[وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع؛ فيبرأ) حديث حسن، رواه أبو داود وغيره، وقوله : (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!)حديث صحيح، وقوله : (والعرش فوق الماء. والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)حديث حسن، رواه أبو داود وغيره ].
ذكر المؤلف فيما مضى الأحاديث التي فيها إثبات صفات الفعل لله جل وعلا مثل: النزول، والفرح، والعجب، ثم أتبعها أيضاً بصفة فعل مقترنة بصفة ذات، وهي وضعه قدمه في جهنم جل وعلا، وفي رواية: (رجله)، وسبق أن المقصود هنا الوضع الذي هو فعله، والرجل والقدم من صفات الذات، وكذلك أتبع هذا بصفة تكون مشتركة بين الفعل والذات، فمرة تكون صفة ذات، ومرة تكون صفة فعل، وهي الكلام، فالقول مشترك بين هذا وهذا، وذكر أنه جل وعلا في الحديث ينادي آدم، والمناداة من أدل الدلائل على إثبات الكلام لله جل وعلا، ووجه كون هذه الصفة صفة ذات: أنه جل وعلا لا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات منفياً عنه الكلام؛ لأن الكلام صفة كمال، ولا يمكن أن يكون جل وعلا خالياً من الكمال.
ووجه كونها صفة فعل: أن الكلام يتعلق بمشيئته، يعني: لا يكون دائماً متكلماً، وإنما يتكلم إذا شاء بالشيء الذي يشاؤه، ومراد المؤلف بهذا الرد على أهل البدع؛ لكونه نص في هذا الحديث بقوله: (يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك)، وذلك أنهم قالوا: إن الكلام ينقسم إلى قسمين:
كلام لفظي حرفي، وكلام معنوي نفسي، أما الكلام الذي هو بالحرف واللفظ فلا يختلف أهل البدع في أن الله لا يوصف به، فالأشاعرة والكلابية وأصلهم المعتزلة والجهمية وغيرهم من الفرق الضالة متفقون على هذا، فكلهم نفوا هذه الصفة التي هي صفة كمال، فنص الشيخ رحمه الله على هذا الحديث؛ لأن فيه دلالة ظاهرة على إبطال هذا الزعم وهذا القول؛ لأن النداء والقول لا يمكن أن يقال: إنه بالنفس، أو إنه معنى مستحيل، وإذا تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بكلام فكلامه هو الهدى، وفيه الشفاء، وهو واضح جلي، فاكتفى بهذه الإشارة في الرد عليهم، وقد سبق أن ذكرنا بعض الأوجه الواضحة الجلية في إبطال هذا المذهب الباطل، والفطر تبطله، والشرع والعقل يبطله، بل إجماع الرسل والأمم المؤمنة كلها على خلافه، وذكرنا من الأوجه السابقة: أن الله جل وعلا يتحدى الخلق على أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال تعالى: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ولو كانوا متساعدين ومتعاونين لا يمكن أن يأتوا بمثله، فهل الله يتحدى الخلق بأن يأتوا بشيء في نفسه؟! تعالى الله وتقدس! وهم يجعلون هذا القرآن الملفوظ به المسموع المتكلم به عبارة عن كلام الله، ومعلوم أن العبارة تحتاج إلى معبر، فمن المعبر عندهم؟ لا يخرج المعبر عن شيئين: إما أن يكون الرسول الملكي أو الرسول البشري، وبهذا يتفقون مع إخوانهم بل مع أساتذتهم المعتزلة أن القرآن مخلوق، وهذا كفر بالله جل وعلا، وقد ذكر الشيخ رحمه الله في الرد على هؤلاء ما يقرب من تسعين وجهاً، كل وجه من الأوجه يكفي في إبطال هذا المذهب الباطل، وذلك في كتابه الذي يسمى التسعينيات، ومن المعلوم أن الله جل وعلا ذم الكافر الوحيد الذي فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [المدثر:18-23].
ثم بعد هذه الأمور التي وقعت له من الاجتهاد يأتي بقول يمكن أن يرضاه بعض من لا يطلع على الحقائق، ويلتبس عليه الأمر فقال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، يعني: إن هذا الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم قول البشر، فقال الله جل وعلا متوعداً له: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، فهذا الوعيد في الواقع يستحقه هؤلاء الذين يقولون: إنه قول الملك أو قول البشر، وزعموا أن لهم دليلاً على هذا، وهو قول الله جل وعلا: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:38-40]، قالوا: أضافه إليه مما يدل على أنه يقوله، وهكذا أهل الباطل يتمسكون بالأمور المشتبهة الملتبسة على بعض الناس، ويفرحون بمثلها كما وصفهم الله جل وعلا: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، هذا شأنهم، ويقال لهم: إنه أضيف إليه؛ لأنه هو الذي يبلغه، وما جاء به شيطان أو كذاب، بل جاء به رسول من عند الله، فأضيف إليه لأنه هو الذي كلف ببلاغه؛ ولهذا جعل في هذه الآية قولاً للرسول البشري صلوات الله وسلامه عليه، وفي الآية الأخرى أضيف إلى الرسول الملكي: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20] وهذا هو جبريل عليه السلام، فدل على أنه أضافه إليه؛ لأنه جاء به من الله فبلغه، فالرسول الملكي بلغه إلى الرسول البشري صلوات الله وسلامه عليهما، والكلام في الحقيقة مضاف إلى من قاله مبتدئاً منشئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، فهاتان هما الآيتان اللتان تمسك بهما هؤلاء المبطلون، وتركوا الآيات الواضحة التي يقول جل وعلا فيها: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13] وما أشبهها كقوله: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّه [الزمر:1]، فكثير جداً تأتي آيات واضحة جلية لا تحتمل التأويل، وكقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] ومن المعلوم أنه يسمعه ممن يبلغه سواء كان الرسول أو غير الرسول، وأخبر جل وعلا أنه خص موسى بالكلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهذه آيات واضحة جداً ما فيها إشكال، وقد حذرنا الله جل وعلا من الذين يتركون الواضح الجلي، ويتمسكون بما هو مشتبه، ومعلوم أن الذي فيه اشتباه يجب أن يرد إلى المحكم الواضح الجلي، فيتفق هذا مع هذا، ويصبح ليس هناك أي اشتباه، وهذا هو شأن طالب الحق، أما الذي في قلبه مرض وانحراف فيمكن أن يستدل على الكفر الصريح بشيء من القرآن كما استدل النصارى على التثليث لقوله جل وعلا: (إنا.. ونحن) وما أشبه ذلك مما هو في القرآن، ومعلوم أن هذا باطل، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي أن عقيدة المسلم أن كلام الله حق، وأنه لا يدل على الباطل، وكذلك قول الرسول، فإذا جاء مبطل يستدل على باطله بشيء من كلام الله أو من كلام رسوله فنجزم جزماً أن ذلك ليس معنى كلام الله، وإنما هو تحريف وتأويل الكلام بما يوافق الأهواء ابتغاء الفتنة.
والشيخ رحمه الله ذكر هذا الحديث: (يقول الله: يا آدم!)، فذكر النداء الذي يدل على رفع الصوت، فلابد أن يكون النداء بحرف وصوت، كما أن الكلام لا يعقل إلا بذلك، واكتفى بهذا الحديث، وإلا فالأحاديث في هذا كثيرة.
فقوله: (ربنا الله)، الرب في لغة العرب: هو المالك المتصرف، الذي يملك الشيء ويتصرف فيه، والله جل وعلا يملك كل شيء ويتصرف فيه، ولا أحد يتصرف مع الله تعالى وتقدس، وهذا من أظهر أسمائه جل وعلا، وسيأتي أن معنى هذا الاسم ينقسم إلى قسمين، وسبق أن الاسم يجب الإيمان به، وبما دل عليه من المعنى، وبأثره، وأثره أنه جل وعلا رب كل شيء، وأما معناه: أنه جل وعلا هو الذي يتصرف في كل شيء، ويربي خلقه بنعمه.
وقوله: (الذي في السماء) لفظ (في) إما أن تكون بمعنى: على، وقد جاءت كثيراً (في) بمعنى على كقوله جل وعلا في قصة فرعون: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] يعني: على جذوع النخل، وقول الله جل وعلا: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137]، فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2]، فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15]، فهذا كثير في القرآن، وكلها تدل على أن (في) بمعنى على، والحروف تأتي متعاقبة كثيراً .
وإما أن تكون (في) بمعنى العلو، فلفظ (السماء) يكون المراد به أن الله في العلو، أي: ربنا الله الذي في العلو، وسواء قلنا هذا أو هذا فهي تدل على علو الله جل وعلا وارتفاعه على خلقه، وهذا هو المقصود. وهذا -كما سبق- دلت عليه الأدلة المتضافرة، وإذا جاءنا دليل الشرع وجب أن نقول بمقتضاه، ونعتقد ما دل عليه، ونؤمن به، وما سواه إذا كان مخالفاً له لا نلتفت إليه، وإذا توافرت الأدلة صار زيادة ثبوت، وزيادة خير وتأكيد. وقلنا: إن العقل والفطرة والإجماع يدل عليه والإجماع لا يكون إلا بدليل، ولكن إذا انعقد فهو يدل على الحق؛ لأن هذه الأمة معصومة من أن تجمع على خطأ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم)، وأما العقل فليس كل عقل ينظر إليه، وإنما ينظر إلى العقل الذي سلم من الانحراف والتغير، ومن المعلوم أن عقل أبي بكر ليس كعقل أبي جهل، فلا مساواة بين عقل المؤمن الذي يعرف ربه وعقل الكافر الذي ينكر ربه، والمؤمنون إذا سألوا المبطل الذي ينفي هذا: أرأيت هذه المخلوقات من السماوات والأرض هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ كيف يكون الأمر إذا قال: إنها غير مخلوقة؟ فهذا لا يمكن؛ لأن هذا كفر بالله جل وعلا، فلابد أن نقر بأنها مخلوقة، فإذا قال: إنها مخلوقة، نقول له: من الذي خلقها؟! لابد أن يقول: الله، فإذا قال: خلقها الله نقول: عندما خلقها هل خلقها في ذاته أو خلقها فوقه أم أين خلقها؟ فإن قال: خلقها في ذاته، فهذا كفر بالله جل وعلا، وإن قال: إنه خلقها فوقه تكون هي أكمل منه؛ لأن الفوق صفة كمال وعلو، فلابد أن يقول: إنه خلقها وهو فوقها أعلى منها، خارج عنها، ليس داخلاً فيها، فهذا نوع من الأدلة العقلية، وهي كثيرة، مع أننا لا نحتاج إليها لوجود الأدلة الشرعية، ولكن لما كثر الخوض والجدل أغري بعض الناس بمثل هذه المجادلات، فصار لا يقتنع إلا بمثل هذا، فإذا كان لا يقتنع إلا بمثل هذا فلا بأس أن يذكر له الشيء الذي يقنعه أو يوقفه عند حده.
أما الإجماع فإنه مبني على ما في الفطر التي فطر الله جل وعلا خلقه عليها، وكل من يعترف بربوبية ربه جل وعلا لا ينفك عن الفقر والحاجة، فإذا أراد أن يسأل ربه فإنه يجد دافعاً يدفعه من داخل نفسه، بأن يسأل ربه ويرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب! لا يلتف يميناً ولا شمالاً ولا تحت، يسأل ربه متجهاً إلى العلو، وهؤلاء المبطلون يقولون: إن الله في كل مكان، هذه عقيدتهم، ويقولون: ليس فوق ولا تحت، وليس يميناً ولا شمالاً، وليس أمام ولا خلف، ولا فوق العالم ولا داخل العالم، لا مداخل ولا محايد، ولا يسأل عنه بأين، ولا يجري عليه زمان، وليس في مكان، إذاً ماذا يكون؟! هذا هو العدم المحض، فهذا الوصف لا يمكن أن ينطبق إلا على المعدوم الذي لا وجود له، إذاً: هذه مجرد فكرة في أدمغتهم فقط، هذا هو الواقع، وهو الذي يدل عليه قولهم، وهذا هو مبدأ الإلحاد، بل هو أصل الإلحاد الذي آل إلى إنكار وجود الله جل وعلا، وهذا من أبطل الباطل، الله جل وعلا يقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، هل ممكن هذا؟ هذا مستحيل! لا يكون الموجود هكذا من غير منشئ؛ لأنك لن تجد سيارة قائمة صنعت نفسها أبداً، لابد أن يكون لها صانع متصرف أكمل منها.
ثم بعد هذا نقول: إن المؤمن يعترف أن ربه فوقه دائماً، وهذا إجماع الخلق؛ ولهذا لما كان أحد هؤلاء الكبار -الذين يقررون هذه العقيدة الزائفة الباطلة- في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرن الخامس تقريباً وهو الجويني الذي يقال له: إمام الحرمين، كان جالساً على كرسي، وأمامه الناس يستمعون لدرسه وقوله، وصار يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، فصار يتكلم على هذه المسألة وينفي أن يكون الله في السماء، ويتأول تأويلاً باطلاً، فقام رجل من الناس وقال له: يا إمام! اترك هذا الكلام الذي تقوله وتقرره، وأخبرني عن ضرورة نجدها في نفسي ونفسك وفي نفس كل الناس ما دعا أحد: يا رب! إلا ووجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه إلى فوق، ولا يلتفت لا يميناً ولا شمالاً، من أين جاءت هذه الضرورة؟ وكيف ندفعها؟! لابد من جواب، فوضع الرجل يده على رأسه، ثم نزل من على الكرسي، وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل! لماذا حيره؟! لأنه أفسد عقيدته التي كان يبنيها وينافح عنها بهذه الكلمة، فما استطاع أن يجيب، كما أنه لما حضرته الوفاة صار يبكي ويقول: ما علمت شيئاً، ونهى أصحابه عن الخوض في علم الكلام، وقال: يا ليتني أموت على عقائد عجائز نيسابور!
والمقصود أن هذا إجماع مبني على الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، والأصل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها، قوله: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك)، (تقدس) يعني: تنزه وتطهر عما يقوله الظالمون ويصفونه به، فله الكمال المطلق.
أمر كوني كما في هذه الفقرة، وأمر ديني.
أما الأمر الكوني فكقوله جل وعلا: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]،
والأمر الديني كقوله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وقوله: (أمرك في السماء والأرض)، يقصد به الأمر الكوني، بدليل أنه جعله عاماً في السماء والأرض، يعني: أنه نافذ لا يمكن أن يرد، ولا يمكن أن يعترض عليه، وهذا الذي توصف به كلماته؛ لأن كلمات الله جل وعلا تكون قدرية وتكون شرعية، فالقدرية يستعان بها ويدعى الله بها، والشرعية كذلك؛ ولهذا جاء في الحديث كما سيأتي: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر)؛ لأن المجاوزة معناها ومقتضاها العصيان.
والكلمات الشرعية الدينية أكثر الناس يجاوزونها ويعصون الله فيها، أما الكلمات الكونية القدرية ما أحد يتجاوزها، والأمر مثل ذلك.
وقوله: (كما أن رحمتك في السماء)، هذا توسل إلى الله جل وعلا، فأولاً توسل بربوبيته، ثم بعموم ملكه وتصرفه جل وعلا، وأن أمره هو النافذ، وليس لأحد معه أمر، ثم توسل برحمته التي وسعت كل شيء، والرحمة تأتي ويراد بها الصفة التي يتصف بها الرب جل وعلا، ويراد بها أثرها المترتب، والأثر يكون مخلوقاً؛ ولهذا جاء وصف الجنة بأنها رحمة الله كما قال جل وعلا للجنة: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، فهي رحمة مخلوقة، وجاء في الحديث الصحيح: (إن الله خلق الرحمة مائة جزء ..)، فهذه المخلوقة ليست هي صفته، وإنما هي أثر صفته.
ثم قال: (اجعل رحمتك في الأرض كما رحمتك في السماء)؛ لأن السماء ليس فيه معاصي، وليس فيها إلا من هو خاضع مطيع مستكين لربه جل وعلا، (اجعل رحمتك في الأرض) يعني: الرحمة التي هي أثر الصفة، ثم قال: (واغسل لنا حوبنا)، والحوب: هو أثر الذنب، كما قال جل وعلا: إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2] يعني: آثاره، (وخطايانا) الخطايا: الذنوب.
ربوبية عامة تشمل الخلق كلهم، وربوبية خاصة تكون للملائكة والرسل والمؤمنين المطيعين.
وقوله: (أنزل رحمة من رحمتك)، هذا عام، كل ما يمن به جل وعلا على خلقه فهو من رحمته وهو أثرها، ثم خص وقال: (وشفاءً من شفائك) الشفاء عام يكون للوجع والمرض، ويكون لما في الصدور من الشبهات والشهوات وغيرها، (وشفاءً من شفائك على هذا الوجِع)، هكذا جاء بكسر الجيم، يعني: هذا المريض، وجاء: (فيبرأ بإذن الله) يعني: إذا توسل بهذا الدعاء صادقاً مخلصاً فإنه يبرأ بإذن الله، وقد جاء في هذا الحديث أن عبادة بن الصامت شكى إليه رجل وقال: إن أبي أصيب بحبس البول، وإنه يألم ألماً شديداً، فأمره أن يرقيه بهذا الدعاء، فبرأ وشفي من ذلك.
وفيه أنه ينبغي للداعي سواءً كان راقياً أو سائلاً أن يبدأ بالثناء على الله جل وعلا بذكر أوصافه وأسمائه الحسنى التي يتمدح بها، ويمدح عليها، ويثنى بها عليه، ثم بعد ذلك يذكر طلبه، ويذكر الأسماء التي تناسب الطلب، وهذا كثير جداً في القرآن وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن الدعاء ينبغي أن يكون باسم الرب، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم، وأنه يكون على نوعين:
توسل إليه بربوبيته العامة، وتوسل إليه بربوبيته الخاصة، وإذا تأمل الإنسان أدعية الرسل فإنها كلها -إلا ما شاء الله- بلفظ الرب: ربي .. ربنا، وذلك لأن له ربوبية عليهم خاصة بهم، ليست لسائر الخلق، فهم توسلوا إليه بهذه الربوبية الخاصة، وقد قيل: إن هذا من أسباب إجابة الدعاء، كون الإنسان يسأل بهذا الاسم الكريم، ويكرره.
وهذا قاله لسبب: وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما كان في اليمن بعث بذهبية في تربتها لم تحصل بعد -يعني: لم تصف- فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة: عيينة بن حصن وزيد الخيل وعلقمة بن علاثة والأقرع بن حابس وقيل عامر بن الطفيل شك الراوي، وهؤلاء رؤساء قبائل، فهو أعطاهم حسب أمر الله جل وعلا لمصلحة الإسلام؛ يتألفهم بالدنيا لعلهم يدخلون في الإسلام، فيكون في دخولهم للإسلام دخول قبائلهم، فهو أمر عظيم جداً، ولكن هذا لم يتضح لبعض من أعمى الله قلبه، فجاءه رجل فقال: (هذه قسمة لم يرد بها وجه الله -هكذا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكلام،- عند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك: رحم الله أخي موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر).
وفي رواية: (أن بعض الأنصار صار في نفوسهم شيء من ذلك، فقال لهم: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!) ألا تأمنوني على شيء من المال أضعه في موضعه اللائق به، وقد أمنني ربي جل وعلا على شرعه وقوله ودينه وأمره؟!
والمقصود قوله: (وأنا أمين من في السماء) وسبق أن (في) هذه يجوز أن تكون بمعنى (على) ويجوز أن يكون المراد بالسماء العلو، وأي شيء قيل فهو حق، ثم إن هذه القصة شيء معتبر، ويقال: إن هذا الرجل الذي جاء معاتباً مبدأ الخوارج الذين صاروا فتنة إلى اليوم، وقد جاء أن آخرهم يكونون من شيعة الدجال، فهم يبقون، ولكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم اندحروا، ولما استأذنه بعض الصحابة في قتله قال: (دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصومكم مع صومهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية)، ومعنى قوله: (من ضئضئ) يعني: من جنسه وأشباهه ونظرائه، وقد جاء أنه كان محلوق الرأس، ناتئ الجبهة، فليس معناه أن كل من كانت هذه صفته يكون مذموماً، ولكن هكذا اتفق الأمر بهذا الرجل، ثم إن مقتضى الإيمان أن يرضى الإنسان بما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد في النفس حرجاً من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فالإيمان منتفٍ تماماً؛ لأن الله جل وعلا يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، فإذا وجد اعتراض أو ضيق في النفس وتحرج وقال: الحكم ليس كذا.. ليته كان كذا وكذا.. فالإيمان منتف عمن كان هذا وصفه، وأقسم الله جل وعلا أنه لا يؤمن حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الشيء الذي يعرض له، وكان هناك شجار فيه، بأن يسلم ويذعن، ولا يكون عنده حرج ولا ضيق.
والمقصود: إثبات أن الله في السماء، وهذا نص صحيح ثابت، كما أن الذي قبله حديث حسن، والحديث الحسن يثبت به الحكم، والعادة أن العلماء يذكرون الأحاديث الواضحة البينة، ثم يتبعونها بما هو أكثر ثبوتاً، وإن كان أقل وضوح.
هذا الحديث حكم الشيخ عليه بأنه حسن، وكثير من الناس يقول: إنه ضعيف، بسبب محمد بن إسحاق أحد رجال سنده، وقد أطال الكلام عليه الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه: تهذيب السنن، وأجاب عن كل ما قيل في ابن إسحاق وفي النهاية قال: ذنب ابن إسحاق كونه خالف الجهمية، وقال: إن الحديث صحيح، وله طرق متعددة، وكذلك قال غيره مثل محمود أحمد بن محمود الطشتي فإنه حكم بأنه صحيح، وهو مروي عن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فقال: ما تقولون في هذه؟ فقلنا: السحاب، فقال: والمزن، فقلنا: والمزن؟ فقال: والعنان؟ فقلنا: والعنان، ثم سكت ثم قال: أتدرون ما بين السماء والأرض مسيرة كم؟ قلنا: لا، فقال: إما اثنتين وسبعين أو ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين سنة، وما بين سماء وسماء كذلك.. إلا أن ذكر السماء السابعة ثم قال: وفوق السماء السابعة بحر بينه وبين السماء مثل ما بين السماء والأرض، وكثافته مثل ما بين السماء والأرض، وفوق البحر عرش الله، والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه)، وجاء في روايات غير هذه أن المسيرة تختلف، وأنها خمسمائة سنة، وجاء أكثر وأقل، وقد تكلم الحفاظ على هذا، وقالوا: الجواب عن ذلك: أن هذا يختلف باختلاف السير، فالسير يكون مسرعاً ويكون بطيئاً، وخمسمائة عام مسافة شاسعة جداً وهو كذلك، وقد جاء قول الله جل وعلا: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] وهذه الآية فيها خمسة أقوال للمفسرين، أحدها أن هذا مسافة ما بين الأرض إلى العرش، والعلم عند الله جل وعلا، ولكن هذا يدلنا على أمور:
الأول: أن السماء حقيقة مبنية بناء حقيقياً، لها كثافة وسكان، وأنها سبع سموات واحدة فوق الأخرى، وهذا الذي دل عليه القرآن، وهذه السماء التي نرى فوقنا هي السماء، وليست كما يقول ملاحدة اليوم وغيرهم: إنها فضاء، وإن الكواكب تسبح في الفضاء، وبعضها فوق بعض، أما أن يكون هناك شيء مبني فلا، ويقولون: إننا إذا صعدنا إلى فوق تزول هذه التي نراها، وأصبح لا يرى شيء أصلاً، ولو ذهبت الصواريخ مهما ذهبت ما تجد إلا السماء فوقها، وهؤلاء لا يستطيعون أن يصلوا إلى السماء، ولا قريباً منها، بل يقفون عند حدهم، فهم ضعفاء، والسماء بعيدة جداً، ولكن لابد للمرئي الذي يرى أن يكون له شيء يقابله فينعكس به فتحصل الرؤيا، فإذا ذهب أثر المقابل فلا يرى شيء، من شدة البعد تنعدم الرؤيا نهائياً، فهذا هو السبب، ثم نحن نؤمن بما قال ربنا الله جل وعلا: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق:6]، ويأمرنا أن ننظر إليها ونكرر النظر فيرجع البصر خاسئاً وهو حسير، ما يجد فيها أي عيب، فهل يأمرنا جل وعلا أن ننظر إلى العدم؟ هل نصدق هؤلاء الملاحدة أم نصدق ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا؟
فقد كثر عند بعض الناس الكلام في السماء، وأنه ليس هناك إلا فضاء، وهذا خطأ، فإن السماء فوق، ولها مسافة، ثم إن السماء لها سكان، والسماوات عددها سبع كما جاءت النصوص الكثيرة جداً، وكل واحدة فوق الأخرى، وكل سماء أوسع وأكبر من التي تحتها، حتى تكون السماء السابعة أوسع السماوات وأعظمها وأكبرها، ثم فوقها بحر عظيم كما ذكر، وهذا البحر هو الذي عليه عرش الرحمن جل وعلا، ثم الله فوق العرش، وكل هذه المخلوقات بالنسبة لله صغيرة حقيرة ليست شيئاً؛ لأنه إذا كان يوم القيامة يضعها في يده وفي كفه تعالى وتقدس، ويقبضها كلها كما أخبرنا في القرآن.
ثم إن هذا يدلنا على أن العرش مخلوق، وأنه أعظم المخلوقات وأرفعها، وليس فوقه شيء إلا رب العالمين تعالى وتقدس، وهو يعلم ما أنتم عليه، حيث لا يخفى عليه شيء مما يجري من مخلوقاته كلها، ومن ذلك ما يكنه العباد في نفوسهم، وما يعملون، وهذا المعنى جاء في كتاب الله، حيث جمع بين استوائه، وأنه معنا كما قال جل وعلا: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، فهو جل وعلا يجمع بين علوه واستوائه وبين كونه معنا، وهذا هو معنى قول السلف: إنه مع خلقه بعلمه، وإلا فهو على عرشه، وقد سبق الكلام على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: ما يقال هذا، البصر صفة ذات، أما النظر فهو صفة فعل، ومعلوم أن النظر يصدر من البصر، ولا يقال: إن النظر هو البصر، والبصر من الصفات الأزلية التي لا تنفك عن رب العالمين جل وعلا، فهو بصفاته أزلي، وهو كذلك دائم بها، والنظر الذي ذكر في الحديث يتعلق بمشيئته، إذا شاء نظر إلينا، وإذا شاء أعرض عنا تعالى وتقدس، ولكن هذا خاص في حالة خاصة كما سبق أنه في حالة ما إذا تأخر المطر، واشتد الأمر على العباد، فإنه جل وعلا يعجب بحالهم، كيف تقع فيهم هذه الحالة من الأزل والقنوط وهم يعلمون أن الله ربهم الذي رباهم بنعمه، ونعمه لا تزال تترى عليهم، وخيره قريب، جاء لفظ (الخير)، وجاء (غيره) يعني: أنه يغير الأحوال من حال إلى حال.
الجواب: لا يتوسل بقوله: أسألك برجلك! هذا كلام غير لائق، يجب أن تتوسل بما ذكر الله جل وعلا لك بالأسماء والصفات، والذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم وذكره، فهذا هو الذي يتوسل به، أما إذا توسلت بصفة الذات فيجوز كأن تتوسل به نفسه: أسألك يا ألله، والمقصود كون الإنسان يعرف ما لله جل وعلا من أوصاف، الله تعرف إلى عباده بهذه الأشياء حتى يعرفوه، وقال لنا: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180] أمرنا أن ندعوه بالأسماء الحسنى وهي هذه، فإذا أردت أن تدعو الله لشيء فتذكر الشيء الذي يناسبه، لا تقول: أسألك برجلك، ولا أسألك بيدك! لابد أن تذكر الشيء الذي يترتب على هذا، أما التوسل بهذا الذي ذكرت فهو بدعة من البدع؛ لأنه لا يترتب عليه شيء، أما أن تسأل وتقول: أسألك بيدك التي تقبض بها خلقك أو تبسطها بالعطاء أو ما أشبه ذلك فهذا من التوسل المشروع.
الجواب: لا، ليس كذلك؛ لأن الخطاب للمؤمنين: (ما منكم من أحد..) الخطاب للمؤمنين، أما الكافرون فإنهم يخرجون من هذا، ولو كان عاماً -مع أنه ليس بعام- فهو خاص بالأدلة الأخرى التي يخبر الله فيها بأنه لا يكلمهم، ولا يدخل في هذا العموم الكلام الذي يكون للتوبيخ؛ لقول الله جل وعلا لهم وهم في النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] ولكنه كلام عذاب، ليس هو الكلام الذي فيه التنعم والتلذذ، وإنما هذا كلام محاسبة، وقد يكون فيه عذاب ونقمة، وقوله: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه) يعني: يحاسبه، والله سبحانه يحاسب الناس يوم القيامة، بماذا يحاسبهم؟ يحاسبهم بكلامه، ومعلوم أن الناس ينقسمون إلى أقسام في هذا، قسم يؤمر بهم إلى الجنة بلا حساب، وهؤلاء قلة، وقسم يؤمر بهم إلى النار بلا حساب: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105] كفار ما عندهم حسنات، ولا عندهم إيمان يحاسبون عليه، أعمالهم كلها سيئات، وقسم خلطوا فهؤلاء هم الذين يحاسبون، ولا يلزم من هذا الخطاب العام أنه جل وعلا يخاطب الخلق كلهم عامة، إذا حصلت الشفاعة فقد وعد الله جل وعلا أنه يأتي إليهم ليقضي بينهم، فيأتي ثم يخاطبهم ويقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ هذا خطاب عام للخلق كلهم، وكلهم يجيبون، ويقولون: بلى يارب، فيمثل لكل عابد ما كان يعبده في الدنيا فيقال له: اتبعه، فيتبعون معبوداتهم إلى جهنم ويلقون فيها، ويبقى المؤمنون وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا إلى آخر الحديث، وهو حديث ثابت في الصحيحين.
الجواب: بلا شك، من وضع أحكاماً يرجع إليها الناس ويتحاكمون إليها، نابذين شرع الله، تاركين له، ويجعلون محاكم لها مراجع من القوانين، القانون الفرنسي أو غيره، فهم قد نازعوا الله جل وعلا في ربوبيته، وهذا لا إشكال فيه وهو واضح.
بعض العلماء يقول: إن هذا شرك في العبادة، ووجه ذلك أن العباد كلفوا أن يتعبدوا الله بشرعه، ولا يعبدوا الله جل وعلا إلا بما جاءهم به، فبالنظر إلى فعل العباد يكون من شرك العبادة، أما بالنظر إلى أن هذا وضع ليكون بدلاً للشرع يرجع إليه وهو حكم فالحكم لله، وهو من معاني الربوبية، فيكون شركاً في الربوبية، ومعنى ذلك أنه يدخل فيه هذا وهذا.
الجواب: إذا طلب الإنسان الرقية لا يكون من السبعين الألف الذين يسبقون إلى الجنة؛ لأنه طلب من الخلق، والواجب على المؤمن أن يكون غنياً بربه جل وعلا عن الخلق كلهم، وأن يكون طلبه وسؤاله من الله وحده، والسبب في هذا كما يقول العلماء: أن الإنسان إذا طلب من المخلوق فإن الطلب يكون له أثر في القلب، وهو نوع من الافتقار والالتفات إلى المطلوب منه، وهذا يكون نوعاً من العبادة، وإن كان هذا قد يكون خفيفاً عند بعض الناس، ولكن من هذه الناحية صار نوع افتقار إلى المخلوق، فمنع من قام به ذلك أن يكون من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بلا حساب، وقالوا: الدليل على هذا أن الله حرم مسألة المخلوق إلا في حالات ثلاث فقط، إذا وقع الإنسان في ضائقة لا يجد عنها مندوحة، وإذا حصلت له جائحة اجتاحت ماله، وإذا تحمل حمالات، ففي هذه الحالات فقط تجوز له المسألة كما في صحيح مسلم من حديث قبيصة، وقال بعد ذلك: (وأما ما عدا ذلك فالمسألة سحت)، وجاء أنها خموش وكدوش في وجه الإنسان، فمسألة الرقية من هذا النوع.
الجواب: تكرر الجواب عن هذا، وأن المقصود بقوله: لا يسترقون: الطلب، يعني: لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم، أما لفظ: (لا يرقون) فقد حكم الحفاظ أنها رواية غلط، لم يقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كون الإنسان يرقي غيره فيه إحسان، فكيف يكون الإحسان سبباً لمنع السبق إلى الجنة، وإن كانت في صحيح مسلم فهي غلط، والصواب: (لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وأما كونهم يرقون فغير ثابت.
والسبب الذي جعل المسترقين غير داخلين في السبعين ألفاً كما يقول العلماء: لأنهم سألوا الرقية من غير الله، سألوها من الناس، وسؤال الناس فيه نوع افتقار إليهم، وذل القلب للمسئول، وفيه نوع من العبودية لغير الله، فهذا السبب هو الذي منعهم من السبق إلى الجنة.
السؤال: ما المراد بالرحمة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنزل رحمة من رحمتك) ، هي هي الرحمة التي هي صفة ذات؟
الجواب: تقدم أن بينا أن المقصود من هذه الرحمة الرحمة المخلوقة، فإن التي تنزل مخلوقة، كالشفاء، والعطاء، والفضل الذي يتفضل به، والرحمة التي طلبت هنا هي شفاء المريض، وشفاؤه ليست هي رحمة الله التي هي صفته، ولكنها من أثر رحمته.
الجواب: لا أسماء ولا صفات، ولا يجوز أن تكون أسماء ولا صفات، ولكن الله يُخبر عنه بأنه يفعل هذه الأشياء وباب الخبر واسع، كما يقال: إن الله موجود، وإنه شيء، ولا يسمى بأنه موجود، ولا بأنه شيء، وباب الخبر واسع، ولا يقال: إنه هو الزارع؛ ولا نسميه الزارع، ولهذا يطلق على بني آدم ذلك كثيراً ولا أحد ينكره.
الجواب: هذا ليس قول السيوطي، بل هو ينقله عن العلماء، يقول: أجمعوا على ذلك، يعني: ألا يعتقد أن الرقية هي التي تشفي بنفسها، وإنما الشافي هو الله بسبب الرقية.
الجواب: يجوز، وهو مثل الشفاء.
الجواب: الله أعلم، ولكن أكثر العلماء على أنه فتح من الشر الذي انتشر وبدأ يظهر كمثل هذا، أي: هذا مبدأ ظهور الشر، وبعضهم يقول: هو على ظاهره، الردم ردم حقيقي، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في كتابه في قصة ذي القرنين، وأنه ينفتح ثم يخرجون، فجاء بوصفهم أنهم من كل حدب ينسلون، وإذا كانوا من كل حدب ينسلون فليسوا من أهل الصين، بل يأتون من جميع الجهات، وهذا يشمل أن يكونوا من أهل الأرض كلهم، والله أعلم، والأمر هذا فيه إشكال؛ لأنهم -كما هو معروف- من بني آدم، والأرض الآن عُرِفت، وليس فيها شيء مخفى على الناس اليوم، فقد عرف الناس مجاهيل الأرض كلها، فأين الذين يملئون الأرض كلها، وقد يشربون الأنهار؟ أين هم؟! الله أعلم، فالعلم عند الله، ولكن خبر الله حق لابد من وجوده.
فالمقصود أنه استشكل ذلك كثير من الذين تكلموا فيه، وصار فيه إشكال عندهم.
الجواب: السؤال عن الاستثناء في قوله: (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ)، فالمعنى أن خلود أهل الجنة وأهل النار كله بمشيئة الله، ولا يستطيعون أن يكتسبوا الخلود بأنفسهم، ولا أكسبتهم إياه النار، وإنما هو بمشيئة الله، فالأمور كلها بمشيئته، ولو شاء ما حصل ذلك، لكنه أخبرنا أن مشيئته تستمر حقاً في أهل الجنة والنار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر