إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [2]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • توحيد الألوهية هو أحد نوعي التوحيد، ويعرف بتوحيد القصد والنية والإرادة، وهو الذي طلبه الله عز وجل من الإنسان، ولهذا فهو يسمى توحيد العبادة، أما النوع الثاني من التوحيد فهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا التوحيد يعرف بتوحيد المعرفة والإثبات.

    1.   

    التوحيد وأقسامه

    قال المصنف رحمه الله: [كتاب التوحيد.

    كتاب: مصدر: (كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتْباً)، ومدار المادة على الجمع، ومنه: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتاباً لجمعه ما وضع له.

    والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة ].

    ذكر المصادر التي أخذ منها الكتاب، وهذا من باب اللغة، والأصل هو أصل الكلمات، وأخذها أمر معلوم، قال: (كتاب التوحيد) والتوحيد معناه: أن يوحد الله جل وعلا، فيعتقد وحدانيته في كل ما يلزم له، وسمي دين الإسلام توحيداً لأن مبناه على هذا، والتوحيد أقسام ثلاثة، وإن شئت قلت: قسمان: توحيد في العلم والمعرفة، وتوحيد في القصد والإرادة فمعنى التوحيد في العلم والمعرفة: أن توحد الله جل وعلا في إثبات ما له من الصفات وأن توحده في ربوبيته، فهذا كله يدخل في المعرفة والعلم.

    والقسم الثاني: توحيد القصد والنية والإرادة فهو الذي يصدر من الإنسان، وهو المطلوب الذي طلبه الله جل وعلا منه، ولهذا سمي توحيد العبادة، وسمي توحيد الإلهية، وسمي توحيد النية والقصد والإرادة؛ لأنه مبني على كون هذه الأمور خالصة لله جل وعلا.

    القسم الأول قسم إلى قسمين: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الأسماء والصفات، أما توحيد الربوبية فمعناه: أن يعتقد الإنسان جازماً بأن الله واحد في ملكه، وواحد في تدبيره، لا شريك له في ذلك، وواحد في كونه يختص بالإحياء والإماتة، وكونه يملك كل شيء، وبيده كل شيء، وكونه الرازق لكل أحد، وكونه الذي يدبر أمر الكون كله، وكونه جل وعلا على كل شيء قدير.

    وأما توحيد الأسماء والصفات فأن يعتقد جازماً بأن ما سمى الله جل وعلا به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم يختص به، لا يشاركه فيه أحد من خلقه، فهو بكل شيء عليم، وعلمه أزلي لم يستحدث ولا يستجد، ولم يكن له مبدأ، وهو كذلك سميع بصير: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23]، هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر:22]، الرءوف الرحيم، وكل ما سمى به نفسه يجب أن نعتقد تفرده به بالمعنى الذي يختص به جل وعلا، ونوحده في ذلك، فيكون واحداً في هذا.

    مشركو قريش وإقرارهم بتوحيد الربوبية وبعض الأسماء والصفات

    وهذان القسمان -توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات- ما كان أحد من الخلق ينكرهما إلا مكابر ومعاند، بل الكفار الذين هم جاهلون وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لدعوتهم كانوا يقرون بهذا، وإذا أنكر شيء من ذلك فهو من باب المعاندة والجحود، كما أنكروا اسم الرحمن عناداً وتكبراً، كقوله جل وعلا: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، وذلك أنهم أنكروا هذا الاسم اتباعاً لآبائهم وما كانت طريقتهم عليه في كتاباتهم، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة بينه وبينهم يوم الحديبية قال للكاتب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قالوا: لا. اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)، أما الرحمن فما نعرفه، فأنزل الله جل وعلا: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، وهذا عناد وتكبر، وإلا فقد جاء في أشعارهم -من أشعار الجاهلية- إثبات ذلك.

    وكذلك توحيد الربوبية فأمره ظاهر جداً في كونهم يعرفون هذا، ويؤمنون به ويقرون به، وقد ذكر الله جل وعلا في القرآن آيات كثيرة تدل على هذا، بل جعل هذا جل وعلا دليلاً على وجوب توحيد الإلهية، وألزمهم بهذا، كما قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، يعرفون أن الله هو الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، ولهذا قال في آخر الآية: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] يعني: يعلمون أن الله هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل السماء بناء، والأرض فراشاً، وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم، يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم، يعلمون هذا تماماً ويقرون به، وأنه لا أحد يشارك الله جل وعلا في ذلك، ولهذا قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] يعني: لا تدعوا معه أحداً في العبادة في دعوتكم، وفي العبادة التي تصدر منكم، وفي التأله في القصد والإرادة، وفي النية، لا تجعلوا له نداً في ذلك وأنتم تعلمون أنه المتفرد بما ذكر.

    وكذلك ورد في آيات كثيرة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:63]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ [الزمر:38]، يعلمون أن هذه التي يدعونها ما تملك مع الله شيئاً، ولا تنفع ولا تضر، وإنما يقولون: إننا نتوسل بها للتشفع، ويجعلونها وساطة بينهم وبين ربهم، ويقولون: تتوسط لنا فتسأل لنا ربنا، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) وهم يحجون، وكانوا يخلصون في بعض العبادات مثل الحج والصدقة، يخلصونها لله، وأحياناً الدعاء إذا وقعوا في الضر والشدائد، قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، يعني: إذا ركبوا في البحر وعصفت بهم العواصف تركوا ما كانوا يعبدون واتجهوا إلى عبادة الله وحده، وإذا كانت معهم أصنام رموها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا يصلح أن ندعوها في مثل هذا المقام، ولكن إذا جاء الرخاء ونجاهم الله جل وعلا عادوا إلى شركهم اقتداء بآبائهم واتباعا لهم.

    بل قد جاء أنهم يؤمنون بالحساب، ويؤمنون بالقدر أيضاً، كما قال عنترة في معلقته وهو جاهلي:

    يا عبل ! أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها

    جاهلي يؤمن بالقضاء والقدر، وكذلك زهير بن أبي سلمى يقول في قصيدته المشهورة:

    فلا تكتمن الله ما في صدوركم فمهمـا يكتـم الله يعـلم

    يؤخر فيوضع في كتاب سيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم

    فهو يؤمن بالحساب، ويؤمن بأن الله يعلم، وبأن الله يدخر الأعمال، وهكذا جاء في أشعارهم كثيراً من هذا.

    الشرك هو الذي أحل دماء المشركين

    فإذا كان الأمر هكذا فما الذي جعلهم خالدين في النار؟ وما الذي جعلهم حلال دمهم وأموالهم ونساؤهم؟ لماذا وهم يؤمنون بهذا؟ يؤمنون بأن الله هو المتفرد بالخلق، وأنه يعلم ما في الصدور، وأنه يجازي العباد على أعمالهم، وأنه هو الذي قضى الأشياء، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يتصرف في الكون وحده، ليس معه شريك.

    نقول: الذي أحل دماءهم، وجعلهم في النار هو كونهم جعلوا وسائط بينهم وبين ربهم يدعونها، ويطلبون منها أن تقربهم إلى الله زلفى، كما قال الله جل وعلا: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ [الزمر:43] يعني: تتخذونهم وهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، وتجعلونهم شفعاء لكم؟! قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44]، وكذلك في آيات كثيرة جداً، والواجب على الإنسان أن يتدبر كتاب الله، وأن يتدبر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء، وأن يعرف حكم الله في ذلك، وأن يعرف ما أوجبه الله عليه حتى يخلص من عذاب الله جل وعلا، والله خلق الخلق لهذا الأمر، خلق الجنة والنار لتكون الجنة جزاءً لمن وحد الله وآمن به واتبع أوامره واجتنب نواهيه، وخلق النار لتكون عقاباً لمن لم يفعل ذلك، واتبع هواه، وترك أمر الله وراءه ظهرياً ولم يبال به.

    ثم إن الإنسان خلق عبداً فلا بد أن يكون عبداً، لا بد أن يعبد، ولا يمكن أن ينفك عن العبادة، فإن لم يعبد ربه ويتبع الطريقة التي رسمها له الرسول صلى الله عليه وسلم عبد هواه أو شهوته أو رؤساءه أو المظاهر الأخرى من مظاهر الدنيا، فلا بد أن يعبد، وقد قال الله جل وعلا: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] (اتخذ إلهه هواه) يعني أنه إذا هوي شيئاً فعله بدون مبالاة وبدون نظر إلى أن الله أمر به أو نهى عنه، بل يقدمه على أمر الله ولا يبالي، وكذلك أخبر الله جل وعلا أن أكثر الناس عبدوا الشيطان، فهل هم يصلون للشيطان ويسجدون له؟ كلا. ولكنهم اتبعوه فيما سول لهم وزينه لهم، يقول جل وعلا: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، وقال جل وعلا: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سبأ:20]، فإبليس ظن لما رأى آدم أن ذريته لا تطيع ربه جل وعلا، إنما يطيعه القليل منهم، فصار يجتهد في دعوتهم إلى أن يكونوا معه في جنهم، وللأسف أكثرهم اتبعه، وهو ليس له سلطان عليهم، وليس له حجةً، بل مجرد تسويل ودعوة فقط، لهذا أخبر الله جل وعلا أنه إذا حكم بينهم ووضعهم في جنهم جميعاً هم ورئيسهم ومعبودهم الشيطان يقوم الشيطان خطيباً في جهنم فيقول لما حكى الله تعالى عنه: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إبراهيم:22] أي: ما لي عليكم حجة ولا قوة ولا برهان: إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22] يعني: مجرد دعوة عارية من الحجة ومن البرهان والقوة والسلطان فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا بمغني عنكم شيئاً، وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22] كذلك لا تغنون عني شيئاً: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22] يعني: كفرت بطاعتكم وتبرأت منها، هكذا يقول لهم وبذلك تزداد حسراتهم ويزداد عذابهم، ولهذا أخبر أن المنافق مثله مثل الشيطان، فالمنافق الذي يعد الآخر وعوداً لا يفي بها ثم يتبرأ منه في آخر لحظة مثله مثل الشيطان، قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]، ما يخاف الله رب العالمين، ولكن ليس بيده شيء.

    فالمقصود أن الأمر واضح جلي، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمر ظاهر، ومع ذلك إذا أقر به الإنسان وآمن به لا ينفعه ولا يجزي عنه شيئاً حتى يضم إليه توحيد العبادة، وهو أن يخلص الأعمال التي تصدر منه، أن تكون أفعاله خالصة لله جل وعلا، وسمي توحيد عبادة لأنه يصدر من العبد، وسمي (إلهية) لأن مبناه على المحبة وعلى تأله القلب، وسمي توحيد عبادة لأنه مبني على التعبد لله وحده، وسمي توحيد قصد لأن مبناه على أن يكون القصد لله وحده، فيقصد ربه، وسمي كذلك توحيد إرادة لأن النية والإرادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وكل هذا يصدر من العبد، ولهذا قال في الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية: توحيد الربوبية: توحيد الله في أفعاله، أن تجعله واحداً بما يفعله هو، وكذلك تعتقد وحدانيته فيما يتصف به جل وعلا، لا شريك له في ذلك، وأما توحيد العبادة أو توحيد الإلهية فمعناه أن توحد الله بما يصدر منك أنت، فتجعله واحداً، وتجعل عملك واحداً لواحد، كما قال ابن القيم في النونية:

    كن واحداً لواحد في واحد أعني طريق الحـق والإيمـان

    (كن واحداً) يعني: كن عبداً لا تكن متفرقاً تعبد هذا وتعبد هذا، كن عبداً لواحد، كن واحداً جامعاً إرادتك وقصدك وعملك غير متفرق، فلا تجعل شيئاً للمال وشيئاً للدنيا وشيئاً للشيطان، (كن واحداً لواحد) لله جل وعلا فقط، هذا الذي يفيد.

    (في واحد) يعني: في نهج واحد، وفي سبيل واحد الذي هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، ولا بد من ذلك وإلا كان الإنسان مبتدعاً، ومتبعاً للآراء أو لغير ذلك من الطرق التي تتوزع، فيجب أن يجمع العبد بين هذه الأنواع كلها.

    الدليل على أقسام التوحيد الثلاثة

    قد يقول قائل مثلا: ما الدليل على هذا التقسيم؟ ومن أين أتى؟ هل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية، أو قاله الصحابة؟

    نقول: قاله الله جل وعلا، فالله قسم هذا التقسيم، ولكن الصحابة والسلف من العلماء وغيرهم كان هذا من الأمر الظاهر الجلي عندهم، لا يحتاج إلى الكلام عليه، فهو أمر ظاهر جلي جداً، لا يجهله الصبيان والنساء والعجائز وغيرهم، يعرفونه تمام المعرفة، وإنما جهل لما فسد اللسان، واختلطت اللغة العربية باللغة الأعجمية، فصار الناس لا يعرفون ما يتكلمون به، فصاروا لا يعرفون معنى الإله، ولا يعرفون معنى العبادة، ولا يعرفون معنى (الرب)، ولا يعرفون معنى (الله)، عند ذلك احتاج العلماء إلى إيضاحه وبيانه وتفصيله، يقول الله جل وعلا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فـ(الله) تقدم لنا أنه مأخوذ من الإله، أي: التأله، والرب معناه غير معنى الله جل وعلا، فإذاً الله له معانٍ، وهو أن يؤله ويعبد، والرب له معانٍ، وهو أن يكون مالكاً متصرفاً مدبراً بيده كل شيء.

    الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] (الحمد لله) هذا توحيد الإلهية، (رب العالمين) توحيد الربوبية، (الرحمن الرحيم) توحيد الأسماء والصفات، ثم قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، الذي يملك اليوم ويوم الدين، ويجازي ويحاسب، وينفع ويضر، ويعاقب إذا لم يفعل أمره، ويعاقب إذا عصي، ويثيب إذا أطيع هو الرب وهو المالك المتصرف (مالك يوم الدين)، وقرئ: (ملك يوم الدين)؛ لأن يوم الدين ليس فيه من يملك إلا الله جل وعلا وحده، أما في الدنيا فهناك من يدعي أنه يملك وإن كان الملك مؤقتاً، وسوف يسلم ملكه، والواقع أن الملك عارية عنده، وإلا الملك كله لله، في الأولى والآخرة، ولكن يوم الدين كل فرد يأتي كيوم ولدته أمه، لا ثياب ولا نعال، ولا مال ولا ولي، ولا ناصر ولا شافع: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19]، وظاهر ذلك، ولهذا قيل: (مالك يوم الدين).

    وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] (إياك نعبد): العبادة تصدر من العبد، وهي التأله والذل والخوف كما سيأتي، والاستعانة تكون بالذي يملك ويستطيع أن يعين؛ لأنه بيده الملك، فإذا دعي أجاب، وإذا سئل أعطى، ينفع ويضر، وهذا معنى الرب جل وعلا، وهكذا القرآن مملوء من هذا، كل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التقسيم.

    فإذاً علينا أن نتدبر كتاب ربنا جل وعلا، ونتفهم ونعرف الأمر الذي خلقنا له، ونعرف مصيرنا، فالإنسان لا يجوز له أن يجهل لماذا خلق، أو يجهل مهمته في هذه الحياة، أو يجهل نهايته وإلى أين يكون، لا يجوز هذا، والواقع أن الإنسان إذا جهل هذه الأمور فهو مفرط في نفسه، ومسئول عن ذلك، وسوف يندم يوم لا يغنيه الندم ولا ينفعه.

    توحيد العبادة وأهميته

    ثم هذه الأقسام الثلاثة أهمها وأعظمها قسم توحيد العبادة؛ لأنه وقع فيه الشرك، والشرك وقع في بني آدم قديماً، وسبب إرسال الرسل هو وقوع الشرك، وقبل وقوع الشرك ما كان للرسل حاجة، كان الناس على الطريق السوي وعلى الطريق المستقيم، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس بعد آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، ثم طرأ الشرك فأرسل الله جل وعلا أول رسول إلى الأرض وهو نوح عليه السلام) قص الله جل وعلا علينا قصته، فأخبر جل وعلا في قصصه في مواضع متعددة أنه قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فما قال: اعتقدوا أن الله متفرد بالكون وبالخلق وبالرزق وبالإحياء وبالإماتة وبالتدبير. لأن هذا أمر معلوم عندهم لا يجهله أحد، قال: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وكذلك قال هود الذي جاء بعده، قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:65]، وكذلك قال صالح: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73]، وسائر الأنبياء كلهم قالوا هذا القول، كما قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36] يعني: قائلاً لهم: اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، والطاغوت سيأتي تفسيره ومعناه، وأنه كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، أو كل ما صد عن عبادة الله فهو طاغوت.

    وأقول: هو من الطغيان، وهو تجاوز الحد، والخلق كلهم حد لهم حد، وهو أن يكونوا عباداً لله جل وعلا، فإذا تجاوزوا هذا الحد إلى ما هو من خصائص الرب جل وعلا صاروا طواغيت، ثم إن أنواع العبادة كثيرة جداً منها المحبة، وسيأتي بيان ذلك، فيجب أن تكون المحبة التي هي محبة التأله خالصة لله جل وعلا، وسيأتي إن شاء الله أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة مشتركة بين الخلق -وهي أقسام كما سيأتي- مثل محبة المصاحبة والألفة، ومحبة الشفقة، وما أشبه ذلك من المحبة الطبيعية لا لوم على الإنسان في كونها تصدر منه، ولكن المقصود بالمحبة التي يجب أن تكون لله وحده محبة الذل والتعظيم، ولا يجوز أن يكون قلبك خاضعاً ذليلاً معظماً لهذه الأشياء التي تحبهن، هذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا.

    قال الله جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165]، وهذا يدل على أنهم يحبون الله حباً شديداً، ولكنهم أشركوا بهذه الآلهة التي اتخذوها، وصارت المحبة مفرقة موزعة بين الله وبين هذه الأنداد وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البقرة:165-166]، والأسباب: المودة والمحبة، انقطعت عنهم وزالت، وأصبح بدلها عداوة، وكل واحد يلعن الآخر، العابد يلعن المعبود والمعبود يلعن العابد بعد هذه المحبة.

    وإذا وجدت هذه المحبة فالذي يموت عليها يكون ممن لا يخرج من النار، كما في تمام هذه الآيات.

    ومن أنواع العبادة الطواف، ولا يجوز للإنسان أن يطوف إلا بالبيت الحرام الذي أمر الله جل وعلا بذلك عبادةله ، ولا نطوف بقبر ولا بحجر ولا بشجر ولا بمخلوق ولا بغير ذلك.

    ومن ذلك الاعتكاف، فإنه عبادة كما أخبر الله جل وعلا أن العاكفين والراكعين والساجدين يجزيهم ويثيبهم، وقد أمر خليله أن يطهر بيته للعاكفين والراكعين الساجدين.

    ومن ذلك الخوف، فيجب أن يكون الخوف الذي يسمى الخوف الغيبي -خوف السر الذي في سرك وفي غيبك- من الله وحده فقط، لا تخاف غائباً عنك إلا الله، فلا تخاف ميتاً، ولا تخاف جنياً، ولا تخاف من هو بعيد عنك وتقول: إنه يمكن أن يعرف ما في نفسي، هذا لا يجوز، كالذي يخاف الأموات، أو يخاف الولي الذي في القبر، يخاف -مثلاً- أنه إذا ما قدم له العبادة أنه يضره، والذي في القبر لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف يملك ذلك لغيره؟!

    ومنها أيضاً: الذبح، فلا يجوز أن يذبح إلا لله جل وعلا، فإذا ذبح الإنسان لغير الله لجني أو إنسي أو قبر أو غيره فقد وقع في الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في النار.

    ومنها النذر، كأن ينذر نذراً لمخلوق أو لميت أو حي، فإن هذا شرك؛ لأن الله جل وعلا مدح الموفين بالنذر فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7]، فالنذر عبادة؛ لأن الله لا يمدح ولا يثني إلا على ما هو محبوب له ويكون عبادة، أما الشيء المباح مثل الأكل والشرب والنوم والجلوس ما يمدح الله عليه؛ لأنه أمر مباح ليس عبادة إلا إذا اقترن به نية طيبة تجعله عبادة.

    ومن ذلك أيضاً الرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والتوبة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة، كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وسيأتي تفصيل هذا مفرقاً.

    1.   

    الشرك

    يقابل التوحيد الشرك، والشرك يكون في كل قسم من أقسام التوحيد الثلاثة، يكون الشرك في الربوبية، ويكون الشرك في الأسماء والصفات، ويكون الشرك في العبادة والتأله، وكل شرك من هذه الأقسام ينقسم إلى أكبر وأصغر، فعلى هذا تكون أقسام الشرك ستة أقسام على حسب هذا التقسيم، وفي الأصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام فقط: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي، والواقع أنه ينقسم إلى قسمين؛ لأن الشرك الخفي قد يكون أكبر وقد يكون أصغر وهو شرك النية، ولكن التقسيم إلى ستة حسب أقسام التوحيد.

    الشرك في الربوبية

    الشرك في الربوبية ينقسم إلى قسمين: قسم يسمى شرك التعطيل، وهو أقبح الأقسام وأعظمها جرماً وأخبثها، وهو شرك فرعون الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، فعندما جاءه موسى قال: (وما رب العالمين)؟ أي: أنه أنكر وجود الله جل وعلا، وهذا على سبيل المكابرة والتجبر والعناد والإيذاء، وإلا فهو في الواقع مقر بذلك؛ لأن الأمر في هذا واضح وظاهر جداً، لا يخفى على من عنده أدنى عقل.

    فلا يخفى أنه لا موجود إلا وله موجِد، ولو نظر الإنسان إلى نفسه فمن الذي أوجده؟ هل أبوه خلقه أو أمه خلقته أو هو خلق نفسه؟

    لابد أن يكون له خالق قدير متصرف كامل الإرادة كامل المشيئة تعالى وتقدس، كما قال الله جل وعلا: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، يعني: هل يمكن أن يوجد هذا المخلوق بدون أن يكون له خالق؟

    لا يمكن هذا لا يُعقل، ولا يقر به حتى الأطفال، الطفل الصغير إذا ضربه ضارب وبكى فقلت له: ما ضربك أحد لا يقتنع بهذا؛ لأن كل حدث له محدث، وهذا أمر فطري، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالنظر إلى أنفسنا: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يعني: في أنفسكم آيات تفكروا فيها، أفلا تبصرون؟ وأمرنا أن ننظر في أصلنا فقال: قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:17-20]، وجاء هذا مكرراً في القرآن كثيراً، يأمرنا ربنا جل وعلا أن ننظر في أصل خلقنا؛ لأنه كان نقطة من ماء، فكيف يخلق منها لحم وعظام وأعصاب، ثم سمع وبصر وعقل وأرجل وأيدٍ، وذكر وأنثى؟ هل أحد يستطيع ذلك؟ لا. فهو من أكبر الأدلة على وجود الله جل وعلا.

    وآيات الله في الأنفس ظاهرة وواضحة، كما أن آياته جل وعلا في الآفاق من حولنا ولما يجري حولنا في السماء والأرض والنجوم والجبال والأنهار وغيرها واضحة جلية، فنقول: إن الشرك في هذا لا يكون إلا عناداً أو إعراضاً، والإعراض هو عدم الاهتمام.

    ومن هذا الشرك شرك ملاحدة اليوم الذي يقولون: الحياة مادة، فلا يوجد خالق، ولا توجد إعادة، ولا توجد جنة ولا نار يكفرون بالله جل وعلا وينكرون وجوده، فهم واقعون في الشرك الأعظم، وهم في الواقع لم يستعملوا عقولهم ولا ما حولهم من الآيات ولم يتفكروا في أنفسهم.

    ومن ذلك شرك أصحاب وحدة الوجود الذين غلفوا شركهم بشيء من محاسن الإسلام، فخفي أمرهم على خفافيش الأبصار، فجعلوهم من أكابر الأولياء وأكابر الأتقياء والسعداء، وهم من أعظم المجرمين وأكابر الكفار والمشركين، كـابن عربي والعفيف التلمساني وابن الفارض والحلاج ، ومن أشبه هؤلاء الذين جعلوا الله هو الوجود كله، خنازيره وكلابه وأوادمه وكل شيء، كما يقول رئيسهم:

    العبد رب والـرب عبد يا ليت شعري من المكـلف؟

    إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب فأنى يكلف؟

    ويقول:

    وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينـا نثره ونظـامه

    لأنه يعتقد أن النظم كلام الله، والشعر كلام الله، واللحن كلام الله، ونبح الكلاب كلام الله، إلى غير ذلك، وهكذا يقول أصحابه، ثم يأتي قوم ويقولون: هؤلاء من أكابر الأولياء والأتقياء!

    ومن ذلك شرك النصارى الذين قالوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30]، وكذلك اليهود الذين قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30].

    ومنه شرك المجوس الذي جعلوا التصرف إلى إلهين: إله الظلمة وإله النور، وقالوا: إن الإله المحمود المعبود هو إله النور، فهو الخير الذي يحب الخير ويأمر به ويريده؛ ولهذا يعبدون النار لأنها هي أصل النور عندهم، وهذا شرك في الربوبية.

    القسم الثاني من شرك الربوبية الشرك الأصغر، مثل شرك الألفاظ، كقول الإنسان: لولا الله وأنت، لولا الله وفلان، وقوله: ما شاء الله وشئت، وكذلك الحلف بغير الله وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك في الربوبية، وقد يكون هذا شركاً أكبر على حسب ما يقوم في قلب القائل وعقيدته، فهذا الشرك في الربوبية.

    الشرك في الأسماء والصفات

    والشرك في الأسماء والصفات نوعان أيضاً:

    النوع الأول: شرك التشبيه كالذين يقولون: يد الله مثل أيدي الناس، وسمع الله مثل أسماع الناس، وبصره مثل أبصار الناس، وعلمه مثل علوم الناس، وهكذا، فهذا شرك في أسماء الله وصفاته، والواجب أن يعتقد أن الله لا شريك له في خصائصه من الأسماء والصفات، وهذا وإن كان قليلاً فقد جاء ذكره في كتاب الله، يقول الله جل وعلا: فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ويقول جل وعلا: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، ويقول جل وعلا: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    فالذي يقول مثل هذا القول يخالف هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة في كتاب الله.

    النوع الثاني من أنواع الشرك في الأسماء والصفات: تسمية المخلوق بما هو من خصائص الله جل وعلا، كالذي يسمي المخلوق -مثلا- حكيماً، عليماً، خبيراً، رءوفاً، رحيماً، وما أشبه ذلك، ومنه الإله أو الآلهة أو الرب، أو ما أشبه ذلك مجرد تسمية، أعني أن يشتق من أسماء الله أسماء للمخلوقين، فيشتق للمخلوق اسماً من اسماء الله جل وعلا، كما فعل المشركون، فإنهم سموا أصنامهم آلهة، فهو كذب وزور، وهو اسم وضع على غير مسماه، ولهذا يقول الله جل وعلا: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [النجم:23]، يعني: ليس لها من هذه التسمية شيء، فهو مجرد اسم فقط لا حقيقة له. ومن ذلك أنهم سموا بعض أصنامهم بأسماء اشتقوها وأخذوها من أسماء الله، كمناة أخذوها من المنان، واللات أخذوها من اسم الله، والعزى أخذوها من اسم العزيز، وهكذا، وهذا نوع من أنواع الشرك في الأسماء والصفات.

    الشرك في العبادة

    والشرك في العبادة واسع وكثير جداً، وهو ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: شرك أكبر إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في جهنم، وإذا تاب منه فالله يقبل توبته.

    القسم الثاني: شرك أصغر، إذا وقع فيه الإنسان يكون قد وقع فيما هو أعظم من الزنا ومن شرب الخمر، ولكنه لا يخرج من الدين الإسلامي، وصاحبه تحت مشيئة الله جل وعلا، إن شاء آخذه وعذبه على ذلك، وإن شاء عفا عنه، ويجب أن نجتبه.

    الشرك الأكبر كأن يشرك في المحبة، أو في الخوف، أو في التوكل، أو في الإنابة، أو في الركوع، أو في السجود، أو في الطواف، أو في الذبح والنذر، أو غير ذلك.

    فإذا وقع الإنسان في شيء من ذلك كان يذبح دجاجة لجني كان مشركاً شركاً أكبر -نسأل الله العافية-!، وإذا وقع في شيء من هذا يجب عليه أن يتوب، وأن يتخلص من ذلك.

    وأما الشرك الأصغر فمثل يسير الرياء، كونه يرائي بعمله الناس ويحب أن ينظروا إليه، أو يزين عمله من أجل رؤية الناس، أما الكثير فهو لا يصدر من مسلم، فكون العمل يبنى على الرياء لا يصدر إلا من المنافقين أو الكفار، قال الله جل وعلا: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142] أخبر أن صلاتهم هي المراءاة، ولكن المسلم قد يعرض له في عمله عارض الشرك الأصغر فهو يعالجه، وإن أعرض عنه واستطاع أن يخلص في عمله لا يضره ذلك، أما إذا لم يستطع ذلك فالرياء إذا خالط عملاً أفسده وأحبطه، ويكون ذلك العمل فاسداً حابطاً، كما جاء في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وجاء أن الله جل وعلا يقول للذين يراءون بأعمالهم يوم القيامة: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون جزاءكم عندهم؟)، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل هذا كله مفرقاً في الكتاب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768273673