إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [17]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القاعدة الرابعة في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أن هناك محاذير يقع فيها من يتوهم أن نصوص الصفات فيها تمثيل، الأول: أنه مثل صفات الله بصفات خلقه، الثاني: أنه عطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، الثالث: أنه نفى الصفات عن الله بغير علم، الرابع: أنه يصف الله تعالى بنقيض تلك الصفات.

    1.   

    القاعدة الرابعة: المحاذير التي يقع فيها من يتوهم التمثيل في نصوص الصفات

    قال المصنف رحمه الله: [وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهم في بعض الصفات، أو في كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في أربعة أنواع من المحاذير].

    قوله: (وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة):

    أي: ما سبق ذكره في القاعدة الثالثة، أو المعاني المتضمنة فيما ذكر قبل ذلك، فإنه ذكر في القاعدة الثالثة مسألة الظاهر، وأن هذا اللفظ صار لفظاً مشتركاً باستعمال بعض المستعملين له، فقال: (وهذا يتبين بالقاعدة الرابعة)، وهذا كقوله في أول الرسالة: (ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين).

    وهذا الربط في المعاني والقواعد هو من باب التسلسل العلمي، ولا شك أنه من فقه المصنف وضبطه لتقريره؛ فإن الاطراد في المعاني لابد أن يكون وجهاً من أوجه الفقه في كلام أهل العلم؛ ولذلك كلما كان الناظر في كلام العلماء عارفاً بمسائل اطرادهم، سواء من جهة الدلائل، أو من جهة الأقوال نفسها، أو بموجب هذه الأقوال أو القرائن في هذا الباب أو غيره، فإن هذا نوع من الفقه، وبه يعلم الناظر ما يبنى من المسائل على بعض، وما يتفرع من المسائل عن البعض الآخر.. وهكذا.

    وقوله: (وهي أن كثيراً من الناس):

    ولم يقل: جميع الناس، أو ما إلى ذلك؛ لأنه من المعلوم إذا ذكر جمهور المسلمين فليس المقصود بذلك جمهور الطوائف، وإنما المقصود بجمهور المسلمين: هم جمهور أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن العامة من المسلمين الذين لم تشوش مذاهبهم أو لم يشوش نظرهم وإدراكهم وبصائرهم، فإنهم لا يفقهون من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الله موصوف بالكمال، منزه عن النقص، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

    ولذلك فإن النظار من المتكلمين في هذه المسائل، إنما أخطئوا وضلوا لما أدخلوا ما سموه (علم الكلام) على مداركهم وعلى تحصيلهم، ولو استقروا على أصل لسان العرب، وفقهوا القرآن على أصل هذا اللسان، وأخذوا الكتاب والسنة على ما جاء ذكره في كلام الله أو كلام رسوله؛ لما ظهر عندهم هذا الإشكال.

    فالمقصود: أن كثيراً من النظار الذين غلطوا في هذا الباب من أهل القبلة، من المعتزلة أو غيرهم، قال: (يتوهم في بعض الصفات، أو كثير منها، أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين)، وهذا التعدد في كلام المصنف هو فرع عن تعدد المذاهب؛ فإن البعض من النظار إنما يتوهم هذا في بعض الصفات، كما هي طريقة متقدمي متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة؛ كـعبد الله بن سعيد بن كلاب وجماعته؛ من متكلم أو متنسك متصوف كـالحارث بن أسد المحاسبي ونحوه. فهذه هي طريقة المتقدمين من متكلمة الصفاتية الذين توهموا ذلك في بعض الصفات.

    وقوله: (أو كثير منها) وهؤلاء عندهم توهم أكثر من النوع الأول، وهذا هو الذي غلب على جمهور متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة من أصحاب أبي الحسن الأشعري , وأصحاب أبي المنصور الماتريدي ، وهؤلاء -ولا سيما أصحاب أبي الحسن الأشعري - هم أكثر توهماً في هذا الباب من متقدمي أصحابهم؛ كـأبي الحسن الأشعري، وعبد الله بن سعيد بن كلاب وأمثال هؤلاء، ومعلوم أن عبد الله بن سعيد بن كلاب جاء قبل أبي الحسن الأشعري ، لكن الأشعري وأمثاله نسجوا على طريقته في الجملة والصفات؛ ولذلك ذكر ابن حزم أنه شيخ قديم للأشعري ، والبغدادي -وهو من متكلمة الأشعرية- تجد أنه في كلامه ربما قال: "وذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري "، وربما قال أيضاً: "وذهب شيخنا عبد الله بن سعيد بن كلاب ", فبناء هذا المذهب على بعض كلام ابن كلاب أو على جملة قوله شيء مشهور حتى عند الأشعرية أنفسهم.

    وقوله: (أو أكثرها) وهذا هو الذي غلب على الغلاة من متكلمة الصفاتية، الذين باعدوا طريقة الجمهور منهم فضلاً عن مقدميهم، وعلى بعض مقتصدة المعتزلة.

    وقوله: (أو كلها) كما هو الأصل في مذهب أئمة المعتزلة الأوائل؛ كـإبراهيم بن سيار النظام ، وأبي الهذيل العلاف ، وأمثال هؤلاء، فضلاً عن جهم بن صفوان ونحوه من متقدمي الجهمية الأولى.

    وقوله: (أنها تماثل صفات المخلوقين) بمعنى: أن من عطل صفة أو تأولها، فإن ذلك لكونه ظن أن إثبات هذه الصفات يكون من باب التشبيه والتمثيل، وبهذا يُعلم أن الأصل في طريقة هؤلاء أنهم فروا من التشبيه -وإن كانوا لم يحققوا الحق في هذا الباب- لكنهم غلطوا في تقرير هذا الباب بمثل هذه الطرق التي أحدثوها.

    والمصنف هنا يريد أن يصل إلى أن كل من تأول شيئاً من الصفات فإنه ممثل، وكما يقال: إن أهل السنة وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه والتمثيل، فإن المصنف ينتهي إلى أن ثمة تلازماً ذهنياً تصورياً بين التعطيل وبين التمثيل والتشبيه، بمعنى: أنه ما عطل معطل -بما يسمى تأويلاً عند أصحابه- إلا وقد توهم أن الإثبات يستلزم التمثيل، فقام التمثيل في ظنه، فذهب ينفيه بما سماه تأويلاً.

    وقوله: (فيقع في أربعة أنواع من المحاذير) وهي ما سيذكرها هنا.

    المحذور الأول: أنه مثل صفات الله بصفات خلقه

    قال المصنف رحمه الله: [أحدها: كونه مثل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل].

    وهذا هو المحذور الأول، وقد كان يسعه عقلاً وشرعاً أن يفهم من النصوص ما يليق بالله؛ لأن الصفة تبع لموصوفها، فالعقل والشرع والفطرة لا يقضيان بهذا الوهم الذي توهمه، وهو أنه ظن أن هذه النصوص أو أن بعضها يقضي بالتمثيل والتشبيه، بل كان يسعه أن يقول: إن هذه صفات تليق بذات الله، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

    المحذور الثاني: أنه قد عطل النصوص عما دلت عليه من إثبات الصفات

    قال المصنف رحمه الله: [الثاني: أنه إذا جعل ذلك هو مفهومها وعطله، بقيت النصوص معطلةً عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله ورسوله -حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل- قد عطل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله سبحانه].

    وهذا هو المحذور الثاني، ومجمله: أن المصنف يريد أن يقول: لو فرض جدلاً أن هذا التأويل الذي استعملوه كان حقاً، فإن غايته أنه ينفي التشبيه الذي توهموه، لكنه لا يحقق معنىً صحيحاً في تفسير هذا النص من جهة ثبوت الصفة على الوجه اللائق بالله سبحانه وتعالى.

    إذاً: هذا التأويل وما سبقه من الوهم الذي استوجب هذا التأويل، تضمن تعطيل النص عما دل عليه من المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى، فإن التأويل -كما هو معلوم- إنما قصد أصحابه به نفي التشبيه الذي توهم في ظاهر السياق.

    فيقول: لو فرض أن الأمر كذلك فإن غاية التأويل هو دفع التشبيه، أما أن التأويل يتضمن التحقيق لمدلول هذه النصوص على الوجه الصحيح، فإن هذا لم يقع، فتبقى النصوص -حتى مع تأويلها- معطلةً عن معاني الكمال اللائقة بالله سبحانه وتعالى.

    المحذور الثالث: نفي الصفات عن الله بغير علم

    قال المصنف رحمه الله: [الثالث: أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون معطلاً لما يستحقه الرب تعالى].

    قوله: (أنه ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم):

    لأنه لم يبن نفيه لهذه الصفات -التي ذهب إلى تأويلها- على علم؛ لا من الشرع ولا من العقل، وقد سبق كثيراً أن الشرع والعقل يقضيان بأن هذه الصفات صفات كمال، ولذلك عندما تكلم المصنف سابقاً عن مسألة القابلية، وما قالوه من تقابل السلب والإيجاب، والعدم والملكة، وما إلى ذلك؛ ذكر من أوجه الرد: أن هذه الصفات من حيث هي صفات كمال، فإثباتها إثبات واجب من حيث الإثبات الذاتي، وليس من جهة قرائن أخرى استلزمت هذا الإثبات.

    فمثلاً: صفة العلم، إذا ذكرت هذه الصفة على باب الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، فإنها عند سائر العقلاء، وبأي لسان عبر عنها صفة كمال، وقد علم كمالها من وجهين:

    الأول: من جهة الأدلة.

    الثاني: أن العلم بكون هذه الصفات صفات كمال علم ضروري؛ لأن سائر العقلاء من بني آدم إذا ما ذكرت لهم صفة العلم -مثلاً- فهموا أن هذه الصفة من صفات الكمال، وإذا ذكرت لهم صفة الجهل فهموا أن هذه الصفة صفة نقص.

    فيقول المصنف: بأي دليل تأولوا هذه الصفة لينفوا وجهاً من التشبيه الذي ظنوا أنه لازم لها؟ وقد تضمن هذا النفي لهذا الوجه من التشبيه الذي توهموه التعطيل لسائر الصفات.

    ثم إن العقل لو عرض عليه سؤال: أيمكن أن تثبت هذه الصفة لله سبحانه وتعالى دون أن تكون مشابهة لصفات خلقه؟ لكان جواب العقل بالإيجاب، ولابد أن يكون الأمر كذلك؛ لأن الله تعالى يفعل، والله يقول: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء:23] والخلق يفعلون، ومع ذلك لم يكن هذا الفعل منه سبحانه وتعالى كفعل مخلوقه... وهكذا.

    المحذور الرابع: أنه يصف الله تعالى بنقيض تلك الصفات

    قال المصنف رحمه الله: [الرابع: أنه يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الموات والجمادات، أو صفات المعدومات].

    هذا هو المحذور الرابع، وهو أنه يلزمه إذا لم يثبت هذه الصفة، أن يصف الرب سبحانه وتعالى بصفات الجمادات، أو صفات المعدومات؛ لأنه لا يصح عقلاً -وهذا ما يسمى بالسبر والتقسيم العقلي- أن يقال: إما أن تثبت هذه الصفة -كالعلم مثلاً- على وجه من التشبيه، وإما أن تثبت على وجه مختص بالله سبحانه وتعالى يليق به، لا يشاركه فيه غيره، وإما أن تنفى عن الله مطلقاً.. فهذه ثلاثة أوجه:

    الأول: أن تثبت الصفة على وجه من التشبيه.

    الثاني: أن تثبت الصفة على وجه مختص بالله يليق به لا يشاركه فيه غيره.

    الثالث: أن تنفى هذه الصفة بأي طريقة من طرق النفي، وطرق النفي كثيرة، لكنها في النتيجة ترجع كلها إلى أن هذا نفي للصفة.

    هذا هو السبر العقلي، بمعنى: أن الحكم العقلي الضروري لا يخرج عن أحد هذه الأوجه، فيقول المصنف: أما الوجه الأول -وهو أن تثبت الصفة بوجه من التشبيه- فهذا مما لا يقول به الأئمة, ولا يحل لأحد أن يقول به، ولم يقل به أحد على جهة القصد، أي: أنه قصد تشبيه الله بخلقه، وإن كان ربما تضمن كلام بعض الطوائف تشبيهاً، لكنهم لم يقصدوا هذا النقص.

    قال: وأما نفي هذه الصفة فإنه تعطيل للكمال، ووصف للباري سبحانه وتعالى بنوع من التشبيه الذي فروا منه في الوجه الأول، فإن الوجه الأول إنما فر عامة المسلمين منه لأنه تشبيه لله بخلقه، حتى من وقع في مادة من التشبيه فإنه لا يحقق هذا التشبيه ويقول: إن الله مشابه للمخلوقات على نوع من الاشتراك في الاختصاص.

    فيقول: إن الوجه الذي أوجب فرارهم يرد عليهم في الوجه الثالث، وهو النفي؛ لأن النفي إما أن يكون تشبيهاً بالجمادات، أو بالمعدومات، أو بالممتنعات، ومعلوم أن التشبيه الذي نفاه العقل والشرع هو أن الله سبحانه وتعالى منزه عن مشابهة غيره، سواء كان هذا الغير مخلوقاً حياً، أو مخلوقاً جامداً، أو كان شيئاً متخيل الوجود... أو كان غير ذلك.

    وعليه: فإن هذا السبر والتقسيم يدل على لزوم إثبات الصفة، وهذه القاعدة العقلية -وهي السبر والتقسيم- يصح استعمالها في أي صفة من الصفات، فيقال: إما أن تثبت الصفة بوجه من التشبيه، أو تنفى، أو تثبت بوجه من الاختصاص اللائق بالله تعالى.

    قال المصنف رحمه الله: [فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب تعالى، ومثله بالمنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمع في الله وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون ملحداً في أسمائه وآياته].

    وهذه هي المحاذير الأربعة: أنه عطل، ومثل، وحرف الكلم عن مواضعه، وهذا هو باعتبار الحقائق، وإلا فلو سئل أحد من هذه الطوائف: ما حكم تحريف القرآن؟ لقال: تحريف القرآن كفر، فإن قيل: فما وقع في كلامكم؟ لقال: هذا من باب التأويل. فكون هذا من التحريف إنما هو باعتبار الحقائق اللازمة، وليس لأن هؤلاء يقصدون إلى التحريف؛ لأن من قصد التحريف على معناه وعلى لفظه فإنه لا يكون من أهل القبلة والإسلام.

    1.   

    دلالة السمع والعقل على إثبات الصفات

    قال المصنف رحمه الله: [مثال ذلك: أن النصوص كلها دلت على وصف الله بالعلو والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش، فأما علوه ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل الموافق للسمع، وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينه ولا مداخله].

    يشير المصنف هنا إلى بعض طرق الاستدلال، وذلك عندما ذكر صفة العلو والاستواء، فإن العلو يعلم بالعقل الموافق للسمع، ويدخل في هذا الباب كثير من الصفات، أي: أنها تعلم بالعقل وتعلم بالسمع، أو يقال: تعلم بالعقل الموافق للسمع.

    ومعنى أنها تعلم بالعقل: أنه يعلم ثبوتها بالعقل ابتداءً واختصاصاً، وإن كان قد جاء السمع بذكرها؛ كصفة العلو، والعلم، والسمع، والبصر، ونحو ذلك.

    والنوع الثاني من الصفات: هو ما يعلم بالسمع، وقد مثل له المصنف بصفة الاستواء على العرش، وما علم بالسمع المقصود به: أن العقل لا يحصل العلم به ابتداءً، لكن السمع -أي: الدليل من القرآن والسنة- إذا وردا به فإن العقل يكون مصدقاً بذلك، ولا يكون معارضاً أو منافياً له.

    فلو قيل: هل تثبت الصفات بالعقل؟

    فإن الجواب: أما قواعد الصفات الكلية فإنها معلومة بالعقل، كقاعدة: أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، أما تفصيل الصفات، أو مفصل الصفات، فإن منها نوعاً يعلم بالعقل الموافق للسمع، ومنها ما يكون معلوماً بالسمع، وإذا ورد السمع به صدقه العقل وإن لم يعلمه ابتداءً.

    1.   

    صفة الاستواء

    قال المصنف رحمه الله: [فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش، كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام، كقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [الزخرف:12] .. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ[الزخرف:13] فيتخيل أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها، ولو عثرت الدابة لخر المستوي عليها. فقياس هذا: أنه لو عدم العرش لسقط الرب تبارك وتعالى، ثم يريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعود ولا استقرار، ولا يعلم أن مسمى القعود والاستقرار يقال فيه ما يقال في مسمى الاستواء، فإن كانت الحاجة داخلة في ذلك فلا فرق بين الاستواء والقعود والاستقرار، وليس هو بهذا المعنى مستوياً ولا مستقراً ولا قاعداً، وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم].

    يقول المصنف: إن هؤلاء يفرضون لازماً من النقص على ظاهر النصوص؛ كقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5] فيفرضون لازماً لهذا الظاهر، فيقولون: لو أخذ بهذا الظاهر للزم أن يكون الله تعالى محتاجاً إلى عرشه، ونحو ذلك؛ ومن ثم يفسرون الآية بأن هذا ليس باستقرار وليس بقعود.

    مع أنه من المعلوم أنه لو كان هذا اللازم ممكناً أو متحققاً -جدلاً- لما كان مختصاً من جهة النفي والإشكال بمسألة القعود وحدها؛ بل حتى لو فسر الاستواء بأي معنىً من المعاني، فإن هذا اللازم يوجب نفي ذلك المعنى، ولا يختص هذا بالتفسير بالقعود أو بغيره.

    يقول رحمه الله: فعلم أن الإشكال ليس من هذا التفسير نفسه، وإنما من هذا اللازم الذي أدخلوه؛ ولذلك فإن هذا التوهم في تفسير الآية لا شك أنه وجه من التشبيه؛ وإلا فإن من عرف قدر الله سبحانه وتعالى؛ عرف أن الاستواء يختص به سبحانه وتعالى، وإذا كان مختصاً به امتنع فرض مثل هذه اللوازم من النقص؛ لأن هذه اللوازم لا تكون إلا لمن كان ناقصاً، وهو المخلوق، أما الخالق فإنه مجرد عن هذا النقص، وعن عروضه، وعن لزومه لصفاته سبحانه وتعالى.

    وأما تفسير الاستواء: فإنه يفسر -كما سلف-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5] أي: علا على العرش علواً يليق بجلاله.

    وقوله: (وإن لم يدخل في مسمى ذلك إلا ما يدخل في مسمى الاستواء، فإثبات أحدهما ونفي الآخر تحكم):

    أي: أنه ليس الإشكال في تفسير الاستواء بالاستقرار أو بغيره، إنما الإشكال في فرض هذا اللازم، وهذا ليس من باب أن المصنف يسلم بهذا التفسير، أو يريد أن يسلم بهذا التفسير، فإنه قد درج في تفسيره لآيات الاستواء على العرش على ما درج عليه الأئمة من أن معنى قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5] أي: علا على العرش، ونحو ذلك من المعاني التي هي مرادفة لهذا المعنى، وأما طريقته هنا فأراد منها بيان أن هؤلاء متحكمون فيما يثبتونه وما ينفونه، أو فيما يفسرونه وما يمنعون التفسير به.

    منهج السلف في تفسير الاستواء

    قال المصنف رحمه الله: [وقد علم أن بين مسمى الاستواء والاستقرار والقعود فروقاً معروفة، ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره].

    يبين المصنف رحمه الله هنا التناقض الذي وقع في طريقتهم، ولم يقصد المصنف أن الاستواء يفسر بهذا، فإن هذا قد يكون من باب الفرق، وقد سبق أن بعض أهل العلم -من باب تحقيق الإثبات- قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أي: جلس؛ ولذلك فإن من يريدون أن يعترضوا على كلام السلف وكلام الأئمة يذكرون مثل هذه الأفراد من الجمل التي قالها من قالها؛ ولهذا يقال: إن من الحكمة أن يقال: إن هذا اجتهد في كلامه ولم يصب الحق في التفسير الذي درج عليه الجمهور والعامة من الأئمة، وكلامه ليس حكماً مناسباً في تفسير الكلمة؛ ولهذا فلا ينبغي الانتصار لمثل هذا التفسير؛ لما فيه من الفرق، وكما يشير المصنف هنا: أن ثمة فرقاً في لسان العرب بين قولك: جلس زيد، واستوى زيد، فالجلوس والاستواء بينهما فرق، وقد يشتركان في قدر من المعنى، ولكنهما يختلفان.

    ولا ينبغي أن يفسر القرآن بمعان تتضمن زيادة عن القدر المشترك؛ فإن هذه الزيادة قد ينازع المنازع فيها ويقول: من أين ثبت هذا القدر من الزيادة؟ فليس هناك حاجة أن يفسر النص بمثل هذا؛ بل يفسر بما درج عليه الأئمة، وبما كان معروفاً من جهة التحقيق في كلام العرب، وهو العلو.. هذا أمر.

    والأمر الثاني: أن البعض يتوهم أن كل كلمة في القرآن لابد لها من تفسير بكلمة أخرى، وهذا ليس بلازم عقلاً ولا شرعاً، إنما يفسر الكلام في أعراف بني آدم إذا احتيج إلى بيانه وتفصيله، فمثلاً: لو قيل: جاء زيد، فإن هذا الكلام مفهوم ولا يحتاج إلى تفسير، فلو قيل في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] إن هذه صفة تليق بجلال الله، فإن الاستواء لا يحتاج إلى تفسير بالضرورة، لكن إذا قيل: ما معنى استوى؟ فيقال: أي: علا.. وهكذا.

    ولذلك فإن الإمام مالكاً لما سئل عن الاستواء كان يسعه أن يقول: الاستواء هو العلو على العرش.. وهذا معنى صحيح، لكنه قال: "الاستواء معلوم". أي: أن الكلمة نفسها كلمة بينة مفصلة؛ ولذلك فإن الأجود أن يقال في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] الاستواء معلوم، فإذا قال قائل: ما معنى استوى؟ وما معنى أنه معلوم؟ أو توهم معنىً ليس مناسباً للاستواء، فيقال: هو بمعنى علا وارتفع.. ونحو ذلك.

    وقوله: (ولكن المقصود هنا أن يعلم خطأ من ينفي الشيء مع إثبات نظيره):

    أي: أن المقصود هنا ليس هو الموافقة لهذا التفسير، إنما المقصود أن يعلم أنهم متحكمون.

    إضافة الاستواء إلى الله تعالى يدل على أنه منزه عن مشابهة المخلوقين

    قال المصنف رحمه الله: [وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك؛ لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك، فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة].

    قوله: (وليس في اللفظ ما يدل على ذلك):

    ولهذا فإن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن هذا التوهم يعلم بقول الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ويعلم بقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فكما أن تنزيه الله عن مشابهة الخلق في استوائه يعلم بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهو يعلم بقوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] لأن الاستواء هنا أضيف إلى الله، فعلم اختصاصه به عن غيره.

    وقوله: (فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق):

    بل ذكر استواءً خاصاً، وهو استواؤه على العرش، وأضاف هذا الاستواء إلى نفسه سبحانه وتعالى فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فكان هذا كلاماً مفصلاً مخصصاً، وليس كلاماً مجملاً مطلقاً.

    قال المصنف رحمه الله: [فلو قدر -على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه -تعالى الله عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه. أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه؛ بل قد علم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواءً يخصه، لم يذكر استواءً يتناول غيره، ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه؟! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً!].

    وهذا كلام بين من جهة العقل والشرع، فإن المصنف يقول: لو قدر أنه هو سبحانه وتعالى مماثل لخلقه، فأمكن إيراد مثل هذه الأوجه من الإشكال، من جهة احتياجه إلى العرش، أو نحو ذلك من اللوازم الباطلة.. لكن من المعلوم عند سائر المسلمين؛ بل وعامة بني آدم، أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، ولا أحد يقر بربوبية الله -حتى ولو كان مشركاً في ألوهيته- إلا ويشهد أن الله سبحانه وتعالى مختص عن خلقه، فإذا كان هذا معروفاً حتى عند جمهور وعامة المشركين؛ فضلاً عن المسلمين وأتباع المرسلين، فإنه لا يمكن أن يتوهم في صفة من الصفات مثل هذا الإيراد.

    ومن طرق المصنف رحمه الله في رسالته -وهي من الطرق الشرعية العقلية الفاضلة، وقد سبق الإشارة إليها-: أنه يبني القول الحق على قواعد منضبطة بضرورة العقل أو ضرورة الشرع، كما أنه يجعل الأقوال المخالفة التي خالف أصحابها قول الأئمة أو إجماع الصحابة، يجعل هذه الأقوال مستلزمة لمخالفة القواعد الضرورية من الشرع أو من العقل، فالمصنف يرد كثيراً إلى أصول مستقرة، فيجعل الحق الذي ذكره مناسباً لهذه الأصول، ويجعل القول الذي أراد إبطاله مفارقاً ومنافياً لهذه الأصول.

    وهذا المنهج أجود في المناظرة والمجادلة من الرد إلى أصول أو كلمات أو أدلة يرد عليها التوهم، أو الظن، أو الاشتباه، أو المنازعة، أو ما إلى ذلك، وهذا من فقه المصنف رحمه الله، وهي طريقة معروفة في القرآن، ومن أمثلتها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم مع قومه، وفي قصته مع الرجل الكافر الذي ناظره لما قال إبراهيم: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ [البقرة:258].

    إذاً: الحق يتسلسل، والحق المفصل يرجع إلى حق كلي مجمل، ويكون تفصيل هذا المجمل بهذا المفصل، وربما صار بعض التفصيل محل اجتهاد في جمل الاستدلال ونحو ذلك؛ فمثلاً: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] إذا نازع منازع في مسألة أن هذا دليل على الرؤية، فهل المخالف قد بنى سائر ما يقول على هذا الإشكال الذي ذكره؟ الجواب: لا.

    إذاً: الرد إلى الأصول المتفق عليها من حسن المناظرات، وهذا الأمر معروف في المناظرات عند عامة الأمم, أنه إذا كان المعنى الذي تذكره حقاً؛ فإنه يلزم عقلاً وشرعاً أن يكون مناسباً للأصول المستقرة في العقل والشرع عند جميع المسلمين.

    مثلاً: من الأصول المستقرة عند جميع المسلمين أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص؛ ولذلك ذكر المصنف أن هذه الصفات من حيث هي صفات كمال، كما أنه من المعلوم بالضرورة أن كل معنى باطل يلزم أن يكون منافياً للأصول المعلومة الصحة بالعقل والشرع, فيرد المشتبه أو المشكل أو المختلف فيه إلى الحكم المستقر المؤتلف في شأنه.

    ضلال النفاة في قولهم أن ظاهر الآية يدل على أن الاستواء كاستواء المخلوقين

    قال المصنف رحمه الله: [هل هذا إلا جهل محض وضلال ممن فهم ذلك، أو توهمه، أو ظنه ظاهر اللفظ ومدلوله، أو جوز ذلك على رب العالمين الغني عن الخلق. بل لو قدر أن جاهلاً فهم مثل هذا، أو توهمه؛ لبين له أن هذا لا يجوز، وأنه لم يدل عليه اللفظ أصلاً، كما لم يدل على نظائره في سائر ما وصف به الرب نفسه، فلما قال سبحانه وتعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47] فهل يتوهم متوهم أن بناءه مثل بناء الآدمي المحتاج، الذي يحتاج إلى زبل، ومجارف، وأعوان، وضرب لبن وجَبْل طين؟!].

    يقول المصنف: إنه يكفي غلطاً عند هؤلاء أنهم ظنوا أو فرضوا أن القرآن دلَّ بظاهره على هذا المعنى الباطل الذي أجمع المسلمون على أنه باطل، فيقول: مجرد أنهم فرضوا أن القرآن بظاهره يدل على هذا المعنى الذي استقر عند المسلمين جميعاً أنه غلط ينزه الله سبحانه وتعالى عنه، وهو الاستواء اللائق بالمخلوق، أو الذي يختص بالمخلوق، أو الذي يشارك المخلوق في خصائصه -يقول: تفسير النص بذلك وحده يكون كافياً في بيان أن هذا من التوهم الغلط؛ لأن الحق -وهو القرآن- لا يمكن أن يكون محتملاً.. وهذه من القواعد التي سبق أن أشرت إليها.

    ويمكن أن يقال في المناظرة: من المستقر عند المسلمين أن القرآن لا يمكن أن يكون محتملاً من جهة الدلالة لمعنىً باطل؛ فضلاً عن أن يفسر به؛ فضلاً عن أن يقال: إنه هو ظاهر اللفظ، فيذهب إلى نفيه؛ فإن هذا يلزم عليه لوازم باطلة، منها: هذا المعنى الذي نفوه وقالوا: نفيناه بالعقل؛ مع أن ظاهر السمع أثبته.. فيلزم من هذا أن لا يكون القرآن هدىً للناس؛ بل يلزم أن يكون الناس بعقولهم قبل القرآن أضبط في باب الصفات؛ لأنهم قبل ورود القرآن لم تأتهم ظواهر تشكل على هذه الحقائق العقلية الموجودة عندهم.

    وقد عني المصنف بهذا الأمر في الرسالة الحموية، فقد ذكر مثل هذا التسلسل، وأنه يلزم على هذا أن لا يكون القرآن هدىً للناس، ولا بينات من الهدى والفرقان، ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويلزم أن يكون الناس قبل الأنبياء أحسن حالاً منهم بعد الأنبياء الذين شوشوا عليهم بهذه الظواهر التي لا يليق ظاهرها بالله تعالى.. ونحو ذلك.

    عدم افتقار بعض المخلوقات إلى بعض يدل على أن الله منزه عن ذلك

    قال المصنف رحمه الله: [ثم قد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضاً فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها].

    ففي آيات الله الكونية ما يكون موافقاً لآياته الشرعية، وهذا ما يسمى بالاطراد الحسي، وهو من الضروريات، فإنه من المعلوم عقلاً أن مسألة الافتقار لا تلزم في كثير من الأوجه بين المخلوقات نفسها، فمن باب أولى أن لا يكون الخالق مفتقراً إلى المخلوق.

    قال رحمه الله: [فالعلي الأعلى، رب كل شيء ومليكه، إذا كان فوق جميع خلقه؛ كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه أو عرشه؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار، وهو ليس بمستلزم في المخلوقات؟! وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره، فالخالق سبحانه أحق به وأولى].

    يقول المصنف: إذا كان بعض المخلوقات ليس مفتقراً للبعض الآخر، فمن باب أولى في الامتناع المحقق الضروري أن لا يكون الخالق مفتقراً إلى شيء من مخلوقاته؛ لأنه إذا كان مفتقراً إلى شيء من مخلوقاته لم يكن رباً, تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً!

    ولا أحد من المسلمين يقول: إن الله مفتقر إلى خلقه، لكن المقصود أنهم تأولوا الصفات وعطلوها عن كمالها اللائق بالله؛ لأنهم توهموا فيها هذه الأوجه، وهذا التوهم لا معنى له؛ لأن وروده في تفسيرهم للآيات غلط محض؛ لأنه يمتنع أن يكون محتملاً في دلالة القرآن ما يكون معنىً معلوم الامتناع في العقل والشرع.

    وقوله: (وقد علم أن ما ثبت لمخلوق من الغنى عن غيره، فالخالق سبحانه أحق به وأولى):

    سيأتي -إن شاء الله- في القاعدة السادسة تفصيل لهذه القاعدة: وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ فإن الخالق أولى به.

    1.   

    صفة العلو

    قال المصنف رحمه الله: [وكذلك قوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16] من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السماوات، فهو جاهل ضال بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه].

    لقد غلط كثير من الطوائف ففسروا كلام الأئمة -الذين قالوا: إن الله في السماء وإنه في العلو- بأنهم يقولون: إن الله في السماء في مكان مخلوق، وبأنهم يجعلون الله محتاجاً إلى السماء.. ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه غلط على الأئمة، فإن المقصود بكلامهم وإجماعهم: أن الله سبحانه وتعالى في السماء، أي: في العلو، وليس معنى ذلك أنه على معنى قولنا: إن بني آدم في الأرض، وإن الملائكة في السماء، فإن بني آدم محتاجون إلى الأرض، والملائكة محتاجون إلى هذه السماء التي تحويهم، والله تعالى غير محتاج إلى شيء من خلقه.

    فقولهم: (إن الله في السماء) معناه: أن الله فوق الخلق، ومعلوم أن السماء هي العلو، وإذا ما فسرت السماء بالسماوات السبع قيل: معنى ذلك: أنه على السماء، فهو فوق هذه السماوات السبع، وقد قال الله عن كرسيه: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] فلا يمكن أن يفسر العلو والفوقية بمثل هذه التفسيرات الباطلة التي توهمها من توهمها ولم يقلها أحد من أهل العلم، بل لم يقلها أحد من المسلمين، والحقيقة أنه لا أحد من المسلمين يصف الله بهذا النقص، لكن لما توهم من توهم أن معنى مقالة الأئمة هو هذا المعنى؛ ذهبوا ينفونها، واستعملوا بدلاً عنها: (لا داخل العالم ولا خارجه)، ففروا من هذا النقص -الذي هو نقص بحق، لكنه لم يكن قولاً للأئمة- فروا من هذا النقص إلى ما هو شر منه، فإنهم قالوا قولاً لا يستلزم التشبيه؛ بل يستلزم الامتناع، ولك أن تقول: لا يستلزم التشبيه بالمخلوقات؛ بل يستلزم التشبيه بالممتنعات، وذلك حين قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه؛ فإن هذا هو حكم الممتنعات أو المعدومات على أقرب الأحوال.

    وقوله: (وإن كنا إذا قلنا: إن الشمس والقمر في السماء، يقتضي ذلك، فإن حرف (في) متعلق بما قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف والمضاف إليه):

    فإذا أضيف إلى الله فلا شك أنه مختص به، وإذا أضيف إلى المخلوق فلا شك أنه مختص به.

    ورود حرف (في) في كلام العرب على معان مختلفة

    قال المصنف رحمه الله: [ولهذا يفرق بين كون الشيء في المكان، وكون الجسم في الحيز، وكون العرض في الجسم، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الورق؛ فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصية يتميز بها عن غيره، وإن كان حرف (في) مستعملاً في ذلك كله].

    بين المصنف رحمه الله أن حرف (في) قد استعمل في جميع هذه الموارد، ومع ذلك فإن الحقائق الأربع هنا حقائق مختلفة، فإذا كان كذلك وهذا بين المخلوقات، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ ولهذا كانت العرب في جاهليتها يعرفون هذا المعنى؛ وأنه من معاني الربوبية العامة؛ وهو مذكور في شعرهم، كقول عنترة :

    يا عبل أين من المنية مهرب إن كان رب في السماء قضاها

    فكون الباري سبحانه وتعالى في السماء، هذا أمر كانت العرب في جاهليتها عارفةً له، وهو من مبادئ الفطرة الأولى، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية في حديث معاوية بن الحكم السلمي : (أين الله؟ قالت: في السماء) ، فهذا معنىً مستقر، ولم يكن أحد حتى من الجاهليين يفهم من (أن الله في السماء) هذا القدر من التشبيه الذي يسقط مقام الربوبية؛ فضلاً عن أن يكون هذا لأرباب العلم والديانة والاتباع لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

    معنى قولنا: (إن الله في السماء)

    قال المصنف رحمه الله: [فلو قال قائل: العرش في السماء أم في الأرض؟ لقيل: في السماء. ولو قيل: الجنة في السماء أم في الأرض؟ لقيل: الجنة في السماء. ولا يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات؛ بل ولا الجنة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس، فإنها أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن) ، فهذه الجنة سقفها الذي هو العرش فوق الأفلاك، مع أن الجنة في السماء، والسماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15] وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48] ].

    ويفسر هذا العلو بحسب سياقه، فلما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48] عرف أن السماء الذي نزل منه الماء هو السماء الإضافي بالنسبة لأهل الأرض؛ ولذلك فما ذكر في حق الباري سبحانه وتعالى لابد أن يكون هو العلو المطلق الذي يختص به سبحانه وتعالى عن غيره، فإن الله تعالى قد قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] وبين أن هذا الماء ينزل من السماء، وكذلك الملائكة في السماء، ومعلوم أن هذه السماء ليس هي السماء التي أضافها الله سبحانه وتعالى إليه في سياق ذكر ذاته في قوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] فإن هذا قدر مخلوق، أي: ما يختص بمخلوقاته يكون مناسباً لهم، أما أنه في السماء فمعنى ذلك: أنه عليٌ عن خلقه سبحانه وتعالى، وأنه بائنٌ عن خلقه، مستوٍ على عرشه، كما أخبر عن نفسه جل وعلا.

    والحديث الذي ذكره رواه البخاري وغيره.

    قال رحمه الله: (ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء، كان المفهوم من قوله: مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أنه في السماء، أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء).

    وهذا أمر بدهي؛ ولذلك لم يتوهم أحد في قول الله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً [الفرقان:48] أكثر من المعنى المعروف، وهو أن هذا المطر ينزل من علو عن الأرض، فهذا الذي لم يدخله قدر من التوهم، فما كان في حق الله يعتبر من باب أولى، ولكن لولا دخول هذه المادة الفلسفية على قوم من المسلمين، فصار عندهم هذا الإشكال وهذا التردد وهذا التوهم الذي ما أنزل الله به من سلطان، وإلا فإنه كما قيل: إن العرب في جاهليتها، بل وجميع أمم الشرك كانت هذه المعاني -كعلو الرب سبحانه وتعالى، وأنه غني عما سواه، وأنه فوق خلقه ونحو ذلك- كانت من المعاني المستقرة التي لا تحتاج إلى كثير من الجدل والنظر والاحتراز ببعض القيود التي أحدثها من أحدثها من المتأخرين من أهل الكلام.

    قول الجارية: (إن الله في السماء)

    قال المصنف رحمه الله: (وكذلك الجارية لما قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء) إنما أرادت العلو مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها).

    فلم ترد الجارية أن الله في السماء كقولنا: إن الملائكة في السماء؛ بل أرادت بالسماء العلو، وحديث الجارية رواه الإمام مسلم وغيره عن معاوية بن الحكم السلمي ، وهو حديث طويل، وفيه: قال معاوية : (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاةٍ من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة) .

    وهذا الحديث دليل على أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وهو سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصديقه لهذه الجارية.

    العلو يتناول كل ما فوق المخلوقات كلها

    قال المصنف رحمه الله: [وإذا قيل: العلو. فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط به؛ إذ ليس فوق العالم شيء موجود إلا الله، كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق].

    قوله: (كما لو قيل: إن العرش في السماء، فإنه لا يقتضي أن يكون العرش في شيء آخر موجود مخلوق)؛ لأن هذا يستلزم تسلسل المخلوقات إلى ما لا نهاية، فالمصنف يقول: إذا علم أن العرش لا يستلزم التسلسل في المخلوقات؛ علم أن معنى (أن الله على عرشه) أي: أنه عليٌ على سائر خلقه، ولما كان علياً على خلقه، وأنه فوق العرش، مستوٍ عليه استواءً يليق بجلاله؛ كان علوه على غير العرش من مخلوقات من باب أولى، فإن العرش هو أعظم المخلوقات، وهو أعلاها، ولما كان العرش هو أعظم المخلوقات وأعلاها، والله عليٌ على عرشه، مستوٍ عليه؛ علم من هذا أنه عليٌ على سائر خلقه؛ ولهذا لما ذكر الاستواء ذكره في مقام ذكر علوه على عرشه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ولما ذكر العلو جعله مطلقاً ولم يعين بشيء من مخلوقاته، فقال: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] وقال تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] فهذا العلو موافق لهذا العلو، وإن كان ما ذكر في استوائه على العرش له اختصاص من جهة المعنى كما هو معروف.

    قال رحمه الله: [فإذا قدر أن السماء المراد بها الأفلاك؛ كان المراد أنه عليها، كما قال: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] وكما قال: فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:137] وكما قال: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] ويقال: فلان في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيء فيه].

    يبين المصنف هنا أن قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يراد به العلو، فلو قال قائل: إن السماء هنا هي السماوات المخلوقة، قيل: حتى لو قيل بهذا المعنى في قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] فإن تفسير هذه الآية سيكون: أي: على السماء، فكلا التفسيرين يدل على العلو.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766198104