في هذه الآية بيان العلة التي من أجلها خُلق الجن والإنس، وهي أن الله جل وعلا خلقهم ليعبدوه، ولهذا قال بعدها: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57-58]، والمعنى أن الله جل وعلا خلقهم للعبادة، وتكفل بما يلزم لحياتهم من الأرزاق والمعافاة في الأبدان وما يصون حياتهم إلى أن يأتي الأجل الذي قدره الله جل وعلا، وليس الرب جل وعلا في خلقه وإيجاده العباد يُقاس على الذين يكتسبون العباد ليكونوا عزاً لهم وقوة أو يتعززون ويتكثرون بهم عند الحاجة، فالله جل وعلا غني بنفسه عن كل ما سواه، وليس هو جل وعلا بحاجة إلى العباد وإلى عبادتهم، وإنما خلقهم ليبتليهم، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، ومن المعلوم أن الله جل وعلا يعلم كل شيء، وعلمه جل وعلا أزلي لا يمكن أن يستجد له علم بعد أن لم يكن، تعالى وتقدس، فعلمه كامل تام في الأزل، وكل الغيوب عنده مثل المشاهدة، وكل ما سيقع قد علمه أزلاً.
يعني أنه علم من يعبد ممن لا يعبد قبل أن يخلقهم، وقد ضل في معنى هذه الآية كثير من المتكلمين الذين يقولون: هذا خبر من الله وقد خالف الواقع، فالله جل وعلا يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والواقع أن أكثر الناس لا يعبدون، فأين صدق هذا الخبر؟ فنقول: ليس هذا هو المقصود بالآية، بل الآية معناها أن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلقنا، وأنه خلقنا لعبادته، ولكن وكَّل العبادة إلينا وطلبها منا، وذلك أن الله جل وعلا جعل في المخلوق عقلاً وفكراً واختياراً وقدرة، وكلفه بالشيء الذي يستطيع فعله، وأمره بأوامر محددة، والناس كلهم بالنسبة للأوامر سواء، فلا تمييز بين كافر ومؤمن.
وقد أخبرنا ربنا جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا في أمور خمسة فقط: عبادة الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وهذه الأمور الخمسة الناس ليسوا فيها سواءً أيضاً؛ لأن بعضهم لا تجب عليه كلها.
أما العبادة فلا يخرج منها أحد من الخلق، فما دام الإنسان قد وصل إلى العقل ووجدت عنده المقدرة فإنه يجب أن يلتزم بعبادة الله دائماً وأبداً، وكلما ازداد علم الإنسان بالله جل وعلا زادت العبادة والخشية عنده، كما قال الله جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] يعني: الخشية التي يستحقها. وإلا فالخشية توجد من غير العلماء أيضاً، ولكن الخشية الواجبة، فإذا ازداد علم الإنسان ازداد خشية، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله جل وعلا، فالخشية الواجبة لا تنفك عن الإنسان، والعبادة هي كل عمل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، فيجب أن يكون خالصاً لله، كل عمل تفعله تطلب به الثواب وكل شيء تتركه وتخاف أنك لو فعلته لعوقبت فهذا يكون عبادة، فيجب أن تكون العبادة لله وحده، ولا يُشرَك في عبادته شيء لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا أمر يعم الخلق كلهم.
والذين يقولون: إن الإنسان إذا ترقى في العلم ووصل إلى درجة العلم اللدني يسقط عنه التكليف هؤلاء يكونون بهذا القول كفاراً خارجين من الدين الإسلامي باتفاق العلماء، ويستدلون على هذا القول الكفري بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] وما أشبه ذلك من التحريفات، ويقولون: اليقين هو العلم اليقيني الذي تصل به إلى درجة أنك تشاهد الأشياء، فتشاهد ربك، وتشاهد الملائكة، وتشاهد الجنة، وتشاهد النار، والواقع أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة فمعنى ذلك أنه يشاهد ربه الذي هو الشيطان، يشاهده على كرسي يجلس بين السماء والأرض أو يجلس على البحر ويزين له أشياء، فيقول له: هذه الجنة وهذه النار، وهذا كذا وكذا، هذا هو الواقع، وأما الآية فمعناها: واعبد ربك حتى يأتيك الموت.
أما بقية الأمور الخمسة فإنه إذا عقل الإنسان وصار مميزاً أمر بالصلاة، وإن كانت لا تجب عليه تدريباً له وتأنيساً، حتى لا ينفر منها ولا تأتيه الأمور بغتة فلا يستطيع القيام بها، وإنما تجب عليه إذا بلغ سن التكليف، ولا تسقط الصلاة بحال إذا وجبت، وما دام عقله موجوداً، فالصلاة واجبة عليه، وهذا يشمل كل إنسان إلا المرأة الحائض والنفساء، والله جل وعلا رحيم، فإذا استطاع الإنسان أن يصلي الصلاة المطلوبة وهو قائم ويركع ويسجد فهذا فرض، وإن لم يستطع صلى وهو جالس، فإن لم يستطع صلى وهو على جنبه، يومئ برأسه إن استطاع أو بعينه بالنية، وإن استطاع أن يتوضأ وجب عليه، وإن لم يستطع تيمم، فما دام عقله موجوداً فالصلاة واجبة عليه.
أما الزكاة فلا تجب إلا على صاحب المال، ولا تجب على المسلمين كلهم، فالذي عنده مال ويبلغ النصاب وحال عليه الحول يجب عليه الزكاة.
وأما الصوم فقد خفف الله جل وعلا عن عباده فجعل الصوم الواجب شهراً في السنة فقط، إلا أن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً من نذر وما أشبه ذلك، ثم هو لا يجب إلا على المكلفين العقلاء، ثم إذا مرض الإنسان فإن الله جل وعلا قد رخص له أن يفطر ويأكل ويتقوى ويصوم أياماً أخر، وكذلك المسافر.
وأما الحج فلا يجب إلا على من يستطيع ببدنه وبماله ويأمن طريقه ويجد النفقة لمن يعولهم حتى يرجع، وإذا تخلف شرط من هذه الشروط فالحج ليس واجباً، ولو مات ولم يحج فليس عليه شيء، ولا يجب أن يُحج عنه، والمرأة تزيد على هذا أن تجد لها محرماً ممن تحرم عليه على التأبيد من ابن أو أخ ونحوهما، وكذلك زوجها، ويشترط أن يذهب معها حتى ترجع، فإذا لم تجد محرماً فلا يجب عليها الحج، ولو ماتت ولم تحج على هذه الحالة فليس عليها حج.
فهذه الأمور الخمسة هي التي رُتب عليها دخول الجنة، فإذا جاء بها الإنسان فقد جاء بالحق الواجب عليه الذي أوجبه الله عليه، وهل هذا صعب؟ الجواب: لا. بل هو سهل جداً، ولكن على من سهله الله عليه، وهذه الأمور جُعلت للناس عامة لم يُخص بها إنسان دون آخر، فلهذا نقول: إن قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يبين، أن الله خلقهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود بالطريقة التي أخبرنا جل وعلا بها، وطلب منهم العبادة، وأخبرهم أنه خلقهم لعبادته، ونهاهم أن يعبدوا غيره، وتوعدهم إذا عبدوا غيره، وأراهم ما حل بالكافرين الذي يعبدون غيره من العقاب والعذاب، وكذلك قدم إليهم بالوحي على ألسنة الرسل أن من عبد غير الله فإنه يخلد في جهنم ما دامت السماوات والأرض، فبعد هذا لا يكون للإنسان أي عذر في تركه العبادة وقد وكِّل الأمر إليه، فقيل له: هذه الأمور المطلوبة منك افعلها إن شئت أو لا تفعلها، فإن فعلتها أكرمت وأثبت ونعمت في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعلها أهنت وعوقبت وعذبت العذاب الأليم الذي لا يطيقه أحد حتى الجبال، ثم بعد ذلك خُلي الأمر وتُرك إليه؛ لأن عنده الاختيار وعنده المقدرة وعنده الاستطاعة، ولم يكلف الله نفساً إلا ما يسعها وما تطيقه وما تستطيعه.
فإذاً يكون معنى الآية واضحاً، وهو أن الله خلقنا وأوجدنا من العدم وطلب منا أن نعبده، كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] يعني أن الغاية من خلقهم والحكمة من إيجادهم هي العبادة، ثم جعل العبادة إليهم فإن فعلوها فقد فعلوا ما طلب منهم وبه تكون سعادتهم، وإن لم يفعلوها فقد توعدوا وسوف يلقون جزاءهم، وهذا كقوله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64] فقوله: (ليطاع) هل كل أحد يطيع الرسول؟! الجواب: لا. بل أكثر الناس لا يطيعونه، ولكن هذا لا يمنع أن تكون الحكمة لأجل الطاعة، فعلى هذا يكون المعنى جلياً وواضحاً.
فنقول كما تقدم: هذا ليس هو المقصود بالآية، وإنما المقصود بالآية أن ربنا جل وعلا يخبرنا أن الذي خلقنا له هو العبادة، ووكل الأمر إلينا، فإن فعلنا العبادة استحققنا جزاء ربنا في الثواب، وإن لم نفعله فإن الله جل وعلا يعاقبنا؛ لأن هذا هو معنى التكليف، ولا ينافي هذا كون الرب جل وعلا علم كل شيء، ولكن لتمام عدله جل وعلا لا يؤاخذ إلا بالفعل الذي يُفعل، ولا يؤاخذ بعلمه، فإنه علم كل شيء قبل وجود الخلق، يعلم أن هذا المخلوق سوف يولد وسوف يعبد أو لا يعبد، وكل هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما علمه فلا حد له، وعلمه أزلي، علم كل شيء في الأزل تعالى وتقدس، ولكن لتمام عدله فإنه لا يؤاخذ إلا على العمل البارز المشاهد الذي يعمله الإنسان، كما في الحديث الصحيح قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، يعني: ما أحد يدخل الجنة إلا بعمله، ولا أحد يدخل النار إلا بعمله الذي يعمله، فالله يأخذ الإنسان بعمله؛ لأنه ركب فيه العقل والاختيار والقدرة وأمره بما يستطيعه، فإذا فعل ذلك فهذا عنوان الامتثال والطاعة، وإذا امتنع فهذا عنوان الشقاء والمعصية والإباء، وبهذا يتبين لنا معنى الآية.
قال الشارح رحمه الله: [بالجر عطف على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء].
يعني قوله: [وقوله تعالى] بعد قوله: [كتاب التوحيد]، فكتاب مبتدأ، وهو مضاف والتوحيد مضاف إليه، و(قوله): يكون معطوفاً على المضاف عليه فيكون مجروراً، ويجوز أن يرفع فيكون (وقولُه)، فيكون معطوفاً على الخبر المقدر.
وقال أيضاً: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
قال ابن القيم رحمه الله: ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية.
وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي : أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى ].
تعريف العبادة في الحقيقية مهم جداً، لكي يعرف كل إنسان معنى العبادة التي خلق لها؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وكثير من الناس اليوم لا يعرف معنى العبادة، كما أنه لا يعرف معنى الإله، وأكثر ما يقع الضلال في المسلمين الذين هم في بلاد الإسلام بسبب هذين الأمرين: الأول: كونهم لم يعرفوا معنى العبادة. والثاني: كونهم لم يعرفوا معنى الإله، فوقعوا في الشرك لجهلهم بهذين الأمرين.
فعلى هذا يجب على الإنسان أن يتنبه لذلك، ويهتم له مخافة أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ لأن الذي يصرف شيئاً من العبادة لغير الله يكون مشركاً، والله جل وعلا أخبرنا أنه أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك في عمل غير ربه مع ربه جل وعلا تركه الله لشريكه؛ لأنه غني، وهو لا يقبل الشرك تعالى وتقدس، وقد أمر الله بإخلاص العبادة له في آيات كثيرة، منها قوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وهذا أمر العباد كلهم من أولهم إلى آخرهم، فالعبادة عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فقوله: (اسم جامع) يعني أن تسمية العبادة عبادة يجمع أشياء كثيرة، يجمع العمل ويجمع القول ويجمع العقيدة؛ لأن الاعتقاد كله عبادة.
فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون العمل عبادة إلا إذا كان مأموراً به، فالله لا يحب ولا يرضى إلا ما أمر به، والشيء الذي لم يأمر الله جل وعلا به لا يكون عبادة، فلا يتعبد الإنسان برأيه أو بنظره وقياسه، وإن كان هذا العمل عبادة في اللغة، ولكنه في الشرع ليس عبادة.
العبادة في الشرع لابد أن يجتمع فيها أمران: أحدهما: أن تكون خالصة لله. والثاني: أن تكون هذه العبادة قد جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها، فإن تخلف واحد من هذين الأمرين فليست عبادة في الشرع، وإن كانت عبادة في اللغة.
ولهذا قال: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال، مثل التسبيح والذكر والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقال باللسان، والأعمال يدخل فيها أعمال الجوارح، مثل الركوع والسجود والطواف، حتى كَشْفُ الرأس لله جل وعلا في الإحرام عبادة، ويدخل فيه أعمال القلوب، مثل النية والخشية والخوف والرجاء والإنابة والتوبة والندم على الذنب وما أشبه ذلك، فكل هذه من الأعمال، ولهذا قال: من الأعمال الظاهرة والباطنة، فالظاهرة التي تفعل بالجوارح، والباطنة التي تفعل بالقلب، هذا معنى تعريفه هذا، وهو تعريف جامع مانع.
وأما التعريف الثاني: فهو الذي ذكره عن القرطبي أن العبادة هي التذلل، فيقال: طريق معبد إذا ذل بوطء الأقدام وأصبح سهلاً مسلوكاً، وطريق غير معبد إذا كان وعراً، وفيه ما يعثر به القدم، ولكن لابد أن يضاف إلى هذا التعريف أنها التذلل لله مع الحب، وليس كل من ذل لأحد يكون عابداً له، فقد يذل الإنسان لظالم وقلبه يلعنه ولسانه يذكر أنه يحبه، فلا يكون هذا عبادة، وإنما العبادة أن يذل القلب مع محبة المذلول له وتعظيمه، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا.
إذاً العبادة هي غاية الذل مع الحب والتعظيم لله جل وعلا، ولابد أن يكون هذا في الشيء الذي أُمر به الإنسان؛ لأن العبادة -كما قلنا- توقيفية، والله جل وعلا يقول: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وافق العمل السنة صار صالحاً، وإن خالفها فهو فاسد، وقوله تعالى: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، يعني: أن تخلص لله عبادتك، وهذا هو معنى ما جاء في عدد من الآيات، من أنه جل وعلا وصف ما جاء به الرسول أنه هدىً وأنه دين الحق، فالهدى هو: العلم اليقيني الذي يكون على ضوء ما جاء به الرسول، ودين الحق هو: العمل بذلك، فلابد أن يكون القلب والجوارح كلاهما قد تحلى بالعبادة، فعلى هذا كل شيء يعمله الإنسان فإنه يرجو ثوابه من الله، فيجب أن يكون خالصاً لله.
فمن ذلك:
الدعاء، والدعاء هو من أفضل العبادة، وقد جاء في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا إذا لم يُدعَ يغضب، ويقول الله جل وعلا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، ويقول جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
فبين بهذا أن الدعاء هو العبادة، فلا يجوز أن ندعو ميتاً أو غائباً أو من لا يستطيع الإجابة، فإن وقع هذا من إنسان فمعنى ذلك أنه عبد غير الله، وهكذا إذا طلب من مخلوق من المخلوقات ما لا يستطيع، أو طلب من غائب لا يسمع، أو من جني لا يدري هل هو موجود أو هو غائب، أو من ملك لا يدري هل هو حاضر أو غائب، أو ميت لا يستطيع أن يجيب، كل هؤلاء إذا وجه الطلب إليهم يكون ذلك في غير محله، ويكون عبادة صرفت لغير الله، فكل ما يطلب من الله جل وعلا ولا يقدر عليه إلا هو جل وعلا فيجب أن يكون عبادة خالصة له ولا يجوز أن يصرف لغيره جل وعلا.
هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء
فهذا في الواقع من الشرك بالله؛ فإن الذي لا يخفى عليه شيء مما القلب هو الله جل وعلا وحده، وكذلك قوله:
يا أكـرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحـادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضـلاً وإلا فقل: يا زلة القـدم
ولن يضيق -رسول الله- جاهك بي إذا الكـريم تحلى باسـم منتقـم
فإن من جودك الدنيا وضـرتها ومن علـومك علـم اللوح والقلم
إلى آخر ما قال.
وهذا كله في الواقع صرف لما هو من خصائص الله وجعله للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ويقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فأنا أعوذ بك من الله، أعوذ بالله! وقوله في هذه الأبيات (ولن يضيق رسول الله) يعني: (يا رسولَ الله) بالنصب على النداء. يقول:
ولن يضيق -رسول الله- وجاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
يعني: أنا ألوذ بجاهك من غضب الله، وقوله: (فإن من جودك الدنيا وضرتها) يعني: من جودك الدنيا والآخرة، وقوله: (ومن علومك علم اللوح والقلم) يقول: من جملة علومك -يا رسول الله- علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، وعلم القلم الذي كتب كل شيء، فأشرك بالله جل وعلا، وهذا مثل قول النصارى تماماً حين قالوا: عيسى هو الله -تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً- والمقصود أن الإنسان عبد يجب أن يعلم حده ويعلم قدره، والله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]، وقد رميت زوجته صلى الله عليه وسلم بالبهت والكذب فبقي قرابة شهر وهو لا يدري، حتى نزل عليه الوحي ببراءتها، بل كان يسأل الجارية ويستشير حتى نزل الوحي من الله يبين أنها بريئة وأن هذا كذب وبهتان، وكذلك صلت ناقته صلى الله عليه وسلم فأرسل من يطلبها، فقال أحد المنافقين: أهذا يزعم أنه يعلم ما في السماء وهو لا يدري أين ناقته؟! فجاءه الخبر من الله جل وعلا فقال: (إني والله! لا أعلم من الغيب إلا ما علمني الله جل وعلا، وإن فلاناً قال كذا وكذا، وإن الله جل وعلا قد أعلمني أنها في الشعب الفلاني قد أمسكت بزمامها شجرة ) فأرسل من يأتي بها، إلى غير ذلك من الأشياء وهي كثيرة وكثيرة جداً، وكثير ممن يزعم أنه هو المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل شيء، وأنه يعلم الغيب ويعلم ما يعلمه الله، ويقول: الذي يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب يكون كافراً؛ لأنه لم يعرف قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يكون كافراً في زعمه.
فعلى كل حال ما أعجب ما خلق الله جل وعلا لهذا الإنسان، وما يكون عنده من الأفكار والمحن والاختلافات، والله جل وعلا يقلب القلوب كيف يشاء، فإذا رد الإنسان شيئاً من أمر الله لأجل رأيه أو مذهبه أو اتباع لشيخه فإن الله جل وعلا يعاقبه بأن يزيغ قلبه وبأن يرى الحق باطلاً والباطل حقاً، فيزين له سوء عمله، فمن يهديه؟ لا أحد يهديه، فإذا أضله الله جل وعلا على ذلك يجعله يرى الحسن سيئاً والسيئ حسناً، فلا حيلة فيه إلا أن تطلب له الهداية من الله جل وعلا الذي يستطيع أن يهديه، أما الخلق فلن يستطيعوا، بل ولو بينت له كل البيان ما استطعت أن تهديه، ومع ذلك لا يقال: إنه معذور أو إنه جاهل؛ لأن الله جل وعلا بين لنا والرسول صلى الله عليه وسلم وضح لنا وبلغنا البلاغ المبين، فلا عذر لأحد بعد بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا له: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ:50]، وقال: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ [الأعراف:188]، وقد أخبر بهذا جميع الرسل.
الجواب: لا. وإنما يقولان: وما يدريك؟ أي: ما دليلك ؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، فعند ذلك يقولان له: قد علمنا فيفتح له باب إلى الجنة، ويقولان له: انظر إلى مكانك في الجنة، فإذا رآه قال: دعاني أذهب إليه، فيقولان: نم وأنت ذاهب، فعند ذلك يدعو ويقول: يا رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومنزلي.
أما إذا كان مرتاباً أو شاكاً أو مقلداً فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضربانه بمطرقة من حديد، ويلتهب عليه قبره ناراً، ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، ويقال: انظر إلى منزلك، عند ذلك يقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد وقته هذا أشد منه.
والمقصود: أن هذا يسأل عنه كل مقبور بالغ من ذكر وأنثى، فكل بالغ يسأل عن هذا الشيء، فإن كان متيقناً فهذا الذي يقول الله جل وعلا فيه: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، وإن كان مرتاباً فهو ظالم لنفسه، حيث ترك أمر الله ولم يهتم به.
قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية، قال العماد بن كثير : وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع. انتهى. ].
هذا تعريف آخر للعبادة، عرفها ابن كثير رحمه الله بأنها طاعة الله بفعل المأمور وترك المحظور، طاعة الله بفعل ما أمر وترك ما حرم، والاستسلام له والانقياد في ذلك، ومعنى أن يستسلم الإنسان: ألا يكون عنده معارضة لشرع الله، وينقاد له، فلو دعي إلى شرع الله وقيل له: هذا حكم الله فعليه أن يقول: سمعت وأطعت، وكذلك لا يجوز له أن يعترض عليه ويقول: ليت هذا الحكم ما كان كذا، أو يقول -مثلاً-: ليت الله لم يحرم الربا، أو ليت الله لم يحرم كذا وكذا أو ليت الله فعل كذا وكذا، فإن هذا لا يجوز، وقائل هذا ليس عابداً في الواقع؛ لأنه اعترض على الله جل وعلا، وكذلك الذي يُدعى إلى أن يحكم بينه وبين من ينازعه بالشرع فيقول: لا، لن أذهب، أو يقال له -مثلاً-: نذهب إلى الشرع ليحكم بيننا، فيقول: لا لن أذهب، فهذا على خطر عظيم، والمسلم إذا دعي وقيل له: هلم إلى حكم الله، يقول: سمعت وأطعت، ولا يتأذى، ولا يقول: حتى تأتيني بجندي، بل ينقاد لشرع الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] يعني: لا يكون في نفس أحدهم ضيق من هذا الحكم، فإذا قيل له: هذا حكم الله، يقول: سمعاً وطاعة وأهلاً وسهلاً، وإن كان عليه يفرح به، فهذا الاستسلام والانقياد هو من العبادة؛ لأنه يطيع الله بأمره ويجتنب نهيه ويسلم لشرعه وينقاد له، وهذا هو العبادة في الواقع، فإذا حصل شيء مما يؤثر على ذلك نقصت عبادته.
قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم، وهو خالقهم ورازقهم.
وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه في الآية: (إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي)، وقال مجاهد : (إلا لآمرهم وأنهاهم)، اختاره الزجاج وشيخ الإسلام ].
كل هذا الكلام معناه واحد، وقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (إلا لآمرهم وأنهاهم) أي: آمرهم بطاعتي وأنهاهم عن معصيتي، فهذا هو معنى العبادة، يعني: أنه خلقهم ليكلفهم بالعبادة، فمن أطاع فله الجزاء والثواب، ومن عصى فعليه العقاب. فهذه أقوال السلف في الآية واضحة، فقوله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يعني: خلقتهم لآمرهم بالطاعة وأنهاهم عن المعصية، وقد فعل جل وعلا الخلق وفعل الأمر والنهي، فعلى العباد فعل الامتثال.
والأمور ثلاثة: الأول: خلقهم، والثاني: أمرهم ونهيهم والثالث: الامتثال، فالامتثال عليهم وإليهم، فإن فعلوه وامتثلوا استحقوا الجزاء من الله، وإن أبوا وامتنعوا استحقوا العقاب، فالله خلقهم وأمرهم ونهاهم فعليهم أن يفعلوا الثالث الذي هو الامتثال.
قوله تعالى: (أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) السدى هو: المهمل، وقول الشافعي : (لا يؤمر ولا ينهى) هو معنى الإهمال، فالله لم يهمل خلقه جل وعلا، بل أمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وأعظم ما أمر به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك الذي هو ضد التوحيد، كما قال جل وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]، هذا هو الذي ينجي الإنسان في الواقع، لا ينجيه كثرة ماله ولا كثرة جمعه وأنصاره، وإنما ينجيه طاعة الله وعبادته وحده؛ فإنه ليس بين الرب جل وعلا وبين الخلق صلة إلا بالطاعة، كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فلا ينفع النسب حتى وإن كان الإنسان ابن نبي، فإذا كان هو عاصياً فلن يستفيد، ولا يستفيد إلا بعمله، كما قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وقال جل وعلا: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، ولذا اليهود أبناء أنبياء وهم أخبث خلق الله وأبعدهم عن الهدى -نسأل الله السلامة- فهم من أبناء إبراهيم عليه السلام؛ لأن يعقوب هو إسرائيل، ولذا يقول الله جل وعلا لهم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) يذكرهم بأبيهم الأواب الطائع النبي الكريم لعلهم يرجعون، ولكن عاندوا وكفروا وتكبروا، فلأجل ذلك أحل الله عليهم لعنته، وأخبر سبحانه أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة وإن كانوا أبناء أنبياء.
والمقصود: أن الإنسان مهمته أن يطيع ربه، فإذا أطاع ربه فهذه الطاعة في الواقع سعادته، يسعد بها في الدنيا والآخرة، كما قال جل وعلا: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]، الأبرار في نعيم في الدنيا وفي الآخرة وفي القبر وبعد البعث، والفجار في جحيم في دنياهم، وإن كانوا يتنعمون في الظاهر فإن في قلوبهم وأكبادهم أشياء تكاد تحرقها، ولهذا بعضهم ينتحر استعجالاً للموت بزعم أنه يستريح، وهو في الواقع ينتقل من عذابه إلى ما هو أشد -نسأل الله العافية-، فالكافر في جحيم وفي عذاب يجد نفسه دائماً في اضطراب وفي نكد وتنغيص، بخلاف المؤمن فإنه وإن كان فقيراً تجده سعيداً راضياً بما هو فيه، ويشكر ربه ويسأله، فهو يرجو أن تكون له السعادة بعد حياته هذه، وإذا مات لقي نعيماً ما كان يتصوره، ويكون على روحه، وإذا اجتمعت الروح بالجسد وبعث فمسكنه الجنة، والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والمقصود: أن الإنسان خلق لعبادة الله، فإن عبد الله فهذه سعادته، وإن لم يعبد الله فهو شقي في حياته الدنيا وبعدها.
معنى قوله تعالى: (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: بأمر الله، فالرسول يطاع بأمر الله الذي أرسله به الذي هو الشرع، فالرسول أرسل بالشرع الذي أوجب على العباد أن يطيعوه به، ولكن أكثرهم لم يطعه، وأمر الله قد يأتي ويراد به أمره الشرعي، ويأتي ويراد به أمره القدري، كما قال جل وعلا: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [الإسراء:16] يعني: أمراً قدرياً. أي: مقدر سابق في علم الله وفي كتابته، وكذلك الحكم، وكذلك القضاء فإنه يأتي شرعياً ويأتي قدرياً.
ويشهد لهذا المعنى ما تواترت به الأحاديث، فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك -أحسبه قال: ولا أدخلك النار- فأبيت إلا الشرك)، فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه، من توحيده، وألا يشرك به شيئاً، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره، وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم ].
يعني أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية دينية تتضمن دين الله وأمره ومحبته، وإرادة كونية قدرية لا يلزم أن يحبها ولا يأمر بها، ولكن كل شيء يقع فهو بالإرادة الكونية، فإن كان الواقع محبوباً لله فإن الإرادتين تتفقان فيه، كالطاعة -مثلاً- والإيمان، فطاعة الطائع وإيمان المؤمن اجتمعت فيهما الإرادة الكونية والإرادة الدينية الأمرية الشرعية، ولولا الإرادة الكونية ما حصل شيء؛ لأنه لا يكون في الوجود إلا ما أراده الله جل وعلا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كما يقوله المسلمون، كل المسلمون يقولون هذا، يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فمشيئة الله نافذة عامة لا يخرج منها شيء، وهذه المشيئة هي الإرادة الكونية، فالمشيئة والإرادة الكونية شيء واحد، كما قال جل وعلا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]؛ لأن كل شيء بإرادته ومشيئته.
يقول المؤلف: إن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية أمرية، وإن الفرق بينهما لابد منه حتى ينجو الإنسان مما وقع فيه كثير من أصحاب الكلام الذين وقعوا في الخطأ وعدم التفريق؛ لأن عدم الفرقان يوقع في الخطأ، وهذا يتعلق بالقدر ويتعلق بالخلق والأمر، فهو عام شامل.
فالإرادة الكونية هي المشيئة التي يقول عنها المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه عقيدة المسلمين، فكل مسلم يعتقد أنه لا يوجد إلا ما شاء الله، وأن الشيء الذي لم يشأه الله هو المعدوم الذي لم يوجد، فهذه المشيئة العامة الشاملة هي الإرادة الكونية، ولا فرق بينهما، بل الإرادة الكونية هي المشيئة العامة، قال الله جل وعلا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، فأخبر أن كل شيء يقع من أفعال الناس وغيرهم فإنه يقع بمشيئته، كل حادث يحدث سواء أكان بسبب فعل الإنسان أم كان بسبب آخر فإنه لا يقع إلا بمشيئة الله، ولو شاء الله ما وقع.
ويقول جل وعلا: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، فهذه الإرادة في هذه الآية هي المشيئة وهي الإرادة الكونية، فهو جل وعلا يخبر أنه لا أحد يهتدي إلا إذا هداه الله، وكذلك الضلال يُضل سبحانه من يشاء ويهدي من يشاء، كما بين ذلك في آيات كثيرة، ثم هذا لا ينافي كون الإنسان له اختيار وله قدرة؛ لأن الله خلقه وخلق له القدرة التي بها يعمل أعماله باختياره وإرادته التي لا أحد يرغمه عليها، وكل إنسان يجد هذا من نفسه، فالله خالقه وخالق البواعث التي تبعثه على العمل، وخالق القوى التي بها يعمل من الفكر والنظر والأيدي والأرجل والسمع والبصر وغير ذلك، فصح بهذا أن الله خالق الإنسان وخالق أفعاله، وأن خلق أفعال الإنسان لا تخرجه عن كونه مختاراً يفعل ما يفعله باختياره وبقدرته وإرادته.
ثم إن الله جل وعلا برحمته وإحسانه لم يكلف الإنسان إلا ما يطيقه، فكلفه بتكاليف محدده يستطيع أن يفعلها بكل سهولة إذا انقاد لذلك واختاره، ويستطيع أن يتركها، وجعل الأمر إليه، وبين له جل وعلا طريق الهدى وطريق الضلال، وكذلك أرى خلقه ما فعله بمن سبقهم من المثلات من العظات، ولهذا قص علينا قصص الأمم السابقة لنعتبر بها ونتعظ حتى يكون لنا زاجراً وداعياً، فأكرم المؤمنين أتباع الرسل ونصرهم في الدنيا، وكذلك أخبر أنه يكرمهم في الآخرة ويعلي درجاتهم، وكذلك عذب المجرمين المكذبين وأخذهم بأنواع العقوبات وأنواع العذاب، وأخبر أنهم في الآخرة يصلون في النار عذاباً لا يشبه عذاب الدنيا، كل هذا من الدواعي والدوافع التي تدعو الإنسان إلى فعل المأمور وترك المحظور، وكذلك ما وصف الله جل وعلا من أوصاف الجنة وما فيها من النعيم، وأوصاف النار وما فيها من النكال الأليم، كل هذا ليكون ذلك داعياً ودافعاً لفعل المأمورات وترك المحظورات، فبعد هذا لا يكون للإنسان عذر، أما إذا أعرض الإنسان عن الاعتبار بآيات الله سواء آياته جل وعلا القرآنية السمعية أو آياته الأفقية التي منها أَخْذُ المكذبين وإكرام المطيعين، أو الآيات النفسية يعني: الآيات التي في نفس الإنسان؛ لأن نفسه تدله على ربه جل وعلا، كما قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، قال: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس:17-22].
وقال: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، ففي هذه الآيات يأمرنا جل وعلا أن نعتبر بأنفسنا وننظر إلى خلقنا؛ لأن الخلق عجيب وعجيب جداً يدل على الرب جل وعلا، وفيه عبرة تجعل الإنسان يعتبر، وتجعله يعبد ربه، وإذا أعرض الإنسان عن هذا كله وأصبح شبيهاً بالبهائم يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويعرض عما خُلق له وينسى ما جاءت به الرسل ثم يقول: أنا جاهل ما أعرف فهذا ليس له عذر، وقد قامت عليه الحجة؛ لأنه قد جاءته الرسل وجاءته الآيات والأدلة، ولكن أعرض بنفسه، فاللوم عليه وهو الملوم؛ لأنه فعل ما يلام عليه، وأعرض عما خلق له وأعرض عن آيات ربه.
والمقصود أن الله جل وعلا كل شيء يجري بتقديره وبمشيئته وإرادته، فالمشيئة هي الإرادة الكونية، والإرادة الكونية لا تنافي كون الإنسان مختاراً يفعل باختياره، وكونه يحاسب على عمله إن عمل خيراً جزي به؛ لأنه هو العامل، وإن عمل سوءً عوقب عليه، فلا يكون مثل خصماء الله الذين يخاصمون الله في خلقه اتباع عدوهم الشيطان، فالشيطان خاصم ربه وقال له لما أمره أن يسجد لآدم كما حكى الله عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، يعني: إنك ما وضعت الأمور في مواضعها وإنما الصواب ما أراه أنا: أن تأمره أن يسجد لي لأني خير منه؛ لأن أصلي النار وهو أصله الطين، والنار أفضل من الطين هذا قول الشيطان، وهذه خصومة خاصم بها ربه، كذلك المشركون خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركهم، فقالوا له كما حكى الله عنهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148]، أي: أنهم يقولون: إن شركنا وعبادتنا للأصنام وقعت بمشيئة الله، ولو لم يكن راضياً بذلك ما شاءه، هذا معنى كلام المشركين، أي: أنهم اعترضوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله بقضاء الله وبمشيئته، فاعترضوا مثل اعتراض الشيطان، فهو الذي هداهم إلى هذا؛ لأن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فشياطين الجن توحي إلى شياطين الإنس، وبعضهم يوحي إلى بعض، فالواجب على العبد أن يعلم ما أراد الله منه، وأن يعبد الله جل وعلا قدر استطاعته، والله ما كلفه ما لا يستطيع، كما قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وكل ما ذكره الله جل وعلا عبر، ولا يجوز أن يذهب الإنسان إلى ما ذهب إليه المنحرفون سواء أهل الجفاء أو أهل الغلو.
والناس دائماً عند أوامر الله وعند أحكامه وأقضيته ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: قسم يفرط ويترك ما هو واجب عليه، وقسم يتجاوز الحد ويزيد على الحد المشروع فيقع في الخطأ، وقسم يتوسط فيتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا في كل الدين والشرع، فهنا من الناس من غلا، كما يذكر عن بعض العباد والمجتهدين أنهم يقولون: ما نعبد الله لأجل جنته أو خوفاً من ناره، وإنما نعبده حباً له. وهذا خطأ، بل الإنسان ضعيف مسكين لو مسه العذاب ما استطاع أن يصبر عليه، ولا غنى له عن رحمة الله أبداً، والله جل وعلا ذكر لنا الجنة وذكر لنا النار حتى تكون ذلك حادياً وداعياً يحدو إلى العمل ويدعو إليه، وكذلك ذكر ذلك يمنعنا من المخالفات، ولهذا يذكر عن والشبلي رحمه الله - الشبلي كان من المجتهدين ومن العباد المعروفين- أنه كان يقول مثل هذا القول، فابتلي بحبس البول، وحبس بوله فصار يمشي على الأطفال الذين كان يعلمهم القرآن ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب؛ لأنه لما ذاق الألم عرف أنه ما يستطيع أن يصبر على عذاب الله، ومثل هذا هو موعظة تُقدم للإنسان، فالمؤمن يعبد الله طلباً لثوابه وهرباً من عقابه، ويكون عابداً له مخلصاً له في ذلك، والله غني عن العباد، فلا تزيده طاعتهم شيئاً ولا تنقصه معصيتهم ولا تضره تعالى وتقدس، فإن أطاعوا فلأنفسهم، وإن عصوا فعليها، والله تعالى وتقدس غني عن العالمين، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الطويل القدسي الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا... -إلى أن قال:- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، ثم قال في النهاية: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالواجب على العبد أن يعرف ربه بأفعاله وأوصافه، ومنها إرادته الكونية، وسميت كونية لأنه يكون الأشياء بها، ويقول للشيء: (كن) فيكون، كما قال سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] تعالى وتقدس، وقال جل وعلا: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47]، (بأييدٍ) يعني: بقوة، ما هو بمساح ومجارف وبأدوات رفع أو غيرها، وإنما يقول لها: (كوني) فتكون، وقال سبحانه: ثُم اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، أي: في الحال، فكل شيء يريده يقول له: (كن) فيكون، فهذه هي الإرادة الكونية التي يكون بها كل ما يريده جل وعلا من خير وشر وإحياء وإماتة وغنى وفقر وغير ذلك، وأما الإرادة الدينية فهي التي تتعلق بدينه وأمره تعالى وتقدس، وهي التي يقول جل وعلا فيها لما ذكر الصوم وذكر أن المسافر له أن يفطر ويقضي أياماً أخر، وكذلك المريض قال : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ثم قال بعد ذلك: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، يعني: يريد بكم اليسر ديناً وشرعاً. وليس معنى هذا أنه يريد أن يفعل بكم اليسر، بل يشرع لكم اليسر شرعاً وديناً تيسيراً ورحمة منه جل وعلا، ولهذا يقول العلماء: إن الإرادة الدينية يلزم منها أن يكون الله يأمر بمرادها، وكذلك يحب وجود المراد بها، بخلاف الإرادة الكونية فإنه لا يلزم أن يأمر بها، ولا يلزم أن يحب مرادها، بل قد يبغضه ويكرهه، والله لا يرضى لعباده الكفر ولا يأمر بالفحشاء، وكل شيء يقع بإرادته الكونية، وقد خلق إبليس وهو بفيض إليه، والله جل وعلا لا يُسأل عما يفعل، وإنما المخلوقون هم الذين يُسألون.
وله في كل خلق يخلقه وكل فعل يفعله حكم وغايات يُحمد عليها جل وعلا، وقد يعرفها من يمن الله جل وعلا عليه بالمعرفة فيزداد بصيرة وعلماً ونوراً وهداية وقد لا يعرفها أكثر الخلق، ولهذا كثير من الزنادقة يعترضون على الله جل وعلا في خلقه وفي أمره الكوني وفي تدبيره تعالى وتقدس، ويعترضون عليه حتى في شرعه؛ لأن عقولهم قاصرة ما تستطيع أن تدرك الغايات والحكم التي يفعل الله من أجلها، ثم لا يلزم العبد أن يعلم الحكمة، بل على العبد أن يسلم، وإذا سمع أمر الله أن يقول: سمعاً وطاعة لربي، فيجب عليه أن يقول هذا، فإن علم الحكمة والعلة فذلك فضل يشكر الله عليه ويحمده عليه، وإن لم يعرفه فلا يجوز له أن يبحث عن شيء حتى يقتنع به مثلما قال الشيطان وعلل تعليلاً بارداً لا قيمة له، وإنما هو تعليل يناسب فكره القاصر ونظره الخاسر، وكذلك الإنسان الذي يتبعه يكون بهذه المثابة، فيبوء بغضب الله وبعقابه، والله جل وعلا له الملك كله وله الخلق كله وله التدبير كله، وليس لأحد معه شيء حتى الأنبياء والرسل، ولما ذكر جل وعلا الرسل الذين فضلهم وكرمهم واصطفاهم قال جل وعلا: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، ويقول جل وعلا لرسوله الذي هو خاتم الرسل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65-66]، وقصته صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لما فعل به الكفار ما فعلوا تدل على ذلك، فقد كسروا البيضة على رأسه، ودخلت بعض حلقات المغفر في وجنته صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت ثنيته صلوات الله وسلامه عليه، فجعل يمسح الدم عن وجه ويقول: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟! أي: وهو يدعوهم إلى الله، فصار يدعو عليهم شهراً في كل صلاة إذا رفع من الركوع ويقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً يسميهم بأسمائهم في الصلاة؛ لأنهم هم الذين فعلوا هذا الفعل وأولياء الله خلفه يؤمِّنون ويقولون: آمين أي: اللهم استجب، فانظر كيف أن أكرم الخلق صلوات الله وسلامه عليه يرفع يديه إلى السماء ويدعو ربه على فلان وفلان ويلعنهم وخلفه أولياء الله يؤمنون على دعائه، ثم بعد هذا ينزل الله جل وعلا عليه بعد شهر من هذه القضية قوله سبحانه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ومعنى هذا: أنك عبدي وهم عبادي، وأنا أتصرف في عبادي كيف أشاء، فامض لما أمرتك به من البلاغ، وأنا الذي أدبر عبادي واتصرف فيهم.
ثم بعد ذلك هؤلاء الذين كان يدعو عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم هُدوا إلى الإسلام فأسلموا، والأمر كله لله ليس لأحد معه شيء، فلا يجوز للإنسان أن يعترض على الله، وكثيراً ما تسمع الاعتراضات على الله، نسأل الله العافية، فتجد الإنسان إذا وقع في مرض يقول: أنا ما عملت شيئاً فما هذا الذي أصابني؟ وأنا أصلي وأنا كذا وكذا، أنا ما عملت شيئاً استحق به هذه العذاب، فمعنى هذا: أن الله ظلمني، ولكن لا يستطيع أن يصرح بهذا، وكثير من الناس أيضاً يعترض على الله عز وجل ويقول: لماذا فلان غني؟ وفلان له كذا وكذا وأنا ما عندي شيء؟ كثير من الناس يقول هكذا، وهذا كله اعتراض على الله في ملكه وتدبيره وخلقه، بل يجب أن يرضى الإنسان بتدبير ربه، وإلا فليطلب له رباً غيره، وهل هناك أحد؟! ولهذا جاء في حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، ومعنى هذا: أن الله يرضى عنه ويعد له فضلاً عظيماً، والله جل وعلا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية أن خصومة وقعت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرة -يعني: شعيب صغير من شعبان الحرة كان يدخل على أرض الزبير ثم يتجاوزها إلى أرض الأنصاري-، فجاءه الأنصاري وقال: لا تحبس الماء، ودعه يمشي حتى يصل إلى أرضي، فقال الزبير : اترك السيل حتى تروى الأرض وتشرب ثم يأتيك، فقال: لا أرضى بهذا، فذهبا يختصمان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهما صلحاً، فقال: (اسق قليلاً ثم دعه يذهب)، فغضب الأنصاري وقال: أن كان ابن عمتك؟ يعني: حكمت له لأنه ابن عمتك؛ لأن الزبير هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك حكم له الحكم الشرعي وقال: (احبس الماء حتى يصل إلى الجدار)، أما أولاً فقد أعطاه من حق الزبير ولكنه رفض فنزلت هذه الآية: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، أخبر جل وعلا بالقسم أنه لا يحصل للإنسان إيمان حتى يحكم شرع الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لا يكفي كونه يحكمه، بل لابد أن يسلم، يعني: لا تخرج منه معارضة، ولا يكفي هذا أيضاً، بل لابد أن يرضى بهذا الحكم، ولا يقل في نفسه: ليت الحكم على خلاف هذا، فإنه إذا كان في نفسه شيء من ذلك فإنه لم يرض بحكم الله جل وعلا، هكذا يجب في جميع ما يحكم الله به قدراً وشرعاً.
والمقصود هو التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فالإرادة الكونية هي التي لا يتخلف مرادها بحال من الأحوال، وهي التي لا يوجد شيء إلا بها، سواء أكان خيراً للناس أم شراً لهم، والله جل وعلا لا يصدر منه إلا خير، وكل شيء يفعله خلقاً وفعلاً فهو خير فالشر لا ينسب إلى الله تعالى وتقدس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه في تهجده في الليل، إذا استفتح الصلاة: (لبيك لبيك)، إلى أن قال: (والخير في يديك والشر ليس إليك)، ولهذا يقول جل وعلا في كتابه: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، فجعل الشر في المخلوق المفعول، وليس الشر في فعل الله. بل في المخلوق، يقول جل وعلا عن مؤمن الجن وهم من أحسن المؤمنين تعبيراً، وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على مسلمي الجن، كما يروى عنه أنه لما قرأ سورة الرحمن قال لأصحابه: (ما لي أراكم ساكتين؟ فلرد مؤمني الجن أحسن منكم، فقالوا: ماذا قالوا؟ قال: إذا تلوت عليهم قول الله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13]، قالوا: لا -يا ربنا- ولا بشيء من آلائك نكذب، فلك الحمد)؛ يقول مؤمنو الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، لما ذكروا الخير أضافوه إلى الله، أما الشر فلم يضيفوه إلى الله، بل حذفوا فاعله وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، ولهذا يقول العلماء: إذا جاء ذكر الشر فإنه لا يضاف إلى الله، وهو يأتي على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: يدخل في العمومات، كقوله جل وعلا: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فهذا لا يخرج عنه شيء في العموم.
القسم الثاني: أن يضاف إلى المخلوق، كقوله جل وعلا: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2].
القسم الثالث: أن يحذف فاعله: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:10]، أما أن يأتي الشر مضافاً إلى الله فلا؛ لأنه لا يصدر من الله جل وعلا إلا الخير فعلاً وخلقاً، فهو مقدس منزه عن كل نقص، فله الأسماء الحسنى تعالى وتقدس، فالإرادة الدينية هي التي تتضمن دينه، كقوله جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:26-27]، هذه كلها الإرادة الدينية التي يحب وجودها، ويرضى بها ويأمر بها، أما الإرادة الكونية فلا يلزم هذا منها، فقد يحب وجودها وقد لا يحب، وإذا جاءت الإرادة الكونية مع الإرادة الدينية فلابد أن توجد الإرادة الكونية القدرية، ولا يلزم أن توجد الإرادة الدينية، فمثلاً طاعة الطائعين اجتمعت فيها الإرادتان: الإرادة الكونية والإرادة الدينية؛ لأن الله يريد من العباد أن يطيعوه، ولولا أنه أراد كوناً وقدراً ما وقع، فأراد ديناً وأراد كوناً، وكذلك إيمان المؤمنين، أما كفر الكافر فانفردت فيه الإرادة الكونية فقط، وكذلك معصية العصاة تنفرد فيها الإرادة الكونية فقط؛ لأن الله لا يرضى بالمعاصي ولا يأمر بها ولا يريدها شرعاً، كما أنه لا يرضى بالكفر ولا يأمر به ولا يريده شرعاً، ولكنه أراده كوناً وقدراً.
وعلى كل حال هذه المسألة مسألة عظيمة ليست سهلة ولهذا من لم يفرق فيها وقع في جهالة المتكلمين، وهي الجهالات في الواقع؛ لأنهم اعتمدوا على عقلهم وعلى نظرهم، وما اعتمدوا على كتاب الله، والذي لا يعتمد على كتاب الله يضل بغير شك، وإن أعطي ذكاءً فإنه لم يعط زكاة، فإذا لم يعتمد على كتاب الله ووجد الذكاء فُقدت الزكاة؛ لأن الله يزكي من يشاء، وقد يعترض معترض ويقول: لماذا ما أراد الله الخير لكل الناس؟ لماذا يكون فيهم الكافر وفيهم المؤمن وفيهم كذا وكذا؟
نقول: لا يجوز أن تسأل هذا السؤال أصلاً؛ لأن الله جل وعلا لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وهذا شيء.
الشيء الثاني: أن هذا خلاف الحكمة، فلو لم يوجد الكفار والشياطين ما عرف المتقي المجاهد المنافح عن دين الله، ممن يذهب إلى الراحة ويقول: ما علي ويستريح، ولا يوجد التمييز بين أولياء الله وبين من لا يصلح للولاية، وما يوجد جهاد الكفار، وما يوجد الشهداء، وما توجد الأشياء التي يحب الله وجودها، لهذا ميز الله بين عباده، وأمر المؤمنين بالجهاد والصبر والتحمل والمصابرة، وابتلى بعضهم ببعض، ورفع بعضهم على بعض درجات في الأرزاق وفي الأخلاق وفي الصحة وفي غير ذلك ليتبين الشاكر الصابر من الكافر الفاجر، يتبين فعلاً، وإلا فالله يعلم كل شيء، والله جل وعلا لا يزداد علمه بوجود الأشياء أبداً، فعلمه متساوٍ أولاً وآخراً، ولكن لكمال عدله أراد أن يبرز هذا ظاهراً، ثم إنه لا يعاقب ولا يعذب إلا على الأفعال التي يفعلها الإنسان ويباشرها حقيقة، والمقصود أن لله في ذلك حكماً ظاهرة، وإذا لم يستطع الإنسان فهم ذلك فليسلم لله ولينقاد، وليحذر كل الحذر أن يعترض على الله، فإن كثيراً من أهل العلم وغيرهم وقع في مآزق من هذا الشيء.
تجد بعضهم يعترضون ويقولون: أهل الأدب وأهل العلم دائماً تقتر عليهم أرزاقهم، والجهال تغدق عليهم الأرزاق فهذا اعتراض على الله جل وعلا، فالعبد هو عبد، فلماذا يعترض على الخالق الوهاب جل وعلا؟
يجب عليه أن ينقاد، ويكون العلم يقربه إلى الله ويزيده خشية، أما إذا كان بالعكس فليته لم يعلم؛ لأنه لم يزدد بعلمه إلا ضلالاً وسوءاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر