل عليك ما تتوهم أنه شيء من الرياء، مثلاً لماذا تريد أن تترك الدراسة؟
عندما تشعر أن النية قد لا تكون خالصة، ما بالك إذا لم يكن عندك وازع إيماني يجعلك تشعر بوجوب الإخلاص، فنصيحتي لهذا الأخ ألا يترك الدراسة، والذي يترك الدراسة يفوت على نفسه وعلى غيره مصالح كثيرة.
أما أن الإخوة المشايخ يحرضونك على الدراسة والمذاكرة عند الامتحان، فهذا أمر طبيعي، وإلا أصلاً لماذا وضع الامتحان إلا ليشد من همم الطلاب، بوجود حافز يدعوهم إلى المذاكرة، وكل حافز لا يعني أنك لم تخلص النية، ووجود الحافز لا يعني عدم وجود النية، فالإنسان قد يعمل عملاً خير ياً ويعطى عليه راتب مثلاً، كالتدريس أو غيره، فلا نقول: إن هذا الإنسان يعمل للدنيا، إذا كانت نيته صحيحة فهذا الحافز الذي وجد مشجع له، ولا يؤثر ولا يضعف من قيمة هذا العمل إن شاء الله.
الجواب: أنصحكم بالقراءة وخاصة قراءة كتاب الله، ثم الحرص على القراءة، وقد لا يكون من المناسب أن أخص كتباً، فقد أذكر بعضها وقد أنسى بعضاً آخر، لكن النصيحة التي أسديها لكم هي المواظبة على القراءة وخاصة في هذا العمر الذي تعيشون فيه، فإن هذه الأيام التي تمر لن تعود، حتى إن انتبه الإنسان فيما بعد فالعمر الذي مر وفات لن يرجع، ويمكن أن يستفيد مما يأتي، لكن لن يستطيع أن يسترجع الأيام التي فرط فيها فيما مضى، والقراءة تنفع، ونفعها لا يمكن أن يقدر بثمن، ولذلك أنصحكم نصيحة أخ مجرب أن تحرصوا على القراءة وتكثروا منها، أما الكتب فأهم شيء يقرؤه الإنسان هو كتاب الله، وأن يجعل الإنسان له ورداً يقرؤه من كتاب الله ما شاء الله له، جزء أو أقل أو أكثر من ذلك، ثم يقرأ، فلا يقرأ ما هب ودب، بل يستشير بعض الناصحين، ليشيروا عليه بالكتب المهمة.
فمن الكتب المفيدة في الحديث النبوي كتاب رياض الصالحين، فهذا الكتاب سبحان الله!! كتب الله له القبول، مع أنه أحاديث منتقاة من السنن ومن الصحيحين، لكن كتبه وكتب الله له القبول بشكل عجيب وملموس، وفعلاً إذا قرأت شعرت بأن الإمام النووي رحمه الله قد وفق في الاختيار، فهذا الكتاب طيب جداً ومفيد، وحبذا أن يقرأه الإنسان حتى ينهيه، ثم يقرأه أخرى ليكتسب ثروة حديثة كبيرة جداً، في مجال شرح الحديث هناك كتاب فتح الباري وهو كتاب كبير وشامل.
وهناك كتب في مجال العقيدة مثل كتاب فتح المجيد، وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي كتب مفيدة جداً، وهناك كتاب شرح العقيدة الواسطية، لـمحمد خليل هراس، وهو أيضاً كتاب طيب، وهناك كتب كما يقولون للثقافة الإسلامية، أذكر منها الآن كتاباً طيباً للشيخ أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وله كتاب آخر أيضاً بعنوان: إلى الإسلام من جديد، هذه الكتب فيها روح، وفيها إيمان، وثقة، فمن الجيد للإنسان أن يقرأها، وهناك كتب أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
الجواب: كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] أنصح الشاب أولاً: أن يتذكر -إذا وقع أو كاد أن يقع- شدة عقاب الله؛ إن الله ركب في الإنسان غريزة، وهذه الغريزة تكون قوية حتى تطفى على العقل، لكن في المقابل جعل للإنسان الذي ينحرف عن الطريق عقاباً، مجرد سماع العقاب يذهل العقول، ويوم القيامة الحرمان من الجنة يعتبر أقسى أنواع العقاب، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن يعذبك الله في النار، وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب -يقسم بالله ما رأى شيئاً قط، فهو قد نسي كل ما مر به في الدنيا- ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً، من أهل النار، فيصبغ أو يغمس في العذاب غمسة، ثم يقال له: يابن آدم هل مر بك خير قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا -والله- يارب، ما مر بي نعيم قط، ولا رأيت خيراً قط
-حماني الله وإياكم من ذلك- وتتصور أن كل لذة في الدنيا يعقبها حسرة، بل حتى حسرة في الدنيا، والمؤمن إذا فعل معصية تجده مضطرب النفس، وكما يقول الشاعر:
إن أهنا عشية قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل |
فاللذة التي دعتك انتهت وزالت، وبقي الهم ووخز الضمير وعذاب النفس، فأقول: بقدر ما تشعر حجم الشهوة التي ركبها الله فيك تذكر حجم العقاب الذي وضعه الله تعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر