فأجاب: الحمد لله، الحديث صحيحٌ مشهور في السنن والمساند؛ كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ولفظه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة). وفي لفظ: (على ثلاث وسبعين ملة) وفي رواية: (قالوا: يا رسول الله! من الفرقة الناجية؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وفي رواية: (قال: هي الجماعة، يد الله على الجماعة)] .
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مبتدأ كلامه عن الحديث المذكور جملةً من ألفاظ روايته، وهذا بعد قوله: "الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد".
فإن هذا الحديث ثمة خلافٌ بين الحفاظ في ثبوته، فمنهم من يذهب إلى تضعيفه بأوجهه، ومنهم من يذهب إلى تقويته، وهذا هو المشهور والأظهر عند المتأخرين من الحفاظ.
وهنا مسألة لابد أن تعتبر في مثل هذا النوع من البحوث، وهو أنه ليس مهماً -فيما يظهر- أن يتوصل إلى جزمٍ بصحة هذا الحديث أو عدم صحته، فإن الوصول إلى هذا الجزم ليس له نتيجة محققة في تقرير المسائل المقصودة في هذا الباب، فإن هذا الحديث قد جاء من رواية أبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر -أي: من رواية جماعة من الصحابة- عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أسلفت قد اختلف الحفاظ في ثبوته وعدمه، فذهب ابن حزم إلى الطعن فيه، وهذا قول جماعة، وذهب شيخ الإسلام وجماعة إلى تقويته.
لكن هذا الحديث لا يقال فيه: إن صحته تدل على جملة من المسائل المعتبرة في منهج التقرير لعقيدة السلف أو منهجهم أو أحكام المخالفين، فإن ما تضمنه من المعاني المعتبرة هي ثابتةٌ في الشرع بأدلةٍ أخرى، ولهذا ما يذهب إليه بعض المعاصرين من أن تفريق الأمة بهذا الحديث، أو إن ثبوت اختلاف الأمة مبني على صحة الحديث، وإن الحديث ليس بصحيح، هذا ليس فيه نتيجة محققة، لوجهين:
الوجه الأول: أن افتراق أهل القبلة -أي: اختلاف المسلمين في مسائل أصول الدين- أمر بيّن من جهة الوقوع، فإنه بيِّن وقوعاً من قرون ماضية، بل من آخر عهد الخلفاء الأربعة الراشدين، لما ظهرت الخوارج، والشيعة، ثم بعد ذلك القدرية...إلخ.
إذاً الافتراق في أهل القبلة افتراق واقع، لا مجال لرفعه أو التكلف بأنه ليس له وجود، حتى لو لم يحدث به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فما دام أنه وقع فيجب أن يعلم أنه وقع؛ لأن العلم بالواقع علمٌ ضروري يمتنع رفعه.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انضبط إليه من جهة الرواية ثبوت الافتراق في هذه الأمة، فإنه تواتر عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله) وفي وجه في الصحيح: (حتى تقوم الساعة) فهذا الحديث حديث ثابت متواتر من جهة استفاضة ثبوته عند الأئمة، ومخرج -كما تقدم- في الصحيحين من غير وجه وفي غيرهما.
وهذا الحديث فيه تقرير لكون الأمة سيدخلها افتراق واختلاف في مسائل أصول الدين، ولهذا وصف عليه الصلاة والسلام هذه الطائفة بأنها الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وأنهم على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وعليه: فتقرير افتراق الأمة ثابت بهذا الحديث المتواتر الصحة.
إذاً: قوله في مبدأ هذا الحديث: (وستفترق هذه الأمة). يقال فيه: إن العلم بهذا الافتراق ليس معلوماً من هذا الحرف من الحديث فقط، بل هو علم ضروري من جهة الوقوع، ومن جهة الخبر النبوي الآخر أيضاً.
إذاً: في هذا الحديث امتياز ذكر عدد الطوائف المخالفة، وأنهم ثلاثٌ وسبعون فرقة، وهذا الامتياز ليس تحته حقيقة كثيرة؛ لأنه علم كلي.
ومعنى أنه علم كلي أي: أنه لا يستطيع أحدٌ لا من السلف ولا من الخلف أن يحدد هذه الفرق الثلاث والسبعين على القول بصحة الحديث، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إنه لم يكن من طريقة السلف الجزم بتعيين هذه الفرق، وإن عينوا أصولها كقولهم: أصول البدع أربع: المرجئة، والقدرية، والجهمية، والشيعة، أو ما إلى ذلك من جمل السلف" ، فهم قد يعينون أصول البدع.
أما أنهم اشتغلوا بتسمية الفرق المخالفة للسلف -وهم ثنتان وسبعون فرقة- فإن هذا الاشتغال لم يقع من أحد من السلف، وإنما اشتغل به بعض المتأخرين، وأصل الاشتغال به من طريقة متكلمة أهل الإثبات كأصحاب أبي الحسن الأشعري المنتسبين إلى السنة والجماعة، فإنهم سموا الطوائف الثلاث والسبعين، واستعمل هذا أيضاً بعض الفقهاء من أصحاب الأئمة رحمهم الله الذين يجانبون طريقة المتكلمين.
لكن هذا الاشتغال ليس اشتغالاً سلفياً، بل هو من القول على الله بغير علم؛ لأنه إن اعتبرت أسماء الطوائف التي ظهرت في تاريخ المسلمين فإن العدد لا يمكن أن ينضبط عليها، بل قد يزيد عنها إذا اعتبر تفرق الطوائف، كأن يقال الخوارج: خمس عشرة طائفة.. المرجئة: ثنتا عشرة طائفة، إذا اعتبر هذا التقرير كما هي طريقة أهل المقالات فإن الفرق تزيد كثيراً عن ثلاث وسبعين.
وإذا اعتبرت أصول الطوائف فإن الفرق تقل عن ثلاث وسبعين؛ ولذلك إن صح هذا الحرف عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حرفٌ يعلم علماً مجملاً، كلياً، فيعلم أن الفرق ستكثر، وكأن المراد من كلمته صلى الله عليه وسلم: أن البدع ستكثر، وأنه سيكون لها أوجهاً متعددة.
وأما أن المكلفين يعلمون أسماء هذه الفرق فهذا ليس بصحيح، وقد أوضحنا في شرح كتاب الإيمان لـأبي عبيد أنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سمى طائفةً بدعيةً باسمها، كاسم المرجئة أو القدرية أو الشيعة، أو ما إلى ذلك، بل كل ما روي مرفوعاً إليه لا يصح، وإنما صح كلامه صلى الله عليه وسلم في الخوارج.
إذاً قوله: (على ثلاث وسبعين فرقة) هذا التحديد هو الذي أفاده هذا الحديث.
فإن صح قيل: هذا من العلم المجمل الكلي، وإن لم يصح فالاعتبار بثبوت الافتراق وليس بماهية العدد.
الجملة الأولى: (افترقت اليهود)، وافتراق اليهود معلوم من الكتاب والسنة.
الجملة الثانية: (على إحدى وسبعين فرقة) فإن صح هذا الحديث عُلم عدد فرق اليهود علماً مجملاً، وإن لم يصح علم افتراق اليهود من الكتاب والسنة.
الجملة الثالثة: (وافترقت النصارى) وافتراق النصارى معلوم من الكتاب والسنة.
الجملة الرابعة: (على اثنتين وسبعين فرقة) فإن صح هذا الحديث علم عدد فرق النصارى علماً مجملاً، وإن لم يصح علم افتراق النصارى من الكتاب والسنة.
وبقي في الحديث ثلاث جمل تتعلق بهذه الأمة:
الجملة الأولى: (وستفترق هذه الأمة) وهذا معلوم من جهة متواتر الشرع، ومن جهة الوقوع.
الجملة الثانية: (على ثلاث وسبعين) تحديد العدد أفاده هذا الحديث، فإن صح فهذه الإفادة إفادة كلية مجملة ليس تحتها تعيين ممكن.
الجملة الثالثة: (كلها في النار إلا واحدة) هذه جملة مهمة، لكن نقول: هذه الجملة -وقد ذكرت في هذه الأمة، وذكرت في اليهود والنصارى- أفادتها دلائل الشريعة من الكتاب والسنة ولم يختص بذكرها هذا الحديث، فهي ليست كالجملة الثانية التي قلنا: إن هذا الحديث أفادها؛ فثبوتها مبني على ثبوته، لكنها كالجملة الأولى.
فهذا الحديث فيه بيان لكون المفارقة للسنة والجماعة من موجبات الوعيد، فإن من فارق السنة والجماعة لابد أن تكون مفارقته في الجملة عن تفريط منه، ولا شك أن المفرط يكون تاركاً لواجب من الواجبات، ومن ترك واجباً من الواجبات أو قصر فيه فإنه يكون معرضاً لوعيده سبحانه وتعالى ، وهذا لا يمنع أن يكون بعض من انتحل البدع وطرق أهل الأهواء على قدر من الزندقة والكفر والخروج من الملة، وهذا مقام آخر.
المقصود: أن حكمه عليه الصلاة والسلام -إن ثبت هذا الحرف عنه- على جميع هذه الفرق أنها في النار إلا واحدة، وهي الفرقة الناجية، لا يراد به التعيين، لا للطوائف ولا التعيين -من باب أولى- للأعيان.
بل يقال: هذا وعيد؛ لأن من فارق السنة والجماعة لابد أن تكون مفارقته بسبب قدر من التفريط في الجملة، والمفرط تارك لواجب، والتارك للواجب العلمي من جنس التارك للواجب العملي، بل تركه للواجب العلمي أشد من ترك الواجب العملي، ولهذا كان السلف يعدون جنس البدع أعظم من جنس المعاصي والكبائر العملية.
هذا هو المراد من هذا الحرف، وهو مرادٌ لا ينبغي أن يختلف فيه، ومن فسر الحديث بأن هذا حكم على أصحاب هذه الطوائف بأنهم من أهل النار وأنهم كفار، أو أنهم من أهل التخليد في النار، أو عيّن طائفة الخوارج، أو طائفة المعتزلة، أو الأشعرية أو غيرها بأنها من أهل النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلها في النار) فهذا فهم غلط لكلامه صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا يمنع أن أهل البدع المغلظة، قد يقع في أعيانهم من هو من أهل الكفر، والزندقة والخروج من الملة، فهذا مقام آخر له قدر من الثبوت كما ذكره الأئمة رحمهم الله، وكما هو المعروف في الواقع التاريخي لبعض غلاة أهل البدع.
إذاً: هذا هو الذي يراد بهذا الحديث، وعليه ترى أن الجملة الثالثة ليست مما اختص به هذا الحديث، فهي معلومة بكليات وبمفصل دلائل الشريعة، فقد دلت دلائل الشريعة على أن أصحاب الكبائر العلمية من جنس أصحاب الكبائر العملية، بل هم أولى في الوعيد من أصحاب الكبائر العملية.
وهذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وهذا الوصف من جهة الثبوت فيه نظر، فإن هذا الحرف فيه كلام للحفاظ من جهة ثبوته، لكن معناه معنى صحيح، فلا شك أن الطائفة المنصورة الناجية هم من كان على هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع الاسمين -السنة والجماعة- في سياق واحد؛ أي: أن هذا التركيب بهذا السياق لم يثبت، وإنما ثبتت الأفراد، ولثبوت الأفراد استعمل هذا الاسم في تعيين هذه الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وهذا الاسم حين يقال: إنهم هم أهل السنة.. وهذا بيان لاتباعهم. والجماعة.. وهذا بيان لاجتماعهم، فإن السنة لابد فيها من اجتماع، والاجتماع لابد فيه من سنة، فهما أصلان متلازمان، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان الإجماع من أشرف أصول الاستدلال عند الأئمة، ومخالفه يكون على قدر من الضلال والبدعة بخلاف من خالف ما لم يظهر له من دلائل أو من آحاد الدلائل، فإن هذا مقام يقع فيه اجتهاد" .
إذاً: لا يمكن أن تتحقق هذه الطائفة إلا بهذين الأصلين: الاتباع للسنه، والاجتماع على ذلك.
ولذلك من لم يحقق مقام الاجتماع فقد فاته كثير من السنة.
وهنا تنبيه إلى أنك قد ترى بعض السلفيين اليوم، وهذا لا يقع من علمائهم أو شيوخهم الكبار، بل يقع كنوع من -إن صح التعبير- الاندفاع أو التعجل من بعض الطلبة في بعض المدارس، فقد يقومون بتحصيل سنة مختلف فيها بين الفقهاء، وهذا التحصيل يستلزم تفويت مصلحة الاجتماع، فيكونون حصلوا سنةً يسيرةً مختلف فيها كالتشهد أو كالإشارة بالإصبع أو وضع اليدين على الصدر، وفوتوا في هذا مصلحة الاجتماع.
وهذا لم يكن من هدي السلف، فإن ابن مسعود -وهو من كبار أئمة السلف؛ لأنه إمام صحابي رضي الله عنه - أتم خلف عثمان، وما كان إتمام عثمان موافقاً للسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتم الصلاة في سفر قط، لكن عثمان رضي الله عنه أتم وتأول، وليس المقصود هنا بم تأول، بل المقصود: أن ابن مسعود وجملة الصحابة من بعده أتموا خلف عثمان ، ولما قيل لـابن مسعود في ذلك. قال: "الخلاف شر" .
فمع أن هذه سنة مقصودة التحصيل إلا أن الاجتماع أيضاً شريعة وسنةٌ مقصودة التحصيل لابد من ضبطها، وهذه من قواعد الفقه: أنه لا تحصّل مصلحةٌ يسيرة مختلفٌ فيها بتفويت مصلحة كلية مجمع عليها؛ والعناية بالسنة مقام بيّن عند السلفيين اليوم، لكن ينبغي أن يؤكد العناية بالاجتماع على السنة؛ ولهذا ما يقع من افتراق كثير من السلفيين اليوم ليس افتراقاً شرعياً، ولا موجب له من الشريعة، ومسائل السلفية هي الإجماعات، والإجماعات لا ينبغي أن يختلف فيها، وليس فيها مادة قابلة للاختلاف.
هذه مسألة يخطئ فيها كثير من أهل البدع، وذلك حين تزعم بعض طوائف أهل البدع: بأن طائفتهم عليها أكثر المسلمين. وقد قال جملة من متكلمي الأشعرية: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عنه في ذكر الفرقة الناجية المنصورة أنهم السواد الأعظم، قالوا: وأصحابنا الأشاعرة هم السواد الأعظم، فإن جمهور العلماء أصحاب المذاهب الأربعة -أي: فقهاء المذاهب الأربعة، أتباع أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - إما أشعري، أو سالك مسلك بعض أئمتهم، أو متأثرٌ بهم. ومن هنا زعم جملة من متكلمة الأشاعرة أن طائفتهم هي الطائفة التي يمكن أن توصف بأنها السواد الأعظم.
وهذا لا شك أنه خطأ.
ومن قال: إن أكثر علماء المسلمين من الأشاعرة فقد أخطأ، فإن أئمة العلماء هم القرون الثلاثة الفاضلة، وهؤلاء ليس فيهم أشعري، بل هؤلاء وجدوا قبل أن يوجد المذهب الأشعري، فالصحابة رضي الله عنهم جميعهم أئمة سنة، والتابعون كذلك... إلخ.
إذاً هذا خطأ في التقدير التاريخي، وخطأ في تقرير الحقائق الشرعية، فإن أئمة المسلمين وجمهور علمائهم هم أئمة السنة والجماعة.. هذه جهة.
وجهةٌ أخرى: أن السواد الأعظم من المسلمين هم على السنة والجماعة، فإن طرق المتكلمين كالأشاعرة -فضلاً عن المعتزلة- في تحصيل عقائدهم طرق نظرية، وهي طرق علم الكلام، كتقرير دليل الأعراض، ودليل الاختصاص، ودليل التركيب... إلى آخر هذه الطرق الجدلية النظرية، فإذا تكلموا في الصفات جاءوا بدليل الأعراض، وإذا تكلموا في القدر جاءوا بنظرية الكسب التي أعيا تفسيرها أئمة الكلام من الأشاعرة.. وهذه الطرق لا يمكن عقلاً ولا جدلاً أن العامة من المسلمين يعرفونها ويفهمونها؛فهي متعذرة الفهم على العامة.
ولهذا اختلف علماء الأشاعرة أنفسهم في حكم إيمان العوام، فمنهم من يقول بفساد إيمان العامة -وهذا عليه بعض غلاتهم- ومنهم من يقول: إنهم تاركون لواجبٍ في الإيمان، وهي الطرق التي اخترعوها وابتدعوها ودخلت عليهم من المعتزلة، ومنهم من يقول: إن إيمانهم صحيح ولم يتركوا واجباً فيه، لكنه إيمان مجمل، ليس الإيمان التام المحقق، فالإيمان التام المحقق لا يحققه أو يعرفه إلا أرباب العلم الكلامي.
وبما أن طرق المتكلمين، متعذرة التحقق عند العامة؛ إذاً سواد المسلمين وعامتهم أهل سنة؛ لأن سواد المسلمين ليس لهم مراد إلا الإسلام، والسنة والجماعة هي الإسلام، وليس فيها زيادة عن الإسلام، حتى بعد حدوث الفرق والبدع، لم تزد السنة بزيادة هذه الفرق، بل السنة واحدة، السنة والجماعة والسلفية هي الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقال: وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] وقال: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
هذا هو المنهج السني السلفي، وهو الإسلام الحق التام المحقق ظاهراً وباطناً.
وعليه: فسواد المسلمين وعامتهم أهل سنة، قد يتأثرون ببعض علماء بلدهم، فهذا التأثر يؤخذ بقدره، ويكون تقصيراً، ولا يلزم أن تغلب الحالة على العامة؛ نظراً لأن علماء البلد أشاعرة.
الجهة الثانية: لو فرض جدلاً عدم ذلك، فإن العامة قد بقوا على أصل الديانة وأصل الإسلام، ولم يسمعوا بهذه المعارف الكلامية الفلسفية السفسطية... إلخ.
فهذا الباب لابد من إدراكه.
ويقابل ذلك بعض السلفيين أحياناً، حيث يقول: إن السلفية مختصة بمكان كذا وكذا، وأما جمهور الأمصار فهي على البدعة والضلال.. وهذا أيضاً خطأ وليس بصحيح، بل أمصار المسلمين في الجملة هي على السنة والجماعة، وأكثر ما يغلب على المسلمين هو التقصير في تحقيق الاتباع لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأما التقصد إلى معارضة الكتاب والسنة والخروج عن طريقة السلف، فهذا -في الجملة- ليس مقصوداً للعامة وإن كانوا يخالفون، وفرق بين من اختص بطائفة، وبين من يخالف وهو لم يقصد الخروج عن طائفة أهل السنة والجماعة.
إذاً: لا شك أن أهل السنة والجماعة هم السواد الأعظم، وهم الذين فيهم الأئمة، وهم أئمة الصحابة والقرون الثلاثة، وفيهم المجاهدون، والأولياء... إلى غير ذلك.
فهذا من المسائل التي لا ينبغي أن ينازع فيها، ولا يتكلف في التوهم فيها.
أما أن الأشعرية هم أكثر علماء المسلمين، أو هم جمهور المسلمين... إلخ، فهذا ليس له حقيقة، بل هم طائفة نظرية امتدت بعض القرون، وكثرت في بعض أتباع المذاهب، ولكنها لا يمكن أن تصنف على هذا التصنيف المتكلف، وهي طائفةٌ كا قيل فيها: هي أقرب الطوائف إلى الكتاب والسنة بعد السلف، أو هم أقرب طوائف المتكلمين إلى أهل السنة والجماعة.
أما القصد إلى تقليل الطائفة السلفية -أهل السنة والجماعة- بأي نوع من أنواع القصد فليس قصداً شرعياً ولا قصداً حكيماً ولا قصداً فاضلاً.
وهذا القصد إما أن يقع فيه بعض الأشاعرة وهذه فكرة قديمة عند الأشاعرة أو يقع فيه بعض طلبة العلم السلفيين الذين لم يكتملوا، وذلك حين يبالغون في تقييد المذهب السلفي بتقييدات كثيرة، ويجعلون من خرج عن هذه التقييدات ليس سلفياً، وكنتيجة لهذا: فعلاً يصبح الأكثر من المسلمين ليس سلفياً، ولا من أهل السنة والجماعة، إنما قد يقال: عنده سنة، ولكن عنده بدعة... إلخ.
فهذا التضييق ليس مقصوداً.
وإذا قيل: لم لم يكن مقصوداً؟ هل لكون النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (هي السواد الأعظم) فإنه قد يقال: هذا الحرف لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث؟
فيقال: كلا، لا يقصد إلى تضييقه لهذا الحرف، إنما لأن المراد من الطائفة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) هذه الطائفة التي على الحق هي طائفة أهل السنة والجماعة، هم السلفيون.. ومن أسماء هذه الطائفة التي تقال في حقهم هم أهل الإسلام حقاً.
وقد يقول قائل: إن المراد بالحق في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق) يراد به السلفية، نقول: أجل من كلمة السلفية كلمة الإسلام، فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [البقرة:128].
وقد يقول البعض: إذا سُميت باسم الإسلام؛ فإنه يشمل جميع المسلمين من أهل السنة وأهل البدعة.
قيل: هذا يستدعي قدراً من التمييز كاسم أهل السنة والجماعة، لكن هذا لا يستدعي هجران الاسم الأول، ولا يستلزمه، والدليل على ذلك أن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عظما اسم الإسلام، مع أن اسم الإسلام كان يدخل فيه زمن النبوة المنافقون الذين قال الله فيهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ [النساء:145] وقد قال شيخ الإسلام : "وقد اتفق العلماء على أن المنافقين يدخلون في اسم الإسلام إذا ذكر" .
إذاً كون هذا الاسم يدخل فيه قوم ليسوا أهلاً له أمر لم يظهر بظهور البدع، بل هو موجود حتى في زمن النبوة من جهة اسم النفاق؛ ولهذا كان المقصود بأهل السنة المحققين للإسلام حقاً، وكما أن فيهم المحقق القاصد فيهم الظالم لنفسه، وفيهم المقتصد، وفيهم السابق بالخيرات.
ولهذا لا ينبغي أن يضيق هذا الاسم بحال من الأحوال، بل كل من اعتبر الكتاب والسنة وأخذ بإجماع الصدر الأول، فهذا يعد من أهل السنة والجماعة، وليس هناك شروط لسلفيته يجتهد فيها المجتهدون، أو يتكلف فيها أحياناً بعض أصحاب الردود والمخالفات والمناقشات التي لا معنى تحتها ولا حقيقة.
[وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريباً من مبلغ الفرقة الناجية، فضلاً عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق: مفارقة الكتاب والسنة والإجماع] .
هذا من فقه شيخ الإسلام ، مع أنه رحمه الله جاء في القرن السابع وأدرك من القرن الثامن، وقد كان المذهب الأشعري هو الغالب في -إن صح التعبير- الدوائر الرسمية في الدولة الإسلامية آنذاك، أي هو الممثل الرسمي للدولة إذ ذاك من جهة القضاء ومن جهة الفتيا، فكان كبار أئمة الشافعية خاصة على المذهب الأشعري، فمعَ هذا الانتشار وهذا الشيوع في بعض الفترات وبعض المراحل من القرون الإسلامية، إلا أن شيخ الإسلام كان يقرر هذه الحقيقة: أن أهل السنة هم السواد الأعظم، وأن الطوائف هم أهل الشذوذ والابتداع والافتراق، وهم في الغالب على قدر من القلة... إلى غير ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر