فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل هذا الدرس خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفعنا جميعاً به، إنه سميعٌ مجيب.
وبعد..
إننا نسير -ولله الحمد- مسيرةً طيبة مباركة، وأمتنا الإسلامية -والحمد لله- تعيش هذه الأيام عودة وتوبة وإنابة إلى الله تبارك وتعالى مشهودة يراها كل ناظر، ولكن توجيه هذه الأوبة وتسديدها، والنصح لأهلها ولشبابها هو من أعظم ما ينبغي على من لديه شيءٌ مما يظن أنه ينفع الله تبارك وتعالى به في تصحيح المسيرة، وفي توجيه هذه الطريق إلى السداد، وإلى ما يرضي الله تبارك وتعالى، ولذلك فإنني أحب أن أتناول القضايا بمنتهى الإيضاح والتفصيل.
وموضوعنا هو: قضية العقل والعاطفة.
الله تبارك وتعالى خلق الإنسان مركباً من أمور، ومنها هذان الشيئان: العقل، والعاطفة، ومن نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الإنسان أن النفس الإنسانية مرنة واسعة وأن الله شرع لها هذا الدين القويم، الذي يلبي احتياجاتها أياً كانت، وفي أي زمان وفي أي مكان، وبأي طبعٍ ركب في الإنسان أو جبل عليه.
أما العقل فهناك من يبالغ فيه، وهم الحكماء كما يسمون، فيجعلون كل الأمور بالعقل المحض المجرد، وهناك من يبالغ في العاطفة كالشعراء وأمثالهم، فيجعلون الأمور عواطف بحتة.
والحق أنه لا هكذا ولا هكذا؛ فالإنسان مزيج ومركب من مشاعر كثيرة.
وأقول هذا كمقدمة؛ لأننا لا نتنكر للعقل ولا نتنكر للعاطفة، وليس الأمر خياراً بين هذا أو ذاك، ولكن كيف نستطيع أن نوفق بين التصرفات المحكمة؟ بين تصرفٍ أفكر فيه وأستشير وأستخير ثم أعمل، وأيضاً مع ذلك أتوقع الخطأ، وأتابع العمل لئلا يقع فيه الخلل حتى ينتهي، وبين عملٍ يأتيني فأتدفق حماساً، وأفيض مشاعر وإقدام، فأعمل ما تمليه عليَّ العاطفة في تلك اللحظات الحاسمة، دون حسابٍ لأية عاقبة من العواقب.
لكن نحن الشباب نحتاج إلى أن نضبط أمورنا لتوافق هذا المنهج الرباني القويم، وإلا فإنه سوف يقع الخلل عندما يطغى أحد الجانبين على الآخر، وكلا الجانبين موجود، إما طغيان عقلي، أو قد يسمى علمي -وأنا أردت وتعمدت أن أقول هو عقلي- أو طغيان عاطفي.
والجانب العقلي هو أن تؤخذ القضايا دائماً بقوالب منطقية جامدة، أن تؤخذ مجردة عن المشاعر، وعن العواطف، فالأخ الذي يربي يربي وهو لا يتنبه لهذه الأمور، والأخ المتلقي يتلقى بعيداً عن هذه الأمور.
وأقول: لم تقم دعوة مجردة على الإطلاق من العاطفة الجياشة القوية، وقد كان في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل في الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم العبرة في ذلك عندما يقوى هذا الجانب، ولكنه وجدانٌُ وعاطفةٌ قويمة مستقيمة.
وقد يقع أن تثور العاطفة، ولكنها أيضاً تضبط وتنضبط، وفي مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة المتعددة ما يبين ذلك، فمثلاً في موقفه يوم الحديبية، عندما كاد أن يعترض على ما اتفق عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقره مع الكفار: كان يقول: (يا رسول الله، ألسنا المؤمنين؟ أليسوا مشركين؟ فكيف نرضى الدنية في ديننا ) ويصرخ ويضطرب ويتألم.
فهذه عاطفة إيمانية، وموقفٌ حميدٌ في أصله من حيث المنبع، لكن في إخراجه وفي كيفيته خطأ، ولهذا يقول بعد ذلك الموقف: عملت لذلك أعمالاً، حيث كان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك إذا تذكر موقفه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية يتصدق ويعتق وينفق ليكفر عن ذلك الموقف.
وأيضاً موقفه من المنافقين، فالرجل الذي ترك التحاكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأراد أن يتحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى كاهن جهينة، كيف كان موقف عمر رضي الله تعالى عنه منه؟ وأيضاً الرجل اليهودي الذي أراد أن يختبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرى هل الصفات التي في التوراة موجودة فيه أو غير موجودة، فيأتي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشده شداً، ويجذبه جذباً، فيقول عمر رضي الله تعالى عنه: (يا رسول الله! دعني أضرب عنقه).
ومواقف كثيرة يقول فيها الفاروق: ( يا رسول الله! دعني أضرب عنقه) لكن ماذا حصل للفاروق رضي الله تعالى عنه عندما أصبح هو الخليفة، هل ضرب عنق أحد بمثل هذه السرعة؟ إنما بذلك الموقف كان هيبة وقوة للدين، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنالك، فإن فعل أمراً فبأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا نتيجة عاطفته هو واندفاعه، وإن لم يفعله حصل المراد، وهو الهيبة لهؤلاء المنافقين وأمثالهم، وحصل إظهار لعزة الدين ولمنعة المؤمنين، وفي نفس الوقت لم تحصل المفسدة التي لا يريدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مثال من أمثلة كثيرة.
أن عاطفة الشباب دائماً تؤدي إلى العجلة، وهذه صفة كانت موجودة حتى في صحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنها تعرضت للانضباط كما أشرنا.
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم عندما أتوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو نائم في ظل الكعبة فأخبروه عما فتنتهم به قريش، وغير ذلك من المواقف، قال لهم: (ولكنكم قوم تستعجلون).
وأقول: إن العجلة هذه موجودة في الشباب، والعجلة في أصلها دليل خير، وعاطفة خير، -مثلاً- يستعجل الشاب في أن يتعلم حفظ القرآن في أقصر مدة، أو يريد أن يتعلم علم الحديث والرجال والأسانيد والمتون في أوجز مدة، بل ربما يقول البعض: أجمع هذه العلوم جميعاً، فأتخصص وأتبحر في القرآن وعلومه، أو في الحديث وعلومه، وأقوم بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبالتربية، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى أعمال خاصة، مع رعاية الزوجة إن كان متزوجاً، أو الاشتغال بشأن الزواج، ويريد ذلك دفعة واحدة! وهذا من العجلة.
والحقيقة أنك تجده سنتين وثلاثاً وأكثر، بدأ بهذا الكتاب فلم يأخذ منه إلا الربع، وكتاباً آخر أقل منه، وآخر جزءاً يسيراً، ثم ترك هذا، ثم سمع عن هذا، ثم سمع بشيخ من المشايخ فذهب إليه، ثم لم يحصل له المراد، ثم سمع بشيخ آخر في بلد آخر، فسافر إليه، وانتقل من هذا إلى هذا، ثم ترك الكلية هذه إلى كلية أخرى، وإذا به في النهاية لم يحصل على الذي يريد، مع أن الأصل أن ذلك دافع خير، ولكن العجلة هذه إن لم تضبط فإن هذه هي نتيجتها، وقد حصل هذا لكثير من الشباب.
وهناك أيضاً عجلة في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالشاب كلما يتذكر -وأظن هذا الشعور مشتركاً- كيف كان عندما كان بعيداً عن الله وعن الاستقامة على دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن كان تارك صلاة فإنه يقول لنفسه: سبحان الله! كيف لو مت وأنا تارك الصلاة؟! كيف لو مت وأنا أشرب الخمر وأتعاطى المحرمات، أو أفعل الفواحش.. وأشياء تؤرق الشاب.
ولا شك أن المؤمن يؤرقه ذلك لمَّا يرى أن إخوانه في البيت أو إخوانه المسلمين يعانون مما كان يعاني، ويخاف عليهم مما كان يخشاه على نفسه، ويحمد الله الذي أنقذه منه ومَنَّ عليه، وإلا فقد كان كذلك من قبل، فيندفع بسرعة، ويريد أن يرى ثمرات الدعوة إلى الله عاجلةً سريعة -هذا أحد الأسباب- ويريد أن يدعو الناس فيستجيبوا.
يأتيني بعض الشباب، يقول: عندي والدي وأمي وإخوتي، وزميلي في العمل كلمته فلم يسمع، وكررت عليه عدة مرات وما سمع.. وهكذا، سبحان الله! ليست القضية "كم مرة" يا أخي! انظر كيف صبر أنبياء الله! وكيف صبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ومتى يكون الوقت المناسب؟ وكيف يكون الأسلوب المناسب!
انظروا إلى عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أبي طالب- ما كان يشك لحظةً واحدة في صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ولو شك ما حمى الدعوة، وما وقف معه، وما حوصر معه في الشعب، ولما تحمل الأذى والألم والتعب أبداً، لكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعوه ويبين له، حتى -كما تعلمون قصته- عند الموت، أراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يموت عمه على الإسلام يقول: (يا عمِّ! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، وصبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مع الموالي والمحب للدعوة، ولكن لم يدخل فيها.
ومع الأعداء صبر أيضاً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبر الأنبياء من قبل، ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) سبحان الله! هل يستطيع أن يقول أحد: إن هذا من ضعف دعوة هذا النبي، عياذاً بالله! أو من عدم بذل الجهد، أو من عدم الحكمة في الدعوة، نبي يعطى الحجة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويوحى إليه من الله وليس معه أحد! ونحن نقول: في الحي ما استجاب لي أحد، وفي البيت ما أطاعني أحد، فهذا عجيب!
والله تعالى قص علينا حتى في واقع البيوت عن امرأة نوح، وامرأة لوط، وابن نوح، وأبي إبراهيم، وذلك لنأخذ العبرة، نفس الشيء ونفس القضية، ونفس الصبر، ونفس المحاورة، كما حاور إبراهيم عليه السلام أباه كما في سورة مريم.
وهكذا يجب أن نعرف أن هذا طريق طويل، وأننا كلما صبرنا وتأنينا، وعرفنا كيف نخاطب من نواجه، فإن ذلك أجدر وأحرى أن يستجيب بإذن الله تبارك وتعالى، فإن لم يستجب فلنبق على الطريق نفسه، ولنصبر على الأذى، كما صبر أولئك الصحب الكرام، ولنحتسب عند الله تبارك وتعالى كل ما ينالنا ونتحمل؛ حتى يعلموا أننا ما أردنا لهم إلا الخير، وما أردنا لهم إلا النجاة من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الدنيا والآخرة.
لكن يحصل مع الاستعجال أشكال أخرى من التصرفات التي قد تلتصق أكثر بمسألة العجلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن الإنسان ربما استعجل فتصرف بما لا ينبغي، فكانت نتيجة ذلك أن يصر صاحب المنكر على منكره، بل ربما تعاضد المجتمع معه على هذا المنكر، لأنه يرى هذا الشاب -بطريقة هوجاء أو انفعالية أو عصبية- يمس أمراً والمجتمع كله متعارف عليه، يقول: سبحان الله! كل الناس تفعل كذا، وكل الناس مقرة لهذا الشيء، والعلماء يعلمون ذلك وفلان يدري، وفلان ما أنكر، وفلان كذا، فماذا يريد هذا الشباب الذي أتى دفعة واحدة يريد أن يغير هذا المنكر؟! وهذا الشاب لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا لتحرقه ولتألمه ولعلمه أن وراء هذا المنكر فسادٌ عظيم، ونقص في الخيرات والبركات، ووراءه فساد القلوب، ووراءه تخطيط أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم كثيراً مما لا يعلمون -لا شك- لكن كيف تنقل إليهم شعورك هذا؟
لا تنقله إليهم بأن تأتي فتحسم الأمر في لحظة واحدة ودفعة واحدة، وتقضي على هذا الشر وانتهى الأمر، ولو كان الأمر كذلك لكان الرسل والصحابة الكرام هم أجدر الناس بأن يفعلوه، وقد أراد ذلك الصحابة الكرام، لكن لا بد من حكمة، ولا بد من الأناة، والصبر.
وتعرفون قصة أبي ذر رضي الله تعالى عنه لما أصر على أن يعلن إيمانه كيف ضرب! ولما بايع الأنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيعة العقبة، قالوا: [يا رسول الله! إن شئت ملنا على أهل الموسم بأسيافنا، فمنعهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ].
فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمشي بخطى وئيدة ولكنها مدروسة -وهذا من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- نحن يجب علينا -أيضاً- أن نفكر وأن نجتهد، وإذا اجتهدنا وظننا أن هذا الأمر مدروس بفكرة، وحكمة، واستشارة، واستخارة، وأخطأنا فهذا من الله، وكل شيءٍ من الله، ولكن فرق بين هذا وبين أن نستعجل فنقع فيما لا خير فيه.
فالعجلة في التغيير وفي الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هذه هي نتائجها، ربما انقلب صاحب المنكر -الذي كان يمكن أن يقبل منك لو لاطفته ولاينته- عدواً لدوداً لأهل الحق حيث كانوا، بل ربما يستعجل شاب واحد، فيضيع الفرصة على آخرين كان يمكن أن يُسمع منهم.
صحيح أن بعض الإخوان يقول: يا أخي! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متروك، ويكاد يكون مفقوداً في المجتمع، من قبل طوائف كثيرة من الناس، ونحن نحييه! نعم نريده أن يحيا، لكن يحيا بالبصيرة وبالحكمة، ولعلك إن بدأت شيئاً، يتم الله تبارك وتعالى ما بدأت على يد غيرك، أما أن تأتي به كله جملةً واحدة، تريد أن تضعه، فإن هذا مخالفٌ لسنة الله تبارك وتعالى.
الشاب في حال ضلاله أو بُعده قبل توبته وقبل هدايته، يرى ما هو عليه -قبل أن يستقيم- أنه مألوف لدى أكثر الناس، وهذا في الغالب، فلما استقام أصبح غريباً، وأصبح متميزاً عنهم، ولا شك أن الحق متميز عن الباطل، وأن الطاعة متميزة عن المعصية، وأن المعروف متميز عن المنكر، لا شك في ذلك، ولا بد أن تستبين السبيل وأن تتضح.
فالنفاق والمداهنة ليست من دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن إلى أي قدر يصل ذلك؟ وإلى أي حد؟ فيأتي الشاب وهو في هذا الشعور الجياش الفياض بالإيمان، فيُرى بعيداً عن كل ما مِنْ شأنه أن يشوب إيمانه أو يُعكِّر عليه هذه الاستقامة، فيعتقد قاعدة ترسخ في ذهنه، وهي أن الخروج عما عليه الناس وعما ألفوه هو الخير، فيظن أن الأصل في ديننا أن تخرج عما عليه الناس، والصحيح أن الأصل أن تخرج من الباطل إلى الحق، لكن هكذا يزين الشيطان.
فيبدأ الإنسان يخرج عن المألوف، ولا نقصد أنه خرج عن مألوف من يسمعون الأغاني، ويرون هذه المسلسلات الفاجرة، ويذهبون إلى الأسواق، ويسافرون، ويفعلون المنكرات، فالخروج من هذا المألوف إلى هذا المجتمع الطيب شيء جميل، لكن لا تقف العاطفة بالشاب عند هذا الحد، بل يدخل في القضايا العلمية، وهنا تكون المشكلة، مع وجود العلماء -والحمد لله- ومع وجود المفتين، ومع وجود المنهج العلمي، وإن لم يوجد في الواقع بالشكل الذي نريد لكنه موجود في الكتب.
مع وجود كل ذلك يأتي الشاب، فيخيل إليه من منطلق الخروج عمَّا ألفه الناس أنه لا بد أن يتصرف في أفعاله غير ما يفعلون، فالناس يسبلون الثياب، وهو قد تمسك بالسنة -والحمد لله- وترك هذا الفعل المحرم، فقصَّر الثوب، وهذا شيء عظيم، فهل يقف عند هذا الحد -مثلاً- لا، بل يريد أن يتميز عنهم في الصلاة، وهذا جميل جداً، فيرى الناس لا يخشعون في صلاتهم، ولا يضعون أيديهم حيثما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع يده، ولا يطمئنون، وغير ذلك مما هو موجود في المجتمع، فيطبق صلاته لتكون على السنة وإن خالفت الناس، وهذا جميل جداً، ثم يستنير بعد ذلك، فيدخله الشيطان، أو هذه العاطفة تأتي به فتوقعه في أمور أخرى، حيث يجتهد بعض الشباب فيها، وهي خارجة عن المألوف، وينسى مردودها في واقع الدعوة.
وبعض الشباب قد قرأ في صفة صلاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً صحيحاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زاد في التسليم على السلام عليكم ورحمة الله: (وبركاته)، وهذا طيب -والحمد لله- لأنه قد صح الحديث فيها، فذهب يصلي بالجماعة، فكيف يكون شعوره عندما وجد هذا ووجد أن الناس لا يفعلونه، وأن المساجد كلها لا تقول: وبركاته؟!
فيعزم على أنه لابد أن نحيي هذه السنة، فربما قد تأتيه مشاعر، ويقول في نفسه: نحن متى كنا نتبع آراء الناس؟ فلينكر من ينكر، وليغضب من يغضب، المهم أن يفعل هذا الشيء، إذا صح شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليذهب الناس إلى ما يريدون، لا يهمنا، المهم ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم إنه صلَّى بهم الصلاة ثم سلَّم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله؛ فيبدأ الناس يتهامسون في المسجد، وربما وُجد فيهم -من أصحاب البدع- من يقول: "أنا قلت لكم: هذا الولد -الإمام- يقول: إن المولد بدعة!".
أو ربما يكون هذا القائل صاحب ربا، يقول: "هذا الإمام يقول: إن التعامل مع البنوك ربا، وهذا كذاب، وانظروا كيف زاد في الدين، هذا هو الدين!! والبنوك موجودة من زمان، والعلماء رأوها، والناس أيضاً رأوها، وما تكلم أحد عنها، وهذا يحرم في آخر الزمان، وكل يوم يأتي بشيء جديد".
وإذا بالناس سبحان الله! ضجوا به، وإذا به يصيح بهم: يا جماعة! هذا الحديث صحيح، وهذا الكتاب، انظروا..! فيقولون: نحن نسمع الحرم كل يوم، ونسمع المساجد فلا أحد يقولها، فمن أين أتيتنا بهذا، وأدى بهم ذلك إلى أنهم لم يعد يسمعوه.
فلو تكلم أو قام وقرأ عليهم الآيات في الشرك، وهو أكبر ذنب عُصِيَ الله به، وأكبر قضية في القرآن قضية الشرك وتحقيق التوحيد، لو قام وتكلم فيها بعد ذلك لقالوا: هذا صاحب: وبركاته! فلا يسمعونه أبداً.. وهكذا، فيجعلون تلك الجزئية حجة لترك ما هو واضح الأدلة، ومعلوم ومشتهر كالشمس في رابعة النهار، فيقولون: اتركوه ولا تسمعوا منه، أمور تأتي والسبب فيها مثل هذه التصرفات وبسبب الخروج عن المألوف.
وأنا قلت: تخرج عن المألوف، ولم أقل العمل بالراجح أو المرجوح، فالمسألة هنا لا أعتبرها مسألةً علمية، قبل أن تبحث الحكم من الناحية العلمية في مثل هذه الأمور، انظر فعلاً إلى أثره، وإلى مردوده، أي: قبل أن تجتهد لتصل إلى خلاصة في هذه المسألة، انظر ما موقعه من دعوتك.
وأوضح أكثر ما أريد أن أقول: عندما أدعو الناس للاستقامة، وإلى السنة، وإلى الخير، فإن أول وأجدر ما يمكن أن أدعو إليه هو توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو أن يؤمنوا بالله، وأن يستقيموا على دين الله، وأن يعرفوا الله، وأن يتجهوا إلى طريق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وينصرفوا عن الشرك أو الضلالات الفكرية والانحرافات العقائدية والبدعية التي تنتشر بين الناس، هذه هي قضيتنا الأساسية، ثم بعد ذلك، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكرات، نجتهد في الدعوة إلى النهي عن المنكرات التي تلي ذلك وهي الفواحش المحرمة، وكل ما هو محرم، وبعد ذلك ندعو الناس إلى ترك المكروهات، ولا نعني بالتدرج هذا أننا نتكلم مع الناس فقط في التوحيد وترك الشرك إلى ما لا نهاية، ثم ننتقل بعد عشرين سنة أو مائة سنة إلى مرحلة أخرى، لا! إنما المدعو الذي عرف التوحيد وعرف الله، وانقاد لدين الله، ننصحه ونبين له المنكرات الأقل، فإذا انقاد أكثر، قلنا له: هذا من السنة، وهذا من الدين، وهذا من الفطرة.. وهكذا، فلا نبدأ بالعكس.
هكذا الأسلوب الصحيح في التربية، أما ذاك الذي لا يزال في أول الطريق فإننا نظل نخاطبه بما نقوله لمن هو في أول الطريق، لكننا أحياناً نعكس القضية.
فيجب علينا أن نحسب حساب تصرفاتنا وأنها محسوبة على هذه الدعوة، وما جاء رسول إلى قومه إلا واتهموه -صلوات الله وسلامه على رسوله وأنبيائه أجمعين- بأنه خرج عنها، وشذَّ عنها، وخالف ما كان عليه الآباء والأجداد، كما فعلت قريش لما أرسلت عمرو بن العاص إلى النجاشي -مثلاً- وذكر له أن جريمتهم أنهم خرجوا عما نحن عليه.
وهناك صفة اجتماعية معروفة في جميع المجتمعات، وهي أن المجتمع لا يحب من يخرج على وضعٍ قد ألفه، وإن كان هو قبل عشرين سنة لم يكن على هذا الوضع، وبعد عشرين سنة لن يكون على هذا الوضع، لكن هو يقبل التدرج البطيء في التغيير، ويرفض الطفرة والسرعة في التغيير.
فنقول: يجب أن نهتم بمثل هذه الأمور، نعم! نحيي السنن، لكن يجب أن نضع الشيء في موضعه، وأن نسأل أنفسنا متى نحييه ومع من؟ أنا أقوله لكم، إذا كنت في مدرسةٍ لتحفيظ القرآن -مثلاً- أو في مركزٍ من المراكز الطيبة، وفي مكان كلهم طلبة علم، يمكن أن تقول أو تدعو إلى بعض هذه الأمور أو تظهرها، لكن أمام العامة من الناس فإن الحال يختلف، فهناك فرق بين مقام التعليم أو مقام طلبة العلم وبين مقام العامة، وهذا كمسألة القراءات -مثلاً- وقد وقعت، ويسأل عنها البعض، هل نقرأ الآن القرآن بغير قراءة حفص؟
لو أنك في مدرسة تحفيظ القرآن، أو في مجتمع كلهم من الحفظة الذين يعرفون القراءات، فإنه لن يقول لك أحد من العلماء: حرام عليك أن تقرأ بأية قراءة من القراءات، لكن إذا عينت إماماً بين عامة، وذهبت تقرأ بغير القراءة المشهورة، ماذا سيكون مردودها وصداها؟! إنها سوف تسبب مفاسد كبيرة جداً، فبعض الناس لا يعرف القراءات أصلاً، ولم يسمع عن شيء اسمه قراءات، والبعض الآخر يسمع ويغالط نفسه، يقول: ليست قضية قراءات، لكن هؤلاء شباب شذاذ مبتدعون، يريدون أن يخرجوا عما نحن عليه، ويريدون ويريدون، ويكيل لك التهم الكثيرة.. وهكذا.
والأمثلة لا أحب أن استطرد فيها لكثرتها، ولكن لأنني أعاني منها أو من بعضها، أحببت أن أشير فقط إلى كيف أن العاطفة تغلب، وأن الإنسان يظن أنه بهذا العمل يخرج عمَّا ألفه الناس من الواقع المخالف، ولكنه يقع في مفسدة أكبر وأعظم.
هنا تدخل العاطفة وتطغى حتى ينسى الإنسان الأصل الذي منه انطلق، بعض الشباب يحب شيخاً -مثلاً- أو عالماً أو داعيةً -معاصراً أو قديماً- ويوالي في ذلك حتى يصبح أشد من المتعصبين المذهبيين، واسمحوا لي أن أقول هذا، أي: لو سمعت أحدهم يقول: أنا شافعي، أو أنا حنفي، فإن بعض الشباب يكاد ينفجر فيه، ما هذا التعصب؟ نحن نتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا الشاب نفسه يحب شيخاً قديماً أو حديثاً، ويذهب به الإعجاب به كل مذهب، حتى أنه لو نسب إلى الشيخ قول وهو ما قاله، قال هذا الكلام صحيح، ما دام الشيخ قاله، وهو في الحقيقة لم يقله، إنما نسب إليه، فإذا قيل له: الشيخ يقول غير ذلك، قال: فهو كما قال، ويرجع إلى قوله الثاني.
إذاً وماذا تنقم أنت على المقلدين؟ وماذا تأخذ عليهم؟ وإذا بك تخرج وتشتط، وتقع فيما تحذرهم منه وتزجرهم عنه، ولو أننا جعلنا هذه العاطفة منضبطة لأحببنا كل العلماء، وكل الدعاة، وكل المصلحين الداعين إلى الله تبارك وتعالى، وأخذنا من هذا، ومن هذا، وسددنا وقاربنا، واستفدنا من الجميع، ولم نبالغ، ولم نغلُ في أي أحد منهم.
كذلك فيما يتعلق في معاملتنا -نحن الإخوة- مع بعض، بعض الإخوة يحب البعض الآخر حباً شديداً جداً، يخرج أحياناً عن كونه حباً في الله -الأصل أنه في الله إن شاء الله- يخرج حتى يصبح محبة في ذات الشخص، فيريد أن يراه وأن يجلس معه وأن يعيش معه هكذا، وربما غلب ذلك، وغطَّى على بعض الحقوق التي هي على هذا الأخ المحب لأهله وزملائه الآخرين، وربما أدَّى هذا إلى بغضاء وعداوة وشحناء بين الإخوة الشباب المجتمعين في مدرسةٍ، أو في دعوةٍ، أو في عملٍ من أعمال العلم والخير، بسبب هذا الغلو، والذي يحصل من أحد الإخوة، وقد يقابله الآخر بغلوٍ معاكس، والعاطفة -عموماً- هي ثورة وانفجار، وقد تؤدي إلى الخير، ولكن قد تقذف أحياناً بما قد يؤدي إلى العقوبة المذمومة.
فكذلك نقول: إن عاطفة الحب يجب أن تضبط ضبطاً محكماً قوياً، ونحن -أيها الإخوة في الله- لسنا كمشجعي الكرة، واسمحوا لي إذا قلت هذه العبارة، فلا نريد أن نتحول إلى ما يشبه عمل المشجعين، كل طائفة تشجع شخصاً، كما أنهم يشجعون فريقاً ويتعصبون له.
نحن يجب أن تكون لدينا الضوابط الهادئة المتزنة التي نعقل بها الأمور، ونناقش ويستدرك بعضنا على بعض، ثم نأخذ القضية أخذاً سليماً صحيحاً بعيداً عن هذا التعصب، ولذلك نجد أننا بعد حين إذا هدأت هذه العاطفة -ولا بد أن تهدأ، لأن العاطفة تهدأ مع الزمن- تتعجب من نفسك كيف كنت أولاً؟! فتجد نفسك فعلاً كنت لا شيء، ولم يكن ذلك الموقف مبنياً على دليل ولا تصورٍ معقول سليم.
وكثيراً ما نضع الأمور في غير موضعها، فنضع القوة في غير موضعها، فنريد أن نجاهد في سبيل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن مِن المسلمين لا يحب الجهاد؟ لكن هذه العاطفة جاشت وفاضت حتى أصبحت لا تجد صغيراً ولا كبيراً إلا وتريد أن تحمله على رأيك في هذه المسألة، وهنا تلعب العواطف دوراً رهيباً في إيجاد مفاسد كثيرة، وقد عاناها الكثير وتحدثوا عنها، وهناك أيضاً القوة في مسألة مواجهة المنكرات أو الانحرافات، وقول الحق، وهو أنك تقول أمام صاحب الباطل: أنت كذا، وأنت كذا، وهذه مواقف دعوية لكن ممن؟ هنا نقف، أي إنسان يقف هذا الموقف؟!
فرق بين أن يقف عالم له كلمته، وله قيمته، وله وزنه، ويقوم لأي ظالم أو جبار أو بطاش أو منحرف أو مبتدع ممن له عند الناس شأن، ثم يقول له: أنت كذا، وبين أن تأتي -أنت المسكين- بعاطفة وانفعال وتقف ذلك الموقف، الأمر ليس كذلك!
وبعض الأمور قد لا أمثل لها مع كثرتها؛ لأن التمثيل قد يفهم خطأ، ولأنكم تعيشون هذه القضايا جميعاً، إنما نقول: هي عبارة عن وجهة نظر في تلك المسائل والقضايا.
أقول : يجب أن نتدارك أمورنا وأن نعيد النظر، وأن نحاسب أنفسنا في منهجنا، وفي تصرفاتنا، فأنظر هل أنا أتصرف تصرفاً منضبطاً متزناً بالفعل، أم أنها العاطفة وحدها هي التي تسيرني؟ هذه هي القضية. وكل ما ذكرت فهو مجملات أو أمثلة مبسطة، أرجو أن أكون وفقت في تقريبها إلى أذهانكم.
الجواب: المقصود يتضح بالمقابل، فإنه بالنظر إلى الخليلين: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، كل منهما حطم الأصنام، وكل منهما جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس في الإيمان والتوحيد، كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل:123]، فالله هو الذي جعله إماماً للناس، ولا شك في إمامته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس.
أقول: إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه خطط وعزم أنه إذا ذهب الناس إلى لهوهم، فإنه سوف يحطم الأصنام جميعاً، ويستبقي الكبير ويضع الفأس في عنقه، يعلقه عليه، ثم يقول: إني سقيم، هكذا يفعل، حتى الإعداد للمناظرة، فإنهم قالوا: من فعل هذا؟ قالوا: سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم، فجاءوا به، أأنت فعلت هذا؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وهذا تصرف بعيد جداً عن العاطفة.
لو قال: نعم أنا أكسرها وأكسر رءوسكم -كما يقول بعض الشباب- فهذا لا يصلح، لأن هناك قلوب ميتة، وهناك عواطف ميتة، الفطرة ماتت في قلوب هؤلاء الناس، ما الذي يحركها لتصحوا وتفيق على أنه لا إله إلا الله؟ يكون ذلك عندما يرى معبوده وربه جذاذاً، وهو الذي كان يدعوه، ويتمسح به، ويستغيثه، ويذبح له، الآن أصبح جذاذاً، ويُحاكم هذا الفتى لم فعلت هذا؟ وكيف تفعل ذلك؟ فيقول: لم أفعل، واسألوا كبير الآلهة، والفأس معلق في عنقه.
إذاً يمكن أن يكون هو الذي فعل، والحقيقة أنها لا هي التي دافعت عن نفسها، ولا هذا الكبير دافع عنها، ولا هو الذي حفظ نفسه وسلم، ولا يستطيع هو أن يفعل شيئاً، ولا تلك التي تحطمت، فرجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إنكم أنتم الظالمون.
والموقف لو تأملتموه لوجدتم أنه موقف -فعلاً- فيه الحكمة، وفيه وضع الشيء في موضعه، رغم أنه لا شك لا يقوم به إلا ذو وجدان حي متوثب.
ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان في مكة، وهو يطوف ويعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومعه الصحابة، لم يحطموا الأصنام، ولكن متى حطَّم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأصنام؟ حطمها عام الفتح، لما فتح مكة، ودخلها ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حطمها حينئذٍ، لأن المصلحة هنا، والحكمة تقتضي ذلك، فكلا الرسولين حكيم، وكلاهما وضع الشيء في موضعه.
وأما بالنسبة للشق الآخر من السؤال وهو هل يوجد فرق بين الهمة والعاطفة؟
أنا لا أحب أن أدخل في تعريف العاطفة، والعقل، والهمة، والدافع، والشعور وغيره، وهذا كله موجود في علم النفس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
وهذا مثال من الأمثال: وبعض الناس يسمي ولده الأول: حارث، والآخر: همام، لماذا؟ قالوا: لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام}، والحقيقة أن القصد هو تحبيب هذا الاسم، ولا يعني ذلك تفضيل هذا الاسم على غيره، مثلاً إذا سمينا شخصاً بجميل، يمكن ألا يكون جميل، ويوجد كثير من الناس يسمي نفسه بشيء وهو عكسه تماماً، -مثلاً- رجل اسمه كريم، قد يكون بخيلاً، وهكذا.
لكن التسمي بحارث أو همام -مثلاً- إنما هو تعبير صادق على أي إنسان، فإن كل إنسان هو صاحب خير، أو صاحب شر، وأياً كان حاله، فهو حارث وهمام، فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ [الانشقاق:6] - عام: لكل إنسان- يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، فهذا حارث، أي: كادح يحرث إما معصية أو طاعة، المهم أنه يحرث، وكذلك همام، فإن كل إنسان يهم كل يوم، وكل واحد في هذه الدنيا، كافر أو مؤمن -أياً كان- كل يوم يفكر في شيء ما، ويريد أن يحققه.. وهكذا، ومن هنا تكون الهمم متفاوتة، وتكون الهمم مختلفة جداً ومتباينة، فالهمة هذه تستنفر العقل، وتستنفر الوجدان.
وأكثر وأعظم الناس همة هم الذين يريدون الله والدار الآخرة، وهذه هي الهمة العالية، وشخص يقول: أنا كدحت بعرقي وبجبيني حتى عملت مؤسسة، وصار عندي فروع للشركة؛ والآخر يقول: كدحت واجتهدت حتى أخذت درجة عليا؛ والثاني يقول: أخذت المرتبة العاشرة أو الثانية عشرة، يا سبحان الله! هذا من العاجلة قال تعالى: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:27].
أما المؤمنون فإنهم أصحاب الهمة العالية، عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يقول: [[ تاقت نفسي إلى الإمارة، فلما وليتها، تاقت نفسي إلى الخلافة، فلما وليتها تاقت نفسي إلى الجنة]] فهذه هي الهمة العالية، وليس معنى هذا أنه سعى إلى الخلافة ورغبها، لكن قد تأتي كل إنسان خواطر، لو كنت كذا، لو أني حصلت على كذا، لكن الهمة العالية هي بأن يريد الإنسان رضا الله والدار الآخرة، ويريد الجنة جعلنا الله وإياكم من ورثتها.
الجواب: هذا الميزان، يا ليته كان موجوداً جاهزاً، فنشتريه، ونضعه في جيب كل شخص، وهذه هي المشكلة الحقيقية، لهذا أنا قلت: هذه وجهة نظر أو مقدمة لِأنْ نبدأ ونبحث عن الميزان، فمن الناحية النظرية -الحمد لله- هو موجود، وكل شخص يقول: كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل السلف الصالح، لكن هذا الكلام المجمل العام لا يكفي، بل يجب أن نفكر، فنسأل أنفسنا: في أي موقعٍ نحن الآن من الدعوة إلى الله؟ ثم ننظر في الأدلة التفصيلية أو الإجمالية أو القواعد، وكيف يمكن أن نسير؟
وأذكر لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه كلاماً جليلاً عظيماً، معناه: أنه ليس العالم أو الفقيه من يقول: هذا حرام، وهذا حلال، وإنما الفقيه أو العالم هو من يعرف أرجح المصلحتين، وأفسد المفسدتين، ثم يفتي بأرجح المصلحتين وبما يدفع أكبر المفسدتين، أي أن تفتي الناس بشيء يحقق لهم أرجح المصلحتين، أو تفتيهم بشيء يدفع أكبر المفسدتين.
أما مجرد أن تقول: هذا حرام، وهذا حلال، فيمكن للإنسان، أو نستطيع مباشرة من خلف الميكرفون أي سؤال يأتي أن نقول: هذا حرام، وهذا حرام، والفيديو حرام، والأغاني حرام، والزنا حرام، يمكن هذا، والحمد لله، ويستطيع الناس -أيضاً- ذلك، لكن نحن الدعاة عموماً نفكر بشيء غير ذلك، أي: عندنا أشياء لا شك أنها حرام -كمثل التبرج والسفور- لكن كيف نتصرف لتغييرها؟ وكيف نعمل لننقل ما نشعر به من إحساس بخطرها وضررها ودمارها إلى من يعملونها؟ هذا هو التحدي، وهنا المحز.
فنحن نحاول أن نجتهد لمعرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوته وصبره على ذلك، ولا شك أننا إذا قرأنا ذلك، فإنه يعطينا قواعد عامة كما يعطينا أدلة تفصيلية، ونستعين بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تحقيق ذلك، ثم نستعين بآراء إخواننا، وكلما انفرد الإنسان برأي فإنه ينبغي أن يتوقع أن هذا الرأي قابل للاستشارة، وكلما استشرت فإنه أجدر أن يكون إن شاء الله صواباً، وأن يكون خيراً، ولا سيما في قضايا مألوفة ومعروفة، لست أنا أول من يجتهد في تحقيقها إن كانت معروفاً أو في إزالتها إن كانت منكرات موجودة.
فإذاً ما دامت الدواعي والمقتضيات قائمة فإنني أنظر إلى من يرى نفس الموقف، ويشاركني ويشاطرني نفس الرأي وماذا لديه من وجهة نظر، ثم أجتهد معه.
ولا أكتمكم أن بعض الشباب يستطيع أن يعرف هل هذه عاطفة أو عقل، ويعرف ذلك، وتجاربهم تدل عليه، والدليل على ذلك أن بعضهم يقول: لا يوجد داعي أن أسأل فلاناً، وأستشيره، أنا أعرف رأيه مقدماً، فهذه هي العاطفة، أنت تعرف رأيه مقدماً إذاً لا تستشيره، إذاً تستشير الذي يشير عليك بما تريد، فهذه عاطفة قد تؤدي بك إلى الخطر، وهكذا في أية قضية، وفي أية مسألة، أحياناً العقل يقتضي أن تسأل المعارض لا أن تسأل الموافق، فإن صممت أن تعمل شيئاً فاسأل المعارض، إن كان عنده موانع، قبل أن تعمل، فإن وجدت أنها ليست موانع حقيقية، فإنك تعملها وأنت مطمئن، ولذلك تجد الذي يندفع بهذه الطريقة بعد أن يذهب بعيداً يرجع إلى المخالف، ويقول: يا ليتني فعلت! يا ليتني استشرتك! يا ليتني قبلت! ويكون قد أضاع الفرصة على نفسه.
الجواب: نحن عندما تحدثنا كان موضوعنا فيمن يعمل، ولكنه يعمل إما بعقلٍ أو بعاطفة، وقلنا: لا انفصال بينهما في الحقيقة، لكن مسألة الذي لا يعمل، هذه ليست عاطفة، ولا نسميها عاطفة، وحقيقة هذا يحتاج إلى أن ينصح بأن هذا تقصير، وهذا تفريط، وقد يفلسفه أصحابه بأنه عقل, ولا يفلسفونه بأنه عاطفة، فيقول: أنا عاقل، فمن يوم ما التزمت لم أتشاجر مع أحد من الناس! وأنا لا أدري ما هو هذا العقل! شخص استقام ولم تقع له مشكلة مع أحد، فإن هذا عليه أن يراجع نفسه؛ لأنه لا بد أن فيه مداهنة، ولا بد أن هذا من التقصير في الدعوة، ولو دعوت، فلابد أن تجد من يعاديك لذاتك، كما هو الحال الآن، فإنَّ كثيراً من الناس يعادى لذاته، سواء قال حقاً أو باطلاً، فهو عدو، لأنه يدعو إلى خلاف ما عليه هذا المعادي.
والتهاون في إنكار المنكر مرض، وعدم إنكاره وعدم اهتمامه بالدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقصير وتفريط ومرض، وهو من دواعي عذاب الله، ومن دواعي انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأمم ومن الأفراد -نسأل الله العفو والعافية- فالضعف الذي يعترينا جميعاً -وكلنا ضعيف- نحتاج فيه إلى أن نتناصح لننهض، ولنقوم، وليس داخلاً كما يخيل لي في موضوعنا الأخص بالذات.
الجواب: هذا الأخ صادق، ومعاناته صحيحة، وكلنا عانينا ذلك، وهذا الكلام،لم أقله لأني بريءٌ منه، بل عانيناه، وما نزال نعاني منه، وكلنا معرضون لعاطفة تفور أو لتفريط وضعف -نسأل الله العفو والعافية- لكن نقول: هذه القضية بالذات هي قضية القضايا من حيث المنهج العلمي عند الشباب، أول شيء أن بعض الشباب يتصور أنه يجب أن يكون هو وجميع من يدعون إلى الله علماء، وهذا من أعظم الأخطاء في هذا المجال.
ولذلك تجد أن هذا الأخ المسكين الذي لم يؤهل لأن يكون عالماً يضيع ويتعب، لأنك تكدح به في غير ما خلق له، ما خلق لهذا الشيء، فهو لما استقام واهتدى جئت به إلى شيخ، فجلس أسبوعاً، أسبوعين، أو شهراً، أو شهرين، ثم تعب، ولم يستطع أن يواصل، أعطيته كتاباً أعجب به، قرأه ثم لم يستطع أن يكمله، فأخذ الكتاب الثاني، والثالث، والرابع، والقضية ليست في الكتاب إنما هي في ضعفه.
وفي جميع عصور التاريخ العلماء يعدون على الأصابع قلة، لكن هل الدعاة قلة؟ هل من يغير حال الأمة من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة قلة؟ هذا مستحيل، لو كانوا آحاداً لما تغيرت، كيف كان شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمة الله عليه؟ كيف علمه؟ لكن انظروا كيف كان لما غير المنكرات، ولما حارب التتار، ولما حارب الروافض والباطنية، كانت معه أمم وألوف، والدعوة إلى الله هكذا.
نحن الآن مشكلتنا أننا نريد أن كل من يهتدي أو يستقيم، نقصره قصراً، ونصبه في قالب طلب العلم، وبعض الناس يكون مسكيناً، فيترك وظيفته، ويقول: أطلب العلم، وقد يأتيك شخص ضابط، أو يأتيك شخص مهندس، يقول: ما رأيك أدخل الجامعة الإسلامية، أو معهد الحرم!
لماذا؟ أنت أين تشتغل؟ يقول لي: كذا وكذا، لكن أريد أن أطلب العلم. يا سبحان الله! ولماذا تطلب العلم؟ ومن قال لك أنك من الضروري أن تطلب العلم، أنت يكفيك أن تحضر وأن تتعلم ما ينفعك من الأساسيات التي تعبد ربك تعالى بها، وتستقيم وتعرف طريقك في الحياة، وتعرف الحق في الجملة، لكن التبحر والتوسع في المسائل هذا ليس من شأنك.
ونحن لا نقول هذا تحيزاً ولا تعصباً، لكن بعض الناس يفهم ذلك خطأً.
لكن هذا الأخ في موقعه الذي هو فيه ينفع الله تعالى به، ونقول له: أنت ادعُ الناس، وادعُ في مجالك، وانفع الإسلام بما تستطيع في مجال عملك الذي أنت فيه، أما أن تتركه وتأتي لطلب العلم، فهذا غير معقول أن تتحول الأمة كلها إلى طلبة علم يجلسون في المساجد، أو في المدارس ويتحلقون حول العلماء! هذا غير معقول أصلاً.
فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم أطهر وأفضل جيل. وأحرصهم على العلم والحق والخير، لكن كم كان علماء الصحابة؟ وكم كان المكثرون من الحديث؟ وكم هم المتعرضون للفتوى من الصحابة وكذلك من التابعين؟ عدد قليل، لكن الكل كان يدعو إلى الله، الكل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يغير بحسب موقعه، وبحسب بيئته، وبحسب ما يستطيع، أما من يتصدر لقضية العلم بالذات فليس كل أحد.
فإذاً يا أخي قد يكون بعض هؤلاء -كما شكا السائل- لم يؤهل لأن يكون طالب علم، لكن هذا السائل يمكن أن يبذل من ماله للدعوة إلى الله، ويمكن أن يبذل من وقته في إنكار المنكر، ويمكن أن يبذل من خبرته العملية في معرفة بعض الأمور التي تعين الدعوة على أن تتوسع في المجالات المختلفة، وأن تدخل في جميع القطاعات، فيكون هذا باباً عظيماً للخير، وأنت تريد أن تجعل منه تابعاً صغيراً في الحلقة! فهذا أحد الاحتمالات.
الاحتمال الآخر: هو العجلة والملل، فالشاب يمل، ومن طبيعة الإنسان الملل، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لكل عملٍ شرة)، ولكن بعد الشرة فترة، فيأتي الاندفاع، ولكن يعقبه الفترة ويعقبه الضعف، وقد يكون هذا هو السبب.
ومما يعين الإنسان على ذلك أنه في الأصل يبدأ بمنهج معقول، فلا يحلم في الخيال، لكن يأتي بشيء معقول يستطيع أن يحققه، ويسلك ذلك مع إخوة له في الله ليعينوه، فكلما ضعف سددوه وأعانوه وساعدوه، حتى يصل الجميع بإذن الله إلى ما يريدون، ولو انضبطت الجوانب العلمية عندنا على مناهج معينة لما وجد ذلك الحرج، أي: يكون عندنا كتب أساسية يجب أن تدرس في العقيدة وفي الفقه وفي غير ذلك، وهذه يجب أن تدرس وأن تعلم بالنسبة للدعاة وطلبة العلم.
فمهما وجد الإنسان فيها من تعب أو ملل أو صعوبة فإنه يجب أن يوطن نفسه، وأن يحتسب صبره ليكمل الكتاب، كما يحتسب صبره على طاعة الله، وكما يحتسب صبره عن معاصي الله التي حرم الله، فيحتسب أيضاً صبره حتى يفهم هذه المسألة، وحتى يفهم هذا الكتاب.
ثم مسألة أخرى أو جانب آخر، قد تكون أنت مهيأً لأن تكون قارئاً أو مفسراً لكتاب الله، لكن لست مهيأً لعلوم الحديث والرجال، فلا تقصر نفسك على هذا أيضاً، وهذا شيء آخر:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع |
وبعض الإخوان يريد أن يلم بالأصول وهو لا يستطيع عليها، لكن يقدر في الفقه، فليجعل نفسه في الفقه أو العكس.. وهكذا. فكن مع سجيتك وطبيعتك وموهبتك التي أعطاكها الله تبارك وتعالى.
الجواب: نعم! انظر كيف تتراجع العاطفة وتتأرجح إلى العكس، وقد ذكر السائل -جزاه الله خيراً- قضية يقع فيها بعض الشباب؛ فأول ما يبتدئ في الالتزام -فعلاً- يضع العمامة مثلاً؛ فيبدأ الناس ينظرون إليه. فيقول: مالي وللناس؟ أنا اهتديت، ولبست العمامة.
أقول: أولاً كما قلت: ما موقع العمامة من الدين؟ بمعنى أنه قبل أن يفكر بذلك، كان عليه أن يسأل حتى عن أحكام الدين أو بعض أموره، فيرتبها أو يسأل عن ترتيبها، فالعمامة ما موقعها؟ والتمسك بها ما موقعه من الدين؟ ثم بعد ذلك ينظر هل المصلحة أن يلبسها في هذا الوقت؟ وما الحكم فيها؟ فيسأل عالماً ممن يفتيه، ويبين له موقعها من الدين، ثم بعد ذلك يقول: هل أطبقها؟ وكيف أطبقها؟ وهكذا في كل شيء.
إذاً ليست القضية قضية العمامة فقط، فأنا أعرف كثيراً أو بعضاً من الشباب -والحمد لله- تمسك واستقام واهتدى، فما خطرت له العمامة على بال، لماذا خطرت لهذا وما خطرت لذاك؟ لأن الآخر لا يرى ذلك، وليس لأنه سأل العلماء، فقالوا له: حكم العمامة؛ بل إنه في ذاته قال: لا داعي للبسها، وأنا أجزم أن هذا واقع.
وقد يقول قائل: هذه قضية لا فائدة منها.
أي أن هناك أموراً يمليها على الإنسان وجدان خاص -مشاعره الخاصة- وكأنه يريد أن يعرف حكمة معينة لديه، وأن هذا العمل ما ينبغي؛ بغض النظر عن كونه قد يطبقه أو لا يطبقه؛ لكن هذا في البداية ومنذ اللحظة الأولى، بعد ذلك تأتي القواعد أو العلم التفصيلي ليضبط لك كل أمر في موضعه، فهناك أمورٌ تعرفها -أنت- بالبداهة وبالتجربة والواقع، وأما بالعلم فهل شرع لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسن أن نلبس عمامة؟! لا بد أن يفكر بها ويضعها هكذا، نقول: لا، حقيقةً ليس هذا مما شرع.
ونريد أن نوضح قضية مهمة في هذا المجال، وهي أن التمسك بالظاهر سهل جداً؛ ولهذا إذا أراد المنافق أن ينافق فذلك سهل عليه، كأن يأتي أحدهم ويريد أن يعمي علينا، فإنه سيعفي لحيته مثلاً، ويقصر ثوبه ويأتي ليصلي كما كان المنافقون يصلون خاصة الظهر والمغرب، أما الفروض التي يكون نائماً فيها فلا يأتي.
إذاً فالتمسك بالظاهر سهل؛ ولكن ما هو الصعب؟ إنه الإيمان الباطن؛ وكلاهما لا ينفصل عن الآخر، ويجب أن نقيمهما معاً، ولا نتهاون في شيء منهما.
بعض الدعاة الآن إذا رأوا الظاهر، يقولون: الأمر بسيط يا شيخ، فالثوب ليس مشكلة، واللحية ليست مشكلة، ونحن لا نتكلم فيهما. فما دامت يسيرة بهذا الشكل فافعلها يا أخي!
وحقيقةً أنها تكون يسيرة بالنسبة للإيمان الباطن، لكن لا بد أن نقوم بهذا الدين جملةً واحدة، ونحيط به من جميع جوانبه، واضعين كل شيءٍ في موضعه؛ فكل من لبس العمامة، وحصل له مثل هذا الأخ الذي لبسها على أنها من الدين، فلتكن مشاعرك وأنت تلبسها ليست شعور إنسان طبق سنة؛ بمعنى أني أنا -مثلاً- أو أي شاب مستقيم في سنوات طويلة قرأ في كتاب من الكتب، ووجد سنة من السنن التي طبقها ببساطة جداً.
لكن -هذا الأخ- أول ما اهتدى لف العمامة وكأنها ركن، وكأنها رمز الأصالة، ورمز للتحدي للماضي، وكأنه يقول: إني ابتعدت عنكم يا أصحاب الشماغ أو الغتر! وأنا الآن تميزت وانفردت، وأنا كذا وكذا، ولا يقصد العمامة في ذاتها، بل يقصد ماذا؟ أي: أنني الآن استقمت -بمعنى- وكأنه يقول: الآن اهتديت، والآن استقمت فأصبحت في مظهر غير مظهركم، فإنه ومن هذا المنطلق يكون قد انطلق من منطلقٍ سليم ولا شك في ذلك؛ لكن من حيث الحكمة في العمل، ومن حيث تحقيق المصلحة فلا، وأنا أقول للأخ الذي استقام حديثاً: أما بالنسبة للعمامة فإنها لا تلبس، وليست من مجتمعنا.
فإخواننا في السودان يلبسون العمامة، فالبس العمامة، ولا بأس في ذلك، فإخواننا المسلمين يلبسونها، وديننا دين -والحمد لله- واسع، ونحن لا نفتي الناس في السعودية، ألا يلبسوا العمامة، فديننا واسع، وأهل كل بلد يجوز لهم أن يلبسوا ما اعتادوا أن يلبسوه ويرتدوه؛ ما لم يكن حراماً.
فلتبق عليه ما لم يكن حراماً وما لم يكن إثماً، وحتى إن كان فيه شيء من المكروهات فأخرها قليلاً.
وأما الثوب فأيضاً في المرحلة الأولى: أنصح بأن يقتصر الشاب -مع إيمانه القوي بضرورة تطبيق السنة واتباعها- على رفعه عن الكعبين فقط، فيرفعه عن الكعبين بقدر لا يثير عليه أحداً، لأنك الآن مثل إنسان ملك سلاحاً ضعيفاً، أي: بالنسبة للباطل، فسلاحك مسدس -مثلاً- لكنك تستثير عليك من يملك المدافع والقنابل وهذا لا يصح، فبعض الشباب مسكين لما رآه أبوه والثوب هكذا -أي: قصيراً إلى الركبة تقريباً- والعمامة أيضاً، وبدأ أيضاً يترك أصحابه كذلك، وبدأ ينتقد المدرسة وينتقد الحياة بشكل عجيب! لا شك أن هذا يؤدي إلى أن يعتبر الأب أن هذه انتكاسة كبرى، فيصر إصراراً عنيداً على أنه لا بد أن يكون مسبلاً، وأن يكون عاصياً ومجرماً وفاسقاً.
فأقول: أما الإيمان فاجعلوه إيماناً حقيقياً باطناً، والأعمال الظاهرة التي قد تثير مشاعر الناس وينتج عنها مفاسد، نطبقها في حدود اجتناب المحرم؛ فأما المحرم فليس فيه نقاش، ويجب أن نجتنبه إلا في الحالات الخاصة، ونقول هذا الكلام: لأن بلاد المسلمين ليست هي السعودية فقط، ولا نستطيع مثلاً أن نتكلم عن واقعنا الآن فقط، فالكلام يجب أن يكون -في الجملة- عاماً.
فالواجب أحياناً في مواقع خاصة قد يؤخر لمصلحة الركن؛ لأن الأصل أن نحقق الركن أولاً، فنقوي إيماننا لكي نعرف كيف ندخل إلى هؤلاء الناس من مدخل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ثم بعد ذلك تأتي هذه السنن -بإذن الله- تباعاً.
أما إذا جعلنا السنة ركناً؛ فإننا سننسي بقية الأركان، وهذه قاعدة معروفة، وهي أن الإنسان إذا فرط في جانب أو غلا في جانب؛ فلا بد أن يفرط في الجانب الآخر.
فـالخوارج أول ما خرجوا كانوا يرون أن من كذب أو زنى أو سرق -أي: أن من ارتكب كبيرة- كفر وخرج من الملة، حتى آل بهم الأمر -عما قريب- إلى أن أنكروا سورة يوسف، وأنها ليست من القرآن -والعياذ بالله- فالغلو لا يؤدي إلى خير، وإن شئت فقل "الشطط العاطفي" سواء كان في خروج عن الدين أو خروجٍ عن الحكمة أو عن مقتضيات المصلحة.
فعلى الإنسان أن يضبط نفسه منذ البداية، وأن يقف الموقف الصحيح ولا يبالي بعد ذلك بكلام الناس.
فنقول لهذا الأخ الذي رجع: لا يصح ولا يجوز لك أن ترجع إلى الإسبال؛ لأن الإسبال حرام، وأما العمامة فاتركها، والبس كما يلبس الناس، وليس عليك أي إثم بالرجوع، فإذا قالوا: الآن اهتديت أو عدت. نقول: إنك قد انحرفت عن الالتزام، فلا تبال بكلامهم، وانظر إلى ما يحقق المصلحة. والنصيحة للجميع في مثل هذه الأمور؛ لأننا في مجتمع، ويجب أن ننظر إلى كيف نخاطب مشاعر الناس، فلا نثيرها ولا نجرحها.
الجواب: المشاكل كثيرة من هذا النوع، ويجب أن نعلم أن هذا هو الأصل، وأن هذه هي حقيقة الداعية، وأنه لا بد أن نعاني من أمثال هذه الأمور، وإلا لو كان الناس على الصورة الأخرى لما احتجنا إلى دعوة، فلا بد أننا نحتاج إلى الدعوة على أية حال وفي أي زمان ومكان؛ إما للتوجيه فأقول: إن هذا أمر طبيعي، وهنا نأخذ أو نذكر قواعد كلية، أما التفصيلات فكل إنسان بحسب حاله، وكل مسألة بحسبها أيضاً، لكن -في الجملة- الأصل أن الشاب المسلم -إذا استقام- يجب أن يشعر أبوه وأمه وأهله وأقاربه أنه تحول من الشر إلى الخير، وبالذات ونحن نتكلم عن مجتمعنا المسلم -والحمد لله- ولا نتكلم عن إنسان يكون أبوه نصرانياً أو يهودياً ثم يسلم؛ لكن نقول: يجب أن يكون هذا هو الشعور العام في المجتمع، أن الشاب إذا اهتدى فإنه تحول من الشر إلى الخير.
وأما أن يوجد شعور عام -يقل أو يكثر- بأن الشاب إذا اهتدى، فقد تحول من الخير إلى الشر، فهذه مشكلة لا نرضاها أبداً، ودليل على خلل في تمسك هذا الشاب، بمعنى أن الأب عندما كان يحبك وأنت على حالك الأول، وكنت تحبه وتخدمه وتطيعه وتذهب به إلى أي مكان - كالخادم أو كالسائق - وتفعل ما يرضيه؛ فإن استقمت واهتديت وتمسكت، تركته وأهملته؛ لأنه يشاهد كذا، ولأنه يفعل كذا، ولأنه يقول في المتمسكين كذا، فأقول: هذا خطأ، وهذا خلل، لأن الله تبارك وتعالى يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] أي: والديك: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] أي صاحبهما بالمعروف حتى وهما يدعوانك إلى الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجاهدانك لكي تشرك بالله، ومع ذلك (صاحبهما في الدنيا معروفاً)، وكذلك إذا شعرت الأم أيضاً أن ابنها لما استقام واهتدى، بدأ ينفر من خالاته وبنات خالاته ومن عماته؛ من أجل موضوع الكشف -مثلاً- فبدأ يتكلم فيهم ويكرههم ويقطع الأرحام، ويفعل كذا، وأصبح شريراً، لكن العكس يجب أن يكون؛ أن يستشعر الجميع: الأم والأب والأهل والمدرس والمجتمع أنه استقام واهتدى، فكان الخير، والدعوة إلى الله خير بلا ريب، حتى وإن خالفها من خالفها، فهم يعلمون أنها خير ولكنهم لا يجرؤون على الكلام، فأكثر ما يتكلمون عنه هو تصرفات الشباب، وقليل منهم الذي يتجرأ فيتكلم في نفس الطاعة، أو في نفس السُّنة، بل إنه يقول: لا، فالدين طيب ويسر، إنما يتكلمون في التصرفات.
ولهذا أقول: يجب أن تكون التصرفات بما يضمن -بإذن الله تعالى- أن نكسب هؤلاء الناس، فإذا لم تستطع أن تكسب أقرباءك للدعوة، فمن تكسب بعد ذلك؟! فاصبر وتحمل، وأكرمهم، وأحسن إليهم , واحترمهم وقدرهم، حتى يشعروا بأنك لمَّا استقمت واهتديت بذلت لهم من الخير أكثر، فبدأت تطيع والديك أكثر، وبدأت تحب إخوانك أكثر، ولكن واجب هذه المحبة وهذا الحرص أن تقول لهم: يا أخي! اتق الله، يا أبي ويا أمي! هذا حرام، يا أخي! إني أخاف عليك عذاب الله، كما ذكرنا في مناظرة الخليل عليه السلام وموعظته لأبيه، وكما كان حال الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم والدعاة إلى الله جميعاً.
وبعد ذلك من كُتِبت له الهداية سيهتدي، ومن لم يهتدِ فسيظل يحبك على الأقل، وذكرنا مثال أبي طالب، وأنه لم يهتدِ، ولم يؤمن، لكنه كان يحب صاحب الدعوة صلوات الله وسلامه عليه.
فالمقصود أنه يجب أن تكون أخلاقنا ومعاملتنا أفضل وأكرم وأحسن منها في حالة استقامتنا من ذي قبل، وأن يكون الحب وجلب الناس وكسبهم إلى الخير هو رائدنا، حتى ونحن نتكلم مع صاحب المعصية، نعم أقول هذا! ولا تعتبروه استطراداً -إن شاء الله- لنفرض أنك مررت -كما نشاهد الآن- بمحل يبيع أفلام موسيقى أو محل فيه أشياء محرمة والله المستعان، فعندما تخاطبه لا تخاطبه بأنك -أنت- مستقيم ومتمسك، حتى ولو لم تقل هذا أحياناً، لكنه شعورك.
فلو بدأت مع أي إنسان تخاطبه: كلنا مقصرين، وقد يمكن أنك أكبر مني سناً أو أصغر مني؛ لكن الحقيقة أنه بدافع المحبة، أحببت أن أقول لك كلمة وإن شاء الله تنفعك ففكر فيها.. وإذا كان عندك فيها نظرة فأنا مستعد أن أتفاهم معك فيها إلى أن تقول له: إن هذا حرام وكسبه حرام؛ بلطف وبأدب جم، وعندها يرد الرجل: فيك الخير، وجزاك الله خيراً، وأنا كذا.
فالحمد لله! الغالب -إن شاء الله- أن مجتمعنا فيه فطرة، لكنك لو أشعرت الناس أنك أنت مستقيم، وأنهم منحرفون ضالون زائغون، وليس فيهم فائدة وليس فيهم خير؛ فتأكد أن هذا لن يُؤدِّي -أبداً- إلى استجابة ولا إلى ثمرة؛ لكن خذ الناس بالحسنى وباللين، بل حتى لو قلت شيئاً مما لا يستحقونه -أحياناً- من بعض الثناء بقصد أن تجلبهم إلى الخير، فهذا -إن شاء الله- لا حرج فيه، ولا يعد من الكذب إن شاء الله.
الجواب: أولاً: حقيقة أن هذه الغريزة مشكلة؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها غريزة طبيعية وجبل الناس عليها هكذا، فدخل منها أعداء الله، ودخل منها المجرمون والمفسدون والَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا، فدخلوا من باب هذه الغريزة؛ فهذا يبيع الأفلام، وهذا يبيع المجلات، وهذا يفعل الدعاية لبضاعته عن طريق النساء، وهذا يروج بالحرام و..، فنجد أنه تستثار هذه الغريزة بشكل يخرجها عن موضعها الصحيح، أما نحن فلا رهبانية في الإسلام -والحمد لله- ولسنا من النصارى في شيء في هذه المسألة، ولا من البوذيين أو غيرهم؛ فديننا دين الإسلام الذي يعطي كل شيء حقه.
فهذه الرغبة وهذه الغريزة أو هذه النزوة لا بد أن تشبع؛ لأنها أمر فطري جبلي، وأما هذه الدوافع وهذه المثيرات في واقعنا الآن فإنها قد خرجت عن حدها، وخرجت عن طورها؛ بحيث أصبح الشاب مشدوداً ليل نهار إليها؛ فإن دخل مكتبة وجد قصص الغرام، وإن التفت إلى المجلات فكلها صور نساء إلا ما رحم ربك في بعض المكتبات، وإن رأى الأفلام فكذلك، فكل ما يجد ويرى يثيره ويشده.
فنقول: أولاً: هذه مسئولية تقع على أعباء المجتمع بأكمله، وكل إنسان مسئول -بحسب موقعه ومكانه- بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل حادثة زناً تقع نتيجةً لهذه الإثارات، فكل من أثارها -أو أذن بأن تثار- مسؤول بين يدي الله بقدر تفريطه في إثارتها، الذي يستطع باليد مسئول أن يغير ذلك؛ الذي يستطيع باللسان مسؤول أيضاً وإن كان أقل مسؤولية.
وهكذا فالمسئولية مشتركة على الجميع، ونحن لا نقول: إنها دائماً مسئولية الحكام، أو مسئولية العلماء والدعاة، أو المدرسين؛ لأننا كلنا مسئولون بين يدي الله؛ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته) فكلنا مسئول بين يدي الله تبارك وتعالى عن الترويج للفواحش في مجتمعنا المسلم الطاهر.
وهذا الأخ قد ذكر مسألة الإثارة، والإنسان مهما كانت قوته إذا لم يتعرض للمثير فإنه لا يستثار؛ وقد يكون هناك أناس لديهم خروج عن المألوف، ولنفرض أن إنساناً ما، عنده حالة مرض؛ فأصبح يريد أن يعاشر أو يباشر بشكل غريب جداً، فأقول: إن هذا صار مرضاً؛ لكن كقاعدة عامة فالأصل أن السبب هو الإثارة، وإن كان - هذا الأخ- ممن مرض وصار لديه المرض؛ فليذهب إلى أي طبيب ممن يعالج الأمراض التناسلية ولا سيما إذا كان ديناً موثوقاً به، والآن وبفضل الله لا يوجد تخصص إلا وفيه من يوثق بدينه -والحمد لله- وليتعالج على يديه، وربما يعينه بشيء من المهدئات، والمقصود أن لديه العلاج فهذا اختصاصه.
وتأتي مسألة أخرى إذا لم يكن مرضاً؛ وإنما كان بعامل المثيرات فما الحل؟ الحل -وهو للجميع- كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بقوله : قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] فلا بد من غض البصر، ولا بد من حفظ الفرج، وأن يصرف الإنسان هذا الوقت وهذه الطاقة فيما يبعده عن ذلك، فيذهب إلى إخوة له.
فكلما كان مع إخوة في الله كلما كان أبعد، وإذا كان وحده فليتذكر اليوم الآخر، وليتذكر سكرات الموت وعذاب القبر، ثم يتذكر الوقوف خمسين ألف سنة بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والشمس على مسافة ميل، وكل إنسان منهم من يبلغ عرقه إلى أن يلجمه ومنهم يبلغ عرقه إلى الترقوة، ومنهم يبلغ إلى السرة، ومنهم من يبلغ إلى الركبة، فكل إنسان في هذا الموقف العظيم يتذكر ما أمامه من أهوال.
أقول: كلما تذكر الإنسان هذه القضايا يجد أنه لا مجال ولا مكان لمثل هذه النزوات أن تستعر وأن تلتهب، والله المستعان.
الجواب: أقول: أولاً الحب في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لدينا كالشمس في رابعة النهار؛ كيف كان حب المهاجرين للأنصار وحب الأنصار للمهاجرين؟ وكيف كان حب المتآخين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وكيف كان يحب بعض الصالحين بعضاً؟
وهذه والحمد لله واضحة، وأقصد في الجملة التي نريدها الآن: الانضباط وعدم الغلو. وأما مسألة المغالاة في الحب فقد تؤدي إلى البغضاء.
فإذا غاليت أنت في حب أحد فهذا يؤدي بمن يخالفك إلى أن يبغضه، ولو أنك كنت معتدلاً قائماً بالقسط؛ لربما كان مثلك معتدلاً أو قريباً منك، لكن عندما غلوت في الحب غالى هو أيضاً في البغض، وهكذا عادة الناس أنهم يقابلون الشيء بضده في الغالب، فإذا أخذهم الإنسان بالحسنى وقرب إليهم الأمر اقتربوا منه، وهذا هو المقصود.
أما بالنسبة للإخوة الذين يجمعهم عمل واحد أو مدرسة واحدة أو أي أمر من الأمور المشتركة، فإنه إذا غالى أحدهم في حب إنسان، فإن الحسد يدب في قلوب الإخوة الآخرين فيبغضونه ولا ذنب له، وهذا قد يؤدي إلى نوع من القطيعة وهي مجربة ومشاهدة في الواقع.
أما قوله: إنه يحب جميع العلماء والمشايخ فهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكنه إذا رأى أحد الإخوة يعايش أحد المشايخ تدب فيه الغيرة، فإن شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله تعرض لمسألة الصوفية كيف يريد كل شيخ أن يكون المريدون له خاصة، وإذا انتقل المريد إلى شيخ آخر تكون العداوة ونحوها، فإن شاء الله نحن أبعد شيء عن هذه الضلالات.
لكن إن كانت المسألة مسألة الحرص على الخير، تقول: يا ليتني كأخي فلان، أي غبطةً وحرصاً منك على أن تكون مثله، تعايش العلماء وأهل الخير، وتكتسب منهم فلا بأس -إن شاء الله- إن كان هذا هو المقصود والعبارة خانتك، وإن كان غير ذلك فهي عاطفة ينبغي -كما ذكرنا- أن تهذب.
الجواب: علماء الأمة هم خيرتها وصفوتها، ومن فضل الله تبارك وتعالى أنه لا يزال في كل زمان وفي كل عصر من يرفع راية الجهاد وراية الحق ويقول الحق، وتجد من يسير وفق القواعد الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج السلف الصالح، وهؤلاء هم منارات الهدى للأمة، وإن من حبنا لديننا، واحترامنا وتقديرنا له أن نحب ونحترم ونقدر علماءنا، وأظن أن هذه قضية أساسية والتفريط فيها لا يجوز بأي حال من الأحوال.
أما مسألة أن البعض إذا رأى عالماً قد أخطأ في مسألة فإنه يترك الكل، فهذا حيف وجور، وظلم وعدوان، وإن من الوصايا العشر التي أوصى الله تبارك وتعالى بها في كل كتاب وجاء بها كل رسول قوله تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152] فبعض الناس لأنه يعلم أن شيخاً أخطأ في مسألة يقول عنه: ليس عنده علم، أو ليس فيه خير، أو كذا، فسبحان الله!! هذا ليس من العلم، وأيضاً يقول تعالى وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الشعراء:183] وبهذه المناسبة في أحد أعداد مجلة البيان -وتعرفونها جميعاً- كتب أحد الإخوة عند هذه الآية جزاه الله خيراً، وأنا أنصحكم بقراءتها.
ونحن لا نبخس الكافر شيئاً، فلو جاء إنسان وقال لك: إن أمريكا متأخرة، وليس عندها شيء، ومطاراتها وطرقها غير جيدة، فهل تقول له: هذا صحيح ما داموا كفاراً؟ بل نقول: هذا كلام خاطئ، فلا نبخس الناس ما عندهم ولو كانوا كفاراً أو مبتدعين أو غير ذلك، فكل إنسان يجب أن يأخذ حقه، كافراً أو مسلماً ولا نبخسه حقه أياً كان؛ بل نعدل في القول ونكون كما أمر ربنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8] وفي الآية الأخرى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135] وهكذا يجب أن يكون الشباب المسلم بإذن الله.
وننبه إلى مسألة أن العلماء ليسوا معصومين مبرئين من العيوب.
وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه |
فقد يقال عن العالم الفلاني أنه مقصر في جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذاً نترك علمه وفضله؟ فنقول: سبحان الله!! لم لا يقال عنه جزاه الله خيراً، فقد بحث وحقق ومحص حتى يقول لنا حكم الله في كثير من المسائل.
ولا يعني ذلك أننا نقتدي به إذا كان مقصراً فنقصر مثله، ولكن نأخذ منه العلم ونجبر التقصير؛ فكلنا أمة واحدة نسعى إلى الخير والتكامل، حتى لو استطعنا أو كان منا من يستطيع وبأسلوب وأدب جم أن يقول للشيخ: يا شيخ! لو تنكر ولو تتكلم ولو تفعل، فهذا أيضاً من الخير، ولا ندعي العصمة لأحد؛ بل ننصح لأئمة المسلمين وعامتهم، وهؤلاء من الأئمة، وأئمة العلم كأئمة الحكم ينصح لهم، فننصح لهم من جهة، ولا نقول: لا يليق بنا أن نفعل ذلك فهم علماء، فكيف نرد عليهم؟!
ومن جهة أخرى لا يعني ذلك أن نترك ما عندهم من خير أبداً، فكما أن من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينكر المنكر، فلا يعني ذلك أن يكون عالماً أيضاً، فالإنسان قد لا يُلم بالمواهب المتعددة، فبعض الناس برز خطيباً وأعطاه الله تبارك وتعالى موهبة الخطابة، فإذا زعمنا أنه عالم وعارضنا فتوى العالم بقول الخطيب فيها برأيه فهذا خطأ؛ لأن هذا خطيب وهذا عالم، وكل إنسان له مجاله، وكل إنسان له طاقته، والمقصود أننا لا نبخس الناس أشياءهم.
الجواب: أولاً: لا يصاغ السؤال هكذا، بل نقول: لو ارتكبت مفسدة ظاهرة، أي: مفسدة من أجل مصلحة ظاهرة، فهل يجوز أن ترتكب المفسدة سواء كانت قولاً أو فعلاً؟ أي: نرتكب مفسدة من أجل تحقيق مصلحة أكبر، والجواب أن القضية هي قضية أننا (ندفع أكبر الضررين، ونرتكب أخف المفسدتين، لنحقق أكبر المصلحتين) أي: ليست الأمور دائماً كما يقال في المثل: أبيض أو أسود، لا، لكن أحياناً قد تأتي أمور مشتركة، فأنت لا تستطيع أحياناً أن تنكر المنكر إلا بتلبسٍ بشيء منه -مثلاً- أو بشيء مما يسببه هذا المنكر، ففي هذه الحالة نعم لا بأس بذلك.
الجواب: نعم يعتبر خروجاً عن المألوف، فتقصير الثوب إلى نصف الساق يعتبر خروجاً عن المألوف، لكن هل كونه خروجاً عن المألوف يعني أننا لا نطبق السنة؟ فالمألوف هو ما يقتضي أنه يكون طيباً أو حقاً، ولكن المألوف عند الناس اليوم هو الإسبال، فإذا قصرت خرجت عن المألوف؛ لكن هل خرجت عنه إلى حق أم إلى باطل هذه مسألة أخرى.
فنقول: ما كان مألوفاً في الناس فإننا نتعامل فيه بحكمة حتى يكون الخروج عنه، وهناك أمور يصدع بها، كمسألة الشرك والتوحيد، فيجب أن نصدع بها، ولا تقبل النقاش، فهناك أمور نقولها بهدوء، أو بتدرج، وهناك أمورٌ نؤخرها، بل وربما هناك أمورٌ لا نذكرها، فهي على سلّم ودرجات، وهذا هو المقصود.
فالمألوف منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، وليس المعيار عندنا هو المألوف في الحكم، لكن المعيار للمصلحة.
إذاً كيف يكون موقفنا من هذه المسألة؟ فمثلاً إذا كنت في بيئةٍ كبيئتنا هذه، فيمكن أن تقف في أي مكان وتتكلم في الصوفية، وتقول فيها ما هو حق إن شاء الله، لكن لو ذهبت إلى بلد كله صوفية، فإذا قمت مباشرة وتكلمت في الصوفية، فإن هذا لا يكون -في الحقيقة- من النصيحة ولا من الحكمة؛ لأنك خرجت عن المألوف، بينما هو يعتبر هنا متماشياً مع المألوف، ولا يعني ذلك أن المألوف هناك حق أو أنه سنة.
الجواب: إن الله لا يمل حتى تملوا، فالإنسان يأخذ نفسه باليسر، فإذا كان الأخ قد ألزم نفسه بقسط كبير فليخففه، وإذا وجد أن نفسه غير قابلة لهذا الخير، ولهذا النور العظيم، وأنها قد صدأت وأظلمت؛ فليرققها قبل أن تتسلط عليه، وليعظها وليذكرها بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وليعالجها؛ ثم بعد ذلك يأتي إلى ما يريد من الخير، ولا يكره نفسه على أمر هي تكرهه؛ فربما تنفر منه، ولا شك أن هذا دليل على شيءٍ في القلب، وقلَّ من ينجو قلبه من مثل ذلك، وهذه حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنت قد تخشع في صلاة الفجر ولكنك قد تجد قلبك قاسياً في صلاة الظهر، سبحان الله! وهكذا في المغرب والعشاء رغم أنهما متقاربان، فتجد خشوعاً في هذه وقسوة في تلك، وهكذا تجد أننا نحتاج إلى أن نجدد وأن نتعاهد إيماننا، وأن نأخذ أنفسنا بما نستطيع ولا نكلفها ما لا تستطيع، وأن نجاهدها في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنجدد إيماننا دائماً، ونذكر أنفسنا باليوم الآخر، وبما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الفوز العظيم لمن أطاعه، ومن الشقاء والعذاب -عافاني الله وإياكم- لمن عصاه وخالف أمره، وأن نُذكِّرها بحال السابقين الصالحين لتقتدي بهم وتتأسى بهداهم.. وهكذا، فلعلها تستنهض الهمة فيها -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يشق الإنسان على نفسه فيصبح في مثل هذه الحالة الحرجة.
الجواب: المفسدة أو المصلحة كثيرة جداً في واقع الحياة، فمثلاً: إذا أردت أن تنكر على إنسان يسمع الأغاني، فأول ما تفعله هو أنك إذا زرته فدخلت ورأيته يسمع الأغاني، فهل تبدأ بإقفالها؟ بذلك يمكن أن تتشاجرا معاً، فأنت في هذه اللحظة ستسمع الموسيقى أثناء كلامك له، ولكن من أجل إفهامه.
أو إذا كان المنكر هو التدخين، أو شيئاً من هذا، فالتلبس -أحياناً- بشيء مما فيه مفسدة لا بأس به، بل ربما تدخل على من هو أشنع من ذلك كمحل فيديو مثلاً فتراه يعرض أشياء محرمة أو شيئاً من ذلك، حتى وأنت تكلمه فإنك تعرض عِرْضك لشيءٍ من الشبهة، فلو مر أحدهم فربما يقول: هذا يريد أن يشتري فيلماً، فيظن بك ذلك، فهذا فيه مفاسد كدخولك ورؤيتك وسماعك، وهكذا بعض الإخوان يكون ذلك في حقه واضحاً جداً وأكثر، كالإخوان في الهيئة أو الجمارك أو الإعلام والمراقبة، فهو يرى المنكر نفسه، فيرى هل هذه المجلة تدخل أم لا تدخل ويتصفحها، فيرى فيها الصور المخزية -أحياناً- وغيرها.
فنقول: مثل هذه المفاسد تهدر ولا ينظر إليها؟ لأننا نحق مصلحةً عامةً فوق ذلك، وأهم من ذلك وهو درءُ هذه الأمور بالكلية إن شاء الله تعالى.
والأمثلة أعتقد أنها يومية ومتكررة بالنسبة لمن يمارس الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الجواب: بالنسبة للمنهج العلمي، فلا يخفى عليكم في الجملة ما يجب أن يبدأ به طالب العلم، والرسالة التي ذكر الإخوة أو الوريقات، -ولعل الله تعالى أن ييسر لتكتب- ما هي إلا شيء مما يعين على ذلك، وإلا فالأمر واضح، وعندنا -والحمد لله- مناهجنا المعروفة الآن والمقررة في المدارس الخيرية في المساجد.
وأظن أنكم تعلمون جميعاً ما يدرسه الدعاة -غالباً- وهذه كلها منضبطة والحمد لله على هذا الشيء، وهو: البدء بالمتون الأساسية حتى تتدرج، ففي التوحيد -مثلاً- الأصول الثلاثة، ثم القواعد الأربع، ثم كتاب التوحيد، ثم فتح المجيد، ثم تيسير العزيز الحميد، وفي موضوع العقيدة -الأسماء والصفات- تؤخذ الواسطية، ثم الحموية بعد ذلك، ثم تنتقل إلى شرح العقيدة الطحاوية إلى أن تقرأ في مجموع الفتاوى وأمثاله.
فأما في الفرق -مثلاً- فتأخذ شيئاً مبسطاً ثم تتوسع، وفي التفسير أرى أن تبدأ بـتفسير ابن كثير ولا أرى غير ذلك.
لكن يمكن أن تبدأ بقراءة الكتب التي تعرف المعاني مجملةً، فيعرف المراد منها في الجملة، ثم بعد ذلك تتدرج في معرفة أنواع التفسير والأحكام والخلافات والاستنباطات، وأمثال ذلك، فهذه أظنها بدايات طبيعية، والكتب إن شاء الله تعالى يعرفها ولا يجهلها الكثير، وما وعدت به أرجو أن يعينني الله تعالى على تحقيقه.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر