أمـا بـعـد:
أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،
الشاب السالك في طريق الدعوة إلى الله جل وعلا، يحتاج إلى بصيرة في أمر دعوته، فلا ينبغي له أن يمضي قدماً في هذا الطريق دون أن يتبصر ويراجع نفسه بين الحين والحين، ويعرض نفسه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وليعرف ما كان به من صواب فيزداد منه، وما كان به من خلاف ذلك فيبتعد عنه ويحاذره، لأن الخطأ يسرع إلى الفرد وإلى المجتمع ما لم يكن هناك مراجعة وتصحيح واستعداد نفسي للتخلي عن الأخطاء، والتمسك بالفضائل والأشياء التي تثبت الأحداث والوقائع أنها صواب.
النظر الأول: إلى النص الشرعي، وهو نظر تأمل وتدبر واستنباط، ليفهم النصوص ومعانيها وما تدل عليه.
والنظر الثاني: إلى الواقع الذي يعيشه، وهو نظر مراجعة وتحليل وتأمل؛ ليعرض هذا الواقع على ما فهمه من الكتاب والسنة فيصححه على ضوء ذلك الفهم.
وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنـزَّلْنَاهُ تَنـزِيلاً [الإسراء:106] فنـزل القرآن مفرقاً بحسب الوقائع، يقع في المجتمع حادثة، فينـزل القرآن الكريم يعالج هذه الحادثة، لكن أمد النص أوسع من الحادثة، ولذلك يقول الأصوليون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بمعنى أن القرآن حين ينـزل، أو توجيهات الرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً وإن كان لها سبب محدد معروف للمجتمع المدني في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن النص يعالج هذه الحادثة إلى يوم القيامة وإلى قيام الساعة.
فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الهجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:{ويحك! إن شأن الهجرة لشديد، فهل لك من إبل تؤدي حقها؟ قال: نعم! قال: فاعمل من وراء البحار؛فإن الله لن يترك من عملك شيئاً}.
الوقفة التي نقفها أمام هذا الحديث هي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينـزل الناس منازلهم، ويعطي كل إنسان من التوجيه بقدر طاقته، أرأيتم لو كان عند إنسان منا مصباح كهربائي، له نسبة معينة أو طاقة معينة، فربط هذا المصباح بتيار كهربائي أقوى منه، ماذا تكون النتيجة؟
النتيجة أنه يحترق! وكذلك العكس: لو ربط بتيار كهربائي أضعف منه، فإنه لا يؤدي طاقته كاملة، بل قد لا يؤدي طاقته بالكلية -أحياناً-.
إذاً فكل إنسان له طاقة ينبغي أن يعامل على ضوئها، فلا يزاد له فيظلم ويحمل ما لا يطيق، ولا ينقص منه فلا يؤدي ما يمكن أن يقوم به.
إنسان عنده أموال طائلة.. ملايين أو بلايين الريالات، هل مقدار الزكاة الواجبة عليه مثل مقدار الزكاة الواجبة على إنسان لا يملك إلا مبلغاً بسيطاً، هل مقدار الزكاة متفق في الحالين؟ فالزكاة تزداد بحسب كثرة المال الذي أعطاه الله للإنسان، حتى يصل الإنسان إلى حالة لا يجب عليه فيها زكاة، متى ذلك؟ إذا لم يبلغ ماله نصاباً، فلا زكاة عليه ما لم يبلغ نصاباً فمن شروط وجوب الزكاة: بلوغ النصاب.
والكلام نفسه يقال في أشياء أخرى، مثلاً: العلم، إنسان عامي لا يعرف من الدين إلا ما لا بد له منه من القضايا الكلية، هل المطلوب من هذا العامي أن يفتي ويجتهد في النوازل التي تنـزل بالأمة؟ لا! إنما لو تدخل في هذا الأمر لكان مقحماً نفسه فيما لا يصلح له وفيما ليس له بأهل، لكن لما تأتي إلى عالم آخر أعطاه الله من العلم في القرآن والسنة والفهم والبيان والقدرة والقبول ما لم يعط غيره، أليس من الواجب عليه أن يقوم بزكاة هذا العلم الذي أعطاه الله جل وعلا بالفتوى والتعليم ونفع الناس؟ لا شك أن هذا هو الواجب، فاختلف الواجب الشرعي بحسب ما أعطى الله هذا العالم من العلم.
عندك إنسان -مثلاً- أعطاه الله عقلاً وذكاءً، وآخر دون ذلك، فهل يطالبون شرعاً؟ كل إنسان يطالب بما يستطيع لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
وهذا متعذر؛ لأن الناس لا يمكن تشكيلهم بهذه الصورة، بل إن بعض الدعاة أو بعض المعلمين، أو بعض المربين ربما يفرض على طلابه برنامجاً يكون سبباً في نكوص بعضهم..! بمعنى أنه يطلب ضريبة باهظة، قد يستطيع أن يؤديها من الطلاب واحد أو اثنان أو عشرة، لكن توجد مجموعة لا يملكون دفع هذه الضريبة، ولذلك يتراجعون ولا يستمرون في الطريق.
وهذا هو الواقع بالنسبة لطريق الإسلام، لأن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] تشعره بأنه لن يخسر شيئاً كثيراً إذا استقام، قد يكون هذا الشاب -مثلاً- في زمان فساده وانحرافه رائد مجموعة من السفهاء في أعمال الفساد والانحلال والضياع، فلا بأس أن تشعره بأنه يستطيع أن يؤدي دوراً طيباً مع زملائه وينفعهم، فمثلما كان جباراً في الجاهلية، يجب أن يكون له دور في الإصلاح، فلا يكون جباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام! بالأمس كان مقلقاً للحي بأكمله، واليوم عندما استقام واهتدى صار يخفي رأسه، ولا أحد يدرك وجوده، ولا ينتفع منه، لا يصلح هذا، إذا كان عند هذا الإنسان -مثلاً- طموحات معينة، تلبى هذه الطموحات ولا تحطم، تلبى لكن بصورة معتدلة؛ لأن الاعتدال مطلوب في كل شيء.
جاء أبو سفيان، وهذا له قصة طويلة جداً، وفيها عبر وعجائب، وهي قصة صحيحة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحبس أبو سفيان، يحبسه العباس بن عبد المطلب عند حطم الخيل، أي في طريق الخيل خيل المسلمين- حتى يرى قوة المسلمين، فكلما مرت به قبيلة من القبائل، معها راياتها أو ألويتها وجنودها، انبهر أبو سفيان!
فيسأل: من هؤلاء؟ فيقول العباس: هذه قبيلة كذا، هذه مزينة، هذه جهينة، هذه بني سليم، فيقول أبو سفيان: مالي ولبني فلان؟ مالي ولمزينة؟ مالي ولجهينة؟ مالي ولهؤلاء؟ ما الذي جاء بهم؟ وكأنه لا يعنيه أمرهم، حتى جاءت كتيبة المهاجرين والأنصار، وكانت تسمى الخضراء لكثرة السلاح فيها، لا يرى منهم إلا الحدق.. لا يُرى إلا عيونهم، فقال: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون والأنصار.
قال: يا عباس، والله ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة! أي هؤلاء ما لأحد بهم طاقة، ولا يقف في وجوههم أحد، ثم التفت إليه وقال: يا عباس والله لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه العباس أو نخسه بيده قال: ويحك يا أبا سفيان إنها النبوة، قال أبو سفيان: فنعم إذن، كأنه سلم وما سلم.
فـأبو سفيان راح لقريش يخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليهم، وأنه على مشارف مكة فقال الناس: ما وراءك؟ قال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، الرجل ذكر أشياء تتعلق به هو!! فقال له الناس: قاتلك الله! وما تغني عنا دارك؟! دارك تسعة عشر أو عشرين أو مائة، لكن بقية الناس أين يذهبون؟ قال: {ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن} فذهب الناس إلى بيوتهم وإلى المسجد.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام حين خص أبا سفيان، ليس لسابقته في الإسلام، ولا لمزيد جهاده وبلائه في الإسلام، فهو حديث عهد بالإسلام، لكنه رجل يحب الفخر، فعلم الرسول عليه الصلاة والسلام أن من تأليف قلبه على الإسلام أن يقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وما خسر الإسلام شيئاً بذلك، بل كسب، ولذلك أسلم أبو سفيان وحسن إسلامه، ومثل كثير من هؤلاء المؤلفة قلوبهم، أسلموا وحسن إسلامهم.
فلا بد أن يدرك الداعي إلى الله جل وعلا والمعلم أنه أمام أعداد كبيرة من الناس، وأن كل إنسان عنده من الإمكانيات ما ليس عند غيره، فهناك من عنده مواهب سواء في الحفظ، أو في طلب العلم، أو في الخطابة، أو في الشعر، أو في الكتابة، أو في أي موهبة وهبها الله، وهؤلاء في حاجة شديدة إلى من يتعهد هذه المواهب ويسقيها وينميها؛ لتستخدم في سبيل إعزاز الإسلام ونصره.
وفي المقابل هناك من هم دون ذلك، من يحتاجون أن يقادوا إلى طريق الخير رويداً رويداً، ويساقوا إليه سوقاً لطيفاً لا عنيفاً، حتى تألف قلوبهم الخير، وتستسلم له، ويستقر في نفوسهم؛ ولا يلزم أن يتحولوا إلى علماء أو حفاظ أو أئمة أو ما أشبه ذلك، بل كل إنسان يغترف بحسب إنائه؛ فالخير مثل البحر الذي ليس له ساحل ولا نهاية، والناس مثل القوم الواردين على هذا الماء ليغترفوا منه، كل إنسان يغترف بحسب الإناء الذي معه، فالذي معه إناء كبير يأخذ ماءً كثيراً، والذي معه إناء صغير يأخذ ماء قليلاً، وربما يوجد إنسان ليس معه إناء، فيكتفي بأنه ينقع غلته ويأخذ ما يحتاجه لوضوء أو شرب، ثم يدع الباقي.
هذه خاطرة مرت بذهني وأنا أراقب حال بعض الدعاة إلى الله جل وعلا، وأقرأ بعض النصوص المتعلقة بهذا الموضوع كما أسلفت، فأحببت أن ألقيها بين أيديكم، وأترك المجال بعد ذلك إذا كان أحد منكم لديه إضافة، أو تعليق، أو -أيضاً- سؤال، فيمكن أن نستفيد منه في الدقائق الباقية..!!
الجواب: نعم! إذا وجدت من المهتدي إلى الله تعالى إقبالاً على الخير، فينبغي أن تواجه هذا الإقبال بالتشجيع، وبعض المربين أو المعلمين قد لا يشجع هذا المقبل بحجة أنه يقول: إنني أعرف أن هذا حماس عنده سوف يزول، فلا داعي أنني اندفع معه، والواقع أن هذا ليس بجيد؛ لأن هذا الإنسان المقبل إذا فتر بدأ يعلل ويفسر فتوره بأن فلاناً حطمني، ولما أتيت إليه واجهني بكذا وكذا.
فينبغي إذا وجدت من المقبل إلى الله جل وعلا حماساً أن تشجعه على ما هو بصدده، لكن إذا وجدت أن عنده خطوات غير جيدة، فيمكن أن تنبهه إلى هذه الخطوات، وإذا منعته عن أمر فتحاول أن تعرض عليه وتذكر له ما يكون بديلاً عنه، بحيث إن هذا الإنسان يكون مشغولاً بالخير، فإذا رأيت أن هذا الإنسان يفكر في أمر غير جيد أو غير مناسب؛ فلا تقل له: هذا لا يصلح.. ثم تتركه! بل إما أن توافق على ما ذكر وتعطيه بعض التوجيهات، لأنه قد يكون مصيباً فيما اقترحه عليك، لكن أنت بسبب ضعف التجربة لم تتقبل هذا الاقتراح، وإن كان غير مصيب، فاذكر له أمراً آخر يستطيع أن يستثمر فيه ما وهبه الله تعالى، ويكون فيه الصواب والسداد؛ لأن الفراغ داء قاتل بالنسبة لمثل هذا الإنسان.
الجواب: هذا قد يقع - أحياناً - أن هذا الوافد الجديد قد يؤثر على المجموعة، والإنسان إذا وضع هذا الشاب بينهم، فينبغي له أن يقتدي بأضعفهم، فيراعي حاله، ولذلك فبإمكانه أن يضع هذا الشاب الجديد ومن كان على شاكلته في حلقة أخرى، سواء قام بها هو، أو وكل بها أحد الطلاب البارزين، أو تعاهدهم على انفراد، أو جعلهم يشاركون في أمور معينة، حتى يتيسر لهم الجو المناسب، فإنني أرى أن بقاء هذا الشاب الجديد المهتدي المبتدئ خارج هذه المجموعة التي التزمت خطاً منذ سنين بالحفظ، والمراجعة، والضبط، والحضور، أن بقاءه خارجهم قد يكون أفضل له في حالات كثيرة من دخوله معهم وهو لا يستطيع أن يجاريهم، فربما يحدث له نوع من النكسة نتيجة لذلك، وربما يخيل له أن هذا هو الطريق الوحيد للهداية أن يكون مثل هؤلاء، وما دام لا يستطيع إذن فليعد إلى ما كان عليه من قبل، فليبحث المعلم لهذا المبتدئ عن حل آخره دون أن يقحمه مع هذه المجموعة التي سبقته في مجال الحفظ، والمراجعة، وطلب العلم ونحو ذلك.
الجواب: الإنسان قد لا يستطيع أن يحدد دائماً أن هذا يكفي منه كذا، وهذا يكفي منه كذا، إلا من خلال المجالسة الطويلة، وربما يقع أحياناً مثل ما قال الشاعر:
ترى الرجل نحيفاً فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور |
بعض الناس بطبيعته إذا قابلته أول مرة، وجدت أنه متحرك ويذهب يقترح ويتكلم، وخيل لك أن هذا الإنسان مهم وطالب علم، ويمكن أن ينفع الله به، لكن إذا استمرت المجالسة، تبين لك أن هذا الإنسان مثل الطبل -كما يقال- يقرع فيسمع له صوت من بعيد لكن ليس له حقيقة!
وبعض الناس على النقيض من ذلك، أول ما تراه يخيل إليك أن هذا إنسان خامل وهادئ، ولا يمكن أن ينفع أحداً، لكن كلما ازددت قرباً منه بان لك أن الرجل عنده عقل، وسمت، وعلم، وفهم، وإخلاص، وحفظ، فلأول وهلة لا يستطيع الإنسان أن يحكم على طلابه، لكن مع المجالسة، والمعاشرة، والذهاب، والإياب، والمحادثة تتبين مواهب الرجال، فالإنسان يبذل الخير للناس بكل ما يستطيع، لكن بعد فترة وجد أن هناك أناساً لا يتحركون من أماكنهم في الحفظ ضعفاء، قد يحفظ الواحد منهم شيئاً يسيراً، ثم لا يستطيع مراجعته، وقد يخطئ، فلا يستطيع أن يسير مع زملائه على حسب المنهج، وكذلك في مجال الأعمال الخيرية، والرجل ليس لديه قدرة على الاستيعاب والفهم، فيه ضعف في فهمه واستيعابه فمثل هذا يدرك أن له قدراً من الاستيعاب بقدر ما يستطيع، يبذل له من الخير بطاقة معينة ولا يطالب بأكثر من ذلك.
الجواب: الحديث لا يعني أن هذه أشياء ينوب بعضها عن بعض، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث بالذات كان يتكلم عن الصدقات، والصدقة أول ما تطلق ماذا يفهم منها؟ المال.. الصدقة المالية، فالرسول عليه الصلاة السلام يقول: {على كل مؤمن صدقة} أي بالمال، هذا في الأصل، {قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق}فإذا لم يكن عنده، فهنا نقول: مفهوم الصدقة يكون أوسع، فأعمال الخير التي يعملها تكون له صدقة إذا احتسب فيها، مثل: إعانة ذي الحاجة الملهوف، أو إرشاد الأعمى في أرض الضلالة، أو حمل الكل، أو هداية المنحرف، أو الكلمة الطيبة، أو البسمة في وجه أخيك المسلم، أو إفراغك من دلوك في دلو أخيك، أو إيثارك له بالخير على نفسك، أو حملك لإنسان على سيارتك أو راحلتك، أو ما أشبه ذلك من أنواع الصدقات التي ذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعض هذه الصدقات مستحب، وبعضها واجب، والواحد منها قد يكون في حالة مستحباً وفي حالة أخرى واجباً، فمثلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قد يكون ليس بواجب في حالات، وذلك إذا وجد من يقوم بهذا العمل وقام بالفرض، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، هنا لا يجب عليك أن تأمر وتنهى ما دام غيرك قد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الراجح: فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقي، فما دام من يأمر وينهى موجوداً فقد زال الوجوب، لكن بقي الاستحباب، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر حينئذ؛ إما وجوباً في حالة عدم وجود من يأمر وينهى، أو استحباباً إذا وجد من يأمر وينهى، وفي الحالين فهذا صدقة من الإنسان على نفسه، وصدقة من الإنسان على من أمره بالمعروف أو نهاه عن المنكر، لأن من الصدقة على الإنسان: الإحسان إليه في أمور الدين والدنيا، بل إن الإحسان إليه في أمور الدين أعظم من الإحسان إليه في أمور الدنيا، فإن الإنسان لو مات جوعاً، ولم يجد من يطعمه لقمة يسد بها جوعته، وكان هذا الإنسان مسلماً كان مصيره إلى الجنة، لكن لو كان هذا الإنسان شبعان ريان، يعيش في القصور الفارهة، وكان غير مسلم، فلم يجد من يرشده إلى الطريق الصحيح، ثم مات لكان مصيره إلى النار، ولذلك الله جل وعلا يقول: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191] يعني: ضرر الإنسان في دينه وفتنته عن دينه أشد من قتله، لأنه قد يقتل شهيداً فيكون مصيره إلى الجنة، فالإحسان إلى الإنسان في أمر دينه أعظم وأفضل عند الله جل وعلا من الإحسان إليه في أمر دنياه.
الجواب: إذا كان الإنسان في زمن صبوته مولعاً بقراءة ما هبَّ ودبَّ من القصص والكتب وغيرها، فهداه الله إلى طريق الخير، فهل من السليم أن يستمر على قراءة هذه القصص والكتب الأدبية، لكنها ذات طابع إسلامي؟ أرى أن هذا الأمر بالنسبة له حسناً لأنه يتناسب مع قراءته السابقة، لكن ينبغي مع ذلك أن يحرص على أن يمرن نفسه على قراءة الكتب الأخرى المفيدة النافعة التي تشرح له أصول دينه: ككتب العقيدة الصحيحة، وكذلك التي تشرح له أحكام دينه الفرعية: ككتب الفقه والحديث ونحوها، ولا بأس أن يقرأ -مثلاً- كتب التاريخ والتراجم وغيرها؛ لأن فيها متعة وجاذبية، وفي نفس الوقت فيها فائدة كبيرة علمية وعملية للإنسان، لا بأس أن يتدرج الإنسان في سياسة نفسه، النفس تحتاج إلى سياسة في كل شيء: في العبادة، في القراءة، في أمور الأخلاق، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح البخاري:{ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله} وفي الحديث الآخر:{العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، والفقه بالتفقه} فيحتاج الإنسان إلى أن يسوس نفسه، ويعودها، ويمرنها على الخير شيئاً فشيئاً، حتى تلين ويسلس قيادها له.
الجواب: في نظري أن من شروط نجاح المعلم: أن ينظر إليه تلميذه نظرة ارتياح وإعجاب؛ فإن الإنسان إذا لم يكن معجباً بشيخه، مرتاحاً إليه، فقد لا يستفيد منه، مهما كان عنده من العلم، ولذلك من المهم أن يكون الأستاذ أو المعلم أو مدرس الحلقة أعلى مستوى من طلابه في الجملة، فإذا كان الطالب أكبر من شيخه بكثير، فهذا في الغالب يحول دون التعلم والاستفادة، ويوجد حالات -لكنها قليلة- يكون للطالب فيه أريحية لا يبالي، بل إنه قد يتلقى عن تلميذ من تلاميذه، فهناك من درس في المدرسة الابتدائية، وظل هو يدرس في المدرسة الابتدائية، ولكن طلابه ترقوا حتى صار منهم من يدرس ربما في أعلى المراحل، فقد يدرس التلميذ أستاذه الذي كان يدرسه في الماضي، بعض الأساتذة عنده أريحية، وعنده قوة نفس، بحيث إنه لا يتضايق من ذلك، ولا يجد فيها أدنى حساسية، وهذه نعمة كبيرة، لكن من يوجد فيه هذا؟! فالغالب في الناس أن الكبير يصعب أن يتلقى عن الصغير، ولذلك أرى أن مثل هؤلاء الطلاب ينبغي إذا كانوا كباراً، وفارق السن واضح بينهم وبين معلمهم أن يحالوا إلى حلقة أخرى، أو تنشأ لهم في الحي حلقة يكون مدرسها مناسباً لهم، أو أن يكون هناك حل ثالث، ليس ضرورياً أن يلتحقوا في حلقة بمسجد إذا كان هناك من يستطيع أن يوجههم بطريقة أخرى، فيمكن أن يكون هذا بديلاً.
الجواب: إذا كانوا مجموعة يلتقون على سهر، ولهو، ولعب، ومعاصي، ووضع الإنسان في باله أن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يقف مع نفسه قليلاً، وينظر في حال هذه المجموعة ويصنفهم، فيجد أن هناك مجموعة منهم أقرب إلى الخير، وإمكانية الاتصال بهم أيسر من غيرهم، فيبدأ بهؤلاء، ولا مانع أن يبدأ بواحد، على شكل صلة أو زيارة، أو جلسة يتحدث معه ويزيل الكلفة التي توجد -أحياناً- في النفوس، بحيث يخرج ذلك الإنسان مرتاح من مجلسه، ثم إن أمكن أن تهديه كتاباً، أو شريطاً مفيداً، أو تتحدث معه في بعض القضايا شيئاً فشيئاً، وتستمر على هذا الأمر، وتبدأ -أنت أو غيرك- بخطوة مماثلة مع شخص آخر منهم، فيبدو لي أن أخذهم فرادى أفضل من مخاطبتهم جميعاً، لأنه كما قيل: الكثرة تغلب الشجاعة! فإذا دخل الإنسان بينهم وهو واحد وهم مجموعة، فهنا قد يتألبون عليه ويعترضون، فهذا يلقي كلمة، وهذا يلقي كلمة، وهذا يسخر، وهذا يستهزئ، فتضيع الفائدة، وربما يخرج الإنسان بانطباع غير حسن عن هؤلاء، كذلك فإن هذا الداعي إلى لله ربما يتأثر منهم، وبدلاً أن يجرهم إلى طريق الخير قد يجرونه إلى طريقهم، خاصة إذا كان ضعيفاً، كما أنه قد يكون عند إنسان منهم نوع استجابة، لكن إذا رأى إصرار زملائه تجاهل ما يحس به في نفسه من الرغبة إلى الخير، فأخذهم على شكل أفراد قد يكون أجدى في كثير من الأحيان.
الجواب: هذا قد يوجد، لكن الاعتدال خلق نفيس جداً، لا تقول: قد يؤثر فيه الرياء، وبالتالي تجد أنك تقمعه فتؤثر فيه خلقاً معاكساً، لأن كل خصلة خيرة الإفراط فيها والتفريط مذموم، فالفضيلة محاطة برذيلتين إما إفراط أو تفريط، وكلاهما مذموم، فقد يوجد إنسان عنده رياء، وفي مقابل ذلك قد يوجد شخص آخر ليس عنده رياء، ولكن عنده ضعف وازدراء شديد لنفسه يمنعه من القيام بالواجب، وهذا موجود، فأنت ربما تمنعه خوفاً عليه من الرياء، لكنه يكون سبباً في وقوعه في خلق آخر ذميم وهو احتقار النفس وازدراؤها احتقاراً شديداً يمنعه من القيام بالواجب، والاعتدال مطلوب في هذا، فتعطيه قدراً من المكانة تحاول فيه أن يسدد ويقارب.. فلا هذا ولا هذا.
الجواب: لا شك أن الدعوة إنما هي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالداعي يجب أن يكون متشبعاً بفهم القرآن والسنة والعلم النافع حتى يفهم ما يدعو إليه، وحتى لا يقع في الخطأ، فكم من إنسان غلب عليه الحماس في الدعوة إلى الله عز وجل فصار يدعو إلى أمور ربما لا تكون صحيحة، وربما يدعو إلى بدعة وهو يظنها سنة، وربما يدعو إلى خطأ وهو يظنه صواباً، ولكن لا يعني هذا أن يقول إنسان: أنا أريد أن أتفرغ لطلب العلم، فإذا حصلت العلم انتقلت إلى الدعوة إلى الله، لأن العلم لا يمكن أن تحصله كله حتى الموت، لكن: {بلغوا عني ولو آية} فادعُ وتَعلَّم وعَلَّم.
الجواب: يجب على طالب العلم أن يحرر الأدلة التي يستدل بها، فقصة العابد هذه ليست صحيحة، التي فيها أن الله قال: إنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط، كما أن هذا العابد -على فرض صحة هذه القصة- كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة له فرض عين، لأنه هو الوحيد في القرية الذي يعلم ويعبد الله، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة له فرض عين وليس فرض كفاية، أي أنه واجب وليس مستحباً.
الجواب: هذا ينبغي أن يتنبه إليه، فالإنسان قد يكون عنده شيء من المعرفة؛ فربما يفرح بما عنده من العلم، كما قال الله عز وجل: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] فالفرح بما عند الإنسان من العلم يحول بينه وبين الاستفادة من الغير، وقد قال بعض السلف كلمة حكيمة، يقول: [[لا أحد أقل من أن يفيد، ولا أحد أكبر من أن يستفيد]] يعني أكبر الناس علماً قد يستفيد من طلابه، وأقل الناس علماً قد تجد عندهم فائدة تخفى عليك، فالحذر الحذر من أن يغتر الإنسان بما عنده من المعلومات جمعها من هنا وهناك، ويخيل إليه أنه أصبح في غنى عن الآخرين، وأنه ليس بحاجة إلى التوجيه من زملائه وأقرانه، فضلاً عن شيوخه وأساتذته.
الجواب: العجب أو الإعجاب بالنفس لا شك أنه مرض خطير، ومؤد إلى حبوط العمل، والعلاج لمرض العجب ولسائر الأمراض القلبية يكون أولاً:
بالمجاهدة، وهي مجاهدة في مجال القلب بدفع هذا الأمر عن نفسه؛ لأنه ربما يخطر الخاطر عند كثير من الناس، لكن الفرق أن هناك من يستقر عنده هذا الخاطر، ويفرح به ويستجيب له، وهناك من يأبى هذا الخاطر ويدفعه عن نفسه، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.. كما أن على الإنسان إذا تأكد أن عنده عجباً في نفسه أن يبتعد عن المجالات التي تثير هذا العجب، ويحرص على أن يؤدي الخير، ويجاهد نفسه في عدم الظهور، فمثلاً: موضوع الصدقة، قد يكون من المناسب أحياناً أن يتصدق الإنسان ويعلن الصدقة، لماذا؟ لقصد أن يحث الناس على الصدقة، ويحرك غريزتهم إلى البذل والعطاء؛ لأن الناس إذا رأوا الذي يعمل الخير تشجعوا أن يعملوا مثل عمله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} ما معنى: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة }؟ معناه عَمِلَ عَمَلَ خَيْرٍ مشروعٍ مثل: الصدقة، أو التعلم، أو الدعوة، أو الجهاد، أو نحو ذلك، فرآه الناس فانتبهوا، فتحركت فيهم دواعي الخير، فعملوا مثل عمله.
لكن إنساناً آخر إذا أعلن الصدقة وجد في نفسه العجب والغرور، فنقول له حينئذ: يفضل أن تتصدق سراً حتى تطمئن إلى خلوص نيتك.
الجواب: الكتب كثيرة في الواقع، فمن الكتب كتب التفسير، فإن الإنسان يمكن من خلال قراءته آية من كتاب الله جل وعلا، أن يراجع كتب التفسير في هذا الآية، ثم يتأملها ويكتب فيها بعض الدروس والعبر والوقفات التي يستفيد منها الطلاب، كذلك كتب الحديث النبوي، فإنه قد يقرأ حديثاً، ثم يراجع شروح هذا الحديث في الكتب المعتمدة، ويتأملها ويستخرج منها دروساً يلقيها على الطلاب، كذلك كتب التراجم -كما أسلفت- قد يكتب ترجمة راوٍ من الرواة، ويستخرج منها دروساً وعبراً، لأن الناس يستفيدون من حياة الآخرين ويجدون فيها أسوة وقدوة.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك! نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر