يحسب كثير من الناس أن القدوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنما تكون في جزئيات وتفاصيل الأعمال الظاهرة، ويغفلون عن أن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأعمال الباطنة، التي هي أعمال القلوب أعظم وأولى، فإن ربه جل وعلا وصفه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فأولى بالمسلم أن يقتبس من نور هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الخلق العظيم، ما يكون زاداً له في هذه الدنيا وسعادةً له في الآخرة.
ومن الأخلاق التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام خلق الكرم والجود؛ حتى إنه لا يدخل الجنة بخيل، والسخي الكريم قريب من الله تعالى، وقريب من الناس والجنة، والبخيل بعيد من الله تعالى بعيد من الجنة.
وهكذا المسلم في قلبه إعراض عن هذه الدنيا، وإقبال على الآخرة، يتمثل في كرمه وجوده وسخائه، فلننظر كيف يكون الكرم، وكيف يكون البذل والجود، وكيف يكون العطاء.
وضُرب صلى الله عليه وآله وسلم في عرقوبيه حتى سال الدم من ورائه، وشج وجهه صلى الله عليه وآله وسلم، وكسرت رباعيته -سنه- في معركة أحد، فكان يقول:{كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم فأنـزل الله تعالى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] } بل أشد من ذلك وأعظم أنه عرض نفسه صلى الله عليه وآله وسلم للموت في سبيل الله، وكان يطلب الموت مظانه، حتى إنه قال: {والله لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} وفي إحدى المعارك ودّع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه الذين استشهدوا في تلك المعركة مضرجين بدمائهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشهدهم وجثثهم وقد صبغت بهذا اللون الأحمر من الدم، تمنى أن يكون نال مثل مصيرهم وقتل في تلك المعركة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: {والله لوددت أني غدرت مع أصحابي بحصن الجبل} أي: تمنيت أني قتلت كما قتلوا، إعلاناً أن هذا الجسد وقف لله تعالى، عليه (ختم الوقفية) فلا يصرف إلا في مرضاة الله؛ لهذا لا غرابة أن يقول الصحابة رضي الله عنهم: [[كنا إذا احمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم]].
وفي يوم من الأيام أصابهم في المدينة لكن أغرب وأعجب من ذلك ما حصل في معركة
فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه نموذج من الشجعان، خرج إليه في معركة خيبر رجل من اليهود يقال له: مرحب، كأنه قطعة من الموت وهو يرتجز والسيف في يده يهزه ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب |
أطعن أحياناً وحيناً أضرب إن حماي لحمي لا يقرب |
فخرج إليه علي بن أبي طالب حين تأخر الأبطال كلهم وهو يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره |
نكيلكم بالصاع كيل السندره |
(والحيدرة هو الأسد)فتوجه إليه وقطعه بالسيف نصفين، وكان يقول وهو في المعركة رضي الله عنه:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قُدِّر أم يوم قدر |
يوم لا قُدِّر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر |
انظر كيف هذا الكلام المنطقي والسليم، يقول: لماذا أهرب من المعركة، أأهرب من المعركة لأن أجلي مكتوب فيها؟ إذا كان أجلي مكتوباً فلن ينفعني الفرار، قال تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:16] أم أهرب من المعركة وأنا أعلم أن أجلي غير مكتوب فيها، إذاً فلن أموت وأجلي لم يأت بعد، فلا معنى للفرار أبداً، وهذا لون من أرقى أنواع الشجاعة والجود! إنه الجود بالنفس! قال الشاعر:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود |
واسأل نفسك يا أخي الكريم وأنت المسلم! ما الذي يمنعك من الصبر والشجاعة في سبيل الله، الآن القضية ليست قضية معركة دامية يدعى المسلم إلى نـزولها، بل القضية قضية معركة الكلمة؛ كلمة الحق، ما الذي يمنع المسلم من أن يقول كلمة الحق ويجهر بها؟! وما هو الذي جعل الكلمة تتلجلج في أفواه الناس؟! وما هو الذي زرع الرعب والخوف في قلوبهم؟! حتى إنهم إذا اجتمع منهم أربعة أو خمسة؛ ولو كانوا في مجلس فقال أحدهم كلمة الحق قال له الآخر: يا فلان! اسكت فإن للجدران آذاناً، ما هو الذي جعل الرعب يفتك بقلوبنا؟! إنه حب الحياة! وقد قال الشاعر:
يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول |
أما لو علم الإنسان أن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر فلن يكون في فمه ماء، بل سيكون قائلاً بالحق لا يخشى في الله لومة لائم، ولن يقدم على هذا من أجل أحد، ولن يؤخر -أيضاً- من أجل أحد، وقد قال: الإمام ابن حزم وهو من الشجعان الصرحاء في الحق:
قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن |
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن |
وأنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن |
دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن |
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله |
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
وقد خرج عليه الصلاة والسلام في يوم عليه بُرد لا يملك غيره، بُرد جميل أهداه إليه رجل فلبسه عليه الصلاة والسلام، فلما خرج به على أصحابه فرحوا بذلك وسرّوا؛ لأنه يسرهم أن يلبس مثل هذا عليه الصلاة والسلام، فجاء رجل فقال: { يا رسول الله: اكسني هذا -أعطني إياه- فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من بين أظهرهم ودخل بيته فخلعه، ثم خرج وأعطاه هذا الرجل فأقبل الناس عليه يلومونه ويعاتبونه ويقولون له: تعلم أننا فرحنا بهذا، وأنه لا يملك صلى الله عليه وآله وسلم غيره، وتعلم أنه لا يرد أحداً سأله ثم تطلبه منه، قال: إنني ما طلبته منه حتى ألبسه إنما طلبته منه عليه الصلاة والسلام حتى يكون كفني (أي حتى أكفن فيه إذا مت) قالوا: فكفن فيه رضي الله عنه وأرضاه }.
فكان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلاً، وربما استدان فأعطى، وربما اشترى شيئاً فدفع أضعاف ثمنه، وربما اشترى شيئاً فرد الثمن ورد المشترى نفسه، كما فعل مع جابر رضي الله عنه: { وجاء العباس رضي الله عنه إلى أكوام من الذهب والفضة فأخذ في حجره وحثا ثم حثا ثم حثا، فذهب ليقوم فلم يستطع أن يقوم من ثقل ما حمل، فطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يساعده فقال له: لا، لا أساعدك. فطلب من رجل آخر أن يساعده، فقام العباس رضي الله عنه، وقد ملأ حجره من هذا الذهب، شيء عجيب.
أي الشيء الذي أنا حصلت عليه بشجاعتي أعطيت الأقرع وعيينة ولم تعطني أنا: يقول آباؤهم ليسوا أحسن من أبي: آباؤهم ليسوا أحسن من أبي، وهم ليسوا أحسن مني، ومن خفضته اليوم لا يرفع إلى يوم القيامة، فأكمل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة، وبقي الأنصار رضي الله عنهم، فلم يحصلوا على ما حصل عليه هؤلاء، وهم المسلمون القدماء والمجاهدون البواسل والشجعان، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغطاً في مجالسهم وأحاديثهم، فجمعهم في خيمة ثم أتى إليهم وقال: {لا يأتي إلا أنصاري} فلما اجتمع الأنصار، جاء عليه الصلاة والسلام. ماذا تتصور أن يعطي الأنصار؟ المال؟ انتهى وما بقي في يده مال؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم ودياناً من الإبل والبقر والغنم وغيره، فماذا بقي لهم؟ فجاءهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاهم شيئاً آخر أثمن من الذهب والفضة، وأثمن من الإبل، فخطب وقال: {يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ قالوا: بلى. قال: وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا: بلى، قال: ومتفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: بلى. فلله ولرسوله المن والفضل، قال: مقالة بلغتني عنكم وحديثاً سمعته منكم، في أموال أو لعاعة من الدنيا أعطيتها أقواماً أتألفهم على الإسلام، -من أجل أن أؤلف قلوبهم على الإسلام- ألا يسركم أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من الدموع، وهم يقولون: رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً، رضينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً وحظاً} تكفينا أنت يا رسول الله، تكفينا أننا سوف ننقلب وأنت بين أظهرنا، وأنت عندنا نذهب بك إلى رحالنا فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلى السماء، وقال:{اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} كرم لا حدود له، إذا انتهى المال جاد بألوان أخرى من الأعطيات، كما رأيت عليه الصلاة والسلام. وكرمه صلى الله عليه وسلم بالمال شيء عجيب! حتى إنه لا يقول: لا. أبداً صلى الله عليه وآله وسلم: حتى إنه يعطي أحياناً أناساً قد لا يكونون مستحقين في نظر الإنسان العادي، ويترك من هو أحق منه في نظره رعاية للمصلحة، كما في حال المؤلفة قلوبهم، فهذا شأنه صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك تجد الواحد منهم إذا أراد أن يخرج زكاة ماله انقبضت يده، وبعضهم قد يسهل عليه إخراج الزكاة؛ لأنها حق مطلوب، لكن إذا أراد أن يتصدق ثقل عليه ذلك، حتى إنه يكاد ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه: {مثل المتصدق أو المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان أو جُنتان} ثم ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أن الرجل المنفق الكريم كلما أراد أن ينفق اتسعت هذه الجبة، حتى تعفي أثره، وأما ذلك البخيل فإنها تتضايق عليه حتى لا يستطيع أن ينفق، فيقبض يده، حتى ذكر الله تعالى من علامات المنافقين أنهم يقبضون أيديهم، يعني: بالعطاء. ألا تتذكر أيها المسلم قول سيدي وسيدك محمد عليه الصلاة والسلام: { يد الله ملئا لا تغيضها نفقة <يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، أرأيتم ما أنفق ربنا جل وعلا منذ أن خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه جل وعلا ولم ينقص منه شيئاً، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: {لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } تصور ماذا ينقص؟ لا ينقص شيئاً. فالله الجواد أعطاك ما أعطاك، وابتلاك فيما ابتلاك، لينظر أتشكر أم تكفر قال تعالى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
وفي صحيح مسلم -رحمه الله- ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة: {رجل من بني إسرائيل، كان يمشي فرأى سحابة في السماء، فسمع صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان -ينص على شخص معين- فمشى هذا الرجل حتى رأى السحابة توسطت المزرعة فأفرغت كل ما فيها في تلك المزرعة، فدخل المزرعة فإذا رجل داخل المزرعة يسوي الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ فقال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه هذا الرجل في السحابة، فقال: بالله عليك ماذا تصنع؟ قال: ماذا تريد بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السماء يقول: اسق حديقة فلان، فأحببت أن أعرف ماذا تصنع؟ قال: لا شيء، أنا عندي هذا البستان إذا خرجت غلته قسمتها ثلاثة أثلاث: ثلث آكله أنا وأولادي، وثلث أرده فيها، وثلث للفقير وابن السبيل والمسكين}. فلا توجد معجزة، والأمر واضح، فعرف أن الله تعالى سخر السحاب بل أرسل ملكاً مخصصاً يسوق السحاب إلى حديقة فلان بن فلان، لماذا؟ لأن هذا برنامجه، لماذا لا تجعل أيها المسلم برنامجك مثل برنامج صاحب الحديقة، ثلث ما يعطيك الله من المرتب إذا لم يكن عليك ديون تستغرق المرتب أو غيره، تصرفه في سبيل الله تعالى للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والمجاهدين، وأعمال الخير من طباعة الكتب وطباعة الأشرطة والقيام بشئون الدعوة إلى الله، ومساعدة المسلمين المحتاجين من الفقراء والمستضعفين والمنكوبين والمهاجرين وغيرهم، ممن يعانون اليوم ألواناً من الفقر لا يعلمها إلا الله.
فأين أنتم يا أثرياء المسلمين؟! وأين أنتم يا أنصاف الأثرياء؟! وأين أنتم يا أرباع الأثرياء؟! إنكم مسئولون، ما لكم لا تنصرون إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل ربما يوجد في جيرانكم اليوم في هذه البلاد ولا أقول في غيرها، ربما يوجد الجياع كثيراً، وقد وقفنا على أحوال كثيرة من أحوال الجياع وقد يوجد في البيت عشرات من الرجال والنساء والأطفال ولا يوجد من يقوم عليهم أبداً، ولهم أحوال إذا سمعها الأثرياء قالوا: ما كنا نتصور أن يوجد مثل هذا؛ لأن كل إنسان يقيس على نفسه، يرى أنه يعيش في رغد من العيش، وفي بحبوحة ونِعَم، وبيت واسع، فيظن أن الناس مثله، ولا يتحسس آلام ومصائب هؤلاء المسلمين المحتاجين هنا وهناك.
جوده في زكاة البحرين
جوده في غنائم معركة حنين
أتجعـل نهـبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمـع وما كنتُ دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم بخل بعض الناس في الإنفاق
إخلاف الله للمنفقين
وضع فقراء المسلمين
يوماً من الأيام كانت هناك جارية اسمها بريرة -أمة- وهذه الجارية لها زوج اسمه مغيث، فعتقت بريرة فلما عتقت رفضت زوجها هذا؛ لأنه عبد وهي حرة، فرفضته، وقالت: لا أريده. وكان شيخاً كبير السن، على حين أنه كان متعلقاً بها قد علقها فؤاده وأحبها، كأشد ما يكون الحب فلا يصبر بدونها أبداً، فلما رفضته أصابه من الهم والغم ما أصابه، حتى إنه يركض وراءها -كما في الصحيح- في شوارع الجود بالجاه في هذه الأيام
أما محمد صلى الله عليه وسلم النبي المختار الذي عنده من الأعمال الشيء العظيم حتى إن عائشة رضي الله عنها تقول: [[ما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان أكثر صلاته وهو جالس، بعدما حَطَمَهُ الناس]] لاحظ كلمة "حطمه"، من كثرة مجيئهم له دائماً وأبداً، هذا وفد يأتي وهذا وفد يخرج، وهؤلاء يسلمون، وهؤلاء يتحدثون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء يحاورونه على أمر من الأمور، وهذا جيش يذهب، وهذه سرية تأتي، وهذه أمور وجلائل من الأعمال كان يتولاها بنفسه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع ذلك كانت الجارية السوداء تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتأخذ به إلى أي سكك المدينة شاءت فتحدثه بأمورها، ماذا تتصور أنها ستقول للرسول عليه الصلاة والسلام؟! خادمة في أحد البيوت سوف تتكلم عن همومها الشخصية وأن أهل البيت يضايقونها، وأن فلانة قالت لها كذا، وفلان قال لها كذا، وهذا آذاها، ومرة عندما أتت بالطعام عاتبوها، وقالوا: لم تصنعي الطعام صناعة جيدة، وأشياء وتفاصيل لا تعني الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً، ولكنه كان حليماً واسع الصدر كريماً في وقته، فيضع أذنه لها صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستمع إلى كل ما تقول، فإذا فرغت حاول أن يعالج همومها وآلامها ومشاكلها بما يستطيع.
لكن الشيخ لا يخرج عن طوره أبداً، بل يتحلى بالحلم وبالصبر، وقد يأتيه أناس سيئوا الأخلاق، حتى إنه ربما أتاه إنسان فأمسك به، وقال له يا شيخ: اتق الله، فبدل أن الشيخ ينتفض ويضطرب ويغضب عليه، ويقول: ماذا رأيتني أفعل؟ أو ابتعد عني يا سيئ الخلق، تجد الشيخ يطأطئ رأسه ثم تنهمل دموعه على وجنتيه، هذه والله العظيم أخلاق أنبياء، وهي شهادة لله.
ولا يعرف ذلك إلا من عاشر الشيخ وعرفه عن كثب وعن قرب، فأسأل الله في هذه الساعة المباركة أن يطيل في عمره في مصلحة الإسلام والمسلمين، وأن يختم لنا وله بخير، وأسأله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اجمعنا في جناتك جنات النعيم، مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: أما بالنسبة للدعاء فنسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياك غض البصر عن الحرام، وأن نستخدم كل أعضائنا وجوارحنا فيما يرضيه ويقربنا إليه إنه على كل شيء قدير، وغض البصر هو من الأمور التي في البداية تكون سهلة هينة، فإن العبد ما دام غاضاً بصره لا ينظر إلى ما حرم الله فإن الأمر عليه يسير، لكن إذا أطلق بصره في ذلك وبدأ ينظر في وجوه النساء والمردان، وإلى الصور، واسترسل فإنه لا يزيده ذلك إلا شدة وولعاً وتحرقاً وتحركاً في شهوته كما قال الشاعر:
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر |
يضر مهجته ما سر مقلته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر |
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر |
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر |
فعلى الإنسان الذي لم يبتلَ بهذا الأمر أن يعتني عناية تامة بغض بصره؛ لأنه ربما نظرة واحدة تهلك صاحبها، وعندي في ذلك من الرسائل من بعض من ابتلوا بهذا؛ شيء يدمي له القلب، وتتقطع له نياطه، وتدمع له العين، فمن عوفي من هذا؛ فليحمد الله، وليعتني عناية تامة بغض بصره، ومن ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يسارع بالعلاج، مع معرفته بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا شفاء إلا من عند الله، وأن نواصي العباد كلها بيد الله تعالى.
فليلجأ إلى الله تعالى في أوقات الدعاء وأوقات الإجابة كالأسحار، وعقب صلوات الفريضة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام، وفي سجوده وغير ذلك، وليضرع إلى الله تعالى بعين باكية، وكلمة صادقة أن ينقذه الله تعالى من هذا الأمر، ثم عليه أن يتخذ الأسباب المعينة على ذلك، ومن أهمها:
تجنب مجالسة الأشرار الذين قد يزينون له هذا الأمر، فإن صحبة الأشرار شر تورد صاحبها الموارد، وعليه أن يصحب الأخيار الذين يعينونه على الطاعة وغض البصر كما قال الشاعر:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي |
كما أن عليه أن يدمن النظر ويمعنه في كتاب الله تعالى، ويتملاه ويقرؤه، فإن فيه غناء وشفاء وعافية، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29] وليقف عند قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] زكاة الباطن هي التي بها النجاة والفلاح قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:10].
وأنت إذ تصلي أو تصوم أو تزكي، فإنما تطلب زكاة نفسك، فكيف تهدم هذا كله بنظرة حرام، قد توردك إلى تحريك شهوة، ثم إلى الوقوع في فاحشة؟ وأنصح الأخ -أيضاً- بتجنب المواقع والأماكن التي يوجد فيها ما يدعو إلى النظر، كالخروج إلى الأسواق مثلاً، خاصة أماكن تجمعات النساء، ومثله اقتناء المجلات الخليعة، أو الأشرطة والأفلام التي تعرض المسلسلات الهابطة، أو تعرض الحفلات الماجنة والرقصات الخليعة، أو العروض السينمائية الضارة، التي هي مما يضر ولا ينفع.
وعليه أن يتقي الله تعالى فيما علَّمه من كتابه؛ لأن الإنسان إن لم ينصاع لأوامر القرآن، فجزاؤه أن يسلبه الله تعالى حفظه، فليتق الله هذا الإنسان فيما أعطاه الله تعالى وعلمه.
الجواب: الشركات -خاصة الشركات الكبرى المساهمة المعروفة- غالبها يدخل عليها الربا، من جهة أنها تودع أموالها في البنوك مقابل فوائد بنكية، وتوزع هذه الفوائد على المساهمين، حتى إن بعض الشركات الكبرى الاستثمارية قد وزعت على المساهمين أرباحاً قبل أن تعمل، وإنما هذه الأرباح التي وزعتها هي نتيجة الفوائد الربوية، التي أخذتها من البنوك، والله تعالى قال: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] ودرهم تدخله جيبك من الربا، من الممكن أن يمحق الله تعالى به بركة مالك كله كما قال تعالى: مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276].
فيا أيها الذين آمنوا اسمعوا إلى ما قال ربكم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
لكن بعض الشركات الكبيرة أيضاً ليس فيها حكم صريح بأن نقول: إن المشاركة أو المساهمة فيها محرمة، ولكننا ننصح الإنسان بأن يتجنبها لما فيها من الشبهة، فإن كان ولا بد، فننصحه -أيضاً- بأن يخرج جزءاً من أرباحه يتخلص منها، نصف الأرباح أو نحو ذلك، يتخلص منه استبراءً لدينه وعرضه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {إن الحلال بيّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه}.
الجواب: ما دام أنه رجل صالح، معناه أنه محافظ على الصلوات مع الجماعة إلا ما ذكرت، فهذا البقاء معه لا مانع منه ولا بأس به، خاصة إذا كنت أم أولاد، ولكنني أنصحك:
أولاً: بالبقاء معه.
ثانياً: بأن تستمري ولا تيئسي من النصح أو تضيقي ذرعاً، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وما ضاق ذرعاً بهم، حتى أعلمه الله تعالى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36] فحينئذٍ دعا عليهم كما هو معروف.
فلا ينبغي للإنسان أن يضيق ذرعاً من النصيحة سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فربما أن الكلمة التي كتب الله هدايته بسببها لم يسمعها حتى الآن، فاستمري معه بالنصيحة، والكلمة الطيبة، ولا تيئسي ولا تفتر همتك في ذلك، واحرصي على إيقاظه لصلاة الفجر ما استطعت؛ ليصلي مع الجماعة، وذكريه بما ذكر الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] وذكريه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً}[متفق عليه] وذكريه ما قاله أنس وغيره رضي الله عنه: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] وذكريه بما قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن صلاة الجماعة: [[و لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]].
فإن لم يفلح نصحك معه للصلاة مع الجماعة فلا أقل من أن توقظيه ليصلي في الوقت ولو في بيته، أي قبل طلوع الشمس، فإن أخر الصلاة إلى بعد وقتها، فإن ذلك كبيرة من كبائر الذنوب يخشى أن توبقه وتحبط عمله.
ولا تيئسي من نصحه ما استطعتِ، وأيضاً لا تبخلي عليه بالدعاء في سجودك أن يهديه الله تعالى ويصلحه وقولي: اللهم اصلح لي زوجي.
الجواب: إذا كان زوجها فقيراً وكانت هي أيضاً فقيرة ومحتاجة، فإنه يجوز لك -إن شاء الله- أن تعطيها زكاة مالك.
الجواب: أولاً: لا بد من التثبت أن الذي ينـزل مع البول هو المني؛ لأن نـزول المني ليس بالخفي، فهو شيء ثقيل غليظ شديد البياض، وكذلك يخرج بقوة دفق وبشهوة، ويعقبه فتور في بدن الإنسان فإذا تحققت هذه الشروط في الإنسان فإن عليه أن يغتسل غسل الجنابة، وعليه قضاء الصوم -أيضاً- إذا حدث هذا في نهار رمضان، وإذا صلى دون أن يغتسل فعليه القضاء.
أما إذا كان يخرج مع البول شيء آخر غير هذا، مثل المذي وهو سائل أبيض رقيق، وهذا يخرج عند بداية تحرك الشهوة، فلا يوجب الغسل، وإنما ينبغي على الإنسان أن يغسل ذكره وأنثييه -أي يغسل فرجه- وكذلك يتوضأ وضوءه للصلاة.
الجواب: الكتابة يعني القدر، الله عز وجل كتب كل شيء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، ثم أيضاً كل إنسان إذا كان في بطن أمه فإن الله سبحانه وتعالى، يبعث الملك فيأمره بأربع، بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، كل هذا ثبتت به الأحاديث.
الجواب: على كل حال الأصل أن يدرس المرأة امرأة مثلها؛ لأن هذا أبعد عن الفتنة وأضمن ليكون الجو التعليمي جواً محفوظاً وبعيداً عن الإثارة، وبعيداً عن التحفظ الذي قد يعوق الطالبة بسبب الحياء عن التعلم الصحيح، وهناك جهود بحمد الله قام بها مجموعة من العلماء من هذا البلد وغيره؛ لمخاطبة المسئولين في اقتصار التعليم للطالبات على المدرسات، وهذا أمر بحمد الله تعالى ميسور، ونسأل الله تعالى أن يتمم ذلك بخير.
الجواب: لا. ينبغي على كل طالبة أن تؤدي الواجب بنفسها، أما نقل الواجب من طالبة أخرى فهذا نوع من الغش، الذي يدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام: {من غشنا فليس منا} رواه مسلم).
أسأل الله تعالى أن يجعل هذا من العلم النافع المقرب إليه، وأصلي على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر