أيها الأحبة في الله: أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، أن يحرم وجوهكم وجسومكم عن النار، وأن يجمعنا بكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إذ الداعي والباعث والغاية والمقصد من هذا اللقاء هو تحقيق محبة الله في الله ولله ولوجه الله، وفي سبيل الله وعلى طريق يرضي الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (المتحابون في الله على منابر من نور -لا هم بأنبياء ولا شهداء- يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم من الله) فأسأل الله جل وعلا ألا يحرمنا وإياكم هذا الأجر العظيم، أسأله سبحانه كما هدانا إلى الإسلام أن يثبتنا عليه، وأسأله سبحانه كما هدانا إلى الإسلام أن يمكنا بالإيمان، وأن يهدينا إلى الإحسان، وأن يوفقنا إلى طاعته.
أحبابنا: وبين يدي هذه المحاضرة، وأمة الإسلام جراحاتها نازفة وأشلاؤها متناثرة وجماجمها تحت دبابات وطائرات وقنابل أعدائها، بين يدي هذه المحاضرة، والمسلمون بكل أرض إما جريح أو شريد أو طريد، بين يدي هذه المحاضرة التي فيها نداء لي ولكم ولكل شاب، ولقد أكثرنا في نداء الشباب الذين ضلوا ولكنا قصرنا وفرطنا في نداء أنفسنا، ودعوة أنفسنا وتمحيص ما ندعيه من الإيمان والاستقامة والالتزام.
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء |
أيها الأحباب: نظرة متأملة لجانب من جنبات واقعنا المعاصر فيما يتعلق بأحوال إخواننا المسلمين، إن التاريخ يعيد نفسه في عام أربعمائة واثنتين وتسعين للهجرة، في أواخر القرن الخامس احتل الصليبيون بيت المقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، وعندما دخل الصليبيون المدينة، انطلقوا في شوارعها وبدءوا بالمساجد ثم إلى الدور يقتلون كل من لاقاهم وصادفهم، رجلاً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، بل قال ابن الأثير : إن عدد القتلى من المسلمين زاد على سبعين ألف قتيل، منهم عدد كبير من أئمة المسلمين وعلمائهم وزهادهم وأكثر الناس فارق الأوطان، وقد روى شاهد عيان في كتب التاريخ ما فعله الصليبيون عندما دخلوا القدس، فقال: إن النساء كن يقتلن طعناً بالسيوف وطعناً بالحراب، وإن الأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم والطفل منهم قد التقم ثدي أمه يرضع منها، ويقذف بالطفل من جنبات السور، بل وربما هشم رأس الطفل بأعمدة الخيام، وذبح خلق كثير، وقد كان لاحتلال هذا البيت وتلك القبلة، أثر عظيم في نفوس المسلمين، وإن التاريخ كما قلت يعيد نفسه، فأنتم ترون أعداء الإسلام لا يزالون يجثمون بكلكلهم على تلك القبلة، بل ومدوا نفوذ سيطرتهم وأطراف عدوانهم على كثير من بلاد المسلمين.
والحال بالأمس واليوم سواء، خاصة في فلسطين فقد ذبح خمسون وهم سجود، برصاص الغدر والخيانة، من أبناء القردة والخنازير عبدة العجل، وأكلة السحت، وقتلة الأنبياء، ومن أتباعهم وأذنابهم من الصرب في البوسنة والهرسك ومن بني عمومتهم من الهندوس في كشمير وغيرها ومن .. ومن .. ومن .. الواقع والتاريخ يعيد نفسه.
أحل الكفر بالإسـلام ضيمـاً يطول عليه بالدين النحيب |
فحق ضائع وحمىً مباح وسيف قاطع ودم صبيب |
وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة لها حرم سليب |
وكم من مسجد جعلـوه ديراً على محرابه نصب الصليب |
دم الخنـزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاحف فيه طيب |
أمور لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيب |
أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب |
أما لله والإسلام حـق يدافع عنه شبان وشيب |
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا |
أي: يضمخون وهم لا يضمخون، بل ينجسون ويوسخون ويقذرون جدران المساجد بدماء الخنازير يعدونه وطيباً.
إذاً: فأول قاعدة نبنيها ونضعها ونوصيكم معاشر السامعين بفهمها والتيقن بها: أن نعتز بالإسلام وليس بغير الإسلام عزة، تباً وسحقاً وبعداً لرجل يعتز بثيابه وينسى أن يعتز بدينه، يعتز بمركبه وينسى أن يعتز بدينه، ويعتز بجنسيته وينسى أن يعتز بدينه، ويعتز بمبانيه وبما عنده وينسى أن يعتز بدينه، فهو حقير كسير مسكين ليس له في هذه الحياة حظ من العزة لا في قليل ولا في كثير.
أيها الأحباب: أقول هذا لأن أعداء الإسلام تسلطوا علينا وعلى شبابنا خاصة عبر وسائل الإعلام المختلفة، عبر الأفلام، وعبر المجلات، وعبر المسلسلات، وعبر الأقمار الصناعية، والقنوات، وعبر كثير من السبل جاءونا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا، وأرجفوا بالناس من تحتهم ومن فوقهم، لا يريدون إلا أن يضلوهم عن طاعة الله، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة:105].
أدنى الخير أو ذرة من الخير فأسأل الله أن نكون ممن خصوا برحمة الله، وخصوا بعزة في دين الله، وبرفعة في طاعة الله، وبمحبة من الله عز وجل، أولئك كما قال الله عز وجل: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
أيها الأحباب: على الرغم من تخلف المسلمين في مجال التقنية والتسلح، وعالم الفضاء والإلكترونيات، وكثير من المجالات، على الرغم من تخلف المسلمين وتقدم الكافرين في كثير من المجالات إلا أن الكفار لا يزالون ينظرون ويرون أن المسلمين أرفع وأكبر وأعلى قدراً منهم، ومن ثم يريدون أن ينـزلون بهم من مستعصم عليائهم إلى منخفض جاهلية الكفار، فيكونون سواء، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] إذا كنا نظن أننا في الدون والكفار في العلو فإن الكفار لا يتمنون أن يرتفع المسلمون ويكونون معهم في درجة واحدة، لكن معنى هذه الآية: يدل على أن الكفار حينما يرون المسلمين متمسكين بالإسلام فهم يرونهم في رفعة وفي عزة وفي علياء، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فتهبطون وتنـزلون فَتَكُونُونَ سَوَاءً ويأبى الله ذلك، ويأبى المؤمنون الصادقون ذلك، وإن النصر بإذن الله لقريب إذا وجدت أمة تستحق النصر، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:40-41].
يا شباب الإسلام! ويا أيها الشباب! والحديث لكم، ومن ثم منكم إلى إخوانكم على مقاعد الدراسة، وعلى مقاعد العمل، وفي جوار المنازل، وفي مناسبات تجتمعون فيها وتلتقون فيها، أنتم رسل هدى ورسل خير، فلا يظنن أحدكم أن قصارى مهمته وأن مبلغه من الخير والصلاح أن يحضر محاضرة ثم ينتهي، نعم جزيت خيراً على حضورك، وأثابك الله على مجيئك وعلى ما تركت من أعمالك وتركت من أشغالك لتسمع آية وحديثاً، وتوجيهاً ونصحاً، ولكن الأمر لا ينتهي عند ذلك، الحديث الليلة والحديث في كل ليلة حينما يكون في كلام الله ورسوله رسالة إلى السامع وليبلغ الشاهد الغائب، وليبلغ السامع من لم يسمع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع) ولو لم يكن لك إلا دعوة هدى: (ومن دعا إلى هدى فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً).
أيها الأحبة في الله: لا يشك شاب عاقل عنده أدنى بصيرة وأدنى معرفة:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر |
إن اليهود والنصارى حتى هذه اللحظة وقبل هذه اللحظة وقبل سنين لا يزالون يتربصون بنا كما قال الله جل وعلا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217].
ذلك المنهزم التي انطلت عليه دعايات الكفار، ذلك المخدوع الذي وقع في الفخاخ، ذلك المسكين الجاهل المقلد الذي نصب له الشرك فوقع فيه من أول خطوة وأول لحظة.
ويقول عز وجل: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] تبقى تلك الشريحة حالة مستثناة من عموم الكافرين، نؤمن بوجودها تصديقاً للعدل وتصديقاً بما ورد في الكتاب والسنة، ولكن أصل الحقيقة أن اليهود والنصارى لا يألون جهداً في خبالنا وفي ضلالنا، ولأجل ذلك ما فتئ الكفار على اختلاف مسمياتهم: يهود، نصارى، بعثيون، ماسونيون، هندوس، بأي طريقة وملة ونحلة كانوا يخططون للبحث عن أقرب السبل وأيسرها لإفساد شباب المسلمين وإضلالهم.
ولذا يقول أحد الماسونيين: كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوا هذه الأمة في حب المادة والشهوات. نعم. إنها مؤامرة على شبابنا، إنها مؤامرة على إخواننا، وعلى فلذات أكبادنا، وإنك لترى حقيقة المؤامرة يوم أن ترى شاباً يلوح بثيابه أو يصفق بيديه أو يصفر بفمه أو يهز برأسه على لعبة أو على ملهاة، أو في غفلة وفي نفس اللحظة المسلمون في البوسنة تغتصب نساؤهم.
ومن شواهد نجاح خطة أعداء المسلمين في شباب المسلمين أنك ترى في نفس اللحظة التي يذبح فيها شاب مسلم وتغتصب فيها حرة مسلمة ترى شاباً يسير وراء غانية أو ممثلة أو سينمائية، في نفس اللحظة التي يمزق فيها المصحف ويتبرز على المصحف ويتبول على المصحف في نفس اللحظة تجد شاباً لا هم له إلا أن يقلد ممثلاً أمريكياً، أو بطلاً فرنسياً، أو نجماً سينمائياً شرقياً أو غربياً، أليس هذا دليلاً من أدلة نجاح أعداء الإسلام وخططهم في إفساد شباب المسلمين؟ وإن هذا أمر ليفت الأكبد، ويجرح القلوب، ويجعل الإنسان يبكي الدم بدل الدمع من شدة ما يرى من أحوال هذه الأمة، إن التفت يميناً وجدت شباباً غافلين، وإن التفت شمالاً وجدت أعداء في الضلال مجتهدين، فتلك مؤامرة:
مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب |
مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماً من تراب |
مؤامرة تقول لهم تعالوا إلى الشهوات في ظل الشراب |
شيوعيون نزر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب |
تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب |
خفف الوطء ما أظن أن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد |
رب لحد قد صار لحـداً مراراً والهاً من تزاحم الأضداد |
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]. وهذه من دلالات البعث بعد الموت، ومن شواهد الخلق بعد الفناء، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحج:6].
أيها الشاب! اعرف حقيقة خلقتك حتى إذا قال الداعي: حي على الفلاح، أدركت يا أيتها النطفة، يا أيتها المضغة، يا أيتها العلقة، يا أيتها النطفة المذرة من الماء المهين، كيف تتكبرين على داعي الفلاح ومنادي الله عز وجل فتزورين وتنقلبين أو تتقهقرين وتترددين، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].. أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يّـس:77].. فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6] نعم. نبدأ بهذه القضية في خطابنا لكل شاب نناديه لكي يقلع عن الغواية ويعود إلى الهداية، نناديه لكي يترك مجالس اللهو ليعود إلى مجالس الذكر، نناديه لكي يترك كل ما يضره ويصده عن طاعة الله، ليعود إلى ذكر الله وطاعة الله، فنقول له من البداية: إن تصورك لحقيقة نفسك وحقيقة تكوينك هي التي تجعلك تنقاد خاضعاً مختاراً طائعاً لا خيار لنفسك في نفسك.
إنك أخي الكريم! يوم أن تحاسب أحداً من موظفيك أو أحد عمالك، استخدمته براتب أو بأجرة وفيرة، ثم رأيته يتصرف في مؤسستك، ويبذر في مالك، ويعتدي ويخالف، ويعزل ويفعل، ويأمر وينهى، ولا يألو جهداً في أن يفسد أو يخالف أو يستثير غضبك فإنك أول ما تدعوه تقول له: من أنت؟ تريد أن تذكره بحقيقة نفسه، وتريد أن تذكره بحقيقة موقعه، وبحقيقة وضعه في هذه الشركة أو في هذه المؤسسة، تريد بهذا أن تقول له: إن وضعك لا يسمح لك بالأمر، ولا يسمح لك بالنهي ولا يأذن لك بالتصرف، فأنت متصرف فيك، مأمور في هذه المؤسسة والشركة، ولست الآمر والناهي.
ولله المثل الأعلى، نقول لك أيها الأخ الكريم: من أنت حتى تزور وتكفهر ولا تنـزجر ولا ترعوي ولا تأتمر بأمر الله ورسوله، قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء:50].
يا من دعي إلى الصلاة فلم يصل! يا من دعي إلى هجر الغفلة فلم يهجرها! يا من دعي إلى مجالس الذكر فلم يحضرها! يا من نصح بالكتاب والشريط فلم يسمع! يا من دعي إلى الهداية فلم يرعوِ! من أنت؟ حجارة لا تدور، أم حديد لا يلين، أم قوة لا تضعف، أم صحة لا يعتريها مرض، أم حياة مخلدة لا يكدرها الموت؟! من أنت؟ أمان لا يفنى، أم كنوز لا تنقضي، أم قوة لا يغالبها أحد؟! من أنت يا من يعصي ربه؟! من أنت يا من يخالف أمر رسوله؟! من أنت يا من لا يتصبر ولا ينقاد لأمر الله ورسوله؟! ثم بعد ذلك تظن أنك بعد إذ خلقت على هذه الحال، أن الله خلقك عبثاً؟!
إن فيك ملايين بل مليارات الخلايا التي أمرها الله بتركيب هذا الجسم مذ كنت في رحم أمك -ملايين الخلايا التي تنتج في مصنع الرحم- فخلايا تتجه لصناعة عينك، وخلايا تتجه لصناعة أذنك، وخلايا تتجه لصناعة القدم، والمفصل والركبة والفخذ، وخلايا تتجه لصناعة الرئتين، وخلايا تتجه لصناعة قلبك، وخلايا تتجه لصناعة عظامك، وخلايا تتجه لصناعة سمعك وبصرك وجوارحك وحواسك وأجهزتك وما ضلت خلية عن طريقها، ما رأينا رجلاً ضاعت خلية منه وتاهت طريقها، خلية الأنف ما ضاعت وما تاهت عن الطريق، ما رأينا أحداً نبت أنفه في ظهره، كل خلية في كل إنسان اتجهت لتثبت في هذا المكان، وكل خلية أذن في كل إنسان اتجهت لتثبت في مكانها، وكل خلية في العين اتجهت لتبقى في مكانها، ما ضاعت وما ضلت، ولو أن البشر أرادوا أن يحكموا تدبير الخلايا وتوجيهها والسيطرة عليها والإحكام في أمرها لعجزوا عن ذلك، مليارات من مليارات الخلايا التي يعجز الإنسان عن عدها فضلاً عن أن يتصرف فيها، إن الله جل وعلا قد سخر فيك هذه الكائنات، وأمرها بأن تكون أداة ومادة لتكوينك وخلقك ثم أبدع تصويرك وأحسن خلقك، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
بعد هذا كله أتظن أن الله أبدع وخلق وصور وأحكم وأنشأك ورباك ونماك في هذه الصفة لكي تأكل ما حرم، أو لتسمع ما حرم، أو لتنظر إلى ما حرم، أو لتقول ما حرم، أو لتفعل ما حرم، أو لتترك ما أوجب، أو لتستهزئ بما أمر، أو لتنصرف عما أمر؟ حاشا وكلا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] قال الإمام الطبري في تفسيره، يقول جل ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء! أنما خلقناكم لعباً وباطلاً، وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟!! قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:115-116] أن يخلقكم عبثاً أو أن يضيعكم، أو بمجرد أن يحييكم ثم يميتكم، لا يرجعكم إليه ليحاسبكم؟ تعالى الله عز وجل وتنـزه وتقدس أن يخلقنا ثم يتركنا، ولا يعيدنا ولا يجمعنا مرة أخرى للحساب والسؤال والجزاء.
يا أيها الشاب! يا أخي الحبيب! إن من واجبنا أن نتفكر ملياً، إياك أن تشغلك نغمة أغنية، أو صورة خليعة، أو رواية ماجنة، أو مسلسل يغويك عن غايتك التي خلقت من أجلها، هل فكرت في معنى حياتك على هذه الأرض؟ من أين جئت؟ ما الذي جاء بك؟ ولماذا جيء بك؟ وأين يذهب بك بعد الموت؟ هل فكرت يوماً من الأيام أن تقف بجوار مقبرة من المقابر؟ هل وقفت يوماً من الأيام بجوار قبر من القبور وقلت: يا ليت شعري ماذا يدور في اللحد تحت هذا القبر؟ هل وقفت يوماً لتقول كما قال القائل:
أتيت القبور فناديتهـا فأين المعظم والمحتقر |
وأين المذل بسلطانـه وأين العزيز إذا ما افتخر |
هل فكرت في هذه النهاية؟ إلى أين تسير أيها الأخ الحبيب؟ أسئلة لا بد أن تكون قد خطرت ببالك، ولا بد أن تخطر على بال كل عاقل، إذ إن الذي يركب سيارة ثم يستوقفه أحد في الطريق، فيقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول: لا أدري، فهذا أحد المجانين، قد ركب دابة، وشق بها طريقاً وعبر بها سبيلاً، لكنه لا يعرف الغاية كما قال ذلك المجنون المعتوه الذي يدعى إيليا أبو ماضي ، حيث قال:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت |
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت |
كيف جئت كيف أبصرت طريقي |
لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري |
قد سألت البحر يوماً: هل أنا يا بحر منك |
أصحيح ما ذكروا عني وعنك |
ضحكت أمواجه مني وقالت: لست أدري |
وهذا الرجل لا يدري وسيظل لا يدري إذا لم تكن هناك دراية وهدى ودلالة من كتاب الله عز وجل، لأن الذي لا يعلم من القرآن شيئاً جاهل، والذي لا يعلم من السنة شيئاً جاهل، والذي لا يعلم من الشرع شيئاً جاهل، حتى وإن بلغت المراكب أعلاها وإن بلغت به المنازل أسناها.
أيها الأحبة: يقول أحد الأعراب -وهو جبير بن مطعم -: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فإذ به يقرأ قول الله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]. فكاد قلبي أن يطير) من شدة تأثره بهذه الآية التي تسائل أقواماً أنكروا وجحدوا وتقول لهم: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ هل العدم خلقهم؟ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أم هم خلقوا أنفسهم؟ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هل استطاعوا أن يخلقوا ما حولهم؟ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]. إن هذه من الآيات التي تجعل المسلم إذا قرأها يتوقف ويسأل ويتدبر ويقرر بكل اعتقاد ويقين أنه خلق من خلق الله عز وجل، وأنه مع من في الأرض جميعاً، من البشر وجميع البهائم والدواب والحيتان والجبال والأشجار والمياه والمحيطات والكائنات والموجودات في ميزان الله أمر صغير حقير وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67].
لو قيل لك: إن رجلاً قوياً من الأقوياء يصرع عشرة من الرجال بضربة واحدة، لقلت: هذا شجاع! ولو قيل لك: إن رجلاً يصرع عشرين أو أكثر، لقلت: هذا بطل من أبطال الزمان، لكن ولله المثل الأعلى: إن الله عز وجل قوي جبار مكين، والخلق أرواحهم بيده، ولا أحد منهم يغالبه، وسلطان الله نافذ فيهم، وحكمه ماضٍ فيهم، ومشيئته فيهم نافذة، وليس في واحد أو عشرة أو مائة بل كل هؤلاء العباد نواصيهم بيده وقلوبهم بين أصبعين من أصابعه عز وجل، والأرض كلها بمن عليها قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون.
أيها الضال! أيها الغافل! أيها المعاند! أيها المكابر! عد إلى الله، فإنك لست بشيء في ملكوت الله عز وجل، إن الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وهو الذي يملك السمع والأبصار، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وهو الذي يدبر الأمر، هو خالقك الذي أمرك بالصلاة وأمرك بالاستقامة وبالتوبة وبالإنابة وأمرك بالهداية، وهو الذي نهاك عن الضلالة ونهاك عن المعصية، ونهاك عن الانحراف وعن الزيغ والبعد عن طاعته عز وجل.
هذا الرب العظيم لماذا خلقك؟ خلقك لعبادته، خلقك لتعمر هذا الكون بعبادته، فأياً كانت وظيفتك، وأياً كان مصيرك، وأياً كان وضعك، فلا بد أن تعرف قدر كل شيء، وأن أول وظيفة وأول قضية وأول حقيقة هي أنك وجدت لتعبد الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57]. جاء بك لعبادته فهل ستظل حياً؟ لا. بل لا بد لك من نهاية كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء:78]، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً [الزمر:42]، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34] الله يخاطب نبيه، ويقول: إنه لن تسلم نفس من الموت حتى أنت يا محمد، حتى أنفس الأنبياء وهم أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] إذاً فلتعلموا أيها الشباب وليعلم الجميع أن هذه الحياة لا بد لها من نهاية، كنا جميعاً -يا معاشر السامعين- كنا صغاراً في المهد نرضع من ثدي الأمهات، والآن قد خطت بنا السيول خطاها، ومضت بنا نحو آجالنا.
والليل فاعلم والنهار كلاهمـا أرواحنا فيها تعد وتحسب |
نعم. لقد ولدنا ووجدنا وبدأنا الحياة ونشق الطريق إلى النهاية وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] هذه نهاية المطاف وآخر الأجوبة على الأسئلة، ففي هذا اليوم العظيم يوم ينتهي الأمر بنا إلى رب العالمين، يوم القيامة يتميز الناس إلى فريقين في حياة أبدية لا تنتهي، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7] فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واتبع رسول الله، فأولئك هم السعداء أهل الجنة، فأولئك لهم رزق معلوم، فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:42-49]. وأما الفريق الآخر الذي أعرض عن ذكر الله وأشرك به وكفر برسله، أو عصى ربه وأصر على المعصية وارتكب ما حرم الله ومات على الكبائر من دون توبة وأصر على كل أمر، فأولئك هم الأشقياء أهل النار: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج:19-21]. أولئك الأشقياء: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:36-37].
هذه حال الفريقين في النهاية: فريق في الجنة وفريق في السعير،
الدار جنة عدن إن عملت بـها يرضي الإله وإن فرطت فالنار |
هما مصيران ما للمرء غيرهمـا فانظر لنفسك ماذا أنت تختار |
أيها الأخ الحبيب! يا من تسير على طريق الدنيا ولا تعلم هل أنت سائر إلى مرضاة الله أم إلى سخطه؟! هل أنت سائر إلى الجنة أم إلى النار؟! هل أنت متبع لنبيك أم متبع لأعداء نبيك الذين حذرك نبيك منهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال الصحابة: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: إذاً فمن، أو فمن القوم؟) محذراً من أن يتبع المسلمون حال المشركين، وإنك حينما تتأمل أبناء المسلمين، أبناء الموحدين، والمصلين، والصائمين، والقائمين، تجد كثيراً من أبنائهم يقلدون الغربيين في مشيتهم، وفي لبسهم، وفي تصرفاتهم، وفي أخلاقهم وتعاملهم، وفي معاملاتهم، وإني أقول وأكرر وأردد: إننا بحاجة أن نذكر أبناءنا وأن ندرسهم كراهية الكفار وأن نحذرهم من تقليد الكفار والغربيين، كما أن عندنا ما نحتاج إليه من أسبوع أو مناسبة أو مواسم، لتحذير الشباب من المخدارت، ومواسم تدعو الناس إلى التطعيم الوقائي، ومواسم تدعو الناس إلى الاهتمام بالبيئة أفضل، فإننا نحتاج إلى مواسم من أجل أن نبغض الكفار في نفوس أبنائنا، من أجل أن نرضع وأن نسقي وأن نطعم أبناءنا وشبابنا كراهية الكافرين، حتى إذا رأوا كافراً رأوا أن الحيوان أطهر منه؛ لأنه كما قال الله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28] حتى إذا رأوا كافراً لا يتعاملون معه إلا بحدود مصلحة يدعى فيها، أو علم يستفاد منه، وما سوى ذلك فالحذر الحذر من أن يتسلل إلى نفس الشباب حب لكافر أو حب لظالم ينافس حب الله وحب رسوله، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] فالمؤمنون أشد حباً لله وأشد حباً لأولياء الله المتبعين لأمر الله عز وجل.
أيها الشباب! ويا أيها السامعون جميعاً! لو سأل كل أحد منا نفسه سؤالاً حقيقياً: ما الهم الذي يحمله؟ وما هي أكبر الأمنيات التي تدور في هذه النفس وفي تلك الجنبات؟ لوجدت أن إجاباتنا شتان، وأكثرنا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- عما خلق لأجله غافل وعما ينتظره معرض، فإلى متى نعصي الرحمن ونتبع الشيطان؟! ألا تريد أيها الأخ الحبيب أن تكون من أهل الجنة؟ ألا تريد أن تكون من السعداء؟ أما يكفيك مللاً وإزعاجاً بتلك الأغاني الماجنة الخليعة التي لم تلين قلبك لحظة واحدة، أما شبعت من الإزعاج، أما سئمت من الملل، أما شبعت من الغبار، أما شبعت من هذا الهم والغم والقلق والنكد الذي لا يملأ الناس إلا شروداً وعذاباً ولا يزيد الناس إلا ألماً وضلالاً، أما شبعت من هذه الصور التي لا فائدة منها ولا طائل تحتها، أما علمت أن ما سمعت وما رأيت وما نطقت هو شاهد عليك الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يّس:65]، ألم تسمع قول الله عز وجل: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21].
أيها الأحباب: إن هؤلاء الشباب وإنكم جميعاً لفي سعي إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4] والإنسان قد خلق في كبد لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، والإنسان كادح ماضٍ في عمل، فإما كبد في طاعة وإما كبد في معصية، وإما كدح في طاعة وإما كدح في معصية، يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] فأما الصالحون فكدحهم وكبدهم في سبيل الله وطاعته، وأما العصاة فكبدهم وكدحهم في تلبية شهوات أنفسهم، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وقول الله عز وجل من أوضح وأبلغ الأمور في هذا: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10]. من زكى نفسه بالطاعة، فهو من الفالحين، ومن دسَّى وأخزى وأذل نفسه بالمعصية فهو من الضالين الخاسرين، قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] من الناس من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، ومن الناس من باع نفسه وأعتقها، ولكن من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207]، ومنهم من يضل ويضل وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26].
يا أيها الناس! إن الزرع في غير وقته لا يفيد الزارع شيئاً، وإن التعلم ساعة الامتحان لا يجزئ الإنسان شيئاً، وإن الذي يأتي يوم القيامة وقد اكتسب سيئاته في الدنيا ولم يعمل من الصالحات الكثير هو المفلس والخاسر، وربما بل لا شك أنه يتمنى أن يعود من جديد لكي يعمل وهيهات فيقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:99-100] وماذا وراء ذلك؟ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينادينا وينادي الشباب وينادي الأمة أجمع: ( اغتنم خمساً قبل خمس ) والغنيمة أمر لا يكاد يفوت، لا تقال غنيمة إلا فيما عليه شيء من الجهاد وشيء من النـزال والقتال، ولا تقال غنيمة إلا لأمر فيه مبارزة، أما الذي يأتي بدون قتال فهو فيء يسير سهل، لكن الغنيمة تحتاج إلى مبادرة، ولا يقال: اغتنم الأمر إلا لأمر يفوت ويضيع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس وهو حديث صحيح.
ما أكثر الذين عن هذا هم غافلون ضالون وفي سباتهم نائمون،
واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت ساعاته بين ذل العجز والكسل |
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد صاروا إلى المطلب الأعلى على مهل |
إن مجرد محبة الصالحين طريق إلى أن يسير المرء في ركابهم، وأن يسلك مسلكهم، وأن ينتهج نهجهم وأن يتقفى أثرهم وأن يهتدي بهديهم، وإن مجرد حب أهل الباطل بوابة ووسيلة وسبيل إلى أن يكون الشخص منهم.
تذكر أخي الشاب أن جلساء السوء لا يأمرون إلا بالمنكر ولا ينهون إلا عن المعروف، إنهم لا يرضون بالفضيلة، ويمقتون الاستقامة، وإن مخالطة أهل السوء وأهل المنكرات الغافلون عن الصلوات والجماعات أقل ثمارها ضعف الإيمان، وأخطر نتائجها خروج المسلم وردته عن دينه، وإن كثيراً من الشباب ربما ارتدوا وكفروا وخرجوا من الإسلام وهم لا يشعرون، هل سمعتم أن شباباً بلغ بهم الهزأ والاستهتار أن بعضهم يرسل نغمات موسيقية على آيات قرآنية، وبعضهم لو قلت له: أنت كافر بهذا العمل، قال: أعوذ بالله، أنا كافر!! أنا كافر!! أنا فلان بن فلان الفلاني مولود في قلب الجزيرة العربية ، أنا مسلم، وقد نسي أن جلساء السوء قد قادوه بالسهرة واللهو والغفلة والاستهزاء والسخرية حتى بات يسخر بكلام الله وآياته ورسوله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66].
إن كثيراً من الشباب لا يعلم مدى خطورة الإعراض عن الاستقامة، ومدى خطورة المضي في معاشرة أولئك الذين هجروا المساجد والصلاة مع الجماعة، وهجروا طاعة رب الأرضين والسماوات، وبعضهم قد تعلق بدعوى الصداقة، أصدقائي أحبابي صداقة العمر، أخلاء العمر، الشخص منهم لو أردت منه روحه قدمها، يا مسكين! يوم القيامة لو أردت من أمك حسنة والله لن تعطيك منها شيئاً، فما بالك بشخص سيأتي يوم القيامة ليطلع أحدهم على الآخر فيقول له: فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف:38]، والآخر ينازع أو يجادل صاحبه ليتبرأ منه: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:166-167] كل صداقة على غير طاعة الله تنقلب عداوة يوم القيامة: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. أيها الشاب! عد إلى الله، ودع قرناء السوء، ودع عنك الصور الخليعة، والأغاني الخليعة، وعد إلى مرضاة الله، ولا تكابر في دعوة التوبة والاستقامة، لا تقل: أنا رجل وسط، أسمع قليلاً من الأغاني وأسمع قليلاً من الملاهي، وأفعل شيئاً من المحرمات، إن السيئة تقول: أختي أختي، والسيئات بريد الإدمان على المعاصي، والإدمان على المعاصي بريد إلى سوء الخاتمة، ولكن عالج نفسك وعد إلى الله فقد أمضيت في شبابك ولهوك سنين، ولا تدري ما الذي بقي من عمرك، أليس من نعم الله عليك أن الله لم يتوفك وأنت في لهو؟! أليس من نعم الله عليك أن الله لم يقبض روحك وأنت على معصية؟! أليس من نعم الله عليك أن الله ما قبض أنفاسك وأنت على فاحشة تقارفها؟! إذاً عد إلى الله سبحانه وتعالى، وابحث عن قوم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28].
فبادروا بادروا، وسابقوا سابقوا، وهلموا هلموا، وأنيبوا أنيبوا يا شباب الإسلام!
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار |
فاقضوا مآربكم سراعاً فإنما أعماركم سفر من الأسفار |
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عواري |
ودعوا الإقامة تحت ظل زائـل أنتم على سفر بهذا الدار |
من ذا يرجي العيش فيها إنمـا يبنوا الرجاء على شفير هار |
والعيش كل العيش بعد فراقها في دار أهل السبق أكرم دار |
شيئان ينقشعان أول وهلة شرخ الشباب وخلة الأشرار |
لا بد أن تعلم أن هذه النهاية قريبة وأنها متحققة فبادر بالنقلة، وبالتوبة، وبالهجرة إلى الله، والهجرة إلى رسول الله، والهجرة في طاعة الله، كما قال الإمام الجهبذ النحرير شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، يقول: الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله.
أيها الشباب! نحن ندعوكم وندعو أنفسنا، أن نهاجر اليوم، وأن نهاجر هذه الساعة، هجرة بقلوبنا إلى الله ورسوله؛ وهذه هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، لا يهاجر أحد ببدنه إلا إذا هاجر قلبه، وهي هجرة تتضمن من وإلى، فيهاجر العبد بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ويهاجر من عبودية غير الله إلى عبودية الله، ويهاجر من خوف غير الله ورجاء غير الله والتوكل على غير الله إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، يهاجر من دعاء غيره، وسؤال غيره، والخضوع لغيره والذل والاستكانة لغيره إلى دعاء وسؤال وخضوع لله، وذل واستكانة بين يدي الله، وهذا معنى قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50] نفر من الله إليه، الهجرة القلبية، الهجرة التي يحتاجها الناس صباح مساء، ليلاً ونهاراً في كل زمان ومكان، أن يهجروا بقلوبهم كلما يصرفهم عن طاعة الله عز وجل، يقول ابن القيم: والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصل الهجرة الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر، وإذا كانت نفس العبد وهواها وشيطانها إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا يزالون يدعونه أي: الهوى والنفس والشيطان، لا يزالون يدعونه إلى مرضاة غير الله، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
أيها الأحبة! أوجز ما بقي من هذه الكلمات لكم ولمن وراءكم ممن تتعبدون الله جل وعلا بنصحهم ودعوتهم حتى تقوم الحجة، وحتى تبرأ ذمتكم بدعوتهم إلى الله عز وجل، نقول: إن حاجتنا في هذا الزمن إلى هجرة إلى الله ورسوله، هجرة حدها كما يقول ابن القيم: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، وكل منـزلة من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى ومنبع النور المنتقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعده من أهل الريب والشبهات، فهذا حد هذه الهجرة والمقصود كما يقول ابن القيم : إن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعن هاتين الهجرتين، يسأل كل عبد يوم القيامة في البرزخ ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟ وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادة، ولئن سأل سائل منكم -أيها الأحبة- عن هذه الهجرة، وكيف نجد دابة ومركباً يوصلنا ويبلغنا إلى مقاصد هذه الهجرة، فاسمعوا ما يقول رحمه الله:
وأما مركبه فصدق اللجوء إلى الله والانقطاع إليه بكليته، وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه، وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المفتون الفارغ، الذي لا شيء عنده، فهو يتطلع إلى قيمه ووليه أن يلم شعثه وأن يمده من فضله وأن يستره، فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها، ألا فلنتزود قبل الرحيل، ألا فلنستعد قبل الرحيل، فإن الموت يفاجئ.
يا أيها الشباب!
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل |
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل |
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم |
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم |
وإنما ظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً، وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رءوس الأشهاد: ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم بين العباد، فلو علم المتخلف عن هذه الرفقة -لو تذكر الغافل، العاصي، المعرض عن الهداية، والاستقامة، الذي يصد عن الخير- لو تذكر المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم وادخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفى لهم من قرة أعين، لم يقع على مثلها بصر، ولا سمعته أذن ولا على قلب بشر خطر، لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو معجوز من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً، ذلك المضيع الغافل المفرط اللاهي المصر على المعصية، المعرض عن التوبة، إذا علم أن القوم الصالحين، قد توسطوا ملكاً كبيراً، لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم، في جوار الكبير المتعال، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
وقال ابن السماك رحمه الله: إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوت، فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها ودخلوا داراً لم يتزودوا لها. فأية ساعة مرت على ما مضى، وأية ساعة بقيت علينا، والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان ويهجر الخلان ويدع ما عز وهان.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا |
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً وتُلحق أُخرانا بأولانا |
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا |
يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً |
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا |
وهذا مصيرنا يا معاشر الغافلين! والقبور بيوتنا بعد الترف واللين، والقيامة تجمعنا وسوف تنصب الموازين والأهوال العظيمة فأين المتفكر الحزين، إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:88-94]. ولما حضرت الوفاة محمد بن سيرين بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.
يا أيها الناس! يا أيها الشباب خاصة! إن إلى ربكم الرجعى، إنكم إلى ربكم ترجعون، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57].. مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثـية:15].. إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسير قولك هذا؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال الفضيل : يسيرة، قال الرجل: ما هي؟ قال الفضيل: تحسن فيما بقي يغفر لك فيما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي وفي والنهاية: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:17-18]. إن الذين يُبشرون، وإن الذين يستجيبون، والذين ينزجرون وللحق يرعون ويتبعون، أولئك طائفة من البشر.
إن جميع الدواب ساجدة، والشمس والقمر ساجدة، والنجوم ساجدة، والجبال ساجدة، وإن كل ما خلق الله متبع لأمر الله، خاضع لأمر الله، إلا البشر ففيهم من يطيع وفيهم من يعصي، فعليكم أن تكونوا من أهل الطاعة، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ [الحج:18] كلها بلا استثناء، مستجيبة ساجدة وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18] ولم يقل كل الناس يستجيبون وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18] دلالة على أن أكثر الناس لا يستجيبون فكونوا من المستجيبين، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].
أسأل الله عز وجل أن يجعل ما أقوله عبرة وعظة لي ولكم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيه حظاً ولا نصيباً.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأله سبحانه أن يُحَرِّمَنا وإياكم على النار، وأن يجزيكم خير الجزاء، وأن يثبتنا وإياكم على طاعة رب العالمين.
الجواب: إن من خير ما يعين على الثبات، أن يحرص الإنسان على المتابعة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتحرى سمت النبي وهديه وأن يطبقه.
الأمر الآخر: مجالسة الأخيار والحذر من مجالس الغفلة، والحذر من المجالس التي يكثر فيها الضحك، ويكثر فيها اللهو، ويكثر فيها القيل والقال والحديث عن الناس، فإن ذكر البشر داء، وذكر الله دواء، فمن أراد الثبات فعليه بصحبة الأخيار والعناية بالاقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يشغل نفسه بما يحاسب عنه يوم القيامة.
العجب أيها الإخوان! أن الشخص منا يتكلم في كل ما لا يعنيه، فإذا كُلم فيما يعنيه مل من الكلام، يطول الكلام ساعات فيما لا يعنينا، أما إذا تكلمنا في موتنا وحشرنا ولحدنا وقبرنا وموازين أعمالنا قلنا: ساعة وساعة، ولا حاجة لتكرار المواعظ، ولا حاجة للإكثار من ذلك، إذا حدث الإنسان بما يشغله أو يعنيه مل وازور، وإذا حدث بأخبار الناس والغادين والرائحين لا ينقطع لحديثهم طرف.
الجواب: يا إخواني! كما قلت: العمر محسوب عليك، والنفس الذي يخرج لا يعود، والذي يدخل كذلك لا يتكرر إلا نفس جديد، بمعنى: أن الأنفاس محسوبة ومعدودة والفرصة محدودة، فالذي يدعى إلى الجنة ويحذر من النار، والذي يدعى إلى المليارات يذهب يشتغل بالفلس والفلسين؟!! الذي يدعى إلى جنة عرضها السماوات والأرض، يقول: لا، لا حاجة في روضة الجنة وأنا يعجبني الجلوس في الرصيف، والذي يدعى إلى ذكر الله والنظر في كلام الله، يقول: لا حاجة لي به، ويطيل نظره وبصره وفكره فيما حرم الله جل وعلا من صور ولهو ونحو ذلك.
فإنه لا يعذر الإنسان أن يقول: أنا وسط، لا. الحياة وموقف العبد فيها ليس فيها مسألة وسط لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37].الإنسان إما أن يتقدم في طاعة أو يتأخر في معصية، وإن جلوس الإنسان مجالس الضحك ومجالس اللهو ومجالس الغفلة والإدمان عليها وعدم وجود الذكر فيها، لا يليق بالمسلم، نحن لا نقول: الإنسان يحرم عليه الضحك، أو يحرم عليه الابتسامة، أو يحرم عليه الطرفة، أو يحرم عليه المزاح بحدوده المشروعة، لا نقول هذا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ويمازح ولا يقول إلا حقاً، وكان الصحابة يتمازحون، لكن مشكلتنا من أقوام يقولون: نحن لم نجلس على خمر ولم نجلس على أفلام خليعة، لكنهم يتكلمون في كلام ليس فيه فائدة، مجلسهم من أوله إلى آخره ليس فيه ذكر لله، ولا صلاة وسلام على رسول الله، وبعد ذلك يقول أحدهم: نحن وسط، لا. يا أخي الحبيب! قد ضيعت والله وقتك، وأنت في أمس الحاجة إلى لحظة تقول فيها: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
الجواب: نقول: عد إلى التوبة، يعني: أذنبت اليوم فتب، أذنبت سراً تب إلى الله سراً، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ولا يأتيك الشيطان يقول: قد ارتكبت الذنب المرة الأولى ثم تبت، ثم أذنبت ثانية ثم تبت، ثم أذنبت ثالثاً ثم تبت، إذاً أنت كذوب في توبتك، أنت منافق في توبتك، لا. لو أذنبت العاشرة فأت بالتوبة الحادية عشرة، عليك أن تتسلح بالتوبة الصادقة النصوح، وبكثرة الحسنات: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فإن ذلك يقطع التوبة، وأنا أقول: ومن جرب هذا عرفه وأدركه، وعلى الإنسان ألا يأتيه الشيطان فيقنطه من رحمة الله، شاب من الشباب أذنب ذنباً -وقع في معصية من المعاصي- فندم وأصابه ما أصابه من الهم والقلق والحزن على أنه عصى الله عز وجل، ما الحل؟ الحل أن يتوب إلى الله وأن يعمل عملاً صالحاً يكفر به هذه المعصية، أي: على سبيل المثال: شاب جلس مجلس لهو وأخذ ينظر فيه إلى حرام، فلما خرج من هذا المجلس ندم وقال: هذا لا ينبغي، لماذا عصيت الله؟ والبصر الذي خلقه الله نظرت به إلى الحرام، فعاد إلى البيت وصلى إحدى عشرة ركعة، وأطال السجود وأطال القنوت والقيام، ثم جاء في ليلة ثانية وفعل مثل المعصية الأولى، فعاد وفعل مثل ما فعل مثل الصلاة الأولى، ولو أنه جد في التوبة النصوح وألحقها بالحسنات التي تمحو السيئات ربما لا يفعل الذنب للمرة الثالثة ولا المرة الرابعة، لكن المشكلة أن التوبة توبة ليست نصوحاً، ومع هذا كله لا نقول لمن أذنب الخامسة أو العاشرة ما عاد هناك أمل أو الحالة ميئوس منها، بل أنت قادر على أن تتوب وإياك أن يفتح لك الشيطان باب اليأس والقنوط، فيقول: اعمل ما بدا لك من الذنوب، إذ إنك لن تتوب بأي حال من الأحوال.
الجواب: واجبنا -أيها الأحبة- أن نرفق بهم، وأن نتلطف في دعوتهم بكل وسيلة، بالشريط .. بالكتاب .. بالرسالة .. بالموعظة، بالنصيحة، وهنيئاً للشباب، فلقد رأيت في بعض القرى ورأيت في بعض المدن، ورأيت في أطراف البلاد، شباباً إذا ذكروا لم تعرف أسماؤهم، ليسوا من أهل المحاضرات، ولا من أهل الندوات، ولا من الخطباء، ولا من الذين تنزل لهم المقالات في الجرائد، ولا يعرفون، حفاة أتقياء أخفياء، ولكن إذا بحثت وجدت أن هؤلاء الشباب فيهم من هو متفرغ للدعوة، وتجد الإنسان منهم إذا دخل العام الهجري قال بسم الله، بدأنا السنة، بدأنا موسم التجارة، لا يمكن أن ينتهي عام إلا وقد هدى الله على يديه اثنين أو ثلاثة، فيمسك الطريق ويسير على الجادة والمحجة الصحيحة، ويدخل العام الثاني فيركز على ثلاثة أو أربعة ويسير معهم، فيزورهم ويهديهم ويعتمر بهم، ويحج، ويذهب إلى العلماء بهم، وإلى المكتبات والمحاضرات ويؤثر عليهم.
أقول: إني والله وكثير من المحاضرين يغبطون هذا الشاب وأمثاله، وإن كان لا يعرف، وإن لم يكن فصيحاً، وإن لم يكن من الذين إذا تكلموا سمع لهم، أو من الذين إذا حضروا أشير إليهم، إن مثل هؤلاء الدعاة، في قرية أو في مدينة أو في بادية والله نغبطهم، أولاً: لأنهم غير معروفين، فهم أقرب إلى الإخلاص.
ثانياً: أنهم على الجادة، يأتي في بداية العام وينظر إلى زملائه في المدرسة من الشباب الذين يرجى فيهم خير أو لا بأس فيهم، فتجده يركز عليهم، ويتعرف عليهم ويستضيفهم، ويعزم ثلاثة أو أربعة من الطيبين، يحترمونه ويكرمونه، ويهدونه، ويخرجون معه، ويذهبون وإياه، ويعتمرون معه، فما يلبث نهاية العام إلا وقد هدى الله على يديه الثلاثة، وربما تمر السنين ويأتي يوم القيامة وفي ميزان أعماله حج عشرين شاباً، وعمرة عشرين شاباً، وصلاة عشرين شاباً، واستغفار عشرين شاباً، وجهاد عشرين شاباً -داعية إلى الله عز وجل- ليس من شرط الدعوة أن تملك فصاحة سحبان ، وليس من شرط الدعوة أن تكون عندك الأموال، وليس من شرط الدعوة أن تكون لديك شهادة، شرط الدعوة أن تخلص لله، وأن تصدق الاستقامة وأن تدعو ولو شخصاً أو شخصين.
يا أخي! إن بعض الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ورأيت النبي ومعه الرجل ) أي: نبي يدعو ولا يستجيب له إلا شخص واحد (ورأيت النبي ومعه الرجلين، ورأيت النبي وليس معه أحد).
الجواب: أتوقع أن ترتيب الوقت بحسب حال الإنسان وارتباطاته وأعماله، لكن الواجب ألا يخلو وقت الإنسان من تلاوة كلام الله عز وجل، ومن العناية والدراية بالسنة، وأي قراءة نافعة، وأيضاً أوصي أن يكون في وقتك حظ لوالديك وأهلك، فإن هذا من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل.
الجواب: والله إني كنت أتوقع أنهم سيشاركون في ضربة الصرب، أما أن يسافروا إلى أمريكا ويقطعوا ثماني عشرة ساعة في الطائرة من أجل رؤية كرتون أو علبة بلاستيكية تتقاذفها الأرجل، فهل هذا في طاعة الله؟! هل هذا في جهاد؟! هل هذا في عبادة؟! هل هذا في دين؟! كم بينه وبين مكة ؟ ساعة واحدة بالطائرة، وبعضهم والعياذ بالله ربما بلغ به العمر وما حج وما عرف الحج، وما اعتمر وما عرف العمرة، وما شد الرحيل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى البيت الحرام ليصلي فيه صلاة بمائة ألف صلاة أو بألف صلاة، وما تمنى أن يصلي في بيت المقدس ولو صلاة واحدة، ولكن إذا دعي إلى رؤية هذه المباريات، يعزم على السفر، أظن أن الذين يعزمون هم نوادر جداً جداً حتى لا نصاب بالإحباط ولا نتفاءل بالشر في شبابنا.
الأمر الثاني: أن هؤلاء الذين سيذهبون لو أنهم فكروا لرجعوا وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما يحسب علينا لا لنا.
حقيقة أيها الأحبة: يطول المقام بتلاوة بقية الأسئلة، لكني أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم وأن يثبتنا وإياكم على طاعته. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر