أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للخلائق أجمعين وللمؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
عباد الله: إنه كلما ابتعد المسلمون عن السنة، فإن البدع تقترب منهم بحسب ما ابتعدوا به عن دينهم، وما تركوا أمراً حسناً إلا وحل محله أمر قبيح، وهكذا النفوس إن لم تنشغل بالطاعات انشغلت بالمعاصي.
وإن من سيئ الأفكار الخبيثة السامة التي حلت في قلوب بعض المسلمين المغترين ببريق الحضارة، دون معرفة لحقيقة خوائها الروحي، وما تنطوي عليه من ألوان الدمار الاجتماعي والاقتصادي والتسلط السياسي، تلك هي فكرة تقسيم أمور الشريعة وأحكامها إلى قشورٍ ولباب، ومظاهر وحقائق، وتراهم يبنون على هذا تهاونهم بترك بعض أوامر الشريعة وتساهلهم بها، بحجة أن الأهم والأعظم أكبر من هذا، وقضية الدين هي العقيدة والإيمان الذي هو في القلب، ولو جادلت شخصاً منهم بالتي هي أحسن لأجلب عليك بخيله ورجله بأحاديث يفهمها فهماً سقيماً، ويضعها في غير موضعها، فيقول لك: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) ويقول: التقوى هاهنا، ويشير بيده إلى صدره، وقد تراه متهاوناً بأوامر الشريعة، تاركاً للصلاة مع الجماعة، حليقاً مسبلاً، مجاملاً في أمر دينه، ولو دار بينك وبينه نقاش، وأقمت عليه الحجة بوجوب المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله، بالأصول والفروع، بالدقيق والجليل، في العقائد والأحكام؛ لانفض النقاش بينك وبينه، متهماً لك بالقشورية والسطحية، وعدم الغور في أصول الشريعة، أو إدراك مقاصدها، وهكذا تنقض عرى الإسلام وأحكامه عروةً عروة.
وأولئك الجهلة يرددون كالببغاوات حججاً واهية، وأفكاراً سقيمة، استوردوها من أعدائهم جهلاً وغفلة، وصدَّرها الأعداء حقداً ومكيدة، فلو قلت لأحدهم: صلِّ مع جماعة المسلمين، وإياك ومعاملة الربا، وفِّر لحيتك، أو افعل كذا وكذا من أمور الدين، أو أنكرت عليه صوراً وتماثيل مجسمة في بيته، أو حذرته من سماع الأغاني الماجنة، أو نهيته عن شرب الدخان، وأمرته بالاهتمام بأسرته، والحياء والستر وعدم التبرج بالنسبة لهم، وترك مجالسة رفقاء السوء تراه وهو غارقٌ في كل هذه المعاصي والمنكرات، يرد عليك بكل جرأة قائلاً: لا تكن متشدداً، لا تكن معقداً، أو لا تكن سطحياً، الأمر أهم من ذلك، والقضية قضية عقيدةٍ وإيمان .. إلخ هذا الكلام الذي يردده ولا يفهمه، ولا طائل تحته سوى البوار والخسران المبين.
والأدهى والأمر من ذلك كله أن تراه راضٍ عن نفسه، فيجعلها في عداد الملتزمين الصالحين رغم تلك المنكرات التي يرتكبها، ويزيده ضلالاً ووبالاً أنه يشعر بالرضا عن نفسه؛ لأنه يقارن نفسه بأولئك الذين يسرقون ويزنون ويرتشون، فيرى نفسه أحسن حالاً منهم، وقد نسي المسكين أنهم إنما وقعوا في تلك الكبائر والفواحش يوم أن تهاونوا بوقوعهم في المنكرات الصغيرة، ثم تلتها المعاصي والكبائر التي هو غارقٌ في لججها، غافلٌ عن خطرها على نفسه وذريته وماله.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين به، المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام، وأن يعملوا بجميع أوامره، وأن يتركوا جميع زواجره، ومعنى قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] أي: ادخلوا في الإسلام جميعاً، كما قال ابن عباس وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.
ودعوى أولئك الغافلين بقولهم: إن الدين والإيمان في القلب، لو سلَّمنا بها على إطلاقها؛ لجعلنا فرعون وهامان وأبا لهب وغيرهم من الطواغيت في عداد الصالحين؛ لأنهم يؤمنون بالله، ويوقنون بوجوده وتصرفه في الكون، ولكنهم ضلوا وأضلوا يوم أن تكبروا وتجافوا عن عبادة الله والانقياد له، وابتعدوا عن العبودية له في الصغير والكبير من الأعمال.
إذاً.. فلا يكفي في دعوى الإيمان أن يدعيه الإنسان دعوى من دون تطبيق أو برهانٍ صادق على دعواه، ثم إن الحس والملاحظة يشهدان بالارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن، فمن صلحت سريرته؛ استقامت علانيته، ومن ساءت وحادت عن جادة الصواب علانيته؛ كان ذلك دليلاً على فساد باطنه، وهذا أمرٌ تعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية في عددٍ من كتبه حول كلامه عن هذا الموضوع، وتكلم فيه أيضاً في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم حيث بيَّن بقوله رحمه الله: والأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال؛ يوجب في القلب شعوراً وأحوالاً، فالمشاركة في الهدي الظاهر؛ تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس.
أسأل الله جل وعلا أن يجنبنا وإياكم التساهل بأمور الدين وأحكام الشريعة، وأن يجعلنا من المتمسكين الذين يمسكون بالكتاب، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام بصغيرها وكبيرها، بدقيقها وجليلها، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٌ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله: إن التساهل بأحكام الشريعة وأوامر الشارع بدعوى أن بعض الأمور من القشور، أو أن بعض أحكام الشريعة ليست من اللباب، إن التساهل بالأمور المهمة والأمور الدقيقة والجليلة في الشريعة يقود إلى سقوط عرى الإسلام عروةً وعروة، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، فكيف بمن وقع في الذنوب والمعاصي، بل بمن وقع في الكبائر باقترافها، وإصراره عليها، فهل ترونه إلا غارقاً في لجج المحرمات، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أموراً مشتبهات، فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات؛ فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت؛ صلح الجسد كله، وإذا فسدت؛ فسد الجسد كله) فلو صلحت أفعالهم واستقامت جوارحهم على ما شرع الله؛ لكان دليلاً على صلاح مضغ قلوبهم.
إن هذا الأمر -وهو تقسيم أمور الشريعة في مهمٍ وأهم- إنما هو في جانب الدعوة والإصلاح، أما جانب الالتزام، وجانب العمل بالشريعة، فينبغي لكل مسلمٍ أن يتمسك بكل صغيرٍ وكبيرٍ منها، وينبغي لمن كان في مقام الدعوة أن ينبه على الأهم فالأهم، وهذا أمرٌ لا شك في أهميته؛ لأن من وقع في الربا وترك الصلاة، وشرب الخمر، وفعل أموراً دونها؛ فينبغي أن يوجه أولاً إلى الصلاة مع المسلمين، ثم إلى ترك الربا وترك شرب الخمر، وبعد ذلك إلى بقايا الأمور التي لوحظت عليه، أما أن يقول شخص: إن هذا من القشور، وإن هذا من اللباب، وما كان من القشور فليس بمهم، فإن هذا يدعو الإنسان إلى الوقوع في الكبائر رويداً رويداً.
نسأل الله جل وعلا أن يقينا شر ذلك، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من المؤمنين المتمسكين بكتابه وسنة نبيه.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى |
لا تقولن: هذه صغيرة وهذه كبيرة.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى |
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى |
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، الذين يضللون عقول شباب المسلمين، ويدعونهم إلى ترك التمسك بدينهم، بحجة أن هذه أمور صغيرة، وهذه أمور مهمة، وهذه أمور ليست بذات أهمية.
اللهم من أراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أذهب سمعه وعقله وبصره، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم شتت شمله، اللهم امحق بركته، اللهم لا تبق أحداً ممن أراد بنا سوءاً، وأحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، فإنك جبار السماوات والأرض لا يعجزونك وأنت على كل شيءٍ قدير.
اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النار منقلبنا ومثوانا.
اللهم اجعل لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصماً.
اللهم لا تدع لنا في هذا المقام الكريم الطيب المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره.
اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد وعبادك الصالحون، اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابتدأنا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اجعل ميتتنا على شهادة الإخلاص، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم اجعل ختامنا من هذه الدنيا، وفراقنا عنها، وما فيها من الأحباب والأصحاب، اللهم اجعل فراقنا منها غير خزايا ولا مفتونين، غير ظالمين أو مظلومين، وما ظلمنا أحداً من خلقك بمظلمةٍ في مالٍ أو عرضٍ أو قليل أو كثير برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تربص بنا إذا جاوزنا، اللهم تلطف بنا إذا احتضرنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم ارفعنا ولا تخذلنا، اللهم لا تعاقبنا بذنوبنا ولا تعذبنا بما فعل السفهاء منا، برحمتك يا رحمان يا رحيم، يا قيوم السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبيك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر