وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات:
أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة كي يدخلوا الجنة. وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله أقواماً فيدخلهم الجنة ].
هذه الأشياء التي ذكرها داخلة في الإيمان باليوم الآخر؛ لأن المقصود باليوم الآخر كل ما يحصل بعد الموت إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ولكن لما كانت بعض التفاصيل التي تكون في الآخرة أنكرها أهل البدع مثل الحوض والشفاعة وما أشبه ذلك، فنص العلماء عليها رداً لهذه البدعة ولهذه الضلالة، وذلك أن ما ذكره الله جل وعلا أو ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم بالاسم والتعيين فإنه يتعين الإيمان به، وإلا فسيكون الإنسان ناقص الإيمان إن لم يكن الإيمان زائلاً؛ لأن ربنا جل وعلا أخبرنا أن الإيمان لا يقبل التجزئة، فإما أن يؤخذ كله أو يرد كله، والذي رد البعض فهو كالذي رد الكل.
وحوضه صلى الله عليه وسلم تواترت فيه الأحاديث، وقد ذكر السيوطي في كتابه (البدور الزاهرة) أن أحاديث الحوض رواها خمسة وخمسون صحابياً، ثم سرد رواياتهم في الكتاب المذكور، ومنهم الخلفاء الراشدون، وبعض الصحابة له عدة روايات مثل أنس ومثل أبي هريرة وغيرهما.
ومع أن الأحاديث في الحوض متواترة فقد أنكره الخوارج وإخوانهم من المعتزلة وأهل البدع بلا دليل ولا معنىً عقلي يقتضي ذلك، وإنما هو تعنت وضلال، وخليق بمن أنكره أن يحرم وروده والشرب منه.
والصحيح أن كل نبي له حوض في الموقف.
وأما تعيينه وأين يكون، وهل قبل الصراط أو بعد الصراط فمحل خلاف بين العلماء، وإن كان بعضهم يرجح أنه يكون قبل الصراط، كما قاله القرطبي ، وقال: إن هذا يقتضيه المعنى. ولكن المعنى والعقل لا دخل له في هذه الأمور، وقد جاء في حديث لقيط بن صبرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد الصراط وإن كان هذا الحديث يضعفه بعضهم، ولكن جاءت له شواهد، وقد صححه طوائف من العلماء، وفيه أنه قال: (ثم تعبرون الصراط، وتأتون على حوض نبيكم صلى الله عليه وسلم على أظمأ ناهلة كانت)، وذلك أن الصراط منصوب فوق جهنم، ولابد أن ينال العابر من حرها ومن سمومها ولهبها ما يناله، فيقع له الظمأ الشديد، فيكون الحوض بعد ذلك، وأما الجمع فكما يقول ابن القيم رحمه الله: إن الأحاديث فيه متفقة؛ فإنه يمكن أن يكون قبل الصراط وبعده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه مسيرة شهر) أي: عرضه مسيرة شهر وطوله مسيرة شهر. فيكون جزء منه قبل الصراط وبقيته بعد الصراط، ويكون الورود عليه أولاً وآخراً.
وعلى كل حال مثل هذا لا يضر، وإنما الذي ينبغي هو الإيمان به وإثباته كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنبياء كلهم لهم أحواض يردها المؤمن بهم، فكل من آمن بنبي فإنه يرد حوضه.
وأما ما جاء عن صالح عليه السلام أنه ليس له حوض، وأن حوضه هو ضرع ناقته التي أخرجها الله جل وعلا لقومه فهذا غير صحيح، ولم يثبت ولم يصح.
ثم إنه جاء في وصف الحوض بأن ماءه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك، وأنه يصب فيه ميزابان من الجنة واحد من ذهب والآخر من وَرِق -من فضة- يقول الله جل وعلا: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3].
وثبت في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغفا إغفاءة ثم استيقظ وهو يضحك، فإما سألوه أو قال لهم: إن ربي أعطاني نهراً في الجنة، أعطاني الكوثر، وهو نهر عليه خير كثير)، وذكر أن كيزانه مثل نجوم السماء، وأن الوارد عليه أكثر من الوارد على أحواض الأمم الأخرى؛ لأن هذه الأمة هي أكثر الأمم اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحوضه هو الحوض الأعظم والأكبر، وهذا فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعين القول به، أما ما جاء في تفسير بعض السلف أنه خير كثير فهو داخل فيه.
وفي الصحيح عن أنس أنه قال: (يا رسول الله! أسألك أن تشفع لي. فقال: أنا فاعل إن شاء الله. فقال: أين أجدك؟ قال: على الصراط. فقلت: وإن لم أجدك هناك؟ قال: عند الميزان. قلت: وإن لم أجدك؟ قال: عند الحوض، لا أعدو هذه الثلاث).
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم يقف عليه ومعه عصا يذود عنه من خالف سنته وتركها.
وجاء في صحيح مسلم : أنه يكون قائماً عليه فيرد عليه قوم من أمته قال صلى الله عليه وسلم: (أعرفهم ويعرفونني، ثم يخرج رجل ويحول بيني وبينهم، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار. فأقول: وما لهم؟ فيقول: لم يزالوا مرتدين على أدبارهم).
وجاء أيضاً في الصحيح أنه يختلج أقوام ممن يرد على الحوض ويذهب بهم إلى النار.
وهذه النصوص تدل على أن الحوض يكون قبل الصراط؛ لأن الذي يعبر الصراط يدخل الجنة، فمن عبر الصراط لا يُرجع به إلى النار، ولكن جاءت أحاديث أخرى فيها أنه بعد الصراط.
أما ما قاله بعض العلماء: إنه حوضان واحد قبل الصراط، والآخر بعده فهذا -كما يقول ابن القيم-: شأن الضعفاء من العلماء الذين يعيهم الجمع بين الأحاديث فيجعلون الجمع متعدداً.
أما ما علل به الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بأن المناسب أن يكون بعد الصراط لأن الحوض بجوار الجنة ومدده من الجنة، ولو كان قبل الصراط لحالت النار بين الماء الذي يأتي من الجنة وبينه فهذه كلها تعليلات؛ وأمور الآخرة أمور فوق العقل والنظر والاجتهاد، وتعيين أنه قبل الصراط أو بعد الميزان أو قبل الميزان وما أشبه ذلك يحتاج إلى نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الواجب إثباته في الموقف، ولهذا ذكره المؤلف بعد ذكر المحاسبة، والمحاسبة يكون بعدها الميزان وتطاير الصحف كما سبق.
ويكون الحوض في العرصات، والعرصات هي المواقف، ولهذا قال: (وفي العرصات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم) والعرصات هي المواقف التي يقفون بها للحساب والمسائلة، وهي تختلف، وقد جاء في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: على الصراط)، وفي رواية لـأم سلمة رضي الله عنها أنه قال: (في الظلمة قبل الصراط) أي: هناك مكان مظلم توزع فيه أنوار الناس على حسب إيمانهم، فليس لأحد نور إلا ما يعطى، وإلا فهم في ظلمة عظيمة، وتختلف أنوارهم، فمنهم من يكون نوره مثل الجبل أمامه، ولكن هذا النور لا يبصره إلا صاحبه فقط، وهو الذي يسير به ويبصره، أما الذي بجواره فلا يبصر شيئاً من هذا النور، ومنهم من يكون نوره أقل من ذلك، ومنهم من يكون نوره مثل النخلة، ومنهم من يعطى نوره على إبهام أصبع رجله أو يده ينطفي مرة ويضيء أخرى، فإذا انطفى وقف. وإذا أضاء قدم رجله، وفي هذا يحال بين المؤمنين وبين المنافقين، كما أخبر الله جل وعلا أنهم ينادون ويقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، ولكن لا يستطيعون؛ إذ لا أحد يقتبس من نور أحد؛ لأن هذا جزاء العمل وكل إنسان عمله له، كما قال تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39].
وقوله: (الحوض المورود) الورود يكون بعد الظمأ وشدة الحاجة إلى الماء، والذين يردونه هم المؤمنون المتبعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما المبتدعة والضالون فإنهم يذادون عن الحوض.
وقوله: (ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل) يعني أنه جمع بين الصفات الحسنى في المعنى والمرأى، وفي الصفات المعنوية والصفات المحسوسة المشاهدة.
وقوله: (وآنيته عدد نجوم السماء) الآنية: هي الكيزان التي يشرب بها. وتكون عند الحوض، وكل من مد يده إليه وضُع فيها كأس، فيأخذه ويشرب، ومن شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، وهذا هو أول نعيم المؤمن يناله من الجنة.
وقوله: ( طوله شهر وعرضه شهر) يعني أنه متساوي الأطراف، وهذا شيء عظيم وكبير جداً، وعلى هذا الكبر يأتي يوم وعليه زحام، يتزاحم الناس عليه ليشربوا منه، مع أنه لا يرد عليه إلا المؤمنون المتبعون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنهم كثيرون.
وقوله: (من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً) يعني أنه لا يناله عذاب بعد ذلك، فإذا شرب هذه الشربة فقد خلص من كل المخاوف التي تكون في ذلك الموقف، وصار هذا عنوان سعادته وأول نعيمه الذي ينعم به في الجنة.
وأما الصراط الذي في الآخرة فهو الجسر الذي يكون فوق النار، والنار قعرها بعيد جداً، ولهبها حار جداً، ولهذا جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: إنه أحر من الجمر -لأنه فوق النار- وأحد من السيف.
وجاء أنه أيضاً يروغ -أي: يتحرك- وليس ثابتاً، وجاء أنه أروغ من الثعلب، وليس المعنى أن الناس يمشون عليه كما يمشون على الجسور والقناطر التي توضع، وإنما يمشون على قدر أعمالهم.
ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء أيضاً ليسوا كثيرين بالنسبة للناس، وإنما هم قلة، ولهذا عدهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه الأمة منها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، وسبعون ألفاً بالنسبة للأمة من أولها إلى آخرها قليل جداً، وهذه الأمة هي أكثر الأمم دخولاً الجنة، وأكثرها إيماناً، وهي أيضاً أكرم الأمم على الله؛ فإن هذه الأمة أول من تنشق عنها قبورها، وأول من يسبق إلى الموقف إلى المكان المرتفع فيه، وأول من يسبق إلى ظل العرش، وأول من يعبر الصراط، وأول من يدخل الجنة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله) ولكن هذه الخيرية للمؤمنين، أما الكفرة والمجرمون فهم أشد الناس عذاباً؛ لأن الذي يكفر بأفضل الرسل وبأفضل الأديان يستحق أشد العقاب.
ثم العبور على الصراط عبور بالأعمال، ولهذا قال: (فمنهم من يمر كلمح البصر) يعني: عبوره فوق الصراط في السرعة مثل ما يغض الإنسان بصره.
(ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح -أي: في السرعة-)، ومنهم من يمر كالطير ثم كأجاود الخيل، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يحبو ويزحف، ومنهم من يسقط مرة وتتعلق يده الأخرى، وتسقط رجله وتتعلق الرجل الأخرى وهكذا.
ومنهم من يخطف من على الصراط؛ لأن الصراط كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليه كلاليب وحسك. ثم قال: أتدرون ما الحسك؟ شويكة تكون في نجد .. هل رأيتموها؟ قالوا: نعم. قال: إنها مثلها غير أنه لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا)، ومعنى ذلك: أن عليه كلاليب معطفة موكلة بأناس معينين تمسكهم وتلقيهم في النار، فمنهم من يخدش، ومنهم من يكردس في النار، ومنهم من يبقى وقتاً طويلاً يسير على الصراط، فإذا نجا التفت وقال: تبارك الذين نجانا منك - يخاطب النار! - لقد أعطانا الله شيئاً لم يعطه أحداً من العالمين يقول هذا مع أن المؤمنين قد سبقوه بكثير جداً، ولكن الذي ينجو من النار يكون قد أعطي شيئاً عظيماً جداً، وكل أحد سوف يعبر عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] و(واردها) يعني: يرد جهنم. وهذا قسم من الله جل وعلا، أقسم على أن كل الخلق سيردون جهنم، ولكن الورود لا يقتضي الدخول؛ لأنه قد يكون للمعاينة والمشاهدة، ولكونه وصل إلى الشيء وكاد يسقط فيه، ولهذا قال جل وعلا بعد ذلك: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فالذي يعبر الصراط هم المتقون فقط الذين يتقون ربهم، وهذا أيضاً من الأمور التي يجب الإيمان بها كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أنكر ذلك فإنه يكون ضالاً.
والناس يمرون عليه على قدر أعمالهم: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس، أي: كركض الخيل، ومنهم من يمر كركض الإبل، ومنهم من يمر كركض الرجل، ومنهم من يكون ماشياً، ومنهم من يكون زاحفاً وحابياً على حسب الأعمال؛ لأن المرور بالأعمال.
ومنهم من يُخطف ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، أي أن الإنسان إذا كان قد ارتكب من الخطايا والذنوب التي يستحق بها دخول النار ولم يعف الله عنه خطف من على الصراط وألقي فيها.
وقوله: (فمن مر على الصراط دخل الجنة) يعني أن الذي يعبر عليه قد نجى من النار، وأعطاه الله جل وعلا فضلاً عظيماً، ومنَّ عليه منّةً كبرى.
فإذا عبروا، أي: انتهى المؤمنون من عبورهم حبسوا في صراط آخر اسمه (قنطرة) والقنطرة: هي الشيء المرتفع. وقد يكون بناءً، وقد يكون على شيء يعبر وهو تحت القنطرة، وقد يكون مرتفعاً فقط، وبعض العلماء يقول: إن هذه القنطرة هي بقية الصراط، وهي امتداده من جهة الجنة؛ لأن الجنة في السماء، والنار يؤتى بها في ذلك اليوم في الموقف، والموقف يكون في أرض ليست هذه، وإنما أرض بيضاء نقية لم يعمل عليها خطيئة، ولم يعص الله جل وعلا عليها، وأما هذه فإنها تبدل وتزال، والله جل وعلا يغير الكون كله ويبدله، فيوقفون على هذه القنطرة ويحبسون، ثم يقتص لبعضهم من بعض في المظالم التي عليهم، وهذا القصاص يكون من المظالم التي علم الله جل وعلا أنها لا تأتي على حسناتهم، وإنما يفضل لهم حسنات يدخلون بها الجنة، فيؤخذ لكل مظلوم من ظالمه في ذلك الموقف، وهذا القصاص في هذا المكان خاص بالمؤمنين الذين يدخلون الجنة، أما الظلمة والكفرة فإن الاقتصاص منهم يكون قبل الصراط، فإذا نُقوا من جميع المظالم وهُذبوا وطُهورا أُذن لهم في دخول الجنة، وقد أخبر الله جل وعلا أنه ينزع ما في قلوبهم من غل، أي: كل ما كان لبعضهم على بعض من أحقاد أو أمور تغري فإنه يُنزع من قلوبهم بعد المقاصة والمحاصة، ثم بعد ذلك يؤذن لهم في دخول الجنة.
الشفاعة الأولى: الشفاعة الكبرى التي قال الله جل وعلا فيها: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79]، فـ(مَحْمُوداً) يعني: يحمده عليه الأولون والآخرون. ومعنى ذلك أن هذه شفاعة عامة شاملة للخلق كلهم من الجن والإنس، ولهذا سميت (كبرى)، وهذه الشفاعة هي الشفاعة في الموقف قبل الحساب، وقبل إتيان الرب جل وعلا إليهم، وهي الشفاعة في طلب المحاسبة والإراحة من عناء الموقف، وقد جاء تفصيلها في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصلها تفصيلاً يجب أن يؤمن به، وهذه هي التي يتدافعها أولوا العزم من الرسل، بل أول ما يبدأ في طلبها تطلب من أبي البشر آدم عليه السلام، وآدم يقول العلماء: إنه ليس من أولي العزم؛ لقول الله جلا وعلا: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115]، وإنما أولوا العزم هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، وهؤلاء ذكروا جميعاً في آيتين من القرآن في سورة الشورى وسورة الأحزاب، قال الله جل وعلا: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتأسى بهم في الصبر.
فيشتد الكرب في ذلك اليوم لطول الوقوف، وقد ذكر الله جل وعلا أن هذا اليوم يكون كخمسين ألف سنة، وقد جاء تفصيل ذلك في الأحاديث، كحديث الوعيد في الذي لا يؤدي الزكاة، وأنه إذا كانت زكاته ذهباً أو فضة يكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وإذا كانت زكاة غنم أو إبل أو غير ذلك فإنه يعذب بها، وكذلك جاء قول الله جل وعلا: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج:4-10]، وفي بعض الآيات أنه ألف سنة، كقوله تعالى: كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، وهذا يختلف باختلاف أعمال الناس، فمنهم يكون عليه أقل من ذلك، ومنهم من يطول عليه طولاً شديد فيكثر الكرب والشدة عليه.
فإذا طال الأمر على أهل الموقف يلهمهم الله جل وعلا فيقولون: لماذا لا نطلب إلى ربنا جل وعلا الشفاعة؟ فيقول بعضهم لبعض: من أولى بذلك من أبيكم آدم؟ فإن الله خلقه بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته. فيأتون إليه ويقولون له ذلك، فيقول: لست كما تظنون، أنا عصيت ربي، نهاني عن شيء فعصيته، وإن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني لا أسأل ربي إلا نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإن الله سماه عبداً شكوراً، وهو أول رسول أرسله الله جل وعلا إلى أهل الأرض. فيأتون إليه فيعتذر ويقول: كان لي دعوة دعوت بها على قومي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن، فيأتون إليه فيعتذر ويرسلهم إلى موسى، فيأتون إليه فيعتذر ويرسلهم إلى عيسى، فيأتون إليه فيعتذر ويرسلهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: إنه خاتم الرسل؛ فهو عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا كله يدل على شدة الموقف، وأن الأمر شديد جداً؛ فالأنبياء أولوا العزم يخافون، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم، كما قال: (فإذا أتوا إلي أذهب إلى مكان تحت العرش، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فيفتح علي من المحامد والثناء ما يرضى به عني، ثم يقول جل وعلا: أي محمد! أرفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فيطلب من ربه جل وعلا أن يأتي لمحاسبة عباده وإراحتهم من الموقف فيعطيه الله جل وعلا ذلك فيأتي.
وهذه هي أول شفاعة، وهي الشفاعة العظمى التي تشمل الخلق كلهم.
الشفاعة الثانية: شفاعته صلى الله عليه وسلم لقوم استحقوا دخول النار من أهل التوحيد في ألا يدخلوها، وهذه ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم، بل يشاركه فيها الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحون وغيرهم من الشفعاء.
الشفاعة الثالثة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في قوم دخلوا النار أن يخرجوا منها، فيشفع فيهم حتى يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ويشفع فيهم وهذه أيضاً ليست خاصة به، بل يشاركه فيها غيره من الأنبياء والملائكة وغيرهم من الشفعاء.
الشفاعة الرابعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في دخول أهل الجنة الجنة، وفي افتتاح باب الجنة، وهي خاصة به صلوات الله وسلامه عليه، وقد صحت أحاديث كثيرة في أنه صلى الله عليه وسلم أول من يفتتح باب الجنة، وأول من يدخلها، إذ لا يدخلها أحد من الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يدخلها أحد من الأمم قبل أمته صلى الله عليه وسلم.
الشفاعة الخامسة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، يشفع فيه فيخرج من طبقات النار ويوضع في ضحضاح من نار يصل كعبيه يغلي منها دماغه، يعني: أنه يخفف عنه عذاب النار فقط، وإلا فهو لن يخرج منها، وهذه أيضاً خاصة، ولا تنافي الآيات كقوله جل وعلا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] وما أشبه ذلك من الآيات الكثيرة؛ لأن هذا دليل خاص، فيخص العموم؛ ولا يكون ذلك مخالفاً.
الشفاعة السادسة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع بعض درجات أهل الجنة وهذه أيضاً ليست خاصة به، بل يشاركه فيها غيره من الشفعاء. فهذه ستة أقسام قد صحت فيها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما القسم الأول والقسم الخامس والسادس يعني: شفاعته في الموقف، وشفاعته في افتتاح الجنة، وكذلك شفاعته في رفع درجات بعض أهل الجنة هذه الثلاثة الأقسام لا خلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدعة.
وأما الذي أنكره أهل البدع: المعتزلة والخوارج ونحوهم فالشفاعة في الذين ارتكبوا الكبائر وماتوا عليها بلا توبة، وكذلك الشفاعة فيمن دخل النار فإن هذه ينكرونها؛ مع أن الأحاديث فيها متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتجوا في إنكارهم بآيات من كتاب الله جل وعلا كقوله جل وعلا: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19] ، وكقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:48] وكقوله جل وعلا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] في آيات كثيرة.
وهذه عادة أهل البدع أنهم يأخذون عمومات من كتاب الله بدون النظر والرجوع إلى الأمور المحكمة والآيات التي تنص على غير ذلك؛ فيضعونها على حسب مرادهم، ويضربون بعضها ببعض، فيتأولونها ابتغاء الفتة وابتغاء أهوائهم وما توافقه آرائهم، وهكذا شأن أهل البدع. فيجب على المؤمن أن يؤمن إيماناً جازماً لا يختلجه شك بأن كلام الله جلا وعلا وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتعارضا، وأن بعضه يوافق بعض، ويصدق بعضه بعضاً، وإذا بدا للإنسان شيءٌ من التعارض فإن هذا توهم منه وقصور، فالتعارض موهوم وليس حقيقة؛ لأن كلام الله لا يتعارض، ولا يجوز أن نأخذ البعض ونترك البعض. هذا الرد الإجمالي.
أما الرد التفصيلي على هؤلاء فبالنصوص التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتلالهم بأنها أخبار آحاد لا يقبل، بل أكثر أمور الإسلام أخبار آحاد، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك كما هو معلوم، فهذه تكية يتكئ عليها أهل البدع ويعتلون بها وهي باطلة، وقد ألف فيها العلماء مؤلفات كثيرة، وبينوا بطلانها، واحتجوا عليها بحجج كثيرة جداً.
القسم الأول: عمموها وجعلوها تقع بلا شروط. وهؤلاء هم المشركون الذين زعموا أن أصنامهم تشفع لهم، وتبع هؤلاء المشركون في كل طبقة من طبقات الناس الذين يتعلقون بالمخلوقين، كالذين يدعون الأولياء أو الأنبياء أو غيرهم، ويزعمون أنهم إذا دعوهم شفعوا لهم ولو لم يأذن الله ولم يرض، وهذا القسم قد أبطله القرآن صراحة، وهو ضلال.
القسم الثاني من الناس: الذين آمنوا ببعض وردوا بعضاً، كما ذكرنا عن الخوارج والمعتزلة ونحوهم، فهؤلاء آمنوا ببعض الشفاعات وردوا بعضها الآخر، فالشفاعة الكبرى التي لا يدخل فيها أحد النار أو الجنة وإنما هي لأجل الجزاء والمحاسبة هذه أقروا بها، والشفاعة التي تكون لافتتاح الجنة لأهل الجنة لأنها ليس فيها لهم نجاة من نار ولا منع عقاب استحقوه وإنما دخولهم الجنة بأعمالهم أقروا بها، أما الذي يدخل الجنة فلا مانع بأن يشفع له فيرتفع في الدرجات، هذه الأمور أقروا بها، أما الشفاعة فيمن يستحق النار ألا يدخلها أو فيمن دخلها أن يخرج منها فهذه أنكروها، وبذلك ضلوا.
القسم الثالث: الذين اتبعوا النصوص، وهم أهل الحق، أهل السنة الذين اتبعوا النصوص وقالوا بمقتضاها، وهذا هو الذي أُريد ذكره وتقريره هنا في هذه العقيدة المختصرة.
القسم الأول: الإذن للشافع أن يشفع. إذ لابد أن يأذن الله جل وعلا للشافع قبل أن يشفع، ولا يمكن أن أحداً من الخلق مهما كان مقامه أن يتقدم ويطلب الشفاعة بدون إذن الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وهذا استفهام إنكار.
الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع له. إذ لابد أن يرضى الله جل وعلا عن المشفوع له؛ لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى [الأنبياء:28] في آيات بينت هذا، ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه) أي أنه لابد أن يكون موحداً.
فإذا كانت الشفاعة لابد أن تكون بإذن الله ولمن رضي فقد يقول قائل: فما فائدة الشفاعة؟ فنقول: فائدتها هي إكرام وإظهار كرامة الشافع ورحمة المشفوع، هذه حقيقتها.
وعلى هذا فما استدل به أهل البدع على نفي الشفاعة من الآيات ليست في المؤمنين الموحدين، وإنما هذه الآيات في الكافرين؛ لأنهم هم الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين، وهم الذين لا تقبل فيهم الشفاعة ولا يقبل منهم الفداء.
فالواجب التمييز بين أهل الإيمان الذين ماتوا على الإيمان وإن كان عندهم ذنوب وبين الكافرين، وحقيقة الأمر أن الشفاعة لأهل التوحيد المذنبين الذين ماتوا على كبائر وذنوب استحقوا بها دخول النار أو دخلوا بالفعل، ثم من وراء هذا كله رحمة أرحم الراحمين؛ فإنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وقد جاءت النصوص في أن الله جل وعلا إذا أدخل أهل الجنة الجنة بقي فيها فضل ومساكن ليس فيها أحد، فينشئ الله لها خلقاً جديداً ويسكنهم الجنة، وجاءت النصوص أيضاً في أن الله يخرج أناساً من النار قد احترقوا فليقيهم في نهر من أنهار الجنة، ثم ينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يسكنهم الله جل وعلا الجنة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر