قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] ].
قوله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:165-167] هذا كله في هؤلاء الذين اتخذوا من المخلوقين محبوبين يحبونهم كمحبتهم لله جل وعلا، والمحبة هذه -التي جعلت المخلوق نداً لله- هي محبة فيها ذل وتعظيم، وليست محبة إلفة أو محبة حنان أو محبة تقدير وإجلال كمحبة الوالد أو الولد، وليست محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للشراب وما أشبه ذلك، هذا لا لوم على الإنسان فيها، ولكن هذه محبة مقصودة ومرادة، وليست الطبيعة والحاجة تبعث عليها، وإنما هي محبة عبادة، تدعو إلى الدعاء والاستغاثة والاستنصار، وإلى أن يعطى ذلك المحبوب شيئاً من خصائص الله؛ ولهذا قال: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] يعني: يجعلون حباً موزعاً بين هؤلاء وبين الله، وهذا هو الشرك الأعظم الذي إذا مات عليه الإنسان يكون من حطب جهنم، ويكون خالداً فيها؛ لأن هذا الحب يجب أن يكون خالصاً لله، ولا يجوز أن يكون مع الله فيه شريك، لا سيد، ولا نبي، ولا ملك، ولا أي مخلوق من مخلوقات الله، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده ومن الناس أجمعين)، ومع ذلك لا يحب هذا الحب، وليس له نصيب من حب التعظيم والخوف والذل، وإنما يحب لله، ومن أجل الله، فإن الله يحبه، ومن أجل أن الله أمر بحبه، فتحبه طاعة لله؛ لأن الحبيب يحب حبيب حبيبه، يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه، هذا من تمام الحب؛ ولهذا صارت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال محبة الله ومتمماتها، ومن مكملاتها كما سيأتي.
ورب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
فمرض من أجل ذلك، فلما حضره الموت صاروا يقولون له: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يردد هذا البيت، فمات وهو يردده نسأل الله العافية! صار عابداً لهذه المرأة، وهذا يقع كثيراً في الناس، فهذه عبادة حب، ومثل هذا ما يقع إلا في القلب الفارغ من حب الله جل وعلا، إذا كان يحب الشهوات والدنيا فإنه يكون عرضة لعبادة غير الله، ولعبادة الشهوات ومنها صور النساء والمردان وغير ذلك، فتكون بذلك خاتمته أسوأ الخواتم، نسأل الله العافية.
والمقصود: أن العبد يجب أن يكون عبداً لله، ولا يكون عبداً للمظاهر، وقد أجرى الله جل وعلا سنته في أن من لم يعبده لابد أن يعبد غيره شاء أم أبى، من أعرض عن عبادة الله لابد أن يعبد الشيطان على حسب مظاهره، قد يكون الشيطان في مظهر امرأة، وقد يكون في مظهر مال، وقد يكون في مظهر شهوات، وقد يكون في مظهر مبدأ ونحلة يدعو إليها، وهكذا سنة الله جل وعلا، فإن من لم يعبد الله عبد غيره؛ لأن الإنسان عبد، وهذه صفة ملازمة له لا ينفك عنها، ولهذا تجد الذي لا يتعلق بالله جل وعلا ويحب عبادته من الصلاة والزكاة وذكر الله تجد قلبه معلقاً بالملاهي والأغاني ومشاهدة الصور، لا يصبر عن ذلك، يكون عابداً لها، فمقل ومستكثر من الناس، كل بحسبه.
فالذي يجب على العبد أن يكون عبداً لله مخلصاً عبادته لله، وأن يحمي قلبه من أن يكون محلاً لغير الله جل وعلا في الحب والإرادة، يجب أن تكون محبته لله وحده، محبة الذل والخضوع: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً [البقرة:165] يعني: نظراء يكونون محبوبين مع الله من أي جهة كانت، سواء كانت من الناس أو كانت من الأصنام أو كانت من المال حتى الزوجة، زوجته قد تكون معبوداً له، إذا صارت تأمره بالمعصية فيتبعها، وتنهاه عن الطاعة فيطيعها، صارت هي أشد حباً له من الله، وصار أكثر متابعة لها من أوامر الله.
وبالعكس فالمخلوق لا يجوز أن يطاع في معصية الخالق: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)وإلا صار معبوداً لذلك المطيع، والناس يتفاوتون في هذا، وهذا قد يرتقي إلى الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من الدين، وقد يكون شركاً أصغر، وقد يكون مجرد معصية يستحق عليها الإنسان العقاب، مثل: بخل الإنسان عن شيء من الواجب حباً للمال، إما زكاة وإما حقاً للغير يتعلق بماله، فيمنعه حب المال من إخراج ذلك، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي نوع من العبادة؛ لأنه هو الذي منع من إخراج هذا الحق، أما لو كان مثلاً عبداً لله يعبده حق العبادة، فإنه لن يقدم على مرضاة الله وعلى محاب الله وطاعته شيئاً لا مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، ولا أصدقاء ولا غيرهم، والإنسان أعلم بنفسه من غيره، فيجب أن يعرض أعماله على أوامر الله ونواهيه، فيعرف مقامه عند الله جل وعلا في هذا.
ولا يجوز للإنسان أن تكون عبادته موزعة، فيكون له أرباب كثيرون، يجب أن تكون عبادته لله جل وعلا وإلا فسيكون على خطر شديد، ومن المعلوم كما جرت سنة الله أن من جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، يعني: أن الإنسان قد يتهاون بهذه المعصية، فتجر هذه المعصية إلى معصية أخرى، ثم تجر إلى أخرى، ثم يألف المعاصي وتصبح عنده محبوبة، فإذا صار بهذه المنزلة كره الطاعات وأبغضها وابتعد عنها، وهنا يستحكم الشقاء نسأل الله العافية.
والعبد أمام أوامر الله له مقامان: إما أن يحصل له ما يحبه، فإن كان هذا حصل له من طريق شرعي فعليه أن يشكر الله ويزداد له بذلك عبادة.
وإما ألا يحصل له، فعليه أن يصبر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمور كلها بمشيئة الله وإرادته، هو الذي يتصرف في خلقه وملكه.
المقام الثاني: عند إصابة الذنوب، فإذا أصاب ذنباً فعليه أن يعترف ويقر ويستغفر، فهذه أمور ثلاثة إذا حصلت للعبد فهي عنوان السعادة.
إذا حصلت له نعمة شكر الله عليها، وازداد بذلك عبادة، وإذا حصلت له مصيبة صبر واحتسب، وإذا حصل له ذنب تاب واستغفر، هذا هو شأن المؤمن، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه العبد، أما إذا خرج عن ذلك فقد خرج عن عبودية الله جل وعلا، وإن تمادى زاد خروجاً حتى يستحكم البعد فيصبح مطروداً عن الله جل وعلا، نسأل الله العافية.
وقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]، ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه، ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165]قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً أي: إن الحكم لله وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره تعالى وغلبته وسلطانه وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]كما قال تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26]يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال.
ثم أخبر تعالى عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين فقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166] تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63]. ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] والجن أيضاً يتبرءون منهم ويتنصلون عن عبادتهم لهم كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6] انتهى كلامه رحمه الله].
هذا الذي ذكره العماد ابن كثير رحمه الله تضافرت عليه الأدلة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو واضح وجلي من كلام الله جل وعلا في هذه الآية وغيرها من الآيات الكثيرة، ومضمونه أن كل من أحبّ أحداً -سواء كان ذلك المحبوب عاقلاً أو غير عاقل- في غير طاعة الله فإن هذا الحب يعود عليه بالعداوة، والبعد عن الله جل وعلا، والعذاب، وسوف يتبرأ منه ويصبح عدواً له، وكل واحد يلعن الآخر كما ذكر الله جل وعلا حاكياً عن إبراهيم في قصة إبراهيم: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت:25]يعني: العابد يلعن المعبود، والمعبود يلعن العابد.
وكذلك إذا حشرهم الله جل وعلا يوم القيامة، يقول: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22] يسألهم أن يأتوا بالذين جعلوهم شركاء لله، لكن من أين يأتون بهم؟ ادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194] فتبرءوا منهم، وكفروا بهم، وأصبحوا أعداء لهم، هذا في العقلاء.
أما غير العقلاء فإنهم كما أخبر الله جل وعلا يكونون حصب جهنم هم والعابدون: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98].
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتمع الناس كلهم في مقام واحد، وسألوا الله جل وعلا أن يفصل بينهم، وطلبوا شفاعة الشافعين في هذا، وجاء الله جل وعلا للقضاء بينهم، يخاطبهم، فيقول لهم: أليس عدل مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقول: بلى يا رب! عند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، أو يؤتى به بعينه، فيقال: اتبع معبودك، فيتبعونهم إلى جهنم -فيبقى المؤمنون في الموقف وفيهم المنافقون -لأن المنافقين يعبدون الله في الظاهر كما يعبدون معه غيره في الباطن- فيأتيهم الله جل وعلا ويقول لهم: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ -وهذا يدلنا على أن أكثر الناس ذهبوا من الموقف إلى جهنم- فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، فيقول لهم: أنا ربكم..)إلى آخره.
وفيه: فإذا تبين لهم خروا له سجداً إلا المنافقين فإنهم لا يستطيعون السجود، يبقى ظهر أحدهم طبقاً واحداً ما يستطيع الانحناء، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه؛ لهذا يقول الله جل وعلا: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ [القلم:42-43] يعني: في الدنيا وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:43] والسجود يجب أن يكون لله وحده، وهم كانوا يسجدون مخافة من المؤمنين، حتى يكونون معهم فيما ينالهم، ويتقون بأسهم، فما كانوا يسجدون لله؛ فلهذا ما استطاعوا.
والمقصود: أن كل عابدٍ سوف يتبرأ من معبوده وكل معبود سوف يتبرأ من عابده.
وقول الله جل وعلا: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:166]، الأسباب هنا قال العلماء: هي المودة والمحبة التي بينهم، انقطعت وذهبت واستبدلت بعداوة وبغضاء.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً فلم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟! انتهى كلامه رحمه الله].
قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] تقدم أن الند يكون في صفة من الصفات، ولا يلزم أن يكون مماثلاً لله جل وعلا من كل وجه، وهذا لا يقوله أحد.
وهذه الآية بينت أن الند الذي يتخذ هو في الحب فقط؛ ولهذا قال: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) والمعنى: يحبون هذه الأنداد كمحبتهم لله تعالى، وهذا هو الشرك الذي جعلهم إذا ماتوا عليه خالدين في النار، وأحل دماءهم وأموالهم، فهم قسموا الحب الواجب لله جل وعلا الذي يتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وجعلوه لمخلوق، فصاروا مشركين بذلك، وسبق أنه ليس في العالم من يقول: إن أحداً من الخلق يساوي الله جل وعلا في التصرف من الإيجاد أو الإحياء أو في الملك أو في المشيئة أو في القدرة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكون في جزء، وهو الأمر الذي يصدر من الناس.
أما الأمور الصادرة من الله جل وعلا التي يفعلها وحده فليس هناك من بني آدم من جعل لله فيها نداً، وإنما الند يكون فيما يصدر من المخلوق نفسه، مثل الحب والدعاء والخضوع والذل والذبح والنذر، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعبد بها الإنسان، فإذا جعل شيئاً منها لغير الله جل وعلا فقد اتخذ ذلك الذي جعل له هذا الشيء نداً لله؛ لأن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فهي خالص حق الله جل وعلا، والله جل وعلا خلق العباد، ليخلصوا له العبادة، كما قال جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] قضى: أمر وأوجب وألزم أن تكون العبادة له وحده، ولا يكون لغيره شيء منها.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هذا مركب على المعنى السابق، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله جل وعلا، ولم يوزعوه بين ربهم جل وعلا وبين المخلوقات، فصار الحب الذي هو لله وحده أشد من الحب الذي يكون موزعاً مقسوماً بين الرب جل وعلا وبين المعبودات الأخرى، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن أصل الحب الذي يكون عند المؤمن لا يمكن أن يكون مساوياً للحب الذي يكون عند المشرك، وذلك أن المؤمن عرف حق الله، وعرف وجوب محبته الحب الخضوعي، الحب الذي يتضمن الخوف والذل والتعظيم، عرف أن هذا يجب أن يكون لله، وأنه خالص حق الله، فصار لو خير بين أن يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله وأن يقتل لاختار القتل، ولو خير إما أن يجعل هذا الحب لغير الله أو يلقى في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله، فحب الله في قلبه عظيم جداً، ولا يساوي الحب الذي يصدر من المخلوق للمخلوق، وذلك أن هذا حب للعبادة الذي إذا تحلى القلب به أصبح يختاره على نفسه، وعلى ما دون النفس من جميع ما يملكه في الدنيا؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا وصل الإيمان إلى قلبه أن الله جل وعلا ورسوله يكون أحب إليه مما سواهما، وأنه يحب أن يلقى في النار ولا يكفر بالله جل وعلا؛ من هذه المحبة التي تحلى القلب بها، فالذين آمنوا لا يقاس حبهم مع من أحب صنماً أو قبراً أو شخصاً أو غير ذلك من الحب الذي يكون قادحاً في محبة الله جل وعلا وفي عبادته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى ابن جرير عن مجاهد رحمهما الله في قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]من الكفار لأوثانهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً فلم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟! انتهى كلامه رحمه الله].
في هذه الآية يعني: قول الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] تقدم أن الند يكون في صفة من الصفات ولا يلزم أن يكون مماثلاً لله جل وعلا من كل وجه، وهذا لا يقوله أحد.
وهذه الآية بينت أن الند الذي يتخذ هو في الحب فقط؛ ولهذا قال: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) والمعنى: يحبون هذه الأنداد كمحبتهم لله تعالى، وهذا هو الشرك الذي جعلهم إذا ماتوا عليه خالدين في النار، وأحل دماءهم وأموالهم، فهم قسموا الحب الواجب لله جل وعلا الذي يتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وجعلوه لمخلوق، فصاروا مشركين بذلك، وسبق أنه ليس في العالم من يقول: إن أحداً من الخلق يساوي الله جل وعلا في التصرف من الإيجاد أو الإحياء أو في الملك أو في المشيئة أو في القدرة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكون في جزء وهو الأمر الذي يصدر من الناس.
أما الأمور الصادرة من الله جل وعلا التي يفعلها فليس هناك من بني آدم جعل لله فيه نداً، وإنما الند يكون فيما يصدر من المخلوق نفسه، مثل الحب والدعاء والخضوع والذل والذبح والنذر، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعبد بها الإنسان، فإذا جعل شيئاً منها لغير الله جل وعلا فقد اتخذ ذلك الذي جعل له هذا الشيء نداً لله؛ لأن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فهي خالص حق الله جل وعلا، والله جل وعلا خلق العباد لهذا، ليخلصوا له العبادة، كما قال جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] قضى: أمر وأوجب وألزم أن تكون العبادة له وحده، ولا يكون لغيره شيء منها.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هذا مركب على المعنى السابق، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله جل وعلا، ولم يوزعوه بين ربهم جل وعلا وبين المخلوقات، فصار الحب الذي هو لله وحده أشد من الحب الذي يكون موزعاً مقسوماً بين الرب جل وعلا وبين المعبودات الأخرى، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن أصل الحب الذي يكون عند المؤمن لا يمكن أن يكون مساوياً للحب الذي يكون عند المشرك، وذلك أن المؤمن عرف حق الله، وعرف وجوب محبته الحب الخضوعي، الحب الذي يتضمن الخوف والذل والتعظيم، عرف أن هذا يجب أن يكون لله، وأنه خالص حق الله، فصار لو أنه مثلاً خير بين أن يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله وأن يقتل لاختار القتل، ولو خير إما أن يجعل هذا الحب لغير الله أو يلقى في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله، فحب الله في قلبه عظيم جداً، ولا يساوي الحب الذي يصدر من المخلوق للمخلوق، وذلك أن هذا حب للعبادة الذي إذا تحلى القلب به أصبح يختاره على نفسه، وعلى ما دون النفس من جميع ما يملكه في الدنيا؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا وصل الإيمان إلى قلبه أن الله جل وعلا ورسوله يكون أحب إليه مما سواهما، وأنه يحب أن يلقى في النار ولا يكفر بالله جل وعلا من هذه المحبة التي تحلى القلب بها، فالذين آمنوا لا يقاس حبهم مع من أحب صنماً أو قبراً أو شخصاً أو غير ذلك من الحب الذي يكون قادحاً في محبة الله جل وعلا وفي عبادته.
فمن أحب الله وحده وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محباً له، ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى كلامه رحمه الله].
كون الظلم في هذه الآية هو الشرك أظهر منه في آية سورة الأنعام: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]؛ لأن الآية هذه مبدأها في نفي الحب الذي يكون لوجه الله جل وعلا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، وقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165]يعني: الذين وزعوا محبتهم بين الله جل وعلا وبين هذه المتخذة آلهة من دونه.
والظلم يطلق على كل معصية يخالف بها الإنسان أمر الله جل وعلا سواء بارتكاب منهي أو ترك واجب، فإنه ظلم، وقد علم أن الظلم ينقسم إلى أقسام: ظلم بين العبد وبين ربه كأن يترك واجباً من الواجبات أو يرتكب محرماً من المحرمات مما لا يتعلق بإنسان كأخذ مال، أو استطالة عرض وما أشبه ذلك، فهذا يكون بين العبد وبين ربه فقط، وهذا هو أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وإذا قدم العبد على ربه وكان ظالماً وغير مشرك، فإن كل ظلمه سوف يغفره الله جل وعلا إذا شاء ولا يبالي.
كله معلق بمشيئته، إذا شاء غفره بدون مؤاخذة ومعاقبة، وإذا أخذ به فمجرد عقاب مؤقت، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة، هذا إذا كان الظلم في ترك واجب أو فعل محرم.
أما النوع الثاني من الظلم فهو الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض، وهو أيضاً إما أن يكون بفعل محرم أو الامتناع من أداء واجب وجب عليه لأخيه، فهذا مبناه على المشاحاة والمقاصاة، ولا يترك الله منه شيئاً إلا أن يعفو صاحب الحق، فإن لم يعف صاحب الحق فلا بد من أداء الحق إلى صاحبه حتى الذين يكونون من أهل الجنة وينجون من الحساب، فإن الذين يبقى عليهم حقوق لبعضهم البعض، ولو جاوزوا الصراط فإنهم لا يدخلون الجنة حتى تحصل المقاصاة، وأخذ المظالم من بعضهم لبعض كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط، وصاروا إلى باب الجنة، حبسوا في قنطرة بين الجنة والنار، يحبسون ولا يدخلون الجنة حتى يؤخذ لبعضهم من بعض، وينزع ما في صدورهم من غل، فإذا صاروا إخواناً متحابين دخلوا الجنة، ولا يدخلون الجنة ولأحد على أحد شيء، فهذا أقل أنواع الظلم التي تكون لبعضهم على بعض.
أما أصحاب المظالم العظيمة فلا يأتون إلى الصراط ولا يتجاوزنه حتى يؤخذ لصاحب الحق حقه، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحذر عن الوقوع في مثل هذا، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوماً أصحابه: (أتدرون من المفلس فيكم؟ قيل: المفلس من لا درهم عنده ولا دينار، قال: كلا، المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كثيرة أمثال الجبال، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وقد استطال على عرض هذا، وقد أكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم، ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار) هذا هو المفلس، يأتي بالحسنات ولكن تكون لغيره، الحسنات التي يعملها تكون للناس الآخرين وليست له؛ لأنه كان يظلمهم، وتمتع في دنياه بظلمهم، إما بتمزيق أعراضهم، أو بأكل أموالهم، أو بمنع حقوقهم التي وجبت لهم عليه، فإنهم لا بد أن يطالبوه بذلك، ولا بد أن تؤدى الحقوق إلى مستحقيها.
أما النوع الثالث فهو أشد أنواع الظلم وأعظمها وهو ظلم الشرك، فهذا الظلم إذا مات عليه الإنسان فإنه ليس معه اهتداء ولا أمن، منفي عنه الأمن مطلقاً؛ لأن الله جل وعلا قد فصل الأمر في هذا ووضحه، وأخبر أن من يموت مشركاً فإن مأواه جهنم، وأنه من أهل النار، وليس بخارج منها، وأن الله جل وعلا يغفر كل ذنب إذا شاء أن يغفره إلا الشرك، قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]هذا عام شامل حتى يدخل فيه ظلم العباد بعضهم مع بعض، إذا شاء الله جل وعلا أرضى صاحب الحق عمن ظلمه، يرضيه فيعفو عنه، ويغفر الله جل وعلا لهذا الظالم، أما إذا كان مشركاً فإنه لا يغفر له.
ومن هنا يتبين لنا شدة الحاجة إلى معرفة الشرك لئلا يقع الإنسان فيه وهو لا يدري، وكم وقع فيه من يكتب مثلاً تفسيراً لكتاب الله، أو يكتب شرحاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكتب في الأصول أو في غيرها، ومع هذا يقع في الشرك الأكبر! نسأل الله العافية؛ وذلك لأن الإنسان إذا عاش في مجتمعٍ لا يعرف الشرك، فإنه ربما دخل عليه وهو لا يدري كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: أتدري متى تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟ قيل له: متى؟ قال: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، يعني: أنهم يقعون في المخالفات وفي المنكرات، وهم يظنون أنها ليست كذلك.
فيتعين على العبد -لما ذكر الله جل وعلا أنه لا يغفر هذا الذنب- أن يتعرف على الشرك خوفاً من الوقوع فيه، فهذا هو أعظم أنواع الظلم؛ وذلك لأن الإنسان إذا وقع فيه، ومات عليه؛ فإنه ميئوس منه نهائياً، ومقطوع بأنه من أهل النار قطعاً لخبر الله جل وعلا بذلك الخبر البين الذي ليس فيه إشكال.
أما قول الله جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، فقوله: يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا هذا ما ترك شيئاً: الشرك وغير الشرك، فهذه الآية في الإنسان الذي يتوب، فالتائب من الذنب مهما كان الذنب فإن الله يغفره بالتوبة إذا كانت التوبة صحيحة، فإذا كانت صحيحة مجتمعة فيها الشروط فإن الله جل وعلا يغفر لهذا المذنب وإن كان ذنبه شركاً.
وشروط التوبة هي:
أن تكون التوبة في الحياة قبل أن يعاين الموت.
وأن تكون التوبة تتضمن: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم ألا يعود إلى الذنب أبداً ما دام حياً.
إذا اجتمعت هذه الأمور فإن التوبة تكون نصوحاً، ويقبلها الله جل وعلا، ويحب جل وعلا من اتصف بها.
وإذا كان الذنب في حق للغير، فإنه يشترط أيضاً إرجاع هذا الحق إلى صاحبه، وإلا لا تصح هذه التوبة منه، لا تصح إلا أن يرجع الحق إذا استطاع إلى صاحبه، أو يتحلله حتى يجعله في حل، فيسامحه من قلبه أما أن يحله بلسانه وقلبه مصر على عدم مسامحته فهذا لا يفيد.
فالمقصود أن هذه هي أنواع الظلم، وهنا الظلم المذكور هو الشرك؛ لأن الكلام في الشرك.
يعني: لا بد من معرفة معناها وقبوله، أي: قبول هذا المعنى والعمل به في الظاهر أي: في الجوارح، وفي الباطن يعني: في القلب، حتى يتحصل قائلها على الوعد الذي جاءت به الأحاديث، فإن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؛ لأن قولها: ليس مجرد الكلام اللفظي، فمجرد الكلام اللفظي بدون اعتقاد المعنى أو العمل بما دلت عليه لا يفيد، فاليهود يقولون: لا إله إلا الله، وهم كفار، ولا يفيدهم قول: لا إله إلا الله، وهم أصناف، ومنهم من لا يشرك، بل يعيب على المشركين الشرك، ومع ذلك هم في جهنم؛ لأنهم لم يقبلوا ما دلت عليه، ولم يعملوا بها.
وكذلك الجزء الآخر من الشهادتين، وهو شهادة أن محمداً رسول الله، لم يقبلوا ذلك، ولم يؤمنوا به، ولم يعملوا به، مع أنهم في باطن أمرهم متيقنون أنه رسول الله، كما قال الله جل وعلا: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله كما يعرف أحدهم ابنه أنه ولده، وقد جاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: والله إننا لنعرفه أكثر من معرفتنا لأبنائنا؛ وذلك أن أحدنا يخرج من بيته فلا يدري ماذا تصنع زوجته، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس عندنا أي ارتياب أو شك في أنه رسول من عند الله بالصفات التي عرفناها بكتاب الله جل وعلا.
ومع هذه المعرفة هم كفار بالله؛ لأنهم لم يقبلوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعملوا به.
وقد اتفق العلماء على أن من لم يقبل ما دلت عليه لا إله إلا الله فإنه كافر ويقاتل، ولو كان ما لم يقبله من الواجبات، فإن كل واجب في الإسلام هو من حق لا إله إلا الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله -جل وعلا-)فلهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر من الناس أمور عجيبة، منهم من قال: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من قال: كنا نؤدي إليه الزكاة في حياته، أما بعد وفاته فلن نؤديها وأبى من دفعها، ومنهم من ارتد نهائياً وعاد إلى الشرك؛ فلم يفرق الصحابة بين هؤلاء كلهم، بل جعلوا قتالهم كله قتال ردة، وقاتلوهم حتى رجعوا إلى الإسلام، ومع ذلك لما انتصر عليهم الصحابة، وأظهر من أظهر منهم التوبة من الذين بقوا واستسلموا؛ لم يقبل منهم الصحابة بقيادة أبي بكر الصديق حتى يشهدوا بأن قتلاهم في النار، وأن قتلى الصحابة في الجنة؛ لأنهم ارتدوا عن دين الله جل وعلا، وارتكبوا أموراً عظيمة، ولما روجع في هذا وقيل له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) فقال لهم: ألم يقل: (إلا بحقها)؟ فوالله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فأجمع الصحابة بعد ذلك على هذا، فعلى هذا لو أن إنساناً قال: لا إله إلا الله، وعبد الله، وأدى الصلاة، ولكنه امتنع من الوضوء، أبى أن يتوضأ، وصار يصلي بلا وضوء؛ فإنه يكفر بلا إله إلا الله، فإن الإسلام كله مرتبط بهذه الكلمة، وكل ما فيه من حقها، والذي يمتنع من واجب من الواجبات يجب على إمام المسلم أن يقاتله حتى يلتزم بالحق، ويجب على المسلمين أن يعاونوه على ذلك حتى يلتزم بأمر الله جل وعلا ويقبله، وينقاد له، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء لا خلاف بينهم فيه.
وهذا يدلنا على جهل الذين يتجهون إلى القبور ويعبدونها، ويدعون أصحابها ويتضرعون إليهم، ثم يقولون: إننا نقول: لا إله إلا الله، فنحن مسلمون موحدون، ولا يجوز أن نرمى بشيء من الشرك أو من المخالفات التي تجعل صاحبها خارجاً عن الدين الإسلامي، هذا يدل على جهلهم، وأنهم لم يعرفوا الإسلام في الواقع.
العشق لا يجوز أن يستعمل مع الله جل وعلا، فالحب الذي يكون لله لا يجوز أن يقال: إنه عشق أو يقال: عشيق الرحمان أو ما أشبه ذلك؛ وذلك أن العشق حب يتضمن شهوة، فلا يجوز أن يكون لله جل وعلا، تعالى وتقدس، ومحبة الله فوق هذا وأعظم منه، وهي محبة عبادة؛ ولهذا اشترط فيها أن تكون متضمنة للذل والتعظيم، أن يذل ويخضع ويعظمه.
أما محبة العشق فهي لأجل الشهوة، وهذا يكون من مخلوق مع مخلوق، فلا يجوز أن يستعمل هذا في المحبة التي تكون لله جل وعلا.
يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا الواجبة له، وبين محبة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على المسلم، يجب عليه أن يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة نفسه فضلاً عن محبة ولده أو أهله أو ماله، بل يكون أحب إليه من نفسه، وإلا لم يحصل له الإيمان الواجب الذي ينجو به من عذاب الله.
وهذه المحبة التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ليست هي المحبة التي تكون لله، بل هي محبة أخرى، وهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله، فإن المحبة مع الله شرك بالله جل وعلا؛ لأنها تكون محبة عبادة، محبة ذل وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي حب لله، تحبه لأن الله يحبه؛ لأنه أحبُّ خلقه إليه، فيجب عليك أن تقدم محبة محبوبك على كل محبوب لك.
فأولاً تؤدي حق الله الذي هو العبادة، فتحبه المحبة التي هي عبادة لله، ثم تحب ما يحبه الله، ومن ذلك كون الله جل وعلا يحب رسوله؛ ولأنه صلوات الله وسلامه عليه هو السبب في حياتك الحياة الحقيقة، التي هي حياة الروح، وهي الحياة التي تتصل بالله جل وعلا لهذا وجب أن يحب أكثر من غيره لله وبالله وفي الله.
وهذا الحب الذي يكون لله وفي الله يكون مكملاً لمحبة الله جل وعلا ومتمماً لها، وليس هذا الحب مشاركاً لله في العبادة؛ لأن المخلوق لا يعبد، ولا يحب حب العبادة، وإنما يحب حيث أمر الله جل وعلا بحبه.
فهو بهذه النظرة يكون مكملاً ومتمماً لمحبة الله جل وعلا محبة العبادة، فهذا يجب أن يعلم، وأن يفرق بين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الله.
ثم لهذه المحبة لوازم وعلامات، ومن لوازمها: تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد، ومن علاماتها: الحرص على اتباعه صلوات الله وسلامه عليه أكثر من اتباع غيره، بل لا يجوز اتباع غيره في أي شيء هو في الدين عبادة؛ لأن العبادة مبناها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه، فهذا الذي قد يغلط فيه بعض الناس.
وسبق أن قلنا: إن الحب ينقسم إلى قسمين:
حب يكون خاصاً، وهذا يجب أن يكون خالصاً لله، وهو حب العبادة الذي فيه الذل والتعظيم.
وحب يكون مشتركاً بين الخلق كلهم حتى البهائم، وهذا أقسام:
منه -مثلاً- حب الألفة والمصاحبة، إذا صاحب إنسان إنساناً وألفه، وكان معه في عمل من الأعمال أو في مكان من الأمكنة، وطال التردد وكثر الاجتماع؛ فإنه تحصل محبة بينهم، وهذا مشترك بين الخلق كلهم حتى البهائم، البهيمة إذا أخذت من بين البهائم صارت تصيح وتحن إلى إلفها، ولا تسكن حتى ترجع إلى المكان الذي أخذت منه، فالمقصود أن هذا مشترك بين الخلق.
ونوع آخر من الحب وهو حب يتضمن حاجة كحب الطعام، وحب الشراب، فإذا حصل له حاجته أصبح لا يحبه. وحب يتضمن رحمة ورأفة كحب الصغير وحب الضعيف وحب المسكين، ومنه حب الولد، فإن هذا حب حنان ورحمة.
ومنه أيضاً: حب تقدير وإجلال كحب الوالد مثلاً، يقدره ويجله، ولكنه لا يتضمن الذل والخضوع، يقدر ويجل بحيث يعمل معه الأدب، ولكن لا يسجد له، ولا يخضع له، ومن هذا القبيل أيضاً حب الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها، فهذه الأنواع كلها لا لوم على الإنسان في شيء منها، فهي مشتركة بين الخلق، ولا بد منها.
وإنما الذي يجب أن يكون لله هو الحب الخاص، وهو حب العبادة، حب الذل والتعظيم والخضوع الذي يتضمن استكانة القلب وذله، وخضوع الجسم والجوارح، فهذا يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقات، أحد الصحابة رجع من سفر رأى فيه بعض الأعاجم يسجدون لعظمائهم وملوكهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا نسجد لك فأنت أولى من أولئك؟ قال (لا، السجود لله، ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها) ولكن العبادة يجب أن تكون لله وحده، لا يكون لمخلوق منها شيء، والعبادة إذا خلت من الحب والذل والتعظيم فليست عبادة، ولا تكون عبادة إلا بذلك.
أما كون الإنسان يحب ما يحتاجه فهذا من الحب الطبيعي الذي لا يؤاخذ عليه؛ لأن الله جل وعلا خلق الناس على هذا الشيء، وعين العبادة وحددها وبينها حتى يعمل عباد الله على أمر الله، ويجتنبون نهيه، وكل هذا مأخوذ من معاني النصوص التي دلت عليه من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر