قدرته سبحانه وتعالى على كل شيء مجمع عليها بين المسلمين، وقوله تعالى: إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] هذا الحرف من القرآن اتفق المسلمون عليه، لكن يورد المعتزلة وطوائف أخرى مسألة تعلق القدرة بما يسمونه المستحيلات.
فقالت طائفة من المفسرين: قوله تعالى: إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[البقرة:20]، عام مخصوص، خُصَّ منه الممتنع لذاته، فلا يدخل تحت القدرة، فجعلوا السياق عاماً مخصوصاً.
وقالت طائفة: هذا سياق عام أريد به الخصوص -أي: الممكن- فلا يدخل فيه الممتنع لذاته.
وقالت المعتزلة: إن الممتنع لذاته شيء ولكنه لا يدخل تحت القدرة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والصواب الذي عليه أهل السنة أن الله على كل شيء قدير، وأن هذا العموم محفوظ لم يدخله تخصيص ولا أريد به الخصوص، بل هو على عمومه، وأما الممتنع لذاته فإنه ليس بشيء، فلا يكون داخلاً في الآية أصلاً، إنما هو فرض يفرضه الذهن لا حقيقة له في الخارج، والقدرة تتعلق بما يمكن وجوده في الخارج).
فممكن الوجود لم ينازع أحد من الطوائف في كونه داخلاً في قدرة الله، إلا ما كان من المعتزلة في مسألة أفعال العباد فإنهم قالوا: إنها ليست بمقدورة لله، لأن العبد عندهم يخلق فعل نفسه.
قال المصنف رحمه الله: [وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] ] .
هذه الجمل محكمة مجمع عليها بين الطوائف، وليس فيها ما هو مشكل أومشتبه، أما قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] فإنها من أخص الآيات التي يذكرها أئمة السلف رحمهم الله في توحيد الأسماء والصفات، لأن فيها جمعاً بين الرد على المعطلة والمشبهة، فإن قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[الشورى:11] رد على المشبهة والممثلة، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[الشورى:11] رد على معطلة الأسماء والصفات.
وتتضمن الآية أن إثبات صفاته سبحانه وتعالى لا يلزم منه التشبيه والتمثيل، وهذا هو الإشكال الذي دخل على كثير من الطوائف المعطلة الذين زعموا أن إثبات الصفات مستلزم للتشبيه والتعطيل.
بيان هذا الكلام: أن الله سبحانه سمى نفسه فقال: إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58] وقال عن عبده: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] وقال عن نفسه وعنهم: رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة:119] يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ، وقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ [الحشر:23] فسمى نفسه الملك، وقال عن عبده: وَقَالَ الْمَلِكُ [يوسف:43] ، وسمى نفسه العزيز وقال عن عبده قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:51] ، وقال: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله [الأنفال:30] ، إلى غير ذلك.
فالملك والرضا والمحبة.. هذه أسماء مطلقة، أي: لم تضف ولم تخصص ولم تقيد، لكن إذا أضيف اللفظ فقيل: رضا الله، صارت الصفة متعلقةً بموصوفها، وإذا قيل: رضا زيد صارت الصفة متعلقة بموصوفها، فيمتنع أن يكون الرضا اللائق بالله هو الرضا اللائق بزيد؛ لأن بين الموصوفين تبايناً، فيلزم أن تكون الصفة في الموصوف الأول مباينةً للصفة في الموصوف الثاني، وإن كان الاسم مشتركاً.
يبين ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: (ويتبين هذا الأصل بأصلين شريفين ومثلين مضروبين: الأصل الأول أن القول في الصفات كالقول في الذات).
لفظ الذات لم يستعمل في الكتاب ولا في السنة، وأصل الذات هو مؤنث (ذو) الذي هو من الأسماء الخمسة، التي تستعمل مضافةً، فتقول: ذو علم، وذو سمع، وذو بصر، فلفظ الذات في الأصل لفظ حادث، ولكنه استعمل في كلام طائفة من أهل العلم على مقصد صحيح.
فالقول في صفات الله كالقول في ذاته، وإن شئت فقل: فرع عن القول في الذات، وهذا رد على المعتزلة والجهمية.
قال: (الأصل الثاني: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)، فمن زعم في صفة الإرادة أو المحبة أو الغضب أنه يلزم منها التشبيه فيلزمه هذا في صفة العلم، وصفة السمع وغيرها مما يثبته.
قال: (والمثل الأول: نعيم الجنة، فالله أخبرنا أن في الجنة خمراً وماءً وعسلاً، والدنيا فيها خمر وماء وعسل)، فالاسم واحد وفيه اشتراك، وأما الحقائق فبينها اختلاف، فإذا كان الاشتراك في الاسم الواحد بين المخلوقات لا يلزم منه تماثلها فبين الخالق والمخلوق من باب أولى.
قال: (والمثل الثاني: الروح، وقد وصفت بصفات، اشتركت فيها مع الجسد في الاسم مع تباينها في الحقيقة، فكذلك الخالق والمخلوق من باب أولى).
هذه الجمل التي ذكرها الطحاوي رحمه الله ظاهر سياقها أنه يشير بها إلى أصول أهل السنة في مسألة القدر، وهي مسألة عظيمة تعتبر من أخص مسائل الإيمان؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ورسله، والبعث، والقدر خيره وشره) .
وقد اتفق المسلمون على أن من أصول الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، وهذا الأصل مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين من حيث أنه أصل كلي؛ فإن من كذب بالقدر فهو كافر معاند لله سبحانه وتعالى.
والمراد باتفاق المسلمين على هذا الأصل الإيمان المجمل، وإلا فإنه يعلم أن طوائف من هذه الأمة قد غلطت في هذه المسألة الشريفة، وأصول أهل السنة والجماعة في القدر سبعة، وهي متضمَّنَة في كلام المصنف في هذه الجمل.
وهذا الأصل هو أشرف أصول القدر، وأخصها عند المسلمين، لأن سائر الأصول من بعده مبنية عليه، وكان السلف رحمهم الله يردون إلى هذا الأصل في مقام الرد على المخالفين، وقد دل على هذا الأصل العقل والفطرة والسمع، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] وفي مثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، الدالة على أن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم.
وأما الفطرة: فإن الله فطر الخلق على الإقرار بأنه الخالق، ومن لازم كونه خالقاً أن يكون عليماً، فإنه سبحانه وتعالى قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)، ولهذا قال المصنف: (خلق الخلق بعلمه)، أي: أنه خلقهم عالماً بهم، فما يكون من نجوى، وما يكون من هَمٍّ في نَفْسٍ، وما يكون من حركة إلى غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد علمها قبل كونها.
والإيمان بأصل علمه سبحانه وتعالى مستقر عند جمهور بني آدم، ولم ينازع فيه إلا من أنكر الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قيل: (الإيمان بعموم علم الرب) لتتقرر بهذا مسألة وهي: أنه دخل في عموم علمه سبحانه وتعالى علمه بأفعال العباد، وهذا هو المقصود من تقرير هذا الأصل في هذا الباب.
فسائر أفعال العباد مكتوبة قبل خلقهم، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) ، والكتابة جاءت مجملة ومفصلة.
ويدخل في عموم الإيمان بهذا الأصل ما تكتبه الملائكة عن كون الإنسان المعين، من الرزق والأجل، والشقاوة والسعادة، وكونه ذكراً أو أنثى، كما جاء في الصحيحين من غير وجه عن عبد الله بن مسعود ، وكما جاء في الصحيح من حديث حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه.. إلخ) وهو حديث مشهور معلوم.
وهذا الأصل دليله السمع، وهو الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، بمعنى: أن الله لولا أنه أخبرنا في كتابه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا بهذا الأصل؛ لما كان من شرط العقل أو اقتضاء الفطرة إثبات الكتابة، بخلاف الأصل الأول (العلم) فإن الإيمان به سمعي، وفطري وعقلي.
ولا يُفهم من هذا أن العقل أو الفطرة تنازع في هذا الأصل أو تنافيه؛ فإن عندنا قاعدة، وهي: أن كل ما أخبر به الله سبحانه وتعالى أو أخبر به رسله فإنه لا بد أن يكون موافقاً للعقل والفطرة، ولكن فرق بين كون هذا الخبر عُلم بالسمع، ثم العقل والفطرة لا تنافيه، وبين كونه معلوماً بأصل العقل أو الفطرة، ونزل الخبر به.
ولهذا فإننا إذا ذكرنا الصفات مثلاً، فقلنا: إن صفة العلو دليلها العقل والشرع، فمعنى هذا: أن العقل والفطرة تدل على إثبات علو الرب سبحانه، وأما صفة الاستواء على العرش فهي صفة دل عليها الشرع؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، فالعقل قبل ورود الشرع لا يدركها ولا يقتضيها؛ لأنها غيب محض، ولكن كل ما أخبر به الشرع مما جاء في الكتاب أو السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن العقل والفطرة يقتضيه حال كونه خبراً ثابتاً، وفرق بين دلالة العقل على الشيء حال كونه خبراً ثابتاً، وبين دلالة العقل على الشيء قبل ثبوته.
وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة وهي: (أن الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول).
ومراده بالمحارات: أي ما يتحير العقل في تصوره، لكن لا يمكن أن يحيل العقل شيئاً أخبرت به الرسل، فمن أحال عقله شيئاً من ذلك، فهذا دليل على فساد في عقله، وغلط في فهمه وإدراكه.
وإنما قيل: الإيمان بعموم خلقه؛ ليدخل في هذا العموم أفعال العباد، وهذا هو المقصود عند أهل السنة من ذكر هذا الأصل، وعن هذا صنف الإمام البخاري رحمه الله كتاب (خلق أفعال العباد)، وهي مسألة النزاع فيها مشهور.
ومن أخرج أفعال العباد عن هذا الأصل، فقد أخرج من هذا الأصل ما هو منه بغير حجة ودليل، إذ إن من المستقر عند سائر العقلاء أن أفعال العباد شيء؛ فتدخل في عموم قوله تعالى: الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] .
وليس معنى كونه سبحانه وتعالى خالقاً لأفعال العباد أنه هو الفاعل لها، بل الفاعل للفعل هو العبد؛ ولهذا أخبر الله في كتابه أن العباد هم الصائمون، القائمون، المصلون، الساجدون، الراكعون، وأخبر أن منهم المؤمن ومنهم الكافر، فأضاف الأفعال إلى العباد.
ولهذا نجد أن طرفة بن العبد -وهو جاهلي- يذكر هذا المعنى في شعره، فيقول:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
وأصبحت ذا مال كثيرٍ وزارني بنون كــرام سـادة لمســود
بل إن الله ذكر هذا في كتابه عن المشركين في قوله سبحانه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148] ، وإنما عاب الله عليهم ذلك، لأنهم احتجوا بالقدر على إسقاط الشرع الذي هو التوحيد، وإلا فإن شركهم بمشيئة الله.
وإنما قيل: الإيمان بعموم مشيئته، ليدخل في ذلك أفعال العباد، فإن سائر أفعال العباد سواء كانت أفعالاً عادية أو من الطاعة، أو من المعاصي والفسوق والكفر، فهي بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وإن كان سبحانه وتعالى قد يكره المعاصي والكفر ولا يرتضيه لعباده.
ولفظ الحقيقة استعمل في كلام طائفة من أهل السنة في بعض مسائل القدر والصفات والإيمان والأسماء والأحكام، مع أن هذا اللفظ لم يستعمل في النصوص، وإنما استعمله من استعمله؛ لأن طائفة من متكلمة الصفاتية المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، صاروا يستعملون ألفاظاً وجملاً لأهل السنة المتقدمين، وصاروا يتأولونها على المجاز عند تفصيلها.
فمثلاً: الجبرية لا يثبتون مشيئة للعبد، فلما جاء متكلمة الصفاتية، كـأبي الحسن الأشعري وأصحابه، قالوا: إن للعبد مشيئة، فخالفوا الجبرية بذلك، ولكنهم لم يجعلوا هذه المشيئة على الحقيقة، وإنما جعلوها مشيئة مجازية.
ولهذا فإنك تجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يقول: وأنه سبحانه وتعالى فوق عرشه على الحقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه على الحقيقة، لأن جملة: (مستوٍ على العرش)، يقر بها كثير من متكلمة الصفاتية، ومن تأثر بهم من الفقهاء، لكنهم لا يسلمون أن هذه الجملة على الحقيقة، بل يقولون: على المجاز، ثم يتأولون المجاز على أكثر من معنى، وقد يختلفون فيه.
ومن حيث الأصل لا ينبغي أن يستعمل هذا التقييد لسببين:
السبب الأول: أن الأصل في الكلام الشرعي وكلام الأئمة عدم التقييد.
السبب الثاني: أن استعمال لفظ الحقيقة، يكون فيه إقرار بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، والمشهور في تعريف الحقيقة أنها لفظ مستعمل فيما وضع له، والمجاز لفظ مستعمل في غير ما وضع له؛ وهذا التقسيم عليه إشكالات كثيرة منها:
أنهم يقولون إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فأثبتوا معنيين: الوضع والاستعمال.
والاستعمال هو استعمال العرب، وعليه فيكون الوضع سابقاً للاستعمال، وهنا يأتي السؤال: من هم الذين وضعوا اللغة؟
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده لهذه المسألة: (إن التعريف فيه تعذر من جهة العلم؛ فإنه يستلزم العلم بالوضع والعلم بالاستعمال، أما العلم بالاستعمال فإنه ممكن؛ لأنه استعمال العرب، وأما الوضع فإنه متقدم عليه ليس بمتحصل العلم)، قال: (وعن هذا تكلم من تكلم من المعتزلة في أصل وضع اللغة ومبدئها).
ومن فقه الأئمة رحمهم الله أنه قد يُستعمل من الكلام في أبواب أصول الدين ما يكون مقتضى استعماله هو قول المخالفين، ولهذا لما ناظر الإمام أحمد أئمة الجهمية، كان من سؤال الإمام أحمد لأحد أعيانهم أن قال له: قولكم بأن القرآن مخلوق، هذا من الدين أو ليس من الدين؟
فقال الجهمي: إنه من الدين.
قال: أهذا الدين علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟
فقال الجهمي: بل عرفوه.
فقال الإمام أحمد : أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن مخلوق؟ فانقطع.
ولما كان مجلسٍ آخر، استعمل الجهمي نفس الحجة، فقال للإمام أحمد : القرآن ليس مخلوقاً، أهذا من الدين؟ فقال الإمام أحمد : نعم. فقال الجهمي: أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟
قال أحمد : بل عرفوه.
فقال للإمام أحمد : أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن ليس مخلوقاً؟
قال الإمام أحمد : اسكتوا نسكت، أي: أن أئمة السنة قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، من باب النفي لباطل طرأ على الدين، ولو لم تقل الجهمية: إن القرآن مخلوق، لكان تعبير الأئمة: إن القرآن كلام الله، ولا يحتاجون أن يقولوا: ليس بمخلوق، لأن ما كان كلاماً لله فإنه بالضرورة ليس مخلوقاً، لأن كلامه صفة من صفاته، ولهذا لا يوجد في كلام الأئمة أن يقولوا: سمع الله ليس مخلوقاً، أو علم الله ليس مخلوقاً، لأنه لم يقل أحد بخلقه.
والقاعدة العقلية الشرعية: أن الباطل إذا طرأ يجب نفيه، ولهذا لما أشرك من أشرك، وزعم من زعم أن لله ولداً، قال الله تعالى: مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91] .
مثال ذلك المـال؛ فإن الله سبحانه وتعالى آتى داود مالاً عظيماً، فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10] .
ولاشك أن هذا الملك والمال الواسع الذي أوتيه داود عليه الصلاة والسلام هو نعمة، ولذلك سماه الله سبحانه وتعالى فضلاً، وأضافه إليه فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا).
وقد يكون المال عقوبة، كقوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] قال طائفة من السلف: فتح الله عليهم الدنيا، وكما في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، والإغفال قد يكون بالدنيا، وقد يكون بغيرها، ولهذا قال الله تعالى لنبيه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه:131] .
وقد يكون المال ابتلاءً ومحنة كالولد، كما قال تعالى: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28] ، وكل هذا يرجع إلى حكمته سبحانه وتعالى وقضائه وعدله، أو فضله وإحسانه.
ومحصل هذا الأصل أن السلف يؤمنون بالجمع بين مقام الشرع ومقام القدر.
الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب: لم ينازع أحد من المسلمين في كون أفعال العباد داخلة في هذا العموم، وإنما ظهر قوم من غلاة القدرية، يزعمون أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، وهؤلاء الغلاة ليسوا من الإسلام في شيء، وقد أجمع السلف وجماهير طوائف المسلمين على تكفيرهم بأعيانهم، وقد صرح بتكفير هذا النوع من القدرية بعض أئمة الصحابة الذين أدركوا هذه البدعة.
كما صرح بتكفيرهم من الأئمة: أحمد ، ووكيع ، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من متقدمي أئمة السنة والجماعة.
بل إن المعتزلة -وهم قدرية- قد صرحوا في كتبهم بأن منكر العلم من الكفار ولا ينسبون إلى الإسلام، فهؤلاء لا يعدون في أهل القبلة.
الأصل الثاني: الكتابة، وهذا الأصل عامة طوائف المسلمين يقرون به مجملاً، أما السلف من أهل السنة والجماعة وأتباعهم فهم يقرون به مفصلاً، على ما جاء في النصوص. وفرق بين من أقر بالأصل مجملاً وبين من أقر به مفصلاً، ولا سيما التفاصيل النبوية.
القول الأول: إن الله لم يخلقها وخلقها العبد.
القول الثاني: إن الله لم يخلقها وكذلك العبد لم يخلقها.
القول الثالث: التوقف.
وهذا النزاع هو في الجملة نزاع لفظي لا حقيقة له في المذهب؛ فإن عمدة المذهب هو إجماعهم على أن الله لم يخلق أفعال العباد، وهذا القول بدعة مخالفة لإجماع السلف، فهذا قول القدرية.
الصنف الأول: متكلموهم، وأعيانهم في الأصل هم المعتزلة، ومن اقتدى بهم من متكلمة الشيعة وغيرهم، الذين قرروا هذا المذهب بالدلائل والطرق الكلامية.
الصنف الثاني: وهم معشر من رجال الرواية والإسناد، وأكثرهم في البصرة، وبعض الأقاليم العراقية والشامية، قالوا بجملة المسألة، ولكنهم لم يقولوا هذه الجملة على الطريقة الكلامية التي كانت تستعملها القدرية المعتزلة المتكلمة.
فيشترك الصنفان في أن أفعال العباد ليست خلقاً لله.
ويفترقون من وجهين:
الوجه الأول: الاستدلال، فمنهج الاستدلال على المسألة بين الصنفين مختلف.
الوجه الثاني: أن المعتزلة المتكلمة رتبت على هذه المسألة مسائل أخرى تتعلق بالهداية والإضلال، وتتعلق بمسائل التكليف، ومسألة التحسين والتقبيح. ومسائل كثيرة ربطوها بهذه المسألة، وجعلوها من نتائج هذه المسألة. وهذا الربط لم يستعمله رجال الرواية، فيكون قولهم أخف من قول متكلمة القدرية، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة)، ومراده بذلك أن هذا الوهم شاع في طائفة من رجال الرواية، لكنه ليس على الطريقة الكلاميـة.
والفرق بين المنهجين في الاستدلال:
أن كل مسألة من مسائل الصفات أو القدر مرتبة على الطريقة الكلامية، فإنه لا بد أن يكون فيها مأخذ فلسفي هو الأساس، ودلائل عقلية ومقاصد من الشريعة، فمثلاً: مأخذ مسألة القدر عند المعتزلة أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، وهذه قاعدة فلسفية، وبالتالي أدخلوا عليها مقاصد من الشرع، كتنزيه الله عن الظلم والفسوق والعصيان.. إلى غير ذلك.
فمن قال إن الله خلق القبائح فقد أضافها إليه.
وهذه المقاصد عند التحقيق لا تلزم أبداً؛ لكن إشكالهم الأول الحقيقي هو الإشكال الفلسفي. وهذا هو الدليل الذي بنى عليه الجبرية مذهبهم، وهو الدليل الذي استعمله علماء الأشاعرة في كتبهم، وصرحوا باستعماله، كالقاضي أبي بكر بن الطيب ، وأبي المعالي الجويني ، ومحمد بن عمر الرازي ، فالقاعدة واحدة تستعملها طوائف نتائجها متناقضة.
وذلك يدل على أن هذه القاعدة غلط من الأصل، وهي من باب قياس الخالق على المخلوق، بل إنها عند التحقيق -كما يقول شيخ الإسلام - لا تصح في المخلوق نفسه، ولو فرض جدلاً أنها صحت في المخلوق فإنه يمتنع أن تكون صحيحة في حق الخالق سبحانه وتعالى.
ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة
فينفون السببية والتعليل، وهذا جبر لكنه دون جبر الجبرية المحضة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والفرق بين أبي الحسن وجهم بن صفوان في مسألة القدر غالبه فرق لفظي)، وبعض الفرق بينهم فرق لا يعقل عند العقلاء، وطائفة من الفرق بينهم فرق له معنى.
فمن العدل أن يقال: إن قول أبي الحسن وعامة أصحابه ليس جبراً محضاً كجبر الجهم بن صفوان ، ولكنه ينتهي إلى هذا المذهب في الجملة، وهو موافق لعبارات أهل السنة والجماعة في اللفظ، ولكنه في المعنى ينزع إلى قول الجبرية، وقد انغلق هذا الباب على علماء الأشاعرة، فلا يرون في الباب إلا قول القدرية أو قول الجبرية، فأتوا إلى قول الجبرية؛ لأن إمامهم رفض قول القدرية، ولكنه استعمل تحته ألفاظ السلف والشريعة.
والذين صرحوا بأن قول الأشعرية جبر دون جبر الجهم بن صفوان ليس هو شيخ الإسلام أو نحوه من علماء السنة، بل الرازي وأبو الفتح الشهرستاني ، وأبو المعالي الجويني صرحوا بذلك، ورجع الجويني عن هذا المذهب، وقال: إن هذا مذهب جبري لا معنى له، فانتحل في الرسالة النظامية مذهباً ملفقاً.
وقد صرح طائفة من الأشعرية كـالشهرستاني بأن إمام الحرمين قد نزع إلى قول الحكماء -أي: الفلاسفة- وإن كان يزعم أنه رجع إلى مذهب السلف في الصفات؛ ثم يفسر مذهب السلف في الرسالة النظامية بالتفويض، ولا شك أن مذهب التفويض كما قال شيخ الإسلام رحمه الله من شر مقالات أهل البدع والإلحاد.
والأشاعرة يقولون في كتبهم: إن الله منزه عن الأغراض والحاجات، ويريدون بذلك أن أفعاله ليست لحكمة أو لعلة، وإذا ذكر لفظ الحكمة بالشريعة، فسرها جمهورهم بالإرادة والمشيئة.
وجمهور طوائف المسلمين من أهل السنة والحديث وجماهير الصوفية، والشيعة والمعتزلة يقرون بهذا الأصل، وهو الحكمة، ولكن الفرق بين السلف وهذه الطوائف التي تشاركهم: أن السلف يجعلون الحكمة صفة تقوم بذات الباري، وهي متعدية إلى خلقه، في حين أن المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وغيرهم يجعلون الحكمة متعدية إلى الخلق، ولا يجعلونها صفة قائمةً بذات الباري.
بل إنه قال كلاماً ظاهره الموافقة لمذهب وحدة الوجود حيث قال:
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد
لكن الهروي رحمه الله لا شك أنه بريء من مذهب ابن عربي والتلمساني وأمثالهم من الصوفية المتفلسفة القائلين بوحدة الوجود، وإن كان قد يستعمل بعض حروفهم، بل هو فاضل في إثبات صفات الله سبحانه، وله رد على الجهمية، وتقرير حسن للصفات، وإن كان يزيد ويبالغ في إثبات الصفات.
كما أن منهجه في التكفير ليس معتبراً على جادة السلف، ولما تكلم عن الأشاعرة قال عن أبي الحسن الأشعري في كتابه (ذم الكلام): (وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري ، لا يصلي ولا يتوضأ، وأخبرني فلان -ثم ساق سنداً عنده- أنه مات متحيراً).
وهذا ليس كذلك، بل الأشعري يعرف بكثير من الخير والإيمان، كما قال شيخ الإسلام عنه: (وقد استفاض في المسلمين ما له من الديانة والقصد إلى السنة)، وقال عن عبد الله بن سعيد بن كلاب : (وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه).
والقصد أن الهروي شديد في هذا الباب، حتى قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة): (إن أبا إسماعيل الأنصاري من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم).
كما أن للهروي أغلاطاً شديدة في القدر، بل قال شيخ الإسلام : (إن قول أبي الحسن الأشعري في القدر خير من قول أبي إسماعيل الأنصاري ).
وعليه فإن أخص من نازع في مقام الجمع بين الشرع والقدر هم: الصوفية الذين أسقطوا بعض مقامات الشرع، بما هو من القدر، وأصل إسقاط مقام الشرع بالقدر هو مذهب المشركين، الذين قالوا: لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام:148] وليس في المسلمين من عطل سائر الشرع بالقدر، ومن أطلق هذا التعطيل كما أطلقه بعض غلاة الصوفية كـالتلمساني ، فليعلم أنه من الكفر المحض الذي لا يُنظر في شأن صاحبه، ذلك أن المقالات الكفرية التي تخالف مذهب السلف تنقسم إلى قسمين:
الثاني: مقالات هي في حكم السلف كفر، ولكن قائلها لا يكفر ابتداءً إلا إذا أقيمت عليه الحجة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن هو وغيره من أئمة السلف مشتغلاً بتكفير أعيانهم).
وكذلك شيخ الإسلام عندما ناظر علماء الأشاعرة المتأخرين في مسألة العلو كان يقول لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي)، فمثل هذه المسائل يدخل فيها نوع من الاشتباه والانغلاق على بعض الناس، لموجب من الموجبات، فلا يكفر بها ابتداءً.
فقول المصنف: (خلق الخلق بعلمه): أي: عالماً بهم.
(وقدر لهم أقدراً) أي: قدر ما سيكون لهم من الأحوال والأفعال والمآلات.
(وضرب لهم آجالاً) أي: قدر آجالهم، فجعل لكلٍ أجلاً، ولا يستقدم أحد ولا يستأخر عن أجله كما هو صريح في القرآن: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] .
وقوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم): هذا هو أصل العلم.
(وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا الجمع بين مقام الشرع ومقام القدر.
وقوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ): هذا طرد لعموم مشيئة الرب سبحانه، وأنه دخل في عموم مشيئته أفعال العباد.
وقوله: (لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم) أي: أن للعباد مشيئة على الحقيقة خلافاً للجبرية وللكسبية، ولكنها تابعة لمشيئة الله خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا العبد مستقلاً بمشيئته.
من أصول أهل السنة في هذا المقام، الإيمان بأن لله نعمة وفضلاً على المؤمنين، وأن كل من آمن فإنه إنما آمن بفضل الله ونعمته عليه، وكل من كفر فإنما كفر بما صرف نفسه، أو صرفه الشيطان عن الهدى، والله سبحانه وتعالى يهدي على معنى أنه يوفق، ويهدي على معنى أنه يبين بما ينزل في كتابه، أو يبعث به رسله عليهم الصلاة والسلام.
وقد نازعت المعتزلة في هذه المسألة، فقالوا: إن الله -سبحانه وتعالى وتقدس عن قولهم- يهدي بمعنى: يبين، وأما الهدى الذي هو التوفيق فإنه يستوي فيه الناس.
ولا شك أن هذا أصل باطل، فإن الله قال لنبيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] ، ولو كانت الهداية هي البيان لم يصح نفيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه هادياً مبيناً يهدي من يشاء، وقد هدى عمه بأن علمه وبين له، وإنما المراد هنا: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي: لا تستطيع التوفيق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بشر ليس بيده هذا الأمر، ولهذا قال: (وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي: يوفق من يشاء.
وتوفيقه سبحانه لعباده المؤمنين للإيمان تابع لعلمه وحكمته، ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] ، ولما علم أن الأنبياء محل لاصطفائه اصطفاهم، ولهذا فإن الله تعالى إذا ذكر الضلال في القرآن فلا بد أن يقيده إما بجهة أو سبب من العبد، أو يذكره معه الهداية، كما في قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8] ، فإذا علقه بمحض المشيئة ذكر معه الهداية، وإلا ذكره مقيداً بجهة وسبب من العبد، كقوله تعالى: وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] .
فقوله: (وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ) سياق كلمة (الظالمين) يدل على السبب، وأن الظلم جاء من جهتهم، ولهذا فإنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165] وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] .
وهذا الحديث أشكل على كثير من المتأخرين، إذ قالوا: إن الذي يغير فيه هو الأجل المكتوب في صحف الملائكة المذكور في مثل حديث ابن مسعود المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ويكتب رزقه وأجله) وهذا قال به طوائف من أهل العلم، وأضافه طائفة من الشراح المتأخرين إلى طائفة من الصحابة، كـعمر وغيره، وإن كان في ثبوته عنهم بعض التردد.
ولكن الصحيح في هذا المقام أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) أن صلة الرحم سبب، والله سبحانه وتعالى قدر وعلم السبب والمسبب قبل خلق الخلق، والأجل والرزق مرتبط في علم الله وحكمته بأسباب.
وقد يكون من هذه الأسباب ما هو معروف المناسبة كالتجارة لبسط الرزق مع أن اشتغاله بهذه التجارة مكتوب ومقدر، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يندب إلى سبب شرعي ليس معروف المناسبة عند بني آدم، فعلق زيادة العمر والرزق بصلة الرحم، التي لا يعرف عند بني آدم عادةً أنها مناسبة لبسط الرزق وطول العمر، فهذا هو أجود ما يقال في هذه المسألة.
وطول العمر وسعة الرزق تارةً يكون نعمة وتارةً لا يكون نعمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمار رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي) .
إلا أنه هنا نعمة؛ لأنه جعل صلة الرحم سبباً شرعياً مطلوباً من العبد القيام به، وجعل بسط الرزق وطول العمر، نتيجة لذلك السبب أي أن العبد سيوفق في ماله وعمره إلى الخير.
وأما قول من قال: إنه يمحى من صحف الملائكة فهذا ليس عليه دليل من الشرع، ولم يثبت في الكتاب ولا السنة أن شيئاً مما في صحف الملائكة يُمحى.
وأما قوله تعالى: يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] فالصحيح في تفسيرها أن هذا في الشرائع وليس في القدر، وسياق الآيات يدل على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:38-39] والشرائع يدخلها النسخ والمحو كما هو معروف ومجمع عليه.
وأما ما في (اللوح المحفوظ)، فبإجماع السلف أنه لا تغيير فيه، ومن زعم من المتأخرين أنه قد يدخله التغيير فهذا غلط بالإجماع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر