وبعد:
قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فيه إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى خلافاً لمن نفاها من أهل البدع، وإثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى وارد في جملة من الآيات: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28] .. إلى غير ذلك.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي: يبين لكم شرائعكم وما أحل لكم وما حرم عليكم.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ أي: طرق الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: الطرق الحميدة التي سلكها الذين من قبلكم.
وهل المراد بذلك الشرائع، أي: شرائع المتقدمين الذين سبقونا، أو المراد غير ذلك؟
قال ذلك فريق من العلماء، لكن على تحفظ في شيء وهو المنسوخ من شرائع المتقدمين، فشرائع المتقدمين هل تلزمنا، أو لا تلزمنا؟
لأهل العلم أقوال في ذلك:
منهم من يقول: إنها تلزمنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخها. يعني: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه، واستدلوا لذلك بهذه الآية، وبقوله تعالى في سورة الأنعام: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام:84-86] .. إلى قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] .
ولما جاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] قال: داود ممن أُمر نبيكم عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به، أي: أن داود عليه السلام خر راكعاً وأناب أي: ساجداً، فكذلك سجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا بالاقتداء بداود عليه الصلاة والسلام.
فمن أهل العلم من قال: إن شرائع المتقدمين من الأنبياء تلزمنا إلا إذا جاء من شرعنا ما ينسخها.
ومنهم من قال: إن لكل نبي شرعته، ودل على ذلك قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] أي: سبيلاً وسنة.
والقول الأول قوي، والجمع بينه وبين الاستدلال الأخير ممكن، والله أعلم.
الظاهر: أن الهداية في الآية تعم القسمين معاً، فالله وفق أهل الإيمان وهذه دلالة توفيق، وبيّن لهم وهذه هداية دلالة، وكلاهما حصل في حق أهل الإيمان.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ هذه الآية من آيات الرجاء، ومن الآيات التي بينت سعة رحمة الله، فرب العزة يريد أن يتوب علينا وهو الغفور الرحيم، فالله أخبر أنه يريد أن يتوب على أهل الإيمان، فعلى ذلك إذا أذنب المؤمن فلا يقنط من رحمة الله، فالله يريد أن يتوب عليه، فعليك إذاً الاستغفار والإقبال على الله، فإن من التهلكة أن يذنب العبد ذنباً ثم يسوّل له الشيطان أنه لا يتاب عليه، فيقنطه من رحمة الله، فيقع بعد الذنب في كبيرة ألا وهي كبيرة القنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى، والله حذر من هذا، إذ قال نبيه إبراهيم كما في كتاب الله: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56]، وقال يعقوب صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، فإذا علم الشخص أن ربه سبحانه يريد أن يتوب عليه بادر بالتوبة ولم يجد الشيطان سبيلاً على هذا المؤمن بإذن الله، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النساء:25].
ونحو ذلك في قوله تعالى: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [آل عمران:118] أي: أحبوا لكم العنت والهلاك ورغبوا لكم فيه، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا [البقرة:109].. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، فكل هذه الآيات أفادت أن أهل الكفر يريدون لأهل الإيمان الزيغ والضلال والانحراف.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]، فلذلك هم يجتهدون في إغوائكم وإضلالكم بكل الطرق، كما قال سبحانه: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لماذا؟ (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72] لعلهم يرجعون عن دينهم، وقال تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] فهم بكل الطرق يبذلون ما في وسعهم حتى ينفض أهل الإسلام عن إسلامهم، والمثبت من ثبته الله سبحانه وتعالى، قال الله لنبيه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74] .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي: سعة، أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات أي: الحرائر منهن، فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أي: فمن الإماء، مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ إذا تزوجت الأمة لزمك أن تعدل بينها وبين الحرة، لكن إذا اشتريت الأمة فلا يلزمك أن تسوّي بينها وبين الحرة في القسمة.
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ . أي: مؤمنات في نظركم، فقد تكون مؤمنة في الظاهر وليست مؤمنة حقيقة، فلذلك جاء قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ يعني: لكم أن تحكموا بالظاهر وتقدموا على زواج الإماء المؤمنات، فأنت قد تقدر وتحكم بأن هذه الأمة مؤمنة لكن في الحقيقة الله أعلم بها، فلذلك جاء الاحتراز لقوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض وكقوله تعالى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب بماذا؟ ليس حافظات للغيب باجتهادهن، ولا بقوتهن، ولا بصلابتهن، إنما حافظات للغيب بما حفظ الله، حتى لا تظن الصالحة أنها تحفظ غيب زوجها باجتهادها، فالمرأة أصلاً ضعيفة، ولكن حفظها للغيب بتثبيت من الله وبفضل منه سبحانه وتعالى، وهذا تنبيه حتى لا يبتعد الشخص أبداً عن ربه سبحانه وتعالى، بل يكون دائماً طالباً من الله الثبات والنجاة، والسداد، والحرص، والتوفيق في الحكم على الأشخاص.
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ أي: من الإماء المؤمنات وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ فدل ذلك على الولاية في النكاح وكون المرأة لا تنكح إلا بإذن أوليائها، فمن كتاب الله آيات تحث على الولاية في النكاح، كما أن في سنة رسول الله أحاديث كحديث: (لا نكاح إلا بولي) وحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل). أما الآيات التي في كتاب الله تحث على الولاية في النكاح:
فمنها : فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ .
ومنها: قوله تعالى: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة:221]، فقوله: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ [البقرة:221] أي: لا تزوجوا المشركين، فيه دليل على أن الذي يزوج هو الولي.
وكذلك في قوله تعالى في سورة النور: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ [النور:32]، (وأنكحوا) أي: زوجوا، فدل على أن الأولياء هم الذين يزوجون.
فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ المراد بالأجور هنا: المهور، بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي: عفائف غير زوانٍ، وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ والأخدان هم العشّاق، فلا هي زانية، ولا هي متخذة خليل. أي: عاشق.
إذاً: الأمة تنكح إذا كانت (محصنة) أي: عفيفة. (غير مسافحة): غير زانية، (ولا متخذات أخدان) أي: عشاق.
ذَلِكَ في هذا الحكم والحث على زواج الإماء، ذَلِكَ الترخيص لكم في زواج الإماء، والإرشاد لكم في زواجهن لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ أي: للذي يخشى على نفسه العنت، والعنت: هو الشدة، والمراد به: الوقوع في الفحشاء عياذاً بالله، فالذي يخشى على نفسه العنت له أن يتزوج الإماء.
وقد طرح بالأمس القريب سؤال: شاب في العشرينات، متخرج من الجامعة، ولا يجد مالاً يتزوج به، ولا يجد مسكناً يتزوج فيه، ولا يستطيع أن يحصل على المسكن وعلى تكاليف الزواج الباهضة التي فرضها الأولياء فيكسرون بها ظهور الأزواج، وأمامه سنوات وقُدِّر عليه في عمله أن يعمل في وسط نسوة وهو شاب قوي، فيسر الله له امرأة مات عنها زوجها وترك أولاداً معها، وعندها شقة مفروشة، وهي موافقة على أن تتزوجه، ويدخل عليها في الشقة ويعفها ويرعى أولادها، وهو في الوقت نفسه يبتغي وجه الله برعاية الأيتام، ويعف نفسه من الوقوع في الفاحشة، فجاءت أمه واعترضت على هذا الزواج، والشاب يخشى العنت، فهل يجاب بأن يقال له: أطع أمك التي لا تستند في تصرفها إلى دليل من كتاب الله ولا من سنة رسول الله إلا الأسلاف والأعراف السائدة، فهل نقول له: أطع أمك أم عف نفسك؟
فالإجابة: عف نفسك وبر والدتك أيضاً بكلام طيب حتى تنجو من العنت الذي أنت فيه، فرب العزة رخص في الزواج من الأمة، وهذه المرأة أحسن حالاً بلا شك من الأمة؛ لأنها حرة، بل أضف إلى كونها حرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين) ، وقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال: (السعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله) .. إلى غير ذلك من الأدلة.
فقوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ فيه ترخيص لمن خشي العنت من الشباب ولا يجد مالاً أن يتزوج الإماء، فمن باب أولى أن يتزوج الثيبات اللواتي يوفرن عليه المال.
والنبي محمد عليه الصلاة والسلام خير الناس وسيد ولد آدم سلك هذا المسلك، فقد كان فقيراً عليه الصلاة والسلام ثم تزوج بالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها.
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي: أن تصبروا عن نكاح الإماء، وليس النساء اللواتي هن أرامل، إنما الصبر عن نكاح الإماء خير من المبادرة إلى نكاحهن. لماذا: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ؟ ذلك لأن الولد يسترق، فأمه أمة عند شخص فالولد يأتي مسترقاً، وتلك هي العلة من التوقف أو الصبر عن زواج الإماء، لكن الناس يختلفون.
والآية فيها: إباحة زواج الإماء لمن خشي العنت: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ ، فهل من لم يخش العنت يحرم عليه أن يتزوج الإماء؟
لا يحرم عليه على الصحيح، وله أن يتزوج الإماء؛ لأن الله قال بعد أن ذكر المحرمات: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24]، فقوله: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ غاية ما فيه: مزيد ترخيص لمن لم يستطع طولاً أن ينكح المحصنات من المؤمنات، وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
يعني: الأمة قبل الزواج إن قلنا: إن الحرة إذا زنت قبل الزواج تجلد مائة جلدة، فالأمة تجلد خمسين جلدة، والحرة إذا تزوجت وزنت رجمت، فالأمة إذا تزوجت وزنت ماذا عليها والرجم لا يتنصف؟! فنقول هنا صالت عقول وجالت، وأبعدت عما يقتضيه العقل الصحيح.
والجمهور ابتداءً ذكروا أن الرجم لا يتنصف فعليها الجلد، خمسون جلدة، سواءً كانت ثيباً أو كانت بكراً، متزوجة أو غير متزوجة.
أما ابن حزم فقال في قوله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب قال: بالنسبة للأمة غير المزوجة إذا زنت تجلد مائة جلدة؛ لأن الله قال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وإذا زنت بعد الزواج تجلد خمسين جلدة، قال ابن حزم : لأن الله تعالى قال: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب .
وقال قوم: إن زنت الأمة قبل الزواج لا شيء عليها.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في التكاليف ونحو ذلك.
إن الشريعة الإسلامية قد تميزت بالتخفيف، فلما قال المؤمنون: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال الله سبحانه (قد فعلت) وروي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بإسناد فيه بعض الكلام، لكن المعنى يصح: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فالمكره على الشيء لا يلزمه من جراء الإكراه إثم، قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].
قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ هذه من آيات رفع الحرج، وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لما خلق الله آدم تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف حوله، فلما رأى أنه خلق أجوفاً علم أنه خلق خلقاً لا يتمالك) أي: يسقط بسرعة وتزل قدمه سريعاً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا أهل الإيمان! يا من رضيتم بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً! يا من صدقتم المرسلين! لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل (أموالكم) أي: أموال إخوانكم، فهي كقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] أي: لا يلمز بعضكم بعضاً.
الرشوة في الحكم، كأن يعطى القاضي مالاً حتى يقضي لخصم ظالم.
ومن الباطل: أكل أموال اليتامى ظلماً.
ومن الباطل: ثمن الكلب، ومهر البغي، أي: أجرة الزانية.
ومن الباطل: الربا.
فالباطل: كل ما جاء من مال بغير حق شرعي.
وقال تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ، وثمّ أنواع أخر غير التجارة، ولكن التجارة أهم صور المال الحلال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور).
هناك صور أخرى للكسب الطيب كأن يعمل والرجل أجيراً عند رجل آخر، فذلك من عمل الرجل بيده.
الاحتمالان واردان، فالنهي عن قتل النفس جاء عن رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: (من تحسّى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً -وإن كان البعض من العلماء يعلّ كلمة مخلداً- ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى خالداً مخلداً أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يقتل بها نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ، وكذلك روي عن عمرو بن العاص أنه كان في سرية مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم الفجر، وكانت الليلة شديدة البرد، وكان قد أجنب فتيمم وصلى بالناس، فكأنهم أنكروا عليه، فلما أتوا إلى رسول الله وعاتبه الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: ذكرت قول الله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا . لكن هذا الأثر عن عمرو بن العاص معلول بعلة قادحة مؤثرة فيه.
ونحوه معلول كذلك حديث: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال) ، فهو كذلك معلول بعلة مؤثرة قادحة فيه.
وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ الآية محمولة إما أن تجلب آثاماً لنفسك فتهلك وتردي بها نفسك في النار، أو تقتل نفسك في الدنيا.
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فيه دليل على أن الله أرحم بعبده من نفسه، فهو سبحانه حافظ لك على بدنك، فدل ذلك على أن الله أرحم بك من نفسك، وأرحم بك من والدك، فالله قال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11]، فالله أرحم بالولد من أبيه، بنص الآية الكريمة: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ، ويذكر الله الولد بأبيه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، فالله رحيم بعباده أرحم بهم من أنفسهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله أرحم بعبده من هذه بولدها) ، فنحمد الله على ذلك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر