هذا هو المثل الثاني الذين ذكره المصنف في الرد عل النفاة، وهو الروح؛ فإن الروح قد وصفت بصفات وصف الجسد بها على حركته، ومع ذلك لا يلزم أن تكون ماهية صفة الروح كماهية صفة الجسد، فهذا تباين في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين مخلوقين، فبين الخالق والمخلوق من باب أولى.
وهذه هي طريقة ابن سينا ، وله قصيدة مشهورة في هذا، مطلعها:
هبطت إليك من المحل الأرفع .........................
فهذه طريقة هؤلاء المتفلسفة: أنهم يعظمون مقام الروح، ويصفونها بما يصفون به واجب الوجود.
وفي الجملة: الكلام في الروح جمهوره لا أصل له، إنما الذي يُقر به من مسألة الروح: أنها مخلوقة، وأنها تقوم بالجسد، وأنها تتصف بما وصفها الله به، وأن لها حركة تناسبها، وأنها تقبض ...إلخ.
وأما الزيادة على ذلك فإن هذا من باب التكلف، والله تعالى يقول: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] ولذلك فلا ينبغي الزيادة والنظر في مسألة الروح، وليست من المسائل التي عُني الأئمة المتقدمون من الصحابة ومن بعدهم بتفصيلها، وليس ذلك من العلم الشريف -أي: التفصيل فيها- وليست الإحاطة بذلك هو موجب الهداية، أو عدم الإحاطة به هو موجب الضلالة، ولذلك فلو كانت الإحاطة بتفصيل العلم بها هو موجب الهداية لبينه الله لمّا قال لنبيه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء:85] فعُلم أن عدم العلم بتفصيلها لا يوجب ضلالهم عند الحقيقة إلا أن يكون مكابرة منهم.
ومما ينبه إليه: أن ابن القيم رحمه الله في كتابه الروح، وإن كان قد رد رداً حسناً على بعض الأقوال الفلسفية وغيرها، إلا أنه توسع في مسألة الروح، وقال أقوالاً تخالف أقوال المتفلسفة، لكن لا يلزم أن تكون هي أيضاً صحيحة، فكثير من المباحث في كتاب الروح لا أرى أن له أهمية أصلاً، ولعله كان الأفضل أن لا يبالغ في هذا التفصيل، إنما يقال: إن الروح هي حقائق عامة، فهي موجودة، وهي مخلوقة من خلق الله، وتتصف بصفات تناسبها... إلى غير ذلك من صفاتها، ويذكر ما جاء فيها من نصوص الكتاب والسنة، والحقائق العامة المعروفة بالعقل والحس، أما ما زاد على ذلك من التكلفات، فهذا كله نوع من التخيل ليس إلا.
وهذا ما يزعمون أنه حق واجب الوجود، تعالى الله عن ذلك! ولذلك يقول ابن سينا : "إن الله يعلم الأشياء علماً كلياً"، وقد نُسب المتفلسفة إلى أنهم ينكرون علم الله بالجزئيات، مع أنه يوجد في كلام ابن سينا أنه يقول: "وواجب الوجود يعلم الأشياء كليها وجزئيها"، ولكن معنى كلامه هذا: أنه يعلم الأشياء كليها وجزئيها بعلم كلي، هذا هو مقصود ابن سينا ، وإلا فهو لا ينفي العلم بالجزئيات على المعنى البسيط الذي قد يتبادر للذهن، فهو يقول: إنه يعلم الأشياء كليها وجزئيها، وهذا نص كلامه في التعليقات، والإشارات، والتنبيهات، وفي كتاب الشفاء، وغيرها من كتبه يصرح بأن الله يعلم الكليات والجزئيات، لكنه يقول: إنه بعلم كلي؛ لأنه يمتنع عنده مسألة الفهم والمشيئة، وورود الأفعال، وتعلق الفعل بالمفعول.. وغير ذلك، فهذا كله من باب التحقيق للتجريد عنده، الذي هو التعطيل في حقيقته.
قال رحمه الله: [وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة. وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها، ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع].
وهم يزعمون أن هذا تشريف لها؛ لأن واجب الوجود عندهم كذلك.
هذه الفلسفة العقلية التي كانت بين أرسطو وبين أفلاطون ، وما يسمى بالمثل الأفلاطونية، وهي المسائل الكليات، بمعنى: أن ثمة كلياتٍ مجردة موجودة قائمة في الخارج، والحقيقة أنه لا يوجد في الخارج إلا المعينات، أما الكليات المجردة فليس لها ماهيات قائمة بنفسها موجودة.
قال رحمه الله: [وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان، فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال، الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال].
فلا توجد كلية إلا في الأذهان، فالكليات موجودة وجوداً ذهنياً، أي: معقولة ومعلومة، أما في الخارج فلا يوجد إلا المعينات.
العناصر: هي الأشياء الأولى، وقد اختلفوا في ما هي العناصر؟ فمنهم من يقول: الهواء والماء، ومنهم من يزيد النار.. وغير ذلك، فهذه العناصر هي المبادئ الأولى لوجود الأشياء في تقدير الفلسفة، ثم المولدات من هذه العناصر، وهي المركبات من عنصرين فأكثر.
فيقول المصنف: إن الروح عند هؤلاء ليست هي الجسد، ولا هي العناصر، ولا هي المولدة من العناصر، وإنما هي من باب العالم الآخر الذي لا يستطيعون كشفه.
وقوله: (فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة):
أي: يعرفونها بالسلوب حتى لا تشارك العناصر، وحتى يميزوها عن العناصر والمولدات عنها.
وقوله: (وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ):
وذلك من باب الرد على المتفلسفة، (وكلا القولين خطأ)، فإنها وسط بين هذا وهذا، وسط بين السلب المحض، وبين المرحلة الثانية وهي مسألة الأرواح.
فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه ويتبعه بصر الميت -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا خرج تبعه البصر) ، وإنها تُقبض ويعرج بها إلى السماء- كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح].
ولذلك قال الأئمة: إن الله لا يقال: إنه جسم، ولا يقال: إنه ليس بجسم؛ لأن هذا لفظ مجمل حادث، وكذلك الروح، فإذا قيل: هل الروح جسم أم ليست بجسم؟ قيل: ما المقصود بالجسم؟ فإن قصد بالجسم الموجود، فهي جسم، وإن قصد بالجسم البدن، فليست جسماً من هذا الوجه، فالمعنى فيه تفصيل.
والغالب على المتكلمين ونظار المتكلمين أنهم يقاربون الروح إلى نظام وعالم الأجساد، بخلاف المتفلسفة، فإنهم يسلكون معها طريقة التجريد والسلوب.
قوله: (والعقول قاصرة عن تكييفها):
فمن باب أولى عن تكييف صفاتها، وهذا بين، فإذا قيل لأحد: كيف تصعد الروح وكيف تنزل؟ فلن يستطيع أن يعطيك علماً مفصلاً بالكيفية، فإذا كانت العقول قاصرة عن تكييفها، فمن باب أولى أن تكون العقول قاصرة عن تكييف صفات الله تعالى.
وقوله: (والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته، أو بمشاهدة نظيره):
أي: تدرك كيفيته وماهيته، والروح لم نشاهدها، ولم نشاهد لها نظيراً، فإذا كان هذا في الروح -ولله المثل الأعلى- فمن باب أولى في حقه سبحانه وتعالى.
وعدم علمنا بماهية وكيفية صفات الروح، لم يلزم منه عدم الإقرار بصفاتها؛ بل نقر بصفاتها، وهذا إقرار ضروري، ومع ذلك نقر بعدم العلم بكيفية صفاتها، وهذا أيضاً إقرار ضروري، فحصل انفكاك بين هذا وهذا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر