الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقوله: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا) متفق عليه ].
هذا الحديث جاء عن عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض العلماء: إنه بلغ حد التواتر، أما الاستفاضة فلا إشكال في أنه مستفيض عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول يحيى بن معين : (عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحيحة) وقد بلغت أكثر من ذلك، وقد ألف العلماء في هذه المسألة مؤلفات خاصة، مثل: الدارقطني والآجري وغيرهما، وهذه المؤلفات معروفة عند طلبة العلم؛ وذلك لأن هذه المسألة كبيرة جداً، وأهل السنة يتميزون بإثباتها خلافاً لأهل البدع.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم) فيه تأكيدات بليغة؛ فأكد بـ(إن) ثم بـ(السين) التي تدل على التأكيد أيضاً ثم بالفعل، وكل هذه تأكيدات بليغة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : لو أن إنساناً تكلف أن يأتي ببيان أكثر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما استطاع أن يأتي بكلام فيه إثبات الرؤية بأكثر من هذا البيان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُعطي البلاغة والفصاحة، كما أنه أعرف الخلق بالله جل وعلا بما يجب له وما يستحيل عليه، وقد وكل الله جلا وعلا إليه بيان الإيمان للناس، وبيان ما نزل إليهم، وهناك أمور كثيرة تدل على وجوب اعتقاد أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم حق يجب أن يؤخذ به، ومن المعلوم أن أهل السنة لا يترددون في هذا، بل غاية مقصودهم أن أحدهم يسأل أن يمكنه ربه جل وعلا من رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، والغريب أن طوائف من المبتدعة ينكرون أفضل ما يجزي به رب العباد عباده، وأفضل ما ينعم به عليهم، وهذا بناء منهم على بدعهم الضالة، وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون الصفات بحسب النصوص، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة متواترة على إثبات الرؤية كما تقدم في الآيات، والنظر إلى الله جل وعلا ثابت في عرصات القيامة في المواقف؛ فإن الله جل وعلا يراه عباده المؤمنون، وكذلك يرونه إذا دخلوا الجنة، وهذا هو الذي يكون نعيماً، كما أن الأول أيضاً من النعيم والكرامة، ومقابل النعيم العذاب، فإن الكفار يحجبون عن رؤية الله جل وعلا تعذيباً لهم.
وأما الأحاديث في هذا الباب فهي كثيرة جداً وصريحة وواضحة، ومن المعلوم عند أهل السنة أن ما دلت عليه الأحاديث هو كالذي دلت عليه الآيات، ولا فرق، فيجب قبوله والإيمان به، ولا عذر لمن أنكر ذلك.
أما الشبه الواهية التي يتعللون بها فهي أصل دينهم الذي بنوا عليه مذهبهم؛ فإنهم يقولون: إن العقل: هو الذي يرجع إليه، ويسمون أدلة العقل: براهين.
أما أدلة الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالة الآيات فيجعلونها ظنية، وهذا من أبطل الباطل، ولا ينطلي على أهل الحق مثل هذا الكلام، ولا يؤثر في عقيدتهم، ولكن قد يوردون بعض الشبه التي تؤثر على بعض من لم يعرف الحقائق.
وأهل الباطل مذهبهم: أنهم لا يستدلون بدلالة الآيات، وبدلائل الأحاديث إلا إذا كانت لهم، فكيف يكونون أهل العدل وهكذا يصنعون؟!
واستدلوا على نفي الرؤية بقول الله جل وعلا: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، مع أنهم يقولون: دلالة النصوص ظنية، فلا يثبت بها ما هو من العقائد!
واستدلوا أيضاً باللغة وكذبوا عليها؛ قالوا: إن اللغة العربية تدل على تأبيد النفي، وهذا ليس صحيحاً، ولهذا نص ابن مالك في الألفية على نفي ذلك، وإبطاله؛ لأنه معروف مشهور. ولا يجوز لمسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أن يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن رده فمعنى ذلك: أنه لم يشهد أن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: اعتقاد أنه رسول، وطاعته في أمره، واجتناب نهيه، وإلا لم يكن قائلها صادقاً في كونه شهد أن محمداً رسول الله وهو يرد قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يؤْمِنونَ حَتَّى يحَكِّموكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهمْ ثمَّ لا يَجِدوا فِي أَنفسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيسَلِّموا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فالأمر ليس سهلاً، ولا يجوز أن يتساهل في مثل هذه القضية؛ لأنها قضية إيمان وكفر، وليس معنى هذا أننا نقول: إن هؤلاء الذين أنكروا الرؤية كفار ينطبق عليهم ما ينطبق على الكفار، ولكن نقول: هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأن الله أخبر أنه ينتفي الإيمان عند ذلك.
وأكبر الشبه التي قالوها وهي أصل دينهم أنهم قالوا: إننا عرفنا الله جل وعلا بحدوث الأجسام، وكيف عرفوا الله بحدوث الأجسام؟! يقولون: إن هذه المخلوقات إذا نظرنا إليها فإنها فقيرة، تعتريها العوارض، مثل الجهل والعلم، والمرض والصحة، والكبر والصغر، والموت والتغير، وما أشبه ذلك، وهذه كلها تدل على أنها محدثة، فنقول: نعم، هذا صحيح، فيقولون: إذاً: الأصل هو هذا، والذي صار فقيراً محدثاً وجد بعد أن لم يكن موجوداً، فلابد أنه يموت ويتغير، ولا يجوز بتاتاً أن يكون الموجد له مشابهاً له في شيء من الأشياء، وإلا بطلت الأدلة نهائياً، وبطلت الأديان، هكذا يزعمون، وهذا قولهم، فعلى هذا يقولون: لابد أن يكون جسماً؛ لأن النظر لابد أن يقع على مقابل، ولا يكون الشيء مقابلاً إلا إذا كان جسماً، فيلزم الذين يثبتون الرؤية أن يثبتوا الجسمية، وأن يقولوا: هو جسم، وهذا كفر، هذه هي أكبر شبهة قالوها، وقد التزمها أعداؤهم مثل الكرامية فقالوا: نعم، نقول بذلك، ونحن أسعد بالنصوص منكم؛ لأن هذا دلت عليه النصوص، فنحن نقول به، ولا ضير علينا أن نقول: إن الله جسم؛ لأن النصوص دلت على ذلك، وقول هؤلاء، وقول هؤلاء باطل بلا شك، ولكن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإنسان إذا قرأ كتب أهل البدع لا يستفيد شيئاً إلا إبطال أقوال بعضهم ببعض، فيعرف أن قول هذا باطل بقول هذا؛ لأن كل واحد من هذه الفرق يبطل قول الفريق الثاني.
والرد الصحيح الذي يجب أن يرد به على هؤلاء من وجوه: الوجه الأول: أن نقول: كلامكم هذا أصله مبتدع، وأصل المسألة بدعية، والرسل لم يأتوا يأمرون الناس بأن ينظروا إلى الأعراض وإلى الأجساد؛ حتى يستدلوا بها على الله جل وعلا؛ لأن معرفة الله أمر فطري مركوز في الفطر، والرسل تأتي بالإيمان الذي يكون بالوحي، والخلق ليسوا بحاجة إلى ما قاله أصحاب الاعتزال من هذه الافتراضات التي قالوها وجعلوها أصل الدين، ثم بنوا على ذلك أن الذي لا يعرفها لا يكون مؤمناً، فإن أصل مقالتهم فاسدة ومردودة.
الوجه الثاني: أننا كُلفنا بالإيمان وقبول ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بلا رجوع إلى عقولنا في ذلك.
الوجه الثالث: أن الله جل وعلا أخبرنا أنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهوَ السَّمِيع البَصِير [الشورى:11]، فهو جل وعلا له سمع وله بصر وله وجه وله يدين حقيقة كما أخبر، ولكن ليست هذه الصفات كصفات خلقه؛ لأنه كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء [الشورى:11].
الوجه الرابع: أننا نؤمن حقاً بأن الله جل وعلا له ذات، وأنه مستوٍ على عرشه، وكل ما كان له ذات ووجود يصح في العقل نظره، مع تضافر الشرع على ذلك، وليس في هذا أي محذور، وهذا هو الذي جاء به القرآن، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن لا نلتفت إلى ما قاله المعتزلة وإخوانهم الذين سلكوا هذا المسلك، فإذا جاءوا بشبه نحو هذه الشبه نقول: هذه مردودة جملة وتفصيلاً، أما الإجمال فنعرف أن كل ما خالف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل، وأما التفصيل فبنحو ما ذكرنا، وقد أبطل العلماء أقوال هذه الطائفة المبتدعة الضالة من وجوه كثيرة، وهذه الطائفة ضلت في عقلها وفي دينها، وصارت تتبع الشبه، وتترك النصوص الواضحة الجلية، والأمر كما قال الله جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قلوبِهِمْ زَيْغ فَيَتَّبِعونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه [آل عمران:7]، مع أن هذا ليس فيه تشابه في الواقع، بل هو جلي وظاهر، وما أكثر النصوص التي دلت على هذا! والعلماء استدلوا على هذا كما سبق بأدلة كثيرة، ومنها مجملة؛ مثل لفظ: اللقاء، فكل آية جاء فيها لفظ اللقاء فإنها تدل على الرؤية، كقوله جل وعلا: يَا أَيّهَا الإِنسَان إِنَّكَ كَادِح إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَملاقِيهِ [الانشقاق:6]، وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَظنّونَ أَنَّهمْ ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهمْ إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة:46]، وما أشبهها، وهي كثيرة جداً، فاللقاء في اللغة هو: المعاينة بعد المسير والكدح، فهو يتضمن الرؤية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وبهذا يتبين لنا أنه لا عذر لمن أنكر الرؤية، وأنه خليق بأن يحرمها يوم القيامة، وأنه أنكر أعلى نعيم أهل الجنة، وكل مؤمن بالله جل وعلا يجهد في دعائه ربه أن يبيحه النظر إلى وجهه الكريم.
وقوله: (لا تضامّون في رؤيته)، هكذا جاء بضم التاء وتخفيف الميم، ويكون ذلك من الضيم، وهو: الظلم، يعني: لا يلحقكم في رؤيته ضيم، أي: أنكم تتمكنون من الرؤية تمكناً تاماً ليس فيه أي نقص، وجاء أيضاً: تضامّون بتشديد الميم، يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض عند الرؤية، مثل إذا كان هناك الشيء الخفي، فإن العادة أن الناس يساعد بعضهم بعضاً على رؤيته، فإنه رؤية الهلال، فكل واحد يقرب إلى الثاني حتى يساعده على رؤيته، وأما الله جل وعلا فلا يحتاج في رؤيته إلى ذلك، والله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وسبحات وجهه أي: بهاؤه وجماله ونوره، ومعلوم أنه لا يحجب بصر الله شيء أبداً، فهو بصير بكل شيء، فلولا الحجاب لاحترق كل شيء بنوره جل وعلا، ولكن في الآخرة المؤمنون قد كمل إيمانهم؛ ولذا أعطوا الكمال الذي ليس فوقه شيء للمخلوق؛ فلهذا صح أن يروا ربهم جل وعلا، ويدل على ذلك أن الرؤية لا تمكن في الدنيا، كما جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم في قصة الدجال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، وفي قصة موسى عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي أَنظرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] يعني: في هذه الدنيا، فجعل مثالاً لذلك أن الجبل إذا ثبت للرؤية فإنه يمكن ثبوتك، فلما تجلى ربه للجبل تدكدك الجبل، عند ذلك (خر موسى صعقاً) فلما أفاق قال: سبْحَانَكَ تبْت إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّل الْمؤْمِنِينَ [الأعراف:143].
والمقصود من ذلك: أن الرؤية المنامية ليست حقيقية، وهي ممكنة، ولكن هؤلاء الذين أثبتوا الرؤية في الدنيا لا يقصدون هذا؛ لأن هذا لا خلاف فيه بين أهل السنة، وإنما يقصدون الحقيقة، وهؤلاء هم أصحاب أمراض وأوهام وخيالات، فيخيل إليهم أنهم يرون شيئاً، وأحياناً يكونون أصحاب شطحات في عبادة الله جل وعلا ومعاملته، فيخيل لهم الشيطان أنه ربهم، فيتراءى لهم، وربما جلس على كرسي بين السماء والأرض وقال لهم: أنا ربكم، فيصدقون ذلك، فإذا قال أحدهم: إني رأيت ربي فهو رأى الشيطان.
القسم الثاني: الذين نفوا الرؤية في الدنيا والآخرة. أما الدنيا فلا إشكال فيها؛ فهي منفية، ولكن الباطل هو نفيها في الآخرة.
القسم الثالث: هم الذين توسطوا وأثبتوا ما أثبته الله جل وعلا وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (كما ترون القمر)، قلنا: إن هذه الكاف كاف تشبيه، والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية، وليس تشبيه المرئي بالمرئي، يعني: أن التشبيه ليس تشبيه القمر بالله جل وعلا، وإنما هو تشبيه رؤية الرب جل وعلا في الوضوح والجلاء بالقمر ليلة البدر في الوضوح والجلاء.
وقوله: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)، يقول العلماء: في هذا فضل هاتين الصلاتين، وتأكيد للمحافظة عليهما، وهذا فيه الإشارة إلى أن الصلاة هي أفضل الأعمال، وأن الذي يحافظ عليها -خاصة في هذين الوقتين- يجزى بالرؤية؛ لأن الرؤية هي أعلى النعيم، والصلاة هي أفضل الأعمال، هذه هي المناسبة في ذكر الصلاة هنا، وبعض العلماء ذكروا مناسبة أخرى، فقالوا: إن أعلى أهل الجنة يرى ربه بكرة وعشياً، فمن حافظ على هاتين الصلاتين التي إحداهما في البكور، والأخرى في العشي؛ فإنه يرى ربه بكرة وعشياً جزاءً له على المحافظة على هاتين الصلاتين، ومن حافظ عليهما لزم أن يحافظ على بقية الصلوات.
فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة.
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية. وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم.
وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية.
وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج ].
هذه قاعدة ذكرها الشيخ رحمه الله في طريقة أهل السنة في قبول النصوص، وفي المنهج والتلقي، ومعلوم أن العمل والعقيدة لابد أن يُبنى على نصوص؛ فهم لا يفرقون بين الكتاب والسنة، فكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم ما قاله الله جل وعلا.
ولما كانت الأحاديث التي ذكر قليلة، والأحاديث في صفات الله جل وعلا وأسمائه كثيرة قال: (إلى أمثال هذه الأحاديث) يعني: هناك أحاديث كثيرة، ولكن المقصود: بيان طريقة أهل السنة ومنهجهم، ويجب على الإنسان أن يعرفه، فإذا عرفه سلك ذلك في كل حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان صحيحاً أو حسناً؛ فإن الحسن من أقسام الصحيح كما هو معروف، ويثبت به ما يثبت بالصحيح من العقائد وغيرها، وأما إذا كان الحديث قد قبلته الأمة واستفاض فيها فهذا بلا شك يفيد العلم كما قرر ذلك علماء أهل السنة، وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك، وقال: الحديث إذا صح سنده فهو يفيد العلم، فالأحاديث إذا صحت أسانيدها أفادت العلم، كأحاديث البخاري ومسلم ؛ فإذا اتفقا عليها فإنها تفيد العلم، وبنوا على هذا أحكاماً فقالوا: لو أن إنساناً طلق زوجته وقال في حديث في الصحيحين: زوجتي طالق إن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الحديث؛ فإنها لا تطلق؛ لأن هذا معلوم أنه قاله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس تمثيل هذا هو المقصود، بل المقصود هو البناء على كل ما صح سنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أنه حق، أما بعض الألفاظ التي قد يكون سندها صحيحاً ولكن قد تكون غلطاً فهذه نادرة جداً، ومن المعلوم أن احتمال الغلط والخطأ وارد، ولكن إذا قبلته الأمة، ولاسيما الذين لهم معرفة بالآثار وبالرجال وبأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا الاحتمال يكون ضعيفاً جداً فلا يلتفت إليه، أما الغلط الذي قد يقع في أحاديث صحيحة فهو كما مر في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر احتجاج الجنة والنار، قال: (ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يلقي فيها رب العزة جل وعلا قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض. وأما الجنة فلا يزال فيها فضل مساكن فينشأ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة)، هذا الحديث جاء في الصحيحين منقلوباً؛ لأنه جعل ما للجنة للنار وما للنار للجنة، ولكن البخاري رحمه الله بين أنه غلط بذكر الصواب بعده مباشرة، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : طريقة البخاري إذا وقع في حديث من الأحاديث غلط في متنه أو في سنده فإنه لا يتركه، بل لابد أن يبينه، لكن بيانه ليس بالتصريح والقول؛ لأن عادته التي جرى عليها أنه يعتني بالإشارات، ويعتني بالأمور التي تتطلب فهم ونظر، وذلك لتدريب الطالب على الاستنتاج والاستخراج من النصوص. وكذلك حديث التربة الذي في صحيح مسلم : (خلق الله التربة يوم السبت) قال العلماء: هذا غلط، لأن يوم السبت ليس فيه خلق، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وجاء في الأحاديث الصحيحة أنه خلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، وأنه عليه السلام آخر الخلق، فآخر الأيام التي خلق الله فيها الخلق هو يوم الجمعة، فيكون أولها هو يوم الأحد.
وما جاء في الصحيحين من هذا فهو نادر ولا ينظر إليه، ولكن المقصود أن الأحاديث إذا جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح سندها، لا فرق بين كونها في صفات الله جل وعلا وأسمائه، أو في الأحكام التي فيها المعاملات وفيها الحلال والحرام، فلا فرق بين هذا وهذا، والذين فرقوا بين الفروع والأصول هم أهل البدع، أما أهل السنة فإنهم لا يفرقون بين أصول وفروع، بل كل ما ثبت به حكم من أحكام الفروع فهو مثل الذي يثبت به أصل من أصول الشرع. ولهذا قال: ( إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة ).
قوله: (الفرقة الناجية) سيأتي تفصيل ذلك.
وأما قوله: (أهل السنة والجماعة) فهو وصف آخر؛ لأن الفرقة الناجية يجب أن يكونوا على سنة، وقوله: الجماعة؛ لكونه يجب أن يكونوا مجتمعين، ولا يجوز أن يكون بينهم اختلاف وتفرق، فإن كان بينهم الاختلاف والتفرق، فقد تركوا صفة من الصفات التي يجب أن تكون لهم، فأهل السنة لا يتفرقون، بل يجتمعون على الحق، وإن كان بينهم تفاوت في الفهوم والنظر فإن هذا لا يدعو إلى التفرق، ولا إلى التباغض والتنابز والتقاطع، فإن هذا ليس شأن أهل السنة، وهذا شيء معروف.
قوله: (يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله جل وعلا به في كتابه) يعني: أنه لا فرق بين أن يكون الاسم أو الصفة ثبت بالكتاب أو ثبت بحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كله حكمه واحد يجب قبوله والإيمان به.
وأما التعطيل فهو إخلاء النص عن معناه الذي أراده المتكلم؛ لأن التعطيل مأخوذ من العطل وهو الخلو كما سبق.
وقوله: ( من غير تكييف ) ، التكييف هو: طلب معرفة كيفية الشيء، وأهل السنة لا يسألون عن الكيفية؛ لأن الكيفية لا مطمع فيها؛ وذلك أن الكيفية تتطلب أمرين لابد منهما: أحدهما: المشاهدة، أن ترى الموصوف وتشاهده بعينك؛ لأن الكيفية هي حكاية الشيء على ما هو عليه، فإذا رأيته تستطيع أن تصف الكيفية التي رأيت، والله لا يرى، ولا أحد يشاهده سبحانه في الدنيا.
الأمر الثاني: أن يكون له نظير نراه ونشاهده، والله جل وعلا ليس له نظير، تعالى الله وتقدس، وبذلك ينقطع الطمع في إمكان الحصول على الكيفية، فالكيفية لا مطمع فيها، والله جل وعلا لا يدرك تعالى وتقدس ولا يحاط به، وإن رُؤي في الآخرة فالرؤية تكون لوجهه جل وعلا، كما قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، وليس كما يقوله أهل البدع أن نفي الإحاطة تدل على نفي الرؤية، كلا. ولكن الإحاطة هي: أن يدرك الشيء من جميع جوانبه، والله جل وعلا أكبر وأعظم من كل شيء، فهو لا يدرك ولا يحاط به، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك، كما قال جل وعلا في قصة موسى مع فرعون لما رأوا فرعون وجنوده خلفهم والبحر أمامهم: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61-62].
وليعلم أن التشبيه أصبح أمراً إضافياً، فكثير من الكتب والمؤلفات فيها ذكر التشبيه وذم أصحابه، ولو أنك بحثت عن طائفة معينة لها كتب مستقلة، ولها أئمة وعلماء يسمون المشبهة فلن تجد ذلك، والسبب في هذا: أن كل فريق إذا خالف فريقاً آخر أو أثبت ذلك الفريق المخالف خلاف ما يقوله هذا الفريق سماه مشبهاً، ولهذا متطرفة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الأسماء، والمعتزلة يسمون الأشعرية مشبهة؛ لأنهم يثبتون بعض الصفات، والأشعرية يسمون أهل السنة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وهكذا أصبح مفهوم التشبيه على حسب الاعتقاد، وقد يكون في الواقع ليس صحيحاً، وبعض الناس رمي بالتشبيه وليس ثابتاً عنه، وهذا يوجد في كتب المقالات، مثل مقاتل بن سليمان يقولون عنه: إنه مشبه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ما أظن ذلك يثبت عنه، وما وجدت شيئاً من كلامه يستدل به على ذلك، والذين رموه بالتشبيه أخذوا ذلك من أعدائه، والآن قد طبع كثير من كتبه مثل التفسير وغيره، ومعلوم أن التفسير هو مظنة ذلك، ولا يوجد في تفسيره كلمة واحدة تدل على أنه مشبه، وهذا يعطينا فائدة وهي: أن الإنسان يجب عليه أن يتثبت، فإذا قيل له: إن الطائفة الفلانية كذا وكذا وفيها كذا وكذا، فيجب أن يرجع إلى كلامها أو إلى كلام الشخص نفسه، ولا يأخذ هذا من كلام الناس، وهذا في الواقع خطأ يضر كثيراً جداً، فتجد إنساناً -مثلاً- ينقل عن آخر قولاً يكون خطأ؛ لأنه فهمه على غير مراده غلطاً، فينقل عنه شيئاً حسب ما فهم، وربما انتشر ذلك فنسب إليه قول لم يقله، وهذا كثير، فالواجب على الإنسان أن يتثبت في مثل هذه الأمور، ويكون على بصيرة، ولا يغتر بالنقل، وليس كل من نقل شيئاً أخذ به، وإنما تؤخذ العقائد وأقوال الناس من كتبهم، ومنهم أنفسهم، ولا يؤخذ من أعدائهم؛ لأن العدو قد يقول عن عدوه ما لم يقله، وهذا لا يسري على جميع الناس؛ فإن أهل الحق الذين هم أهل السنة يمنعهم إيمانهم وخوفهم من الله أن يقولوا على الإنسان ما لم يقله، فأقوالهم إذا قالوها فهي موثوق بها.
وأصحاب المقالات يتناقلون الأقوال بعضهم عن بعض.
القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق، وهو كثير جداً في الناس، والتشبيه يكون ولو في حق من الحقوق، فمثلاً: المشركون مشبهة؛ حيث جعلوا أصنامهم آلهة فشبهوها بالله جل وعلا، وكذلك العابدون الذين يعبدون غير الله، أو يجعلون للمخلوق ما هو خالص حق الله ولو كان جزئياً، فإنهم يكونون مشبهة في ذلك، وهذا أقبح التشبيه وأخبثه، وصاحب هذا التشبيه إذا مات عليه فإن الجنة عليه حرام، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وقال جل وعلا: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فهذا هو الشرك الأكبر الذي هو تشبيه المخلوق بالخالق تعالى وتقدس، وهذا جاء تفصيله في القرآن كثيراً، ولكن أصحاب المقالات والمتكلمون أعرضوا عن هذا فوقعوا فيه، كما سيأتي التنبيه على ذلك.
الجواب: لا فائدة من هذا السؤال، والعلماء يقولون: هي ممكنة؛ لأن موسى عليه السلام سألها ربه، وموسى عليه السلام لا يسأل شيئاً غير ممكن، ولكنها غير واقعة، فهي ممكنة عقلاً وغير واقعة فعلاً.
الجواب: هذا ذُكر، ولكن هل يصح عنه أو لا؟!
جاء عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: مذهبان جاءانا من الشرق: مذهب مقاتل ومذهب جهم، وهما متطرفان: واحد في نفي الإثبات، وواحد في التشبيه. وجاءت عنه أقوال ولكن كلها غير صحيحة وغير ثابتة؛ فيجب أن يتثبت في هذا الشيء؛ لأن أعداءه كانوا ينشرون عنه هذه الأشياء، وهو أيضاً جاءت عنه أقوال تنفي هذا، فقد استدعاه أحد الأمراء فقال: إنهم يقولون: إنك مشبه؟ قال: أما أنا فإني أقول: إن الله سميع بصير، وإنه ليس كمثله شيء، هكذا قال، فالمقصود: ثبوت الشيء الذي ينقل أو يقال؛ لأن الشيء الذي يقال كثير.
الجواب: هذا في الجنة، فإن رؤية النعيم في الجنة هي لوجهه جل وعلا، وأما هذه فهي علامة جعلها الله بينه وبينهم، يعرفونه بها؛ فهذه الرؤيا تكون في العرصات في الموقف، فإنه سبحانه يأتيهم متنكراً لا يعرفونه -وذلك من الابتلاء- فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيقول: هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون: نعم، الساق، فإذا كشف عن ساقه خروا له سجداً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر