والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال، ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب! قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] وقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلاً:
فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء.
وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه: (بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) ونحو ذلك. فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكره اليوم قليل].
انتقل المصنف إلى أصل آخر من أصول الإيمان التي لابد منها، والذي لا يؤمن به لا يكون مؤمناً بل لا يكون مسلماً يعني: يكون كافراً وهو: الإيمان بالقدر.
فقال: (وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره).
وقد سبق شرح قوله: (الفرقة الناجية) وأن الناجية: وصف للفرقة وأن النجاة تكون في الدنيا أولاً ثم تكون في الآخرة، أما النجاة في الدنيا فهي أنهم لا يفتتنون في دينهم، ولا ينكصون على أعقابهم ولا ينالهم أذى، بل ربما قتلوا وربما أصيبوا بأضرار كثيرة ولكن الله يثبتهم على دينهم فيكونون على ذلك منصورين، كما حصل لأولياء الله جل وعلا السابقين من الرسل وغيرهم، فإنهم ثبتوا على الدين وإن قتل من قتل منهم ومع ذلك فهم منصورون وناجون؛ لأن الذي يثبت على عقيدته وعلى أمر الله جل وعلا منفذاً له في طاعة الله يكون منصوراً.
وقوله: ( أهل السنة والجماعة ) وصف للفرقة الناجية بأنهم أهل السنة، يعني: اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سنه، وتمسكوا بذلك، وهم أهل جماعة ليسوا أهل فرقة؛ لأن من صفة هذه الفرقة أن تجتمع على الحق امتثالاً لأمر الله كما قال جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فالتفرق ليس من صفة هذه الفرقة بل هو من صفة أهل البدع.
القسم الأول: دخول الشر في عموم خلق الله جل وعلا: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] فلم يأت أن الله خلق الشر أبداً وإنما دخل في العموم: ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ).
القسم الثاني: أن الشر إذا جاء في كتاب الله حذف فاعله كما قال مؤمن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10] ولما جاء الرشد والخير أضافه إلى الله والشر حذف فاعله؛ لأنه من المخلوق.
القسم الثالث: أن يضاف إلى المخلوق كقوله جل وعلا: ( مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ) وهذا هو الأدب الذي يجب أن يسلك؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) ينزه ربه أن يكون الشر مضافاً إليه لا وصفاً ولا فعلاً.
القديم هنا المراد به: الأزلي الذي لم يسبق بعدم، يعني: ليس له مبدأ، فعلم الله صفة من صفاته، والله هو الأول بلا بداية وكذلك صفاته؛ لأن الله بعلمه وبسمعه وببصره وبسائر صفاته: أول بلا بداية، ليس له مبدأ وهذا معنى الأزل، وعلم الله علم بالأشياء على الدقة وعلى الإحصاء لكل شيء، فلا يقع شيء ولا وقع شيء إلا وقد علمه الله جل وعلا بعلمه القديم الأزلي قبل وجوده، هذا شيء يجب اعتقاده ومن لم يعتقد هذا ولم يؤمن به فإنه ليس بمؤمن، ولهذا اتفق العلماء على أن من أنكر علم الله الأزلي أنه كافر، كما قال الشافعي وغيره لمن أنكر القدر: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، وهذا معناه: أنه يسأل: هل علم الله جل وعلا هذه الأشياء في علمه الأزلي قبل وجودها؟ فإن أقر أنه علمها خصم، يعني: يلزمه الإقرار بالقدر، وإن أنكر ذلك كان كافراً.
هذه الدرجة الأولى وهي: الإيمان بعلم الله الذي ليس له مبدأ، وعلم الله لا يخرج منه شيء فهو عليم بكل شيء، وهذا على العموم، فهو سبحانه يعلم ما سيقع، وأنه سيقع على الصفة التي وقع عليها، وفي الزمن والوقت المحدد الذي وقع فيه لا يتعداه ولا يزيد ولا ينقص عن علم الله جل وعلا، فعلم الله لا يتغير، وسيأتي الكلام على ما يستشكله بعض الناس في بعض النصوص في ذلك، فالعموم في هذا على إطلاقه يعني: أن الله: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29] ولا يخرج من علمه شيء، أي: الأشياء الممكنة الواقعة، والأشياء الممكنة غير الواقعة، أما الشيء المستحيل الممتنع فهذا يعلم الله جل وعلا أنه لا يقع؛ لأنه ممتنع، فعلمه لا يخرج عنه شيء، وهذا مثل: كون الشيء موجوداً معدوماً في آن واحد، فهذا لا يسمى شيئاً؛ لأنه مستحيل غير ممكن، وأما الشيء الذي يطلق عليه أنه ليس في الوجود وإن علم أنه يوجد، فهذا يكون ليس شيئاً في ذلك الوجود في ذلك الوقت وجوداً وعيناً، ولكنه شيء في علم الله، علم الله أنه سيكون شيئاً كما قال الله جل وعلا: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] ، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1] يعني: ليس شيئاً مشاهداً ولا موجوداً، ولكنه شيء مكتوب في علم الله، أي: علمه الله، أما الشيء المستحيل الممتنع فإنه لا يدخل في هذا ولا يكون شيئاً ومع ذلك يعلم الله جل وعلا أنه ليس بشيء، ولهذا لما ادعى الكفار أن لهم آلهة تشفع لهم عند الله قال جل وعلا: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [يونس:18] يعني: أن هذا لا يقع ولا يمكن أن يقع فالله يعلم أنه لا يقع، فإذا كان لا يقع فهو ليس بشيء وإنما هو زعم ودعوى فقط.
والشيء الذي يمكن وهو لم يقع يعلم الله جل وعلا أنه لو وقع سيكون على كذا وكذا، كما قال جل وعلا: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28] أخبرنا ربنا جل وعلا أن أهل النار لا يردون إلى الدنيا فهذا لا يقع، ومع ذلك أخبر أنه لو قدر أن هذا يحصل ويوجد فإنهم سيعودون إلى أفعالهم وكفرهم وفجورهم، فعلم الله عام وشامل لا يخرج عنه شيء، ويجب أن يكون على عمومه وشموله.
أولاً: قوله: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) قال المفسرون: الضمير هنا يعود إلى غير المعمر (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ) أي: من عمر معمر آخر، يعني: ما يعمر من معمر فيكون عمره طويلاً، وكذلك لا ينقص من عمر معمر آخر فيكون عمره قصيراً: (إِلاَّ فِي كِتَابٍ) يعني: كل شيء مكتوب وليس نفس المعمر هو الذي ينقص من عمره، وقالوا: هذا مثاله أن تقول: عندي دينار ونصفه، فالنصف ليس هو نصف الدينار الأول، وإنما هو نصف دينار آخر، وهذا مثله.
وأما ما جاء في الحديث من أن الدعاء يرد القدر، وأن الصلة تزيد في العمر، فهذا ليس فيه معارضة؛ لأن الدعاء نفسه من القدر الذي قدره الله وكتبه، وقد علم أن هذا الشخص يدعو فيكون هذا الدعاء سبباً في صرف البلاء الذي لو لم يدع لأصابه، وكذلك الصلة فإن الصلة مقدرة ومكتوبة في الأزل: أن هذا الشخص يصل رحمه ويكون ذلك سبباً في زيادة العمر وقد كتب ذلك، وأن الآخر لا يصل ويكون ذلك سبباً في نقصان عمره، وليس كما يقول بعضهم: إن الإنسان يكتب له أجلان: أجل طويل فيما إذا وصل، وأجل قصير فيما إذا قطع، فيكون هذا فعل المتردد الذي لا يدري هل يقع هذا، أو يقع هذا؟ تعالى الله عن ذلك، وإنما الصواب أن هذا من باب ذكر الأسباب وخلقها، والأسباب مقدرة كلها، ثم قال عمر رضي الله عنه لما جيء إليه بسارق، وسأله: لم سرقت؟ فقال: هذا بقدر الله، فقال: وأنا أقطع يدك بقدر الله! فكل شيء مقدر، ولكن اللوم على الفاعل الذي يرتكب الجرم وهو الذي يستحق العقاب.
فالله تعالى: عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأزلي، ولا يقع شيء من أعمال العباد -وإن دقت- إلا وقد علمه الله وكتبه.
قوله: (وعلم جميع أحوالهم) أي: علم الأعمال التي سيعملونها، وهذا يشمل كل شيء: الشيء الذي يثابون عليه ويعاقبون عليه، والشيء الذي لا يثابون عليه ولا يعاقبون عليه، حتى اختلاج عروق الإنسان وحركتها بدون إرادته! فلا تقع حركة في هذا الكون إلا وقد علمها الله جل وعلا، وكذلك يعلم حركات الأشجار وسقوط أوراقها كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه في الآية رقم (59) من سورة الأنعام، وكل ذلك علمه قبل وجوده بعلمه الأزلي القديم؛ لأن علمه كامل وتام لا يسبقه جهل تعالى الله، ولا يلحقه نسيان.
فالطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال كلها معلومة له.
والكتابة تنقسم إلى: كتابة عامة، وكتابة خاصة، وهذا سيأتي ذكره عند ذكر المؤلف له.
وقوله: ( ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ) اللوح المحفوظ: محفوظ عن الاطلاع عليه والمشاهدة من قبل الخلق، وحفظ عن التغيير والتبديل والزيادة والنقص، أما صفته وأين هو؟ فهو بلا شك في السماء، ولكن لا نعرف صفته، وإنما علينا أن نؤمن بأن كل شيء كتب فيه، واللوح هو محل الكتابة، وهذه الكتابة جرت بأمر الله وقدرته، والقلم أمر بالكتابة فكتب، والقلم ليس عليماً بكل شيء، وإنما الله جل وعلا أمره بالكتابة فكتب بقدرة الله الأشياء التي علمها الله، والخلق لا يعلمون ذلك حتى الملائكة.
وهذه كتابة عامة شاملة ويجب الإيمان بها، ولا يطلع على اللوح أحد من خلقه إلا من يطلعه على شيء من جزئياته ممن يشاء من الملائكة وغيرهم.
وقوله: (فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما عرفنا، وليس معنى ذلك الإخبار بأن القلم هو أول المخلوقات، فهذا ليس مقصوداً بدليل حديث عبد الله بن عمرو فإنه قال: (كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) فالكتابة حصلت والعرش كان على الماء، فالماء والعرش موجودان وقت الكتابة, ومعلوم أن العرش والماء مخلوقان من المخلوقات، وهذا في صحيح مسلم ، فالصواب في هذا كما قال أهل التحقيق: إن قوله: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب) جملة واحدة، والمقصود بها: أن الكتابة حصلت بعد خلق القلم مباشرة بدون فاصل، بل لما خلقه أمره بالكتابة، هذا معنى قوله: (أول ما خلق الله القلم).
وقوله: (ما هو كائن إلى يوم القيامة) المقصود به: الأمور التي تحصل من الدقيق والجليل فكلها مكتوبة.
إذاً: فالدرجة الأولى: الإيمان بعلم الله العام الشامل.
احتج بهذا بعض المبطلين وقالوا: إن القدر حجة للإنسان على عمله، وهذا باطل؛ وذلك أن موسى لا يمكن أن يكون لام آدم على الذنب الذي تاب منه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولومه معصية، وموسى عليه السلام لا يمكن أن يفعل هذا، وإنما لامه على المصيبة، والمصيبة هي التي وقعت فيه وفي الناس، وهي الخروج من الجنة، والمصيبة ليست فعل آدم، وإنما كتبت عليه؛ فلهذا قال: إن هذا شيء مكتوب عليه، أما الفاعل فلا يجوز أن يحتج بالقدر على فعله، بل يجب عليه أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من فعلي، أما أن يبرر لنفسه ويحتج بالقدر فهذا فعل الشيطان، وبهذا يتبين لنا أن معنى الحديث غير ما ذهب إليه هؤلاء، وهذا يجب أن يفهم لئلا يلتبس الأمر على المسلم.
وبعض العلماء يقول: القدر يحتج به على المصائب لا على المعائب، يعني: إذا وقع بالإنسان مصيبة لا يمكن استدراكها ولا يمكن رفعها، فمثل هذا يقول: الحمد لله هذا قدره الله علي، أما العيب والذنب فالواجب التوبة والإقلاع منه والاستغفار منه، ولا يحتج الإنسان عليه بالقدر.
قوله: (فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه) يعني: هذا معنى الإيمان بالقدر، يؤمن بأن ما أصابه لا يمكن أن يخطئه، وما أخطأه لا يمكن أن يصيبه، وكلمة: لو فعلت كذا لكان كذا وكذا، هذه جاء اللوم عليها في الأقدار، وهي من عمل الشيطان ولا يجوز قولها؛ لأنها خطأ محض، فالذي يقع لا يمكن أن يتغير، الواقع لا يمكن أن يتغير، قد علمه الله جل وعلا ووقع وإن كان هناك أسباب؛ لأن الله جل وعلا كتب الأسباب والمسببات، وكل شيء له سبب، ولكن لا يقع إلا ما كتبه الله وعلم أنه يقع.
قوله: (وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف) قوله: (جفت الأقلام وطويت الصحف) أي: أن الأمور فرغ منها وانتهت، ولا يقع إلا ما كتبه الله وأراده، كما قال تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] لأن كل شيء بقدرته جل وعلا، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22] فقوله: (أن نبرأها) إما أن يعود الضمير على الأرض، أو يعود على النفس التي أصيبت، وكلاهما صحيح، والمعنى: قبل وجودها، والبرء: هو الخلق والتمييز.
وكذلك من الكتابات التفصيلية: الكتابة التي تكون بيد الملائكة عندما يبلغ الإنسان خمسة عشر سنة -وهو سن التكليف- فإنها تكتب عليه أعماله، وهذه الأعمال التي تسجل عليه موجودة في اللوح المحفوظ قبل وجوده، فهذا تفصيل لما سبق.
وكذلك من التفصيل ما يكون تفصيلاً من وجه وعاماً من وجه آخر: فما يكتبه الله جل وعلا في ليلة القدر كما قال الله جل وعلا: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] جاءت الآثار بأن الله يكتب ما يقع في هذه السنة في تلك الليلة، وهي ليلة القدر، فهذا من جهة العموم، ومن جهة التفصيل كونه كتب بعد ما كتب سابقاً فهو تفصيل، والمقصود أن الكتابة تكون عامةً وتكون في محل مفصلة، ولهذا قال: فقد كتب الله في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأن يكتب أربعة أشياء، وهذا الحديث من الأحاديث الأصول في باب القدر.
الشيء الأول: مشيئة الله النافذة، المشيئة يجب أن تكون عامة شاملة، وقوله (نافذة) يعني: أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا من الأمور التي يؤمن بها المسلمون، ولا يخالفون فيها، فمن خالف فيها فهو خارج عن صفة المسلمين، فمشيئة الله وحده هي التي تمضي وتنفذ، وكل المسلمين يقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا أمر اتفقوا عليه، وفطروا عليه، وعلموه صغيرهم وكبيرهم، فهذه درجة الإيمان بمشيئة الله النافذة.
ومن الضلال أن يقول قائل من هؤلاء الضلال: إن الله شاء من الكافر الإيمان، وشاء الكافر الكفر؛ فوجدت مشيئة الكافر وتخلفت مشيئة الله، فهذا ضلال وهو قول القدرية الذين لا يزالون موجودين، وهو ضلال بين وواضح، وهؤلاء هم الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروى كما في السنن: (مجوس هذه الأمة) وذلك أن المجوس يؤمنون بخالقين: خالق الشر وخالق الخير، أو إله النور وإله الظلمة، وإله النور عندهم خير يخلق الخير ويريده، وإله الظلمة شرير يخلق الشر ويريده، وهذا في الواقع شيء يخالف الفطرة؛ لأنه ليس هناك إلا خالق واحد.
ولكن وجه الشبه أن هؤلاء جعلوا الناس هم الذين يخلقون أفعالهم: فالكافر يخلق الكفر، والمؤمن يخلق الإيمان، وقالوا: إنه ليس لله مِنَّة على المؤمن، وليس له فضل تفضل به عليه، فالمؤمن يؤمن باختياره وقدرته ومشيئته، والكافر يكفر باختياره وقدرته ومشيئته، مع أن الله جل وعلا يقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] ويقول جل وعلا: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7-8].
وهؤلاء إذا قوبلوا بمثل هذه الآية يقولون: معنى تزيين الإيمان في قلب المؤمنين وتكريه الكفر، أن يقول لهم: إن الكفر جزاؤه النار، وإن الإيمان جزاؤه الجنة، وهذا كفعل الذين يحرفون كلام الله.
الجواب: يصح ولكن يجب أن يتنبه أنه لا يريد قول أهل البدع: إن مشيئته لا تتعلق إلا بما يقدر عليه، وهذا مقصود شيئ، فإذا كان يعرف هذا وقصده فهذا لا يجوز.
فالقدرية يجعلون المشيئة متعلقة بالقدرة، وهو لا يقدر عندهم على خلق أفعال العباد فلهذا يقولون: على ما يشاء قدير، يعني: يقدر على ما يشاء، فالقدرة تتعلق بالمشيئة فقط، وهذا ضلال، والغالب أن الذين يقولون هذه العبارة لا يعرفون هذا المعنى ولا يقصدونه، فإذا كانوا لا يقصدونه ولا يعرفونه فلا بأس بذلك.
الجواب: لجميع الأشياء، والمقصود بالمقادير: كتابة الأشياء كلها قبل وجودها، وقبل خلق السماوات والأرض ومن فيهن، وقبل خلق الكون، فكتب كل ما يقع من الخلق، فكل شيء مكتوب حتى سقوط الأوراق كما سبق، وحتى تساقط قطرات المطر، فلا يخرج عن الكتابة شيء.
الجواب: أما الأحاديث التي فيها: أنهم مجوس هذه الأمة، إذا مرضوا فلا تعودوهم، وإذا ماتوا فلا تشهدوهم ...إلخ، فأكثر هذه الأحاديث حكم عليها العلماء بالضعف، ولكنها كثيرة، وبعض أسانيدها لا بأس به، وإذا نظر إليها بمجموعها فهي من الأحاديث التي يحكم عليها بالقبول، وقول بعض العلماء: إن القدرية ما وجدوا إلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع وصفهم؟ فهذا ليس صحيحاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن الأشياء التي لم تقع أنها ستقع، وهذا منها.
الجواب: لا يلزم أن هؤلاء غير موحدين، ومثل هذه النصوص: (لا يدخل الجنة مدمن الخمر، ولا يدخلها ديوث) هذه من نصوص الوعيد التي يقول فيها العلماء: إنها لا تدل على خروج الفاعل من الإيمان، ولا خلوده في النار، وإنما يجب أن تبقى على ما هي عليه؛ لتكون زاجرة عن هذا الفعل مع اعتقاد أن الإنسان لا يكفر بهذه الأفعال، هذه عقيدة أهل السنة، فلا يرون أنها تعارض ما ذكر.
ثم يجب أن نعرف أن مثل هذه النصوص استدل بها الخوارج الذين حكموا على مرتكب الكبيرة بالنار وبالخروج من الإيمان، وهم في ذلك ضالون مخطئون قطعاً؛ لأن نصوص الله جل وعلا لا تتعارض فيجب الجمع بينها، وهذا هو الجمع، فإن الله جل وعلا لما ذكر القتل -والقتل أعظم من شرب الخمر- أخبر أن القاتل أخٌ للمقتول، والمقصود بالأخوة هنا: أخوة الإيمان: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] فسماه أخاً له، فالأخوة ثابتة؛ ولذلك فهو من المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم رجم المرأة الزانية وصلى عليها، وهؤلاء يقولون: إنه يكفر، وإنه يخرج من الدين الإسلامي، فهم متناقضون في الواقع؛ لأنهم حكموا على نصوص الكتاب بآرائهم وأهوائهم، والواجب إرجاع بعضها إلى بعض وهذا هو الحق.
الجواب: هذا فيه أقوال للعلماء: منها: أن المحو والإثبات في نسخ الشرائع، فينسخ الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، ومنها: أن المحو في صحائف الملائكة الذين يسجلون على الإنسان، فيمحى في آخر النهار الشيء الذي ليس عليه فيه إثم، ولا تبعة، ويثبت ما له فيه ثواب أو عقاب، فإما أن يكون المحو في صحائف الملائكة، وإما أن يكون في النسخ، ولهذا قال: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] فهذا يدلنا على أن ما في أم الكتاب ليس فيه محو ولا تغيير، وأم الكتاب المقصود به: اللوح المحفوظ.
الجواب: هي نفسها.
الجواب: الإرادة تنقسم إلى قسمين:
إرادة كونية تتفق مع المشيئة وتكون هي والمشيئة شيء واحد.
وإرادة دينية شرعية تتفق مع المحبة والأمر، فالمحبة والأمر يوافقان الإرادة الدينية الشرعية الأمرية.
الجواب: ما حرفوها إلى أمر الله، وإنما قالوا: مشيئة الله مقيدة بالشيء الذي يقدر عليه، ومن الأشياء التي لا يقدر عليها: أفعال الإنسان، فزعموا أن الله جل وعلا لا يقدر على شيء من أفعال العباد! وهذا تحكم، ومعروف أن أهل الهوى يحكمون آراءهم ويجعلونها مقدمة على نصوص الوحي.
ولهذا فهؤلاء القدرية استدلوا على خلق القرآن بقول الله جل وعلا: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] فقالوا: أليس القرآن شيئاً؟
قلنا: نعم هو شيء، قالوا: فهو داخل في المخلوق، ثم أخرجوا الصلاة، والصوم، والحج، والكفر، والإيمان التي يفعلها الإنسان، أخرجوها من قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فقالوا: هذه ليست داخلة، وهذا تحكم، مع أن جميع المسلمين يقولون في قول الله جل وعلا: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ): إن كلام الله ليس داخلاً في هذا الإطلاق؛ لأن هذا للمخلوقات، وكلام الله صفة من صفاته كعلمه فليس داخلاً في ذلك، وهذا أمر واضح ولكن تحكم الأهواء واتباعها بالمتناقضات.
هذا من الأقوال المجملة التي لا يجوز أن تطلق، فالإنسان ليس مسيراً وليس مخيراً بهذا الإطلاق؛ لأنك إذا قلت: مسير فمعنى ذلك: أنه مجبور وليس له اختيار، وليس له قدرة، وإذا قلت: مخير، فقد وقعت في قول القدرية الذين يقولون: إن الإنسان يفعل ما يشاء، وإن قدرة الله ومشيئته لا دخل لها في ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر