مضى الكلام على هذا الحديث، وبقي قوله: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، والحديث سيق من أجل وجوب الدعوة إلى الإسلام وإلى توحيد الله جل وعلا.
ولا شك أن الله جل وعلا كلف عباده بعبادته، ومن عبادته جل وعلا الدعوة إليه، بل هذا من أفضل العبادة، كون الإنسان يدعو إلى الله على بصيرة.
ولا يكون الإنسان له نصيب وحظ من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ شيئاً مما كان يتحلى به صلوات الله وسلامه عليه من الدعوة إلى الله تعالى ؛ لأن الله جل وعلا يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، فأتباعه كذلك يدعون إلى الله على بصيرة، أما الذي يتخلى عن الدعوة نهائياً فليس من أتباعه في الحقيقة، وإن كان من أتباعه في الظاهر؛ لأن أتباعه في الحقيقة هم الذين يناصرونه في دعوته ويترسمون خطاه.
وقوله هنا: (انفذ على رسلك) مضى أن هذا يدل على أن المسلم يكون عنده الطمأنينة والسكينة وعدم الخوف من الخلق؛ لأنه يكون واثقاً بوعد الله جل وعلا وبنصره، ولأنه متيقن أنه يحصل على إحدى الحسنيين، إما النصر والتأييد في الدنيا والظفر، وإما الشهادة والفوز بها عند الله جل وعلا.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يستبشرون بأن يفوز أحدهم بالشهادة، فإذا قتل أحدهم قالوا: هنيئاً لك الشهادة، وإذا حصل لأحدهم شيء من هذا القبيل قال: فزت ورب الكعبة. فكانوا يتمنونها ويطلبونها؛ لأنهم واثقون بوعد الله جل وعلا ، فلهذا لا يكون عنده طيش، ولا يكون عنده خوف، وإنما يكون على تؤدة وبأدب وسكينة، ولهذا قال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم)، وساحة القوم: هي ما يقرب من أفنية بيوتهم، فناء البيت الذي أمامه قريباً منه، بمعنى أنك تصل إليهم حتى تسمع كلامهم ويسمعون كلامك حينما تدعوهم، فتسمعهم وتسمع جوابهم وما يردون عليك.
وكذلك الصوم، أن يصوم رمضان، ويحج إلى بيت الله الحرام في عمره مرة، هذا هو الحق الذي يجب على من دخل في الإسلام، أما ما عدا ذلك فليس بواجب، إنما هو تطوع، فإذا جاء به فإنه يكون له الثواب عند الله جل وعلا، الحسنة بعشر أمثالها، وإن لم يأت به لا يطالب ولا يعاقب، بشرط أن يأتي بهذه الأمور الخمسة شاملة غير منقوصة، فإن نقص منها شيء فأمره إلى الله جل وعلا يحاسبه على ذلك، إن شاء عفا عنه وإن شاء أخذه به.
أما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا بد منها لكل من يدخل الإسلام، ولا بد من العلم بها والعمل بمقتضاها، ولا يجوز أن يجهلها المسلم، فإن جهلها فاللوم عليه، وهو غير معذور؛ لأن الله جل وعلا أرسل رسوله بها صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل كتابه شارحاً لها ومبيناً لها، فيجب على المسلم أن يتعرف على ذلك، على أمر الله فيها، ولا يسعه الجهل في ذلك، فالذين يصدون عن مقتضى ذلك ويأتون بما يناقضه من كونهم يعبدون أمواتاً لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ويتوجهون إليهم بالدعاء، والاستغاثة بهم وطلب الحاجات، ويطلبون النصر على الأعداء منهم فإن هذا يناقض شهادة ألا إله إلا الله تمام المناقضة، وإذا زعم أنه وجد الناس على هذا وما وجد من يبين له فالجواب أنه معرض عن دين الله، ولا يلزم الإنسان أن يأتيك ليبين لك، بل أنت يلزمك أن تتعرف على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كلفك الله به من عبادته، يجب على كل إنسان ذلك.
ولهذا إذا وضع الإنسان في قبره فكل مقبور يأتيه الاختبار يسأل ثلاثة أسئلة إن أجاب عنها سئل عن البقية وإلا عذب لأنه هالك، يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ والمعنى أنه يقال: من الذي كنت تعبده؟ وبأي شيء كنت تعبد؟ وعمن أخذت هذه العبادة التي تتعبد بها؟
هذه الأسئلة لابد منها لكل إنسان، وإذا قال: أنا وجدت أهل بلدي. أو وجدت الشيخ الفلاني يقول لي كذا وكذا فهذا ليس جواباً وليس عذراً، فأهل البلد والناس كلهم ليسوا رسلاً، وإنما الإنسان مكلف باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكلف بمعرفة كتاب الله جل وعلا، ولهذا أخبر جل وعلا أنه أنزل الكتاب عربياً مبيناً، أي: بيناً واضحاً. فمن عرف اللغة لابد أن يعرف المعاني، وإن كان القرآن فيه معانٍ دقيقة ومعانٍ جليلة ومعانٍ كثيرة، ولكن الظاهر من الخطاب كل من عرف اللغة يعرفه، وهذا هو المطلوب من كل أحد، أما ما وراء ذلك من الدقائق والأمور التي تتطلب الفهم فهذه إلى العلماء، وليست لعامة الناس، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى ما يكون من نصيب العلماء فقد أمر الله جل وعلا بسؤالهم فقال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]
أما ما يعم الناس فكلهم يستطيع أن يدركه، بشرط أن يعرف اللغة التي نزل بها القرآن، والعلماء يذكرون أن من الواجب المتعين على كل مسلم أن يعرف اللغة العربية؛ لأنه لا يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عرف اللغة.
ثم بعد هذا يقسم صلوات الله وسلامه عليه: (والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هنا لتعظيم الأمر وتضخيمه لدى السامع، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم صادقٌ مصدوق فيما يخبر به، لو أخبر بخبر بدون قسم يجب قبوله وتصديقه، ولكن جاء بالحلف والقسم لتعظيم الأمر حتى يُتنبه له ويرغب فيه.
فهداية رجل واحد خيرٌ لمن دعا إلى الهدى من حمر النعم، وحمر النعم هي النوق الحمر، وهي أنفس ما لدى العرب من الأموال، والمعنى -كما يقول العلماء- أن هداية رجل واحد خيرٌ لك من أموال الدنيا وما طلعت عليه الشمس، ثم الأمر مثلما يقول النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، يقول: هذا تمثيل تقريبي للأفهام، وإلا فذرةٌ من الآخرة تساوي ما في الأرض ومثله معه.
يعني أن الأموال التي في الدنيا لا تساوي هداية الرجل الذي يهتدي على يدي الداعية، بل ولا ما هو أقل من ذلك، بل إنما هذا هو تقريبٌ للأفهام، ومن المعلوم أن الناس يحرصون على أمور الدنيا، ويرغبون فيها، وأكثرهم يزهد في أعمال الآخرة، فيحتاجون إلى تبيين وإيضاح وإلى ضرب الأمثال، من أجل ذلك جاء ضرب المثل؛ لأن أكثر الناس تكون رغبته وتعلقه في أمور الدنيا، ويغفل عن أمور الآخرة.
فقد جاء أن مكان سوط في الجنة أفضل من الدنيا مائة مرة؛ لأن الدنيا زائلة وذاهبة، ومهما حصل للإنسان من الأموال والأغراض التي يريدها فسوف تنقطع وتذهب كأن لم تكن، بخلاف ما يحصل عليه من أسباب رضا الله جل وعلا، فإنه يوصله إلى السعادة الأبدية التي لا تفنى، ومعلوم أن الإنسان يتنقل من دار لأخرى، وجعل في هذه الدار ليزرع ويعمل ثم يموت، فلابد من الموت، وبعد الموت يكون جزاؤه على قدر عمله في هذه الحياة، إن كان امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاع الله جل وعلا فهو السعيد الذي يلقى ما لا عين رأته، ولا أذن سمعت به، ولا خطر على قلب بشر، أما إذا كان أطلق لنفسه العنان وأصبح لا يبالي بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه فإنه أمده قصير ومرجعه إلى الله، وسوف يعذبه العذاب الذي لا يتصور، فعذاب الله ليس كعذاب الخلق ، الخلق مهما أوتوا من البطش والظلم. ومن عدم الرأفة والرحمة فإن عذابهم ينقطع بموت المعذب، فمهما أوجدوا له من أنواع العذاب سوف يموت، ولكن رب العالمين يعذب بغير موت، يعذبه العذاب الذي لا يطاق، ولا يأتيه الموت، بل كما يقول الله جل وعلا في وصف المُعذب: يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17] يعني: أسباب الموت تأتيه متنوعة ولكن لا يموت فيها ولا يحيا، لا حياة ولا موت، عذاب أبدي: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وهذا أبد الآباد ما دامت السماوات والأرض، وينساهم الله جل وعلا في جهنم، نارٌ أوقد فيها حتى صارت لا تطاق: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
إذا قال الله جل وعلا: خذوه -أي: المجرم- تبادره من الملائكة من لا عدد لهما -فما يعلم عددهم إلا الله- أيهم يأخذه ويلقيه في جهنم.
فالمقصود أن الإنسان أعد لأمر عظيم:
قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الإنسان خلق لأمر عظيم، خلق للجنة أو للنار، ولهذا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار) لا يجوز للعاقل أن ينساهما؛ لأن مصيره إلى واحدة منهما ولابد، لا يوجد مكان ثالث، إما أن تكون في الجنة أو تكون في النار فقط، ثم بعد هذا إذا استقر الإنسان في واحدة منهما يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة فينظرون ويشرئبون وهم يرجون فضلاً على فضل، فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت. ثم ينادى أهل النار: يا أهل النار فيشرئبون كأنهم يرجون فرجاً، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت. فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: خلود ولا موت. انتهى الموت، فلو أن أحداً يموت من الحسرة منهم لماتوا عند ذلك؛ لأنهم يطلبون وينادون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، فمالك خازن النار يدعونه: ليقضِ علينا ربك أي: ليمتنا حتى نرتاح من هذا العذاب. جاء أنهم يدعون سنين طويلة، وبعد آلاف السنين يقال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فالجواب يأتي بعد وقت طويل جداً جواباً شديداً جداً: اخسئوا فيها ولا تكلمون، فعند ذلك لا يبقى إلا الزفير والشهيق، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:106] خالدين أبداً.
فكيف يهنأ الإنسان بالنوم والأكل والضحك وهو يعرف أن مصيره إلى هذا؟! إن الأمر مثلما قال أحد السلف لما كان يبكي ويدع النوم فعوتب على البكاء فقال: والله لو توعدني ربي أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وأن أقلق، فكيف وقد توعدني إن عصيته أن يسجنني في جهنم،؟! والإنسان ما له عمر آخر، فإذا مات وانقضت حياته لا يعود.
فإذاً لابد إذا كان له نصيب من السعادة أن يقبل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما يستطيع.
ومن المعلوم عند جميع المسلمين الذين يؤمنون بالله وبرسوله حقاً أن الله جل وعلا ورسوله لا يمدح ويثني على من يعلم أنه يرتد ويموت كافراً، وإلا يكون مدحاً كذباً، تعالى الله وتقدس.
وفيه علم من أعلام النبوة؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه تفل في عينه وهو أرمد لا يبصر فزال الألم في لحظة، وأصبح يبصر بصراً أحسن مما كان أول، وقد جاء عنه رضي الله عنه -أي: علي - أنه قال: لم أشتك عيني بعدما تفل فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا يدلنا على أنه ليس هناك حاجة للإنسان إلى أن يعمل عملاً ويقول: أهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسوف يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عملك بدون أن تُهدي؛ لأنه هو الذي دل على الهدى ودعا إليه، ومع ذلك إذا قام من يدعو إلى الله متصفاً بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتحلياً بما أمر به وحض عليه فإنه يحصل له ذلك، وهذا نص صريح عنه صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، وبالعكس من دعا إلى بدعة كان عليه من الوزر والإثم مثل أوزار من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن كل نفس تقتل إلى يوم القيامة يكون على ابن آدم الأول الذي سن القتل كفل من هذا -أي: نصيب- لأنه أول من سن القتل.
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أول ما يبدأون بالدعوة وإن كان القوم قد بلغتهم الدعوة، ولكن إذا كانوا يستعدون لقتال المسلمين وقد بلغتهم الدعوة فيجوز أن يباغتوا، بل هذا هو المستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غافلون، فقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم ونساءهم؛ وهذا لأنهم كانوا يستعدون لمقاتلته صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (قال يوم خبير)، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فخرج علي رضي الله عنه، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية -أو ليأخذن الراية- غداً رجلاً يحبه الله ورسوله) ].
هذا هو الفتح، وليس القتال الذي حدث في خيبر ليلة أو ليلتين أو ثلاث أو عشر ليال، بل بقي رسول الله ما يقرب من شهر أو أكثر وهو يقاتلهم، وهم حصون متفرقة كلما فتح حصناً ذهب إلى الآخر، فهذا الخبر وقع في حصن من حصونهم وليس في كل حصون خيبر.
من الأمور التي تذكر ويلهج بها كثير من الناس ويعتقدون فيها اعتقادات باطلة مما جاء في السيرة في هذه القصة ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه لما حضر علي رضي الله عنه إلى هذا الحصن ضرب بالدرقة التي كانت عليه يتقي بها السلاح فسقطت منه، فكان عنده باب من أبوابهم فأخذه واتقى به السلاح، ثم لما انتهى القتال -يعني: فتح الحصن- يقول: حاول ما يقرب من أربعين رجلاً أن يقلبوا هذا الباب فما استطاعوا، هذا يذكره بعض الناس ويقولون: إن هذا من خصائص علي بن أبي طالب. وهو جاء في السيرة بدون سند، أي: مرسلاً ليس له سند صحيح، ولكن إذا صح هذا فليس غريباً، فإن هذا من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآيات التي حدثت للصحابة كثيرة جداً، حتى إنه جاءت أشياء غريبة جداً، مثل كونهم يخوضون البحر وهم على خيولهم فلا تبتل ثيابهم، بل إن خيلهم كانت تقع على الماء وكأنها تقع على الرمال، كما ذكر عن سعد بن أبي وقاص في غزوته للفرس في القادسية، وكذلك ابن الحضرمي حصلت له نفس القصة، وأنهم أيضاً فقدوا الماء فدعوا الله فجاءهم الغيث من السماء فاستقوا وارتووا، ثم وقف المطر، فلما ساروا قليلاً وجدوا الأرض يابسة، ثم إنه لما حضرت أحدهم الوفاة سأل الله ألا يراه أحد حتى لا يرى عورته، فطلبوه عندما أرادوا دفنه فما وجدوه.
وكذلك ما حصل لـثابت بن قيس بن شماس يوم القادسية، وآيات كثيرة خارقة للعادة، بل جاء ما هو من أعجب من هذا وهو إحياء الموتى، فبعضهم حيي بعدما مات وصار يتكلم ويخاطبهم، ثم بعد ذلك مات، وكل هذا من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على معجزاته وصدقه وما جاء به؛ لأنها حصلت لأتباعه الذين يتبعونه ويؤمنون بأن هذا من آياته، وأن الله أعطاهم ذلك كرامةً لهم على اتباعهم دينه، ومعلومٌ أن الإيمان بكرامات الأولياء من أصول أهل السنة، ولكن لا تدل على أن هذا الفعل من الرجل نفسه، أو أنه يتخذ إلهاً من دون الله جل وعلا لأجل أنه عنده كرامة، كما حدث لكثيرٍ من الناس إذا سمعوا أن هذا العالم أو هذا الرجل له كرامات اتخذوا قبره صنماً يعبد، وصاروا يدعونه، كما حصل لـعبد القادر الجيلاني لما ذكر له من الكرامات صار قبره من أكبر الأوثان التي تعبد اغترارا وجهلاً بالواقع، فالواقع أن هذا ليس للإنسان فيه دخَل، وإنما هو من الله جل وعلا، وإذا حصل له شيءٌ من ذلك فهو لحاجته حين احتاج إليه فأكرمه الله جل وعلا بذلك، وهو من الله ولا يحصل إلا بالإيمان، وقد يحصل شيء من هذا النوع أو قريب منه لمن هو ليس على الهداية والدين، ولهذا يقول العلماء: لا تغتر بما يحصل على يد الرجل وإن رأيته يطير في الهواء أو يمشي على الماء حتى تنظر إلى وقوفه عند محارم الله وحدوده، وكيفية اتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لكتاب الله، فإذا رأيته متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله وقافاً عند حدوده فعالاً قواماً بالواجب عند ذلك يعتقد أنه من الأولياء؛ لأن الله جل وعلا يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، هؤلاء هم الأولياء الذين آمنوا وكانوا يتقون.
وقد قص الله جل وعلا علينا من كرامات الأولياء في كتابه أشياء كثيرة، مثل ما حصل لمريم عند ولادتها، وكذلك قبل الولادة، كانت تأتيها فواكه لا تعرف: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37] في وقت لا تعرف فيه الفاكهة تأتيها، فكل ذلك من الله جل وعلا، ويكون إكراماً للعبد، ولكن إذا كان طائعاً لله جل وعلا، أما إذا كان عاصياً فقد يحصل له شيء من هذا النوع ويكون إهانة واستدراجاً ومكراً به فيتمادى في المعصية ويضل فيضل من اتبعه، ولهذا السبب قال العلماء: لا يغتر بالشخص وما يحصل له حتى ينظر إلى سلوكه وعمله هل هو متبع أو مبتدع.
فإن كان متبع علم فهو ولي، وإن كان مبتدعاً علماً فهو شقي، وهذا غالباً يكون من الشيطان.
هذا شيءٌ معروفٌ من قديم الزمن، أنه عند القتال إذا تقاتل فريقان كل فريق يكون له راية، وتكون علامةً للمقاتلين ينظرون إليها، وما دامت الراية مرفوعة فهم يقاتلون بقوة، فإذا سقطت فهو علامةٌ انهزامهم وعلى أنهم ضعفوا، والأمر في هذا معروف من قديم الزمن، كل قوم يتخذون لهم راية، والرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ راية يجعلها في الجيش، بل كان يتخذ عدداً من الرايات، ولكل قوم يدفع لهم راية يقاتلون تحتها، ويجعل لهم علامةً أيضاً في الكلام يتكلمون حتى يعرف بعضهم بعضاً؛ لأنه عند القتال في ذلك الوقت يختلط بعضهم ببعض، فإذا تكلم أحدهم بالكلام عرف أنه من أصحابه وإلا قد يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن الاختلاف يحصل عند الالتحام والقتال، فهذا هو سبب اتخاذ الراية، وإلا فهي لا تنصر ولا تغني شيئاً، وإنما هي علامةٌ يعرف بها المسلم المقاتل أصحابه، وإذا جال في الأعداء رجع إليها، فتكون محلاً للكر والفر.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس هذا الوصف مختصاً بـعلي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطلٌ، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافراً ].
لأن الله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء لا يمكن أن يثني على إنسان يرتد ويموت كافراً جل وعلا، ثم إن هذا -أي: كون الله جل وعلا يحب بعض عباده وكذلك رسوله- كثيرٌ جداً، وقد أخبر أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيانٌ مرصوص، في أشياء كثيرة، ولكن إذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل بعينه أن هذا يحبه الله ورسوله فكل إنسان يود أن يكون هو ذلك المنصوص عليه؛ لكونه صار منقبةً عظيمة، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على أقوام أنهم في الجنة، فمن ذلك أنه شهد لـأبي بكر أنه في الجنة، وشهد لـعمر أنه في الجنة، وشهد لـعثمان ولـعلي ولـعبد الرحمن بن عوف وللزبير ولـطلحة ولغيرهم كثير، وكذلك مثل الحسن والحسين، ومثل ثابت بن قيس بن شماس، ومثل عبد الله بن سلام، بل جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصل ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب ذلك الكتاب وأرسله إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال له عمر : دعني أضرب عنقه فإنه منافق قال: ( إنه من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع عليهم وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)عند ذلك ذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.
وجاء غلام من غلمانه فقال: (يا رسول الله! والله ليدخلن
فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى هذه الأمة بكرامة الله جل وعلا؛ لأنهم هم الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين بلغوا الدين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، فهم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه، نقلوا القرآن والدعوة، ونقلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله.
المحبة من الصفات التي ذكر الله عز وجل كثيراً أنه يتصف بها، ولكن الجهمية أنكروها، وفي الواقع لا ينظرون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصلهم زنادقة دخلوا إلى الإسلام ليفسدوه، هذا هو أصلهم، فاغتر بهم من اغتر، كسائر الدعوات التي تأتي دخيلة كل الناس يكون عنده بصيرة في النظر، ويغتر فيظن أن كل داع وقائم يريد الحق، فيغتر ويتبعه على ذلك وهو لا يدري.
فاتبعهم على قولهم الباطل خلائق ليسوا منهم ولكنهم ضلوا؛ لأنهم أضلوهم بذلك، فصاروا مما ينكرونه كون الله جل وعلا يتصف بالصفات، بل جعلوا التوحيد عندهم أن لا يوصف الله جل وعلا بصفة، سواءٌ أكانت صفة فعل، أم صفة ذات -تعالى الله وتقدس- ويقولون: لا يكون الإنسان موحداً حتى يعطل الله جل وعلا من أوصافه.
ولا شك أن هذا من أعظم الضلال، ولهذا كثير من العلماء كفرهم وأخرجهم من الدين الإسلامي، وقال: ليسوا من الاثنتين والسبعين فرقة التي أخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حيث قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقالوا: من هي؟ فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فالثنتان والسبعون كلها ضالة، والناجية هي أمة الإجابة، الأمة التي استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم، وليست من الأمة التي بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى دعوتها؛ لأن هذا للخلق كلهم، فيقول العلماء الذين كتبوا في الفرق: هؤلاء ليسوا من الاثنتين والسبعين. أي أنهم ليسوا من المسلمين، هذا معناه؛ لأن الاثنتين والسبعين من المسلمين إلا أنها فرق ضالة توعدت بدخول النار، وأمرها إلى الله جل وعلا.
وكذلك فرق الباطنية التي تبطن الكفر وتظهر الإيمان، كلهم من هذا القبيل، فهم أنكروا أن يكون الله جل وعلا يحب أحداً، والعجيب أنهم أنكروا المحبة من الجانبي، أي أن الله لا يحب ولا يُحب -تعالى الله وتقدس- فإذن ما هو الإيمان؟ وما هي العبادة؟ العبادة هي التأله الذي هو حب يصل إلى الغاية والنهاية من الذل والتعظيم، والذي ينكر ذلك ينكر دين الإسلام أصلاً، فالله جل وعلا إذا أخبر عن نفسه بخبر وجب قبوله وتصديقه، وكذلك كونه جل وعلا مخالفاً لخلقه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]تعالى وتقدس، فهو يحب، ولكن محبته ليست كمحبة العباد التي تكون مقتضية للحاجة والفقر، فالرب جل وعلا يحب، وهو غني عن كل ما سواه، والخلق كلهم فقراء إليه، ولكنه كريم جواد، فهو يحب المتقين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب الصابرين، ويحب من اتبع رسوله، وكذلك يحب من امتثل أوامره واجتنب نواهيه، ولذلك من أنكر المحبة كهؤلاء فالواقع أنه ينكر الإسلام عموماً.
وشبهتهم التي زعموا هي مبنية على التشبيه الذي ارتسم على أذهانهم ولم ينطقوا به، وزعموا أنهم ينزهون الله، وذلك أنهم قالوا: المحبة هي الميل إلى الملائم، والميل إلى الملائم يقتضي الفقر، فلو لم يكن عنده فقر ما مال إلى الملائم. فعلى هذا قالوا: لا يجوز أن نصف الله جل وعلا بالمحبة؛ لئلا يكون متصفاً بالميل إلى الملائم.
فيقال لهم: هذه المحبة التي تكون فيكم أنتم، وهي محبة الخلق، أما محبة الله جل وعلا فهي تليق به بجلاله وعظمته، لا يجوز أن تكون مثل محبة المخلوق، تعالى الله وتقدس.
فالذين يؤولون المحبة هم الأشعرية، فهم لا ينكرونها مثل الجهمية، ولكنهم يؤولونها، والتأويل يقول بعض العلماء: هو شر من فعل الجهمية. لأن كثيراً من المسلمين اغتر بقولهم؛ لأنهم زعموا أن الحق معهم، وأن هذا هو معنى ما أخبر به الله جل وعلا عن نفسه بأنه يحب.
وتأويلهم إياها يكون على نوعين:
أحدهما: أن يؤولوها بصفة أخرى كالإرادة، فيقولون: (يحب المتقين) معناه: يريد منهم التقوى، و(يحب المحسنين) يريد منهم الإحسان.
النوع الثاني: يؤولونها بشيء مخلوق لا يتصف الله جل وعلا به، وهو إرادة الإثابة، أي: يثيبهم، فـ(يحبهم) يعني: يثيبهم ويجزيهم.
ومعلوم أن الإثابة والجزاء شيء منفصل عن الله جل وعلا، بل هو شيء مخلوق، فلا يجوز أن يكون المخلوق صفة لله جل وعلا، كل هذا باطل، بل المحبة يجب أن يوصف الله جل وعلا بها على ظاهرها، مع تنزيه الله جل وعلا عن خصائص المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء تعالى وتقدس.
وقوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) بنصب (ليلتهم)، و(يدوكون) قال المصنف: يخوضون. أي: فيمن يدفعها إليه. وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان ].
قوله: (يفتح الله على يديه) فيه علم من أعلام النبوة، والمقصود بأعلام النبوة: العلامات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بإخباره بالمستقبل. فمثل هذا أمر مستقبل لا يعلمه إلا علام الغيوب، فالله جل وعلا يعلم الغيب، ويطلع على بعض الغيب رسله؛ ليكون ذلك دليلاً على أنهم صادقون في إرسالهم من عند الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ [الجن:27-28]، بهذا يتبين أنهم رسل من عند الله، أي أنهم إذا أخبروا بالأمور التي لا قدرة على البشر للوصول إليها كأخبار المستقبل علم صدقهم. وهذا شيء كثير جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبار نبوته واضحة جداً، ومن أول دعوته إلى آخر دعوته كلها علامات بينة وظاهرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قوم كفار مخالفين له في العقيدة والاتباع، ثم عادوه أشد المعاداة حينما دعاهم إلى ترك ما كانوا عليه، فصار يتوعدهم وهو وحده ليس معه قوة ولا أعداد، ويقول: إن لم تؤمنوا بما جئت به وتتبعوني وإلا سوف أقتلكم ثم تكون عاقبتكم إلى النار. وهذا لا يمكن أن يقوله إلا من هو واثق بالله جل وعلا، وبأنه أخبره بأن هذا سيقع ولا بد، إن العاقل لا يمكن أن يأتي إلى قوم أعداء له وهو ليس معه قوة وليس بيده سلطان ثم يتحداهم ويتهددهم ويتوعدهم، فربما يتسلطون عليه فيقتلونه ويؤذونه بأدنى سبب، فيقتلونه لو كان غير واثق، وهذا من علامات نبوته صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا أتى عن الرسل كلهم، فقد قال الله جل وعلا عن هود لما توعدوه، وقالوا: إن قولك هذا مخالف لجميع الناس وأنت يجوز أن تكون مجنوناً وقالوا: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54] أي: بجنون. وآلهتهم: أصنامهم. يقولون: أصابتك بعض أصنامنا بسوء. فتحداهم وقال: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55] يعني: كل الكيد الذي عندكم اجتمعوا عليه، واستعينوا بأصنامكم وآلهتكم ثم لا تمهلوني ساعة، يقول هذا الكلام وهو وحده، وهكذا الرسل كلهم من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم يأتون بالتحدي لقومهم وأحدهم وحده؛ لأنه واثق بأن الله ناصره وهو معه، ولن يصلوا إليه، فهذا من أعظم علامات ودلائل النبوة.
ومنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لما كان في غزوة تبوك ونفد الماء منهم أرسل اثنين من صحابته يطلبان الماء، فلقيا امرأة من المشركين معها راويتين-قربتين مملوءتين- فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي به أمس في هذا الوقت. تعني أنه بعيد، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يؤخذ من مائها في إناء، فأخذ من الماء، فصار الناس يشربون ويتوضأون ويقضون حاجتهم بالماء، ثم بعد ذلك نظروا إليها وإذا هي أشد امتلاء مما كانت أول، فقال لها: هل رزأناك من مائك بشيء؟ قالت: لا. وأعطوها من الطعام ما حمل راحلتها.
ولهذا لما أرسل كتابه صلوات الله وسلامه عليه إلى هرقل ملك الروم يدعوه إلى الإسلام أرسله بلغته صلوات الله وسلامه عليه، فكتب كتاباً وصورته: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى
وكل هذا يدل على رجاحة عقله، وأن في الواقع نظراً صحيحاً، والمقصود أن دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه كثيرة.
خفاستدلت على أنه سوف يلقى الخير والسعادة بما يفعل؛ لأنه -كما قلنا- ما يلتبس أمر الكاذب بأمر الصادق، وهذا يدلنا على أن المتكلمين ما اهتدوا إلى شيء من ذلك عندما قالوا: إنه لابد أن يقترن بدلائل النبوة التحدي، وإلا فإنه يلتبس الأمر بالنبي والمتنبي والساحر وغيره. وهذا بعيد جداً؛ لأن المتنبي كاذب والنبي صادق، بل المتنبي أكذب الخلق وأخبثهم، والنبي أصدق الخلق وأفضلهم، ولا يمكن أن يلتبس أصدق الخلق بأكذبهم، وكذلك الساحر مثل المتنبي أو أخبث، وهكذا.
والمقصود أن دلائل النبوة كثيرة جداً، ومن قرأ السيرة اطلع على الشيء الكثير، ولهذا نحث كثيراً على قراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تزيد الإنسان إيماناً وتثبت اليقين عنده تماماً.
ومن أعظم الآيات التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه هذا القرآن الذي يتلى ونسمعه كثيراً، وفيه من العجائب ومن الآيات والدلائل على صدقه في كل آية.
وعلى كل حال فهذه من الأمور الواجبة على المسلمين، كونهم يتعرفون على دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
والإنسان سيسأل عن هذه الأمور، فإنه إذا وضع في قبره سئل ثلاثة أسئلة: الأول منها يقال له: من ربك؟ ولا بد أن يعرف ربه بالدلائل اليقينة، وليس بالتقليد، والسؤال الثاني يقال له: من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولا يكفي كونه يقول: محمد بن عبد الله. لابد أن يعرفه بالدلائل أنه نبي حق وأنه صادق وأنه جاء بالهدى، والثالث: يقال له: ما دينك؟ أي: ما الذي تتعبد به؟ فإذا أجاب سئل عن الدليل، فيقال له: ما يدريك أن هذا هو الحق؟! فلو قال -مثلاً-: ربي الله، وهذا هو رسول الله، وديني الإسلام يقال له: وما يدريك؟ فإما أن يذكر الدليل الذي يقنع به الملائكة أو يتلعثم ويقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فيعذب، فالمقصود أن هذا مما يجب على الإنسان معرفته، وأنه يسأل عنه في قبره، يسأل عن ذلك، وإذا لم يعرف ربه ودينه ونبيه باقتناع فإنه يخشى عليه أن لا يجيب الجواب الصحيح، ويخاف عليه.
قوله: ( فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ).
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أنَّ عمر رضي الله عنه قال: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ).
قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير، ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لـثابت بن قيس وعبد الله بن سلام، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر ].
ثابت بن قيس بن شماس هو خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جهوري الصوت، يتكلم فيكون صوته عالياً، فلما نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] عند ذلك خاف وقال: إذاً أنا المعني بهذه الآية؛ لأني أجهر بصوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً قد حبط عملي. فجلس يبكي في بيته، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه فقيل له: إنه يقول كذا وكذا. فقال: (بل هو من أهل الجنة) ، وأمر به أن يؤتى به، فصارت هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة.
وكذلك عبد الله بن سلام شهد له أيضاً عند رؤيا رآها فقال: (هو من أهل الجنة).
وغير هذا كثير حين شهد لأناس فأخبرهم بأنهم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم، (
وكذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى الكفار يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله جل وعلا أن يعمي على قريش أمره حتى يبغتهم في بلادهم؛ لأنهم نقضوا عهده الذي كتبه بينه وبينهم في الحديبية، حيث ظاهروا على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة، وقتلوهم ركعاً وسجداً كما قال شاعرهم، ثم جاؤوا يطلبون تمديداً؛ لأنهم أحسوا أنهم نقضوا العهد فأرادوا تجديده وتمديد الوقت، فلم يجبهم بشيء، ولم يكلم رسولهم بشيء، بل كل الصحابة لم يكلموه، جاء أبو سفيان إلى أبي بكر فلم يكلمه بشيء، ثم جاء إلى عمر فقال له: والله لو لم يكن معي إلا الذر لقاتلتكم. وجاء إلى علي فقال له: اذهب إلى المسجد فقل: إني مددت الوقت ووضعت كذا وكذا ثم اذهب. فجاء إلى المسجد فتكلم بهذا الكلام، فلما رجع إلى قومه قالوا: ماذا وراءك؟ فقال: ما وجدت من يجيبني غير أن علي بن أبي طالب قال لي كذا وكذا ففعلته فقالوا: ما زاد على أن ضحك عليك.
فتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل ربه أن يعمي عليهم أمره حتى يبغتهم في بلادهم، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً وأعطاه امرأة فيه: أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاكم والمسلمون بجنود لا قبل لكم بها، فجاءه الخبر من السماء، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر الكتاب، فأمر الزبير وعلي بن أبي طالب ودعاهما وقال: (اذهبا إلى روضة خاخ تجدان فيها ظعينة معها كتاب، فائتياني بالكتاب) ، فذهبا على فرسيهما إلى تلك الروضة، فوجدا المرأة معها غنم له، فقالا لها: الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقالا لها: والله ما كَذَبْنا ولا كُذِّبنا، لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. أي: نخلع ثيابك ونفتشك؛ لأنه لابد أن معها الكتاب. فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيلتها من تحت شعرها قد وضعته هناك، فجاءا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقراءته، ثم استدعى حاطباً فقال: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل، والله ليس شكاً مني ولا حباً لهم، ولكني رجل ملصق فيهم، وكل من معك لهم من أقربائهم من يحمي ذويهم وأموالهم إلا أنا، فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينصرك. فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟ إنه شهد بدراً، وإن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ، فأهل بدر كذلك.
ومرة جاء إليه صلوات الله وسلامه غلام لـحاطب فقال: (والله ليدخلن
والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شهد لإنسان بعينه وقال: إنه من أهل الجنة. أو إنه يحبه الله ورسوله فكل الذين يسمعون يودون أن يكونوا مثل هذا؛ لأن هذه شهادة معينة، وإلا فالله يخبرنا أنه يحب المتقين وكذلك رسوله، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وهم كلهم بهذه الصفة، وإذا أذنب أحدهم تاب، وهم متطهرون من الشرك ومن الأدناس، وهم كذلك متقون ومحسنون، فلا شك أن الله يحبهم، ولكنهم كانوا إذا جاءت شهادة لمعين بعينه فكل واحد منهم يحب أن يكون كذلك؛ لأن شأن المؤمن ليس كشأن المنافق، وإن أحسن وإن أكثر من العمل فهو على وجل، ويخاف ألا يقبل عمله، ويخاف أن تأتي مؤثرات، فإذا جاءت الشهادة له بعينه اطمأن وأحب ذلك، هذا هو السبب في كونهم كلهم رغبوا في أن تدفع إليهم الراية، ورغبة كل واحد منهم في أن تدفع إليه الراية ليست حباً في الإمارة، كما قال عمر : ( ما أحببت الإمارة إلا يومئذ )، وذلك لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، لأجل هذا فقط حتى يتحلى بذلك، ومثل هذا الحديث الذي تقدم، والذي فيه أنه لما ذكر الذين يدخلون الجنة بغير حساب قام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل آخر وقال: ادع الله أن يجعلني منهم .... الحديث.
إذاً فمعنى هذا أن كل واحداً يحب هذا الفضل، وليس معنى ذلك أن هذا من خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل المؤمن المتقي التواب الصادق هو ممن يحبه الله ورسوله، وكذلك المقاتل في سبيل الله الصابر المقبل المحتسب يحبه الله ورسوله .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر