أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة: كثيراً ما نواجه ويواجه كل واحدٍ منكم طوائف من الشباب ومن كبار السن من اللاهين العابثين الغافلين عن الآخرة، العابثين في دنياهم، اللامبالين بأي مصيرٍ يئولون إليه وينتهون عنده، إن قدمت شريطاً فيه موعظة لا يسمعونه، وإن قدمت رسالة فيها كلامٌ جميل لا يقبلونه، وإن قدمت نصيحة لا يرعوون لها، وإن تلطفت مع طائفة منهم يظنونه ذلاً واحتقاراً، وإن أخلصت النصيحة لأحدهم ظنوه استعلاءً وتكبراً، والله إن العقل والفكر ليحارا، ويصبح الحليم حيران أمام طائفة من أولئك اللاهين العابثين، الذين لا يعرفون المساجد إلا نزراً يسيراً، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولهم في بلاد الغرب مع البغايا والفاجرات صولات وجولات، كيف الطريق إلى قلوب هؤلاء؟ كيف يُدعون إلى الله؟ كيف يُنادَون إلى كتاب الله؟ هل نيأس منهم؟ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] هل نحكم عليهم بالشقاء؟
كلا لأن المسلم ليس مسئولاً أن يحكم على الناس في نهاياتهم أن يكونوا من أهل الجنة أو أهل النار، وعقائد أهل السنة جميعاً ناطقةٌ بأنهم جميعاً لا يشهدون لأحدٍ بجنة أو نار، لكن يخشون على المسيء العقاب، ويرجون للمحسن الثواب، هل يعتبرون من سقط المتاع أو على هامش الحياة؟ لا والله يا عباد الله!
هناك مدخل رئيس، وهناك حقيقة لا بد من طرحها، وقضية لا بد من مواجهتها؛ قضية لا بد أن نواجهها نحن، لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد، ولا بد أن يواجهها كل مسلم وكافر، كل بعيدٍ وقريب، كل ذليل ٍوحقير، كل عزيزٍ وأمير، كل صعلوكٍ ووزير، هي حقيقة الموت، هي نهاية المطاف، هي خاتمة الدنيا.
إن كل البشرية تشهد وتعلم وتنطق أن نهايتها هي الموت، وأن منتهى الطريق بالنسبة لها هي الانقطاع عن هذه الدنيا؛ انقطاع النفس والروح، وانقطاع الجوارح؛ فالعين لا تبصر، واليد لا تتحرك، والأذن لا تسمع، والنفس لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايين لا تنبض، إنها النهاية الأخيرة التي يواجهها ويقف أمامها كل صغيرٍ وكبير، كل بعيدٍ وقريب.
إنها السجدة الأخيرة، هي النهاية، والله ما قام من سجدته بل أقاموه في تابوته، وأرسلوه بطائرته ودفنوه مع سائر الموتى.
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! لو تقدم ملك الموت صفاً واحداً لقبض روحك، ولو تقدم صفوفاً أكثر لقبض روحي، ولو تأخر صفاً واحداً لقبض روح شخصٍ آخر.
استعدوا يا عباد الله! ولمثل هذا فأعدوا، أسأل الله لميتنا الرحمة والغفران، ولذويه الصبر والسلوان، خرج من بيته إلى الجمعة لم يتخط رقبة، متطيباً متهيئاً، حادث أهله واستأنس بأطفاله، ثم اغتسل وخرج إلى المسجد، يقود سيارته بنفسه، وجيء بسيارته إلى البيت لا يقودها هو، لبس ثوبه بنفسه ولم يخلعه بل خلع منه، دخل هذا المسجد بنفسه وخرج محمولاً.
أيها الأحبة! بعد أن دخل الخطيب وأعلن التحية للسلام مد ميتنا مصحفه إلى من كان بجواره، فأخذ المصحف من يده ووضعه على الرف الذي أمامه، ثم جلس قليلاً يستمع الأذان ثم الخطبة، بعد الشروع فيها، وما هي إلا لحظة أو أقل من لحظة حتى اتكأ على ظهر كف يده، فظن الذي بجواره أنه ناعسٌ أو نائم، فالتفت إليه وأيقظه، فإذ به يسمع شيئاً أشبه ما يكون بشخير النائم، ثم بعد ذلك استلقى على قفاه، الله أكبر! (من مات يوم الجمعة أمن الفتان) الله أكبر! على هذه الميتة الطيبة في هذا المكان المبارك، في هذه الساعة المباركة، في يوم الجمعة خير يومٍ طلعت عليه الشمس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر