وبعد:
فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، و(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، و(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي . ].
أرجو من الإخوة جميعاً أن يرجعوا إلى تفسير سورة الأعلى في كتاب أو كتابين، بل كل ما تناولته أيديهم من كتب التفسير، ويقرءوا تفسير هذه السورة الكريمة، وأول ما أنصح به التفسير الكبير للفخر الرازي ؛ لأنه في الواقع له توجيهات كونية عجيبة جداً، فإذا لم تتيسر ليلة من الليالي إيراد ما فيها من نقاط وتوجيهات، فلتكن هناك القراءة الفردية والرجوع إليها، وهي -كما يقال- جولة في سورة من كتاب الله، وسيجد القارئ الشيء العظيم جداً، وقد لا يخطر بباله ما يراه حول هذه السورة الكريمة.
يقول أبي : إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بهذه السور الثلاث، وقد تقدم عندنا: من شاء أن يوتر بواحدة .. بثلاث .. بخمس .. بسبع .. بتسع، وهنا ذكر أنه يوتر بثلاث، فإذا كان أوتر بخمس.. أو بسبع.. أو بتسع.. ماذا يقرأ فيها؟ يقرأ ما تيسر له، وليس هناك تعيين بسورة معينة إلا في الثلاث ركعات فقط؛ لأن أكثر وتر الناس بالثلاث، يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعة ثالثة، وسواء جمع الثلاث أو فرق؛ ولهذا أبي رضي الله عنه إنما بيّن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاث الأواخر من الوتر، سواء اقتصر عليها الإنسان، أو أنه أوتر بأكثر منها، فيقرأ في كل ركعة ما تيسر له، ولكن يقرأ في الركعات الثلاث الأخيرة بهذه السور الثلاث الكريمة.
قال: [ وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
هذا مما أوقف البعض عند صورة الثلاث ركعات: (لا يسلم إلا في آخرهن)، وأنتم إذا فرقتم الركعة عن الركعتين سلمتم قبل الثالثة، وهنا: (لا يسلم إلا في آخرهن)، معناه: أنه صلى الثلاث مجموعة، وهذا الذي يفعله الأحناف، فماذا توردون عليهم؟
قال الجمهور: نعم، نحن نقول: إنه لا يسلم إلا في آخرهن، أي: بسلام واحد، ولكن الذي نورده على الأحناف هو أنهم يتشهدون في الثانية ولا يسلمون، فلو أنهم تركوا التشهد في الثانية، ولم يسلموا إلا في الأخيرة فلا مانع، وهذا يدل عليه ظاهر هذا الحديث فإنه يتفق مع هذه الصورة؛ لأن الحديث مفهومه: أنه لم يكن يتشهد قبل الأخيرة، إذاً: الصورة التي ينطبق عليها هذا الحديث هو: أنك تسلم في آخرهن دون أن تجلس للتشهد في الثانية، فلا تتعارض الصورة مع هذا الحديث، ويسلم من معارضته النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب.
إذاً: قوله: (ولا يسلم إلا في آخرهن) أي: يصلي ثلاث ركعات وتراً بتشهد واحد وسلام واحد، والأحناف حملوا قوله: (لا يسلم إلا في آخرهن)، أنها موصولة، وقالوا: إن صفة صلاة ثلاث ركعات يصلي مثنى مثنى، وإذا صلى ركعتين تشهد ولم يسلم إلا في آخرهن.
وبهذه المناسبة لا ينبغي لإنسان أن يجعل من صورة الخلاف بين الأحناف والجمهور موقع إشكال، أو مورد نزاع وخلاف؛ لأن أصل الوتر من حيث هو سنة ومندوب، فإذا ما اختلف في صورته فلا ينبغي التعارض فيه، ولكن ينبغي على الإنسان في شخصه وذاته أن يتطلب ما يترجح عنده؛ لأنه يفعل مندوباً، وفاعل المندوب يطلب الخير، وطالب الخير يطلب الأفضل، فعليه أن يبحث، وما ترجح عنده يعمل به لشخصه، لكن أن ينكر على غيره ما ترجح عنده فلا ينبغي ذلك، ولا سيما إذا وجدنا أن بعض النصوص فيها ما يوهم إلى ما ذهب إليه الغير؛ لأنهم يقولون: هؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، وهؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، إذاً: كل من الفريقين أخذ بما اقتنع به من الأدلة، فإذا كنت تعترض على ما اقتنع به الفريق الثاني فمن حق الفريق الثاني أن يعترض عليك فيما اقتنعت أنت به، وما دامت المسألة قابلة للاجتهاد والنصوص متقاربة فلا مانع أن يذهب كل بما اقتنع به، ولا ينبغي اعتراض أحد الطرفين على الآخر، والله تعالى أعلم.
مع العلم بأن الأحناف ينصون في كتبهم على أن الحنفي لو أوتر خلف غير الحنفي فله أن يوافقه على وتره، وقدمنا بالأمس قول الإمام أحمد رحمه الله فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، أو فيما يتعلق بالقنوت بالصبح قال: لا أفعله، وإن صليت خلف إمام يقنت قنت متابعة للإمام، إذاً: الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره إذا صلى خلف من يرى مخالفته في شكل من الأشكال لا يخالفه، ويتابعه وفاقاً للمسألة، ولما سئل أحمد بن حنبل : أتصلي خلف من لا يرى الوضوء من لحم الجزور؟ أحمد عنده أن من أكل لحم الجزور انتقض وضوءه، فقيل له: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور ولم يتوضأ أتصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف مالك وخلف فلان وفلان؟ أي: وهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، فهو يصلي خلف من يخالفه فيما يتعلق بالوضوء وهو أمر أساسي في صحة الصلاة؛ لأن المسألة اجتهادية، وهذا له رأيه، وهذا له رأيه، فما دام أنه ائتم به يوافقه، وهذا كله يعطينا صورة في تجنب السلف الخلاف والمنازعات. والله تعالى أعلم.
عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث) وهذا اللفظ من عائشة رضي الله عنها لم يرد فيه تفصيل في كيفية هذه الثلاث، ومن هنا أخذ الأحناف صورة الثلاث المعهودة وجمعوها، وآخرون يقولون: ثلاث لم يجلس في الثانية منهما، وبينت لنا رضي الله تعالى عنها أن هذه السور الثلاث مقسمة على الركعات الثلاث.
قال: [ وفيه: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة (قل هو الله أحد) والمعوذتين)].
المشهور (قل هو الله أحد)، فإذا أتى بالمعوذتين مع (قل هو الله أحد) في الركعة الأخيرة فلا مانع، والمنصوص عليها أنه يأتي بهما، والمشهور عند العلماء إفراد (قل هو الله أحد)، بما أنا أشرنا إلى السور الثلاث: (سبح اسم ربك الأعلى) وما فيها من إثبات الصفات الكريمة للمولى سبحانه، والقدرة الإلهية والربوبية إلى آخره، وكذلك في سورتي الإخلاص، إذا جئنا إلى المعوذتين نجد أن الوقوف عند هاتين السورتين الكريمتين يجعل المسلم فعلاً يقف إجلالاً لكتاب الله، ويقف متلمساً فضل الله أن يفتح عليه في نسق القرآن في هذا المصحف الشريف، إذا جئنا إلى (قل هو الله أحد) وإفراد الله سبحانه وتعالى وتوحيده في ذاته وأسمائه وصفاته.
قُلْ أَعُوذُ [الفلق:1] بمعنى: ألوذ وألجأ وأحتمي، بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] الرب الخالق المدبر، وكلمة (رب) لها في اللغة نحو من عشرين معنى، وصفة الربوبية نجدها في أول سطر من كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ونجدها هنا في آخر المصحف، وفي آخر سورة من كتاب الله، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1]، فنجد هنا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [ الفلق:1]، الفلق: كل ما انفلق عن غيره، فإذا جئت إلى السماء وأبراجها وما انفلقت عنه من كواكب وشموس وأقمار إلى غير ذلك، إذا جئت إلى البحار وما انفلقت عنه من جواهر وأصداف وكنوز وحيوانات وغير ذلك، وإذا جئت إلى الأرحام وما انفلقت عنه من نتاج في حيوان وطير وإنسان، وإذا جئت إلى الأرض وما انفلقت عنه من أنواع النبات والأشجار وما خلق الله فيها لوجدت الشيء العظيم، وكل الكائنات تندرج تحت هذه الكلمة أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [ الفلق:1].
كيف فلقها؟ كيف أنشأها؟ تسبح في عالم بعيد جداً.
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]؛ لأن كل مخلوق فرد من أفراد الفلق الذي انفلق عن قدرة الله سبحانه، فالشر الذي سيأتي من المخلوقات هي أفراد ما خلق، والذي فلقه هو الذي يدرأ عنك شره، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا [الفلق:1-2]، (ما) من الأسماء الموصولة التي تدل على العموم، فمدلولها عام، مَا خَلَقَ [الفلق:2] حتى قال ابن عباس : المعصية مما خلق الله، فإذا استعذت بالله من شر ما خلق استعذت بالله من كل شر تخشاه حساً كان أو معنى.
إذاً: دخلت في حماية الله من شرور خلق الله، التي انفلقت عن قدرة الله، ثم يأتي تفصيل بعد إجمال: وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ [الفلق:3]، قالوا: القمر في آخر الشهر؛ لأن ذلك الوقت من الشهر هو وقت عمل المفسدين من سحرة وغيرهم.
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وهم السحرة يعقدون العقد وينفثون فيها بسمومهم، قال: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، ولم يقل: إذا نفثن في عقدهن، ولكن في العقد: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ [الفلق:5] ليس على إطلاقه، بل إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] إن وقع منه الحسد، ومن هنا جاءت السورة الكريمة بالاستعاذة بصفة واحدة لله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [ الفلق:1] هذه الصفة المستعاذ بها، من أي شيء؟ عموم ما خلق، (غاسق إذا وقب، نفاثات في العقد، حاسد إذا حسد) المستعاذ به صفة واحدة من صفات الرب سبحانه، والمستعاذ منه أربع شرور على الإجمال ثم التفصيل، وقبل ذلك: التفريق بين النفاثات على الإطلاق، وبين الحاسد بشرط: إذا حسد؛ لأن النفاثات في العقد لا ينفثن إلا عملياً عند السحر، وقبل أن يتناولن الخيط، ويعقدن العقد وينفثن فيها؛ لسن بساحرات، فلا يتحقق ولا يوجد سحرهن إلا بالعقد والنفث في الحال، إذاً: عندما يعقدن، وينفثن في تلك العقد هن ساحرات، وقبل ذلك لم يكن ساحرات، أما الحاسد فهو حاسد ولو لم يتوجه إلى الإنسان بالحسد، فيستعاذ من شره إذا توجه إلى المحسود، والحسد يوجد عند الإنسان الذي ابتلي بهذا الداء عافانا الله وإياكم، لكن شر حسده لا يظهر ولا يخرج ولا يقع تأثيره إلا إذا توجه بعينه للمحسود.
وكيف يقع الحسد؟ وكيف يتأثر المعيون من عين العائن؟ ذكرنا في الموطأ قضية سهل بن حنيف ، لما رآه أحد الصحابة وقد تجرد واغتسل، فقال: ما رأيت مثل جلدك اليوم ولا كالعذراء في خدرها؛ فسقط في الحال، فذهبوا إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! إن كان لك حاجة في سهل فلا يستطيع أن يذهب معك، كانوا في سفرة ما بين المدينة ومكة، قال: (وما ذاك؟ قالوا: خلع لباسه، ونظر إليه فلان فقال: كذا وكذا، فتغيظ صلى الله عليه وسلم وقال: علام يقتل بعضكم أخاه؟ هلا بركت إذا وجدت ما يعجبك، من رأى ما يعجبه فليبرك، ثم أمر أن يغسل له) وهذه قضية طويلة.
وإلى الآن يجمع المسلمون على وقوع أثر الحاسد في المحسود كسهم صائد، ولكن كيف ينفذ هذا السهم؟ ومن أين ينطلق؟ وكيف يؤثر؟!
عجز العالم إلى اليوم، لا الأطباء القدامى ولا الأطباء الجدد، إنما كل ما قالوه: إن القلب يتغير، وإن العين تنظر، فيخرج إشعاع من القلب إلى العين ثم تخرج إلى المعين، فيتأثر بذلك، ويستدلون بأشياء عديدة، ولكن حقيقة ذلك الله تعالى أعلم بها.
المستعاذ منه من هو؟ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4] إذاً: في السورة الأولى اكتفى المستعاذ به بصفة واحدة، يستعاذ بها من جميع شرور ما خلق، وانفلقت عنه الكائنات، وفي السورة الثانية ثلاث صفات تجمع ويستعاذ بها كلها من شر واحد ألا وهو الوسواس الخناس، فماذا نستفيد من هذا؟ نستفيد من هذا -والله تعالى أعلم- بأن الشر كل الشر، والخطر كل الخطر على الإنسان المسلم هو ذاك الشر الذي اجتمعت له صفات العظمة، وبالمناسبة كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين في قضية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4] يعني: ما بقي إلا الجن، يجمع الله سبحانه وتعالى في مناصرة رسوله أمام امرأتين كل هذا، (الله وجبريل، وملائكته، وصالح المؤمنين) كل ذلك يناصرونه عليكما! ولذلك قال الشاعر:
ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن هن
فهنا الشيء بالشيء يذكر، ثلاث صفات من صفات الجلال والكمال تجند وتجمع، ويلجأ الإنسان إليها من خطر واحد؛ لأن أخطر ما يكون على الإنسان في حياته وآخرته الشك.. الوسواس، الخناس! فالإنسان في دنياه لو وقف موقف الشك من أي عمل ما تقدم خطوة، فبالشك يقدم خطوة ويؤخر خطوة؛ لأنه متردد شاك لا ينتقل من مكانه ولا يمضي، فأمور الدنيا يفسدها الشك، والتردد، ويفسدها الوسوسة في الذهن، وأمور الآخرة من باب أولى، والشيطان لا يفسد على الإنسان دينه إلا بالوسوسة، يأتيه ويوسوس إليه ويشككه في أمره إلى حد بعيد.
إذاً: لكأن القرآن الكريم في سياقه يفتتح بالفاتحة ثم البقرة، ثم ما بعدها بكل التشريعات في أصول وفروع ودنيا وأخرى إلى أن يأتي إلى آخر المصحف الشريف ثم يقول: قف! أنت بين أعداء كثيرين من المخلوقات، استعذ برب الفلق من جميع ما خلق، وأمامك العدو الخطير، استعذ بالله وبصفات جلاله وكماله من شره، لأنك إذ لم تلجأ إلى الله فلن تنجو منه.. وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200].
إذاً: تأتي هاتان السورتان وتبين لنا ما يحتاج إليه الإنسان في حياته.
ومرة أخرى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة: عود على بدء، أول سورة الفاتحة: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] الربوبية والألوهية والملك تجدها في سورة الناس مجتمعة، فكأن القرآن في آخره يردك إلى أوله لتكون كالكار الفار، وهكذا يرتبط آخر القرآن بأوله في تمجيد المولى سبحانه وتقديسه، والله تعالى أعلم.
هذا أمر توجيه (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقول: (تصبحون.. تمسون.. تظهرون) كما يقولون -فعل الدخول في الوقت، يقال: أصبح فلان.. دخل في الصباح، أمسى.. دخل في المساء، أضحى.. دخل في الضحى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أوتروا قبل أن تصبحوا) أي: قبل أن يدخل الصبح عليكم، وتدخلوا في الصباح، ومعنى ذلك: أن الصباح ليس وقت الوتر، أو أن الوتر إلى قبل أن تصبح، وتقدم الكلام عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين العشاء وصلاة الصبح).
قال رحمه الله: [ولـابن حبان : (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له) ]
جاء في هذا تقييد، من أدرك الصبح ولم يوتر أو أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، أي: لم يبق هناك وقت للمدرك، وإذا خرج وقته ذهب، ولا تستطيع أن تستدركه، ولكن لم يقتصر الأمر في الأحاديث على مثل هذا، وإنما جاءت نصوص أخرى فيما يتعلق بانفتاح وقت الوتر إلى ما بعد الصبح، ويجمع العلماء في هذه المسألة على أن كل هذه الأحاديث التي في التوقيت إنما هي لوقت الفضيلة والأداء، وما كان بعد الصبح على ما سيأتي للمؤلف وغيره فيكون تداركاً لما فات من أدائه، وهل هو قضاء أم أداء؟
بعضهم يعتبر ذلك قضاء، والله تعالى أعلم.
انظروا إلى فقه المؤلف أتى بقوله: (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقوله: (إذا طلع الفجر فلا وتر) ثم يعقب ذلك بالحديث: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) إذاً: التوقيت الأول للمستيقظ أفضل، أما إذا كان هناك عذر وفات عنه الوقت المحدد فإنه يصليه إذا مضى وارتفع ذلك العذر، وإذا كان هذا في الفريضة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فيقولون: أيضاً في النافلة من باب أولى، ولا سيما إذا كان الإنسان مداوماً على عمل من أعمال الفضيلة، فلا ينبغي تركه، وخروج الوقت لا يسقطه، فهناك تدارك له، وقد جاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة أنه صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل بأن كان متعباً، أو شغل عن ذلك فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة؛ لماذا يصلي اثنتي عشرة ركعة؟ عوضاً عما كان يقومه بالليل، والله تعالى أعلم.
مسألة: إذا قام أو ذكر إلى متى يكون وقت القضاء؟
فبعضهم يقول: إلى طلوع الشمس؛ لأن جزء ما بين الفجر وطلوع الشمس تابع لليل، وبعضهم يقول: لا، هذا تابع للنهار، بدليل أن الصائم لا يأكل في ذلك الوقت، وهناك من قال: إلى طلوع الشمس ينتهي قضاء الوتر، وهناك من قال: إلى وقت الضحى؛ لأنه وقت نافلة أيضاً، وهناك من مد إلى الزوال، قالوا: لأن أول صلاة بعد الصبح التي هي حد الوتر، الصلاة التي تعقبها وهي الظهر، أما بعد الظهر فلا دخل له بذلك، وهو من بداية اليوم الجديد، والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) ].
تقدم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل أوتر رسول الله)، وعلى هذا الليل كله يكون للوتر، ولكن إذا أردنا أن نتخير الأفضل، وتساوى عندنا الأمران، له القدرة بأن يستيقظ آخر الليل، ويستطيع صلاة الوتر الآن، فهما متساويان عنده، فإن كانا متساويين فإن الأفضل أن يؤخره، أما إذا كان لديه مظنة الكسل، أو مظنة النوم أو هو مرهق، أو لا يطمع في القيام، وليس عنده عزم أو غير متأكد بأنه سيقوم قبل الفجر، لا، يوتر من أول الليل؛ لأن الوتر أول الليل على اليقين وفيه تدارك للأمر، والأخذ بالأحوط أحوط، وعلى هذا يبين صلى الله عليه وسلم أنه: من استطاع، أو من لم يوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ومن أيقن أو غلب على ظنه أنه سيقوم آخر الليل فليوتر في آخره؛ لماذا؟ لأفضلية الوقت، الوتر هو الوتر، ثلاث ركعات أو خمس أو سبع، والقراءة هي القراءة، ولكن الأفضلية جاءت للوقت، وأفضلية الوقت تضاف إلى أفضلية العمل، ويزداد الوتر فضيلة بأفضلية الوقت.
أيها الإخوة! لعله إلى هذا الحد يكون المؤلف رحمه الله قد أنهى مباحث الوتر، وسيبدأ في موضوع مستقل وهو الضحى، وقد أورد لنا مشاكل فيه، ولكن يهمنا بأن هناك مباحث أخرى في الوتر لم يتعرض لها المؤلف، وربما يتعرض لها في قيام الليل في رمضان أو التراويح، أو في صلاة الصبح، ألا وهو القنوت في الوتر، والقنوت في الوتر جاءت به النصوص، أو بصفة عامة مجملة، القنوت هو الدعاء في الصلاة، قال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] أي: داعين مخبتين خاشعين.. إلخ.
والقنوت من حيث هو أمر طارئ جديد على الصلاة، لم تكن مشروعيته من قبل، ولكن طرأ وبدأ القنوت في النوازل، قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان في قصة قتل القراء في بئر معونة، ثم بعد ذلك جاءت أحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، والنوازل لم تكن دائماً، وهنا وقع الخلاف والنزاع والبحث: هل الوتر دائم أم الوتر مؤقت؟
فمن قال: إنه مؤقت، قال: وقت النوازل فقط، حروب.. زلالزل.. محن.. شدائد، يقنت الأئمة في الصلوات، ومنهم من قال: يقنت في الصلوات الخمس، ومنهم من قال: يقتصر على البعض من الصلوات فقط.
ففي حالة النوازل، المشهور القنوت في الصلوات الخمس، وفي غير النوازل الخلاف في القنوت في الفجر أو في الوتر، والأئمة الأربعة رحمهم الله يقولون بالقنوت في غير النوازل، ولكن منهم من يقنت في صلاة الصبح، ومنهم من يقنت في صلاة الوتر.
ثم بعد هذا التقسيم: منهم من يجعل القنوت قبل الركوع في الركعة الأخيرة بعد ما ينتهي من القراءة يكبر وهو قائم ثم يقنت، ومنهم من يجعل القنوت بعد الرفع من الركوع، ثم منهم من يجهر، ومنهم من يسر.
إذاً: بحث القنوت مستقل من حيث هو في موقعه وسببه وتوقيته.
وعلى كل حال: استقر الأمر عند الأئمة الأربعة رحمهم الله بأن القنوت طيلة السنة موجود، اللهم إلا بعض العلماء يستثني النصف الأول من رمضان لا يقنت فيه، ويقنت في النصف الأخير كما جاء عن بعض المالكية، ولكن المتبع والمشهور عند الجميع أن القنوت موجود طيلة العام، فهناك من جعله في الوتر كالحنابلة والأحناف، ومنهم من جعله في الصبح كالمالكية والشافعية، ومنهم من يجعله قبل الركوع، ومنهم من يجعله بعده.
ومهما يكن من شيء فإن تلك الصور كونه في الصبح.. كونه في الوتر.. كونه قبل الركوع.. كونه بعد الركوع.. كل ذلك ورد فيه نصوص، ولا ينبغي للإنسان أن يعترض على آخر إذا رآه أوقع الوتر في أي صفة من تلك الصفات، أما دعاء القنوت فقد جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه الحديث: (اللهم اهدني فيمن هديت... إلخ)، وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر