إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [10]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    أمارات الساعة

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    ففي الحديث: قال جبريل عليه السلام: (أخبرني عن أماراتها؟)، أي: إذا لم تكن تعلمها وأنا لن أعلمها، فهل لها أمارات وعلامات، أو لا؟

    والأمارات: جمع أمارة وهي العلامة.

    معنى: (أن تلد الأمة ربتها)

    قال: (أن تلد الأمة ربتها، وأنت ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ، في هذا الموضع من هذا الحديث يكثر إيراد آراء العلماء على قوله: (أن تلد الأمة).

    الأمة: هي المرأة المملوكة بملك اليمين، والتي أخذت في أسارى الحرب من الميدان في المعركة؛ لأنه لا إماء إلا بقتال، أو متولدةً من أمة، وما عدا ذلك فلا رق في الإسلام.

    (أن تلد الأمة ربتها)، والربة تأنيث الربِّ، وجاء في بعض الروايات: (ربّها)، أي: سيدها، وقد جاء في الحديث: (لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي ) ، لكن المقام هنا مقام بيان.

    واختلفوا في معنى: (تلد الأمة ربتها) أي: سيدتها، فقيل: أن تلد تلك المرأة المملوكة بملك اليمين سيدتها التي تملكها، قالوا: وهذا موجود في زمن رسول الله، كان يؤتى بالإماء وتوزع السبايا على الرجال، ويولد لهم منهن، وهذا محمد ابن الحنفية ابن علي رضي الله تعالى عنه من سبي بني حنيفة وقيل: وهذا الوجه لا يرد على هذا الحديث؛ لأن السؤال عن أمارات تقع فيما بعد وما وقعت في ذلك الوقت.

    وقيل: (أن تلد الأمة ربتها)، بمعنى: ملكها، بأن تصل السراري إلى بيوت الملك ويتسرى الملك بأمة، وتلد ولداً، ثم يتولى الولد الملك فيكون ملكاً على الرعية ومن ضمنها أمه؛ لكن يقال: كل ملك في العالم فهو ملك على الرعية وقد تكون أمه موجودة، فليس في ذلك جواب.

    وقيل: هذا يدل على تفشي التسري حتى تصل الإماء إلى قصور الملوك، وكان العرب يأنفون أن يستمتعوا بالإماء ويتنافسون على الحرائر.

    وقيل: قد يكثر الإماء ويكثر التسري بهن، وتباع الأمة وهي حامل، ثم تلد، ثم يشتريها رجل وتكون عنده وتلد ولداً يشتريه آخر ثم يعتقه، ثم يشتري هذا المعتق هذه المرأة التي ولدت هذا الولد، فيملك أمه وهو لا يدري.

    وقيل: قد يكثر التسري، فيشتري الرجل الأمة، وتحمل منه وتضع له ولداً، ثم يبيع المالك المرأة ويبقى الولد، وتتناولها الأيدي بالبيع وتدور وتستدير وترجع إلى هذا الولد، فيشتريها وهو لا يعلم أنها أمه، وقد يستمتع بها بملك اليمين استمتاع السيد بإمائه وهو لا يدري.

    وكل ذلك يقوله العلماء وينتهون بجملة واحدة، هي: أنه تنعكس المقاييس ويحصل الاختلاط وتنقلب الأوضاع، وهذا من علامات آخر الزمان، وقد جاءت النصوص في هذا الباب عديدة، وأفردها العلماء بكتب في الملاحم وأشراط الساعة وغيرها.

    معنى: (وأن ترى الحفاة العراة..)

    قال صلى الله عليه وسلم: (أن ترى الحفاة العراة) .

    الحفاة: هم الذين لا ينتعلون في القدمين.

    والعراة: الذين لا يلبسون شيئاً؛ وهل يصير الناس عرايا مثل إنسان الغابة لا يلبسون شيئاً، أو أن ذلك مبالغة في وصفهم بحالة الفقر وعدم امتلاك شيء؟ (رعاء الشاء العالة) العيلة الفقر، وكثرة العيل الأولاد، وما عال من اقتصد.

    يعني: ما افتقر إنسان اقتصد في نفقاته، فالعالة: الفقراء، وغالباً أن الرعاة فقراء؛ لأن ما يرعونه من إبلٍ أو بقر أو غنم لملاكها، وهم خدمٌ عندهم مستأجرون، ثم ينقلب الوضع فيصير هؤلاء الناس وهذا الصنف يتطاولون بالبنيان، وفي رواية: (يتفاخرون).

    وهل البنيان من حيث هو ممنوع؟

    نجد في جانب الزهد والورع من يورد آثاراً في النهي عن البناء بالكلية؛ حتى أوردوا عن عيسى عليه السلام أنه سئل: (لِم لَم تبن بيتاً؟ قال: لا أريد أن أدع شيئاً من بعدي أذكر به).

    وعن عمر بن عبد العزيز قيل له: (لم لا تبني بيتاً؟ قال: لا أريد أن أضع لبنة على لبنة ولا خوصة على خوصة).

    هذا مع أننا وجدنا الصحابة والسلف لهم البيوت والرسول صلى الله عليه وسلم بنى الحجرات لزوجاته رضي الله تعالى عنهن، ولكن لم يشيد ولم يتطاول، هذا قصر سعد بن العاص موجود في العقيق، ومن أراد أن يراه فهو إلى الآن قائم بالحجارة والنورة والجص، وقد انهدم بعضه وبعضه قائم حتى اليوم، لكن العبرة بالتطاول والتفاخر، فإذا كان الأمر في هذا الباب لا لمجرد البناء ولكن للتفاخر فيه فلا بأس، فقد كانت حجرات رسول الله لأمهات المؤمنين إذا وقف الواقف ومد يده ربما نال السقف، وحينما أريد هدمها وإدخالها في المسجد قام سعيد بن المسيب وقال: ليت حجرات زوجات رسول الله بقيت؛ ليرى الناس كيف كانت حياة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته صلى الله عليه وسلم معهن؟!

    وفي أول الأمر حينما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد كان هناك بستان، فقطع النخيل ووضع الجذوع بدل السواري وسقف المسجد، فقيل في بنائه، فقال: (عريش كعريش أخي موسى)، أو قال: (الأمر أعجل من ذلك)، فأخذوه على قيام الساعة، ولكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أنه أعجل في الزمن؛ لأن حياته صلى الله عليه وسلم وبقاءه في الدنيا محدود، ومهمته أعظم وأوسع من أن يضيع وقته في بناء عريش أو غيره، ولكن في السنة السابعة من الهجرة لما رجع من تبوك بنى المسجد بالحجر والطين.

    يهمنا أن الحديث يقول: ترى هذا الصنف من الناس تنقلب مقاييسهم؛ فبعد أن كانوا عالة حفاة رعاء، فإنهم يتطاولون في البنيان فيما بعد، والتطاول ليس مجرد بناء، بل هذا بنى بيتاً من طابق ويأتي آخر بجواره ويبنيه من طابقين، ويأتي الآخر ويبنيه من ثلاثة، والآخر يبينه من أربعة، وهكذا يكون التطاول.. هذا استطال وهذا يتفاعل، والتفاعل التقابل أي: يتسابق كل منهم إلى أن يكون بناؤه أطول بناء من الآخر، ولا نريد أن ندخل في تفاصيل في هذا الباب، من أن المباني أصبحت نوعاً من أنواع الاقتصاد أو أزمة السكن، أو شيء من هذا، إنما يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأمر يكون من علامات الساعة.

    ويأتي بعض العلماء من جانب الزهد والورع ويعيبون البناء، ولكن هذا الأمر يدخل في حياة الناس وفي اقتصادياتهم ومعيشتهم وتدابيرهم للحياة، ولا نستطيع أن نوقف هذا التقدم أو التطور، ولكن نقول: لا ينبغي أن يكون تفاخراً وتطاولاً وإيذاء، إذا كان للحاجة فلا مانع، أما للفخر والتطاول على الناس فهذا لا يجوز، وقد وضع الفقهاء قواعد لتطاول البنيان كما ينص الحنابلة.

    فمن حق الجار على جاره: أن لا تطيل بناءك عليه فتسد عنه إلا بإذنه، وأن من حق جارك إذا بنيت بيتك وكان جارك بجواره ولم يبن جداراً بجوارك وأراد أن يسقف بيته، فمن حقه أن يضع أطراف خشب السقف على جدارك إذا كان في جدارك قوة تتحمل السقفين معاً، ولذا يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه في جداره -مالي أراكم عنها معرضين، والله لألقين بها بين أكتافكم-).

    1.   

    ما يستفاد من منصرف جبريل عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وسلم

    ماذا فعل جبريل بعد ذلك؟ انصرف. بعض العلماء كـابن حجر في فتح الباري يقول: بعض الروايات يذكر فيها قوله: (صدقت)، كما قالها سابقاً.

    والذي يهمنا قول عمر رضي الله تعالى عنه: (فلبثت ملياً)، أي: كان القوم لا يزالون جلوساً في هذا المجلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ردوا عليّ الرجل)، أي: هذا الرجل السائل، قال عمر : فطلبناه فلم نجده.

    فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر ! أتدري من الرجل؟ قلت: الله ورسوله أعلم)، هذه العبارة يستعملها السلف رضوان الله تعالى عليهم حينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاضراً، وفعلاً كل ما لم يعلمه الناس يرد علمه إلى الله وإلى رسول الله، والآن إذا سئلت عن شيء هل لك أن تقول: الله ورسوله أعلم، أو: الله أعلم، وتسكت.

    نجد بعض الناس يقول: يجوز أن تقول: الله ورسوله أعلم، وبعضهم يقول: لا تقل الله ورسوله، قل: الله أعلم. فقط؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا فيه إفراطٌ وهذا فيه تفريط.

    والوسط في ذلك: إذا كان المسئول عنه من أمور الدين التي لم يخرج علمها عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن تقول: الله ورسوله أعلم، أما إذا كان أمراً دنيوياً وحادثاً اليوم فلا ينبغي أن تقول: ورسوله، بل تقول: الله أعلم، وهذا الذي ينبغي الوقوف عنده، وأحسن ما يقال في هذا المقام.

    قال: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)، جِبريل، وجَبريل، وجبرائيل؛ كلها لغات في جبريل، وهو مضاف ومضاف إليه، وئيل بمعنى: لفظ الجلالة، ويضاف إليها ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، كلها من باب المضاف والمضاف إليه وهي غير عربية، وهي على حد وزن المضاف عبد الله، فكذلك هنا لفظة: (ئيل) بمعنى لفظ الجلالة.

    في نهاية هذا الحديث يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاضرين أن هذا الرجل جبريل، وقد أشار عمر رضي الله تعالى عنه في أول الحديث حينما قال: ( بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد ).

    هذا النظيف الظريف الذي هو شديد البياض في الثوب والشعر، وليس عليه أثر سفر، ولا يعرفه أهل المدينة: إما أنه من أهل المدينة فيعرفونه، وإما أنه قادم من خارجها فيكون عليه أثر السفر؛ وكل ذلك لم يكن.

    إذاً: ليس من أهل المدينة، وليس قادماً من سفر، فلابد من وجود قسم ثالث، ما هو؟ إنه جبريل.

    وقد أشرنا سابقاً بأن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، وأن أركان الإيمان الستة كلها غيب، تؤمن بالله، الملائكة، الكتب، الرسل، القدر، البعث، وكلها أمور غيبية ليست محسوسة عندنا، ولكن في هذا الحديث فردٌ من أفراد الغيب، وهم الملائكة، يأتي إلى المسجد ويراه المسلمون بجوار رسول الله، ويخبرهم الصادق المصدوق بأنه جبريل.

    إذاً: ركنٌ من أركان الإيمان الستة لم يعد غيباً بل أصبح مشاهداً محسوساً، وأشرنا إلى طبيعة جبريل والملائكة، فجِبريل حينما طلبه رسول الله أن يريه صورته على خلقته العادية ظهر إليه في الأفق وقد سده، والأفق هو ما بين السماء والأرض في منتهى النظر.

    وأشرنا إلى أن عالم الملائكة عالمٌ نوراني، أعطاه الله القدرة على التكيف في الصورة التي يشاء، وأشرنا سابقاً إلى رؤية ابن عباس جبريل يتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوه العباس معه لم يره، وكذلك قصة خديجة لما ذهبت تطلب رسول الله بطعامه ولقيها وسألها: أين محمد يا خديجة ؟ قالت: لا أدري، وذهب عنها، ثم جاء إليه بعد أن لقيته، وقال: السلام يقرئ خديجة السلام، أي: أنها لم تخبر بمكانه خوفاً عليه من المشركين.

    إذاً: الملائكة قد يراهم الإنس، ثم ها هو صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم)، جبريل معلم أو متعلم؟ وسائل أو مجيب؟

    جبريل سائل، والرسول جعله معلماً، إذاً: المعلم قد يُعلِّم بطرح السؤال، السائل العالم قد يعلم بسؤاله بقدر ما يعلم العالم بجوابه، ولذا قال العلماء: حسن السؤال نصف العلم، وقد وردت مناهج تعليمية من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الناس ليعلمهم، يسألهم فيما يعلمون ليعلموا حكم ما لا يعلمون، وقد سأل مرة عن شجرة مثلها كمثل المؤمن..، فذهبوا في أشجار البادية، ثم أخبرهم أنها النخلة.

    ولما سألته امرأة عن أم لها لا تستطيع الركوب، أينفعها أن تحج عنها؟ قال: (لو كان على أمك دينٌ فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى، قال: فدين الله أحق)، فاستخلص منها الجواب فيما سألت عنه، وأحالها بما لا تعلم على ما تعلم، وهكذا القياس؛ فهو إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق في حكمه؛ لاشتراكهما في علة واحدة.

    ويهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم يعلمكم أمر دينكم)، وقد علمهم الإسلام والإيمان والإحسان واليوم الآخر، فجعل صلى الله عليه وسلم الدين عنواناً للإسلام والإيمان والإحسان وما يتعلق بأخبار القيامة.

    إذاً: كلمة الدين أعم مسمى، وجاءت الآية الكريمة: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

    إذاً: الإسلام بمسمى، والدين بمسمى يشمل جميع ما جاء به رسول الله، وهناك أمورٌ لم يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الإسلام ولا الإيمان وهي من الإسلام والإيمان، جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ولم يذكر في حديث جبريل: أن تقيم الصلاة وتصوم رمضان ويسلم الناس من لسانك ويدك.

    وجاء أيضاً: (الدين النصيحة)، وجاء في الإيمان: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين)، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا محبته من أركان الإيمان.

    وقال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله خاب وخسر؟ قال: من لم يأمن جاره بوائقه).. (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.. فليكرم جاره.. فليقل خيراً أو ليصمت).

    الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ وأركان الإيمان ستة، فما هي تلك الشعب؟

    قال: (أعلاها: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، فلا إله إلا الله هي أول أركان الإسلام، ومع هذا جعلها من شعب الإيمان، وإماطة الأذى عن الطريق من الأعمال الذي يكتسبها العبد، فجعلها من شعب الإيمان.

    وهكذا جمع الجميع أيضاً في الدين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، إذاً: كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء في كتاب الله عن الله أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر أو نهي، بأي موجب كان؛ فهو دين الإسلام.

    والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768245705