نسألك اللهم ربنا الأمن يوم الخوف، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول يوم القيامة، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، واحشرنا في زمرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير خزايا ولا مفتونين، بمنك ورحمتك يا رب العالمين!
أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأشكر الله جل وعلا ثم أشكركم على حسن إنصاتكم وحضوركم واجتماعكم، وأشكر مركز الدعوة الذي يسر هذا الشرف بالمثول بين يديكم والتحدث إليكم، أسأل الله جل وعلا أن يذكر بعضنا بعضاً هذا المقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أيها الأحبة في الله: موضوع المحاضرة في هذه الليلة بعنوان: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22].أيها الأحبة: الحق أبلج وواضح وجلي.
والحق أبلج لو يبغون رأيته هيهات يبصر من في ناظريه عمى |
والله إن الحق لجلي لمن أراده وطلبه، إلا من كان في قلبه ظلم، أو كبر وعلو، أو هوى كما قال عز وجل: وَجَحَدُوا بِهَا [النمل:14] بألسنتهم، بألفاظهم، بأقوالهم، بأفواههم: وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] في قرارة قلوبهم يعلمون أن الحق هو ما جاء من عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] فلماذا يجحدون؟ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14].
وقريش تقول لمحمد: فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [الزخرف:53] فهذه صورة من الصور التي بينها القرآن وذكرتها السنة في حال كثير من الذين يردون الحق ولا يقبلونه ممن جاء به.
وإن كثيراً ممن يردون الحق لا يردونه لأنهم يجهلونه، والله إنهم ليعلمونه ويعرفونه، ولكن الظلم والكبر، والهوى والعلو، والعناد والإصرار هو الذي ساقهم لذلك، قال عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص:50] لم يقل: فإنهم يجهلون أو لا يعلمون أو لا يفقهون أو لا يدركون، قال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [القصص:50] وقال عز وجل: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23] إنه لم يضل عن جهل ولم يضل عن نقص فقه أو فهم، وإنما ضل على علم، كذلك الهوى يعمي صاحبه عن البصيرة ويرده عن اتباع الصراط المستقيم.
فالحق أبلج، حينما ندعو من ضل عن الحق إلى الحق ندعوه بدعوة الله عز وجل لا نسبه ولا نشتمه: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] وإنما شفاء العي السؤال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] وحينما نعالج المريض فإننا لا نشتمه ولا نشتم مرضه، وأول ما نحتاج إليه وأول ما ننبهه إليه أن ندعوه إلى استخدام عقله وفكره؛ حتى لا يكون من الذين قال الله فيهم: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179] إن من الصور الواردة في رد الحق ودفعه ممن جاء به، ما ذكره القرآن في مواضع شتى، وإن الحاصر والمتتبع لها في القرآن ليجد صورة من الصور تكررت في مواجهة كثير من الأنبياء والرسل، تلكم الصورة التي يرد فيها الضالون الحق ممن جاء به؛ لا لأن عندهم حقاً يوازيه أو ينافسه أو أفضل منه، ولا لأنهم لم يفقهوه، ولا لأنهم لم يدركوه، وإنما قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22].
قال الله عز وجل: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:21-24] في هذه الآية ذكر ردهم للحق بسبب اتباعهم لآبائهم.
فالأولى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، والأمة في هذه الآية بمعنى الملة والطريقة قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] وبعد هذه الآية في نفس السورة: إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] يقول ابن كثير : يقول عز وجل منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ [الزخرف:21] إي من قبل شركهم، من قبل ضلالهم وبدعهم، من قبل ظلمهم وعدوانهم، هل عندهم كتاب كانوا به يستمسكون؟ ثم بين عز وجل أن حجتهم في هذا أن آباءهم سبقوا إلى هذا، وهذا حال كثير من أمثالهم ونظرائهم.
ويقول عز وجل في آية أخرى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون َ [البقرة:170] قال المفسرون: إن هؤلاء إذا قيل لهم اتبعوا ما جاءت به الرسل من عند الله، وما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام النبي وحي يُوحى؛ لأن النبي لا ينطق عن الهوى، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال قالوا: لا. بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والأنداد، فينكر الله عليهم: أولو كان آباؤكم هؤلاء الذين تتبعونهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، أي: أنتم مصرون على اتباع آبائكم وأجدادكم حتى ولو كان آباؤكم ليس عندهم كتاب يستمسكون به، ولا فهماً، ولا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.
وفي آية ثالثة يقول عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا [المائدة:104] ما هو حسبهم، وما الذي يكفيهم، وما الذي ملأ قلوبهم دون هذا الحق؟ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [المائدة:104] قال المفسرون: أي أنهم إذا دعوا إلى الله وشرعه وما أوجبه، وإذا دعوا إلى ترك ما حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: حسبنا، أي: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك، فالله يرد عليهم ويقول: أولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؛ أفأنتم تتبعونهم حتى ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون أبداً.
بل وأخبث من هذا وأضل أنهم يفعلون الفواحش والمنكرات ويحتجون بأنهم ألفوا آباءهم عليها وهم سائرون على ما سار عليه أسلافهم، قال تعالى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] انظروا الكذب والعياذ بالله، يحتجون بآبائهم ثم يكذبون على الله ويقولون إن الله أمرهم بها: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] تعالى الله ربنا عز وجل، مولانا وخالقنا، الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، وهدانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، أيأمر ربنا بالفحشاء وهو الذي حرمها: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] ربنا الذي يحرم الفواحش ظاهرها وباطنها أيعقل أنه عز وجل يأمر بالفحشاء؟! أفيكون هذا دليلاً وحجة يكذبون على الله ويحتجون بآبائهم: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:28-29] والعبرة في النصوص القرآنية والنصوص النبوية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان لهذه الآية سبب وقصة كما ذكر ابن كثير قال:
كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، فكانت قريش وتسمى الحمس، ويقال حمساً حمستهم الشمس، كانوا يطوفون في ثيابهم، وما سواهم من قبائل العرب يقولون: لا نطوف بالبيت وعلينا ثياب عصينا الله فيها، فمن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يجد أحداً من الحمس يعيره ثوباً طاف عريانا، وربما كانت المرأة تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر وتقول وهي تطوف:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا نحله |
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وهذا شيء ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند من أمر من الله وشرعه فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28] فرد عليهم ربنا عز وجل فقال: قل أي: يا محمد إن الله لا يأمر بالفحشاء، هذا الذي يصنعونه منكر وفاحشة والله لا يأمر به، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟!
وكذلك بعضهم تجده يبتدع في العبادة ويتعبد الله بأمر لا دليل عليه من كلام الله ورسوله، ولا دليل عليه من فعل أبي بكر الصديق ولا من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع ذلك إذا قيل له: هل عندك حجة من القرآن؟ هل عندك دليل من السنة؟ هل عندك من هدي الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (اقتدوا باللذين من بعدي
لماذا لا يكون والدك أو جدك على ضلال؟ أهو معصوم؟ أم أوحي إليه؟ أم سلم من هذا كله؟ أم استوثق العلم وحفظه من جميع جوانبه؟
وفي بعض المناطق تجد كثيراً من الناس يتساهلون في الدخول على المحارم، فإذا قيل لبعضهم: اتق الله ولا تفعل هذا، فإن نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على المحارم، فقال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) يقول بعضهم: لا. هذه أختي .. هذه لحمي ودمي .. هذه شعرة من جسمي .. لا يمكن أن أهم فيها بسوء، فنقول له: مالنا ومواقفك الشخصية، وما علينا من نزاهتك وطهارتك الذاتية، لكن المهم أن الله أمرك فاستجب، ونبيك صلى الله عليه وسلم أمرك فاستجب أياً كانت درجة النـزاهة والطهارة في ذاتك أو في شخصيتك، أو أياً كانت درجة العفة في ذاتك، قال الله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] .. إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] لا تقل: آباؤنا وأجدادنا كانت المرأة فيهم تكرم الضيف وتخدمه، ولم يكن الضيف يهم بالمنكر، أنتم أيها الأجيال الأخيرة الذين تسيئون الظن بالناس، لا. أياً كانت القضية فنحن عندنا هدي من الله مأمورون بالاستجابة له والالتزام به.
وقس على ذلك كثيراً من العادات والتقاليد، والبدع والأخطاء والأغلاط في أمور العقائد والتعبد والعادات العامة عند الناس في مناسباتهم وغيرها مما يحتج عليه بفعل الآباء والأجداد، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [الحج:8] .. وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21] وهذه مصيبة هؤلاء الذين لا يجدون حجة إلا أن يقولوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، إنا وجدنا آباءنا على أمة، إنا وجدنا آباءنا على طريقة، وجدناهم على ملة، أيعقل أن الآباء والأجداد ضالون؟ أيعقل أن الآباء والأجداد يخطئون؟
يا حبيبي: أقول لك: هذا كلام الله بين دفتي المصحف لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] أعطيك القرآن وتقول: قال أبي وجدي، أعطيك قول نبيك صلى الله عليه وسلم فتعطينا من خزانة أبيك وجدك، ألا فليتق الله من كان هذا حاله.
أيها الأحبة: من أراد الحق والبصيرة، وأراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حشرجت روحه وبلغت الحلقوم، من أراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حمل على الجنازة، وإذا وضع في القبر، وإذا بعث بين يدي الله ووقف للحشر والنشر والحساب والسؤال والجواب، إذا وقف الناس على الصراط بين الجنة والنار، من أراد أن ينفعه عمله فليتق الله ولينظر إلى ما كان يفعله آباؤه وأجداده، فما وجد عليه هدى وأثارة من علم من كلام الله ورسوله فنعم الفعل فعل الآباء والأجداد.
فيا أحبابنا: لنعلم تماماً أن من علمنا عنده شيئاً من عادات آبائه وأجداده، فما كان منها موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله فنعمت الأخلاق، ونعمت الجبلة والسجايا، وما كانت مخالفة لأمر الله ورسوله، فلن ندع قول جبار السموات والأرض لعادات بشر يمرضون ويتغوطون، ويتبولون ويمتخطون، وينامون وينسون، ويسأمون ويموتون، لن ندع قول الله لقول هؤلاء، ولن ندع قول نبي معصوم لقول هؤلاء أيضاً، قال الله عز وجل في بيان حوار جميل بين إبراهيم عليه السلام وقومه الذين -أيضاً- كانوا يحتجون بالآباء والأجداد: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:51-54].
انظروا ماذا قالوا؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، يبين ابن كثير رحمه الله بقوله: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضُّلال، ولهذا قال: قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وإياهم على غير هدى وعلى غير طريق مستقيم.
لئن كانت قبلنا أمم أو أناس يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم لأنهم أميون لا يقرءون ولم يتعلموا، ولم يعرفوا الحساب ولم يعرفوا استخدام العقل في مكانه، فما حجة أولئك الذين برعوا في العلم والفيزياء والرياضيات، والصيدلة والكيمياء وعلوم أخرى، لئن كان في الآباء من لم يتعلم فانطلت عليه عادات الآباء والأجداد؛ فأنت أيها المتعلم، يا من لك عقل، ويا من لك هدى وبصيرة كيف تنطلي عليك هذه.
لو أن رجلاً أراد يلقمك تلقيماً ويلقنك أموراً، وقال لك: احفظها ولا تناقش ولا تحاور ولا تجادل، ولا تبحث ولا تسأل ولا تناظر، إنما خذها وسلم بها؛ لقلت: وما قيمة العقل، وما الحاجة إليه إذاً؟! أيعقل أن العقل قد خلق عبثاً، إنما خلق العقل لكي يهتدى به إلى الحق، مستنيراً بنور الوحي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه [الحجرات:1].
بل إن الله عز وجل بين أن طوائف الكفار الذين يصلون جهنم وساءت مصيراً يعترفون بأن تعطيل عقولهم كان سبباً في دخولهم النار، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10-11] فالأولى قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل، لو أنا حكمنا عقولنا لما دخلنا النار، ثم قال: فاعترفوا بذنبهم، أي: فأقروا أن تعطيل العقول ذنب، وأقروا أن تعطيل العقول أمر منكر، فكانت العاقبة أنهم من أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة: اسمعوا قول الجبار عز وجل الذي خلقنا وإياكم، وخلق جميع البشر، وهو أدرى بما يصلح أحوالنا، وأدرى بما ينفعنا وأدرى بما يضرنا، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] اسمعوا قول الجبار عز وجل: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود:109] يعني: لا يصبك الشك فيما ترى من فعل هؤلاء، فإنهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل.
قال ابن كثير: فلا تكن في مرية مما يعبد المشركون، إنه باطل وجهل وضلال، إنهم يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، وليس لهم من مستند إلا اتباع الآباء في تلك الجهالات.
وقال عز وجل أيضاً: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [إبراهيم:9-10] أيضاً القضية في الآباء، أنتم تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم:9] الرسل يدعونهم وينصحونهم ويأتي هؤلاء يردون أيديهم في أفواه الرسل حتى لا يسمعوا منهم حقاً، ولأجل ذلك تجد بعض المساكين إذا قيل له ما قيل، قال: لا. انتبه لنفسك، إن عندهم كلاماً كالسحر، ضع في أذنيك قطناً أو سدادة حتى لا تسمع هذا الكلام.
أيها الأحبة: إن كثيراً من الناس ليس لديه استعداد أن يسمع الحقيقة، أنا أقول لكل عاقل ولكل من يحترم عقله: إياك أن تجعل عقلك في خزانة جدك وأبيك، وإياك أن تجعل عقلك تحت سرير نومك أو في خزانة والدتك، أريدك أن تحمل عقلك معك أينما انتهيت، واسمع مني وأسمع منك، والله لو علمت أن الحق معك لتركت ما أنا عليه واتبعتك، لكن لو بينت لي بصريح قول الله، وصريح قول رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو الحق، ليست القضية أن يقل هؤلاء أو أن يكثر هؤلاء أو العكس، القضية أين الحق فنتبعه؟ أين الهدى فنسير عليه؟ أين الصراط فنلتف حوله؟ أين الراية فنجتمع عندها؟ هذا الذي يرضي الله عز وجل.
أيها الأحبة: إن قضية الاتباع للآباء والأجداد سوف تحسم وتنتهي في الآخرة يوم أن يتبرأ المتبوع من التابع، ويوم أن يتبرأ القائد، من المقود، يوم أن يتبرأ كل من الآخر، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ [فصلت:29] أين هؤلاء الذين أضلونا وغررونا، أين الذين كنا نرى الحق أبلج فيضعون على أعيننا غشاوة، وكنا نسمع الحق واضحاً فيضعون في آذاننا وقراً حتى لا تصل الحقيقة إلى قلوبنا.
قال عز وجل: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:165-166] لاحظوا البراءة، أخذ بعضهم يلعن بعضاً، ويتبرأ ويتباعد عن بعض: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166] في الدنيا أتبعك وتتبعني، لأنك قريبي ومن جماعتي، ومن قبيلتي، ومن صحبي ومن جيراني، الآن تقطعت بنا الأسباب: فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] .. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:167] المساكين الضعفاء الذين يتبعون ويلحقون على غير علم ولا هداية: وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] هذا الاتباع المحموم المجنون بغير ضابط ولا عقل يكون حسرة على التابعين أمام المتبوعين، وبراءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة، بل إن الله عز وجل يبين أن طوائف من الذين يتبع بعضهم بعضاً يتحاجون في النار ويلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:46-48].
فهؤلاء أهل النار يتحاجون ويتخاصمون، ويقول الضعفاء للكبراء، يقول الأتباع للمتبوعين، يقول المساكين للسادة والكبراء: إنا كنا لكم تبعاً، أطعناكم فيما دعوتمونا، واستجبنا لكم فيما وجهتمونا إليه في الدنيا من الضلال، فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟ هل تتحملون عنا شيئاً من العذاب، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [غافر:48] إنا وإياكم سواء في النار لا أحد يتحمل عن أحد شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ابن عبد البر في مسألة مهمة: هل الآيات الواردة في شأن الكفار لا يستدل بها إلا على الكفار وحدهم؟ كأن يقول قائل: يا شيخ! محاضرتك أو كلامك هذا في شأن الكفار، نقول: هذه الآيات في شأن الكفار وفي شأن المقلدين، وفي شأن الأتباع والمتبوعين.
قال ابن عبد البر في مسألة مهمة وهي: هل الآيات الواردة في شأن الكفار لا يستدل بها إلا الكفار فقط؟ أجاب رحمه الله: وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل رجلاً فكفر، وقلد رجل آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة من مسائل الدنيا فأخطأ وجهتها، فكان كل واحد منهم ملوماً على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضاً وإن اختلفت الآثام فيهم.
أيها الأحبة: إن التقليد لمما يلبسه الشيطان على هذه الأمة لتزيغ في اتباع إبليس.
قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه تلبيس إبليس ، قال: ومما لبسه الشيطان على هذه الأمة في العقائد والديانات: أن دخل عليها في عقيدتها من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف.
والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائب عن الوصول إلى عمقه. فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.
فأما الفريق الأول فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية، ثم قال ابن الجوزي: وقد ذم الله سبحانه الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:23-24] المعنى: أتتبعون.
أنتم الآن تقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة: أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [الزخرف:24] إذا جئتكم بكتاب من عند الله لا يضل ربي ولا ينسى، بكتاب من عند الله الذي خلقني وخلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم، هل تتبعون وتستجيبون؟ لكنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون.
قال ابن الجوزي : اعلم أن المقلد غير واثق فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال لمنفعة العقل، لأن العقل إنما خلق للتأمل والتدبر.
قال ابن الجوزي كلمة جميلة احفظوها: وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة. أي: يعطيه الله نور العقل فيترك شمعة العقل ويتبع أقواماً آخرين في ضلال أفعالهم وسلوكهم، فلم لا يستدل بشمعة عقله ويستضيء به؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما التقليد الباطل المذموم: فهو قبول قول الغير بلا حجة. ثم قال بعد أن ساق بعض الآيات في ذلك: فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله، وهو اتباع الهوى، إما للعادة أو النسب كاتباع الآباء، وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين، فقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزله على رسله فإنهم حجة الله، أي: الرسل حجة الله التي أعذر الله بها إلى خلقه.
كانت تلك الأعراف لها قوة؛ لأنها بمنـزلة القوانين التي تحكم الأمم والشعوب، وللأسف كانت تلك الأعراف جداراً صلباً صد الناس عن اتباع الحق، وقد قام صراع مرير بين الرسل وما جاءوا به من الشرائع الإلهية وبين أصحاب الأعراف والعادات من الزعماء وغيرهم، الذين يقدسون تراث آبائهم أو أجدادهم ولا يرضون أن تمس الأعراف التي تنسب للآباء والأجداد بأي قدح أو كلام، حتى ولو كان القادح لها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من كلام أئمة الإسلام وصحابة النبي الكرام عليهم رضوان الله عز وجل.
إن الأعراف والعوائد البشرية في كثير من الأحيان تقف حاجزاً أمام دعاة الإصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحق مظلومين، وتراهم منبوذين،؛ لدعوتهم الناس إلى الرجوع إلى الدين الحق الذي أنزله تبارك وتعالى؛ ولمطالبتهم الناس بترك ما هم عليه مما يخالف شريعة الإسلام وآدابه في كثير من بقاع الدنيا.
لقد كانت الأعراف والعادات التي اختصها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين ديناً يتبع وشرعة لا تخالف، وميراثاً يحرص عليه حرصاً عظيماً، يصل إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس، وتهدر الأموال، وهذا ديدن البشرية عبر تاريخها الطويل، حجتهم دائماً: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثرهم مقتدون، والأمة هنا هي الطريقة التي سلكها آباؤهم والعادات والأعراف التي اعتادوها ودرجوا عليها.
وهكذا يرفض الحق بلا دليل، ويرد الصواب بلا بينة، والهدى بلا برهان، وكل ما في الأمر أن الآباء والأجداد كانوا على ذلك والعياذ بالله.
ولقد كانت هذه الأعراف سبباً في ضلال كثير من النفوس، وتعطيل كثير من العقول، وحرمان كثير من الأفئدة من معرفة الحق والاهتداء به.
أيها الأحبة: هذه الأعراف من يضعها؟ يضعها طاغوت من الطواغيت، ظالم من الظلمة متنفذ في قومه ويجري التعامل بها عليهم، ولو قال لهم: إنها من عندي لكفروا بها ولكن يقول: هذه من الآباء، والآباء عن الأجداد، والأجداد ما كانوا على ضلالة بأي حال من الأحوال.
ولذلك كان المشركون يقتلون أولادهم، فمن الذي زين لهم ذلك الأمر؟ الشياطين: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137] والمقصود بالشركاء أولئك الزعماء والقادة ورجال الفكر الذين يقولون قولاً فيصبح طريقة متبعة، فيكونون بذلك مشرعين، يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.
إن نوحاً لما رأى هؤلاء لا يستجيبون؛ دعا عليهم فقال: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26-27].
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق الأبلج والملة السمحاء والشريعة الغراء، فنابذه العرب العداء، ورموه عن قوس واحدة، وعذبوا صحابته، وآذوه وحاصروه وتآمروا عليه لسفك دمه أو إخراجه أو حبسه قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30] وأرسلوا الجيوش الجرارة لقتاله وقتل منهم من قتل كل ذلك حفاظاً على ما اعتادوه من عادات آبائهم وأجدادهم، قال تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ [ص:1-7].
ولكن العرب بعد جهد جهيد ولأواء ومشقة أظهروا الحق، وأقلعوا عما اعتادوه وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، وعلت كلمة الله، واستنار الناس بنور الحق، وجاهد العرب الأمم الأخرى حتى أخرجوهم عن عادات آبائهم وأعرافهم الضالة، وهدوهم كما اهتدوا.
وحول هذه الآية يحدثنا أحد المشايخ عن رجل كبير في السن كان يصلي بجماعته التراويح ويقرأ قول الله عز وجل: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1] حتى بلغ هذه الآية: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] سكت والجماعة سكتوا وراءه وهو يفكر في الآية: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] يعني يستغرب من منطق الكفار، فقال وهو يقرأ: انظر الجرأة، من شدة مناقشته في نفسه وتدبره وتأمله لهذه القضية، لما بلغ هذه الآية: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] سكت قليلاً ثم قال: انظر الجرأة، رفع صوته ونسي أن وراءه من يأتمون به، وذلك من شدة هذا الباطل الذي تمسك به الكفار ووقعوا فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة: إن اتباع العادات أمر خطير من أسباب الضلال وانتشار البدع، ولا تكاد طائفة من الطوائف التي لم تهتد إلى الحق تسلم منه أبداً، حتى عند الذين يدعون أنهم عقلانيون، وأنهم أصحاب براهين وأصحاب حجج ومنطق فيجعلون كلام أساتذتهم ورؤسائهم وقادتهم مسلمات قطعية لا يصح الاعتراض عليها، أما نحن فمن قال فينا أو قال لنا كلاماً قلنا: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا: ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف:4] والجميل في الحق والهدى أنك لا تستحي بل تتشرف ويتشرف العالم أن أصغر طفل يقف أمام أكبر عالم ويقول: يا شيخ! ما دليلك على هذا الفعل؟ الدين من عند الله ورسوله فأين الدليل من كلام الله وكلام رسوله؟ لكن مصيبة الطوائف الضالة أن هذا السؤال ممنوع، أن تسأل عند الدرجة المعينة لك أن تسأل من الطهارة إلى كذا، لكن بعد ذلك لا تسأل، واسمع فقط لقول الشيخ، اسمع لقول الأب، اسمع لقول الجد، وإن فعلت غير ذلك فإنك على خطر أو أنت من الضلال أو من الخارجين عن الطريقة.
وكذلك اتباع العادات التي درجت بين الناس فتجد بعض المبتدعة يسلكون طريقة في العبادات على وجه من الابتداع، ويجري الناس في العلم معهم، وتجد هذا المنكر ينتشر يمنة ويسرة، ويتلقاه الناس جيلاً بعد جيل، ثم بعد ذلك يقولون: لو كان هذا باطلاً لما تتابع الناس على فعله، ولو كان هذا خطأً لما تواتر الناس على فعله.
أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك القضية تماماً وخاصة من ينخرطون ويهتمون بالدعوة وسلك الدعاة، ينبغي أن يفهموا أن تقليد الأبناء للآباء، وتقليد الخلف للسلف فيا يعتقدون ويعملون من الحوائل العظيمة التي تقف دون قبول المقلدين للحق ومعرفته، بل إنها كثيراً ما تدفعهم إلى مناهضة الحق وأهله؛ لكونه مما كان يعتقده آباؤهم أو يعرفونه.
ومن أجل ذلك فإنك إذا قابلت أحداً جلس أمامك وناقشته وقال: تعال، أنا لا أسلم لك، أي: أنني مثلاً حينما أدعو شخصاً ما إلى أمر معين، أنا لا أريد منه من البداية أن يسلم لي، لكن أريد منه أن يعطيني عقله ويضعه على الطاولة مثلما يقولون.
ضع عقلك وأضع عقلي ولنجعل العقول بوحي الشرع تتحاور وتتناظر وتتناقش، لكن مصيبتك من إنسان يقول لك: أنا ما عندي استعداد اسمع، ولا عندي استعداد أناظر، ولا عندي استعداد أحاور، ولا أريد أن أسلم ولا استمع لشيء ويكفيني الذين عندي ولا أريد أن أقابلك ولا أسمع منك، هذه مشكلة الدعاة في عصرنا الحاضر، حينما تقابل إنساناً مصراً على ما عنده من تراب أجداده وجداته غير راض بأن يحرك من جمود عقله شيئاً.
حينما يتقابل العقل مع العقل فللعقل مع العقل حديث، وللروح مع الروح كلام، وللعين مع العين خطوات، وللنفس مع النفس أسلوب، لكن حينما تقابل عقلاً جامداً، أو جمجمة لا عقل فيها، فأسألك بالله كيف تناظر وتحاور، وكيف تناقش؟ وهنا تكمن هذه القضية، ولذلك إبراهيم عليه السلام لما ناقش قومه أخذ يناقشهم بالعقل لعله أن يستدرجهم في إحضار عقولهم من خزائن أجدادهم؛ ليدخلوا في هذه المناظرة.
واستمر إبراهيم عليه السلام يحارب التقليد في أجلى صوره وفي أعظم مظاهره بذلك السلاح العظيم، بالحجة النقلية والأدلة العقلية، والبراهين المنطقية، فحينما تدعو أحداً ممن خزن عقله في صندوق جده وجدته، أو ممن لا يريد أن يسمع منك، حاول أن تستدرجه بالحوار والمنطق إن كان له عقل ويحترم عقله واستعد لأن يقبلها، وكما قلت: لئن كان أناس لم يدرسوا في الجامعات ولم يعرفوا استخدام العقل في الكيمياء والطب والفيزياء والهندسة والأحياء والرياضيات، فما عذر جيل فيهم الطبيب والدكتور، والأستاذ والصيدلي، والكيميائي وعالم الرياضيات والفيزياء، لماذا لا يستخدمون عقولهم؟!
تستخدم عقلك في حل المعادلة ذات المجهول والمجهولين والثلاثة من الدرجة الأولى والرابعة والخامسة، وفي اكتشاف الميكروب، وفي محاربة الفيروس، وفي معرفة النظرية والقوانين والآلات وغير ذلك، ولا تستخدم عقلك في أخطر قضية تموت عليها وتحيا لأجلها، وخلقت لأجلها وتبعث عليها يوم القيامة؟!
إلى الذين يردون أنفسهم وينهون وينأون عن الحق -يا عباد الله- أعظكم بواحدة، أدعوكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا، لا نريد معارك ولا نريد سباباً ولا شتائم، نريد تحكيم هذا العقل المهتدي بمنطق الشرع.
نريدك أن تعطينا عقلك فنتناقش: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] لماذا قال مثنى وفرادى؟ لأن الإنسان إذا دخل مع مجموعة وهتفت المجموعة يهتف مع المجموعة ولا يبالي، ويصرخ مع المجموعة ولا يفكر، ويردد ما تقوله المجموعة ولا يتأمل.
يقول أحد علماء النفس والاجتماع: إن الجماهير لا عقول لها، ويضرب على ذلك مثال بمظاهرات العمال، يقول: مثلاً مظاهرات العمال أو حزب العمال في ألمانيا الغربية تبدأ المظاهرة بمطالبة رفع أجور العمال بواحد مارك ألماني، وتبدأ مسيرة المظاهرة ثم تردد المظاهرة ارفعوا أجور العمال واحد مارك، ارفعوا أجور العمال واحد مارك، وبعد قليل مع الحماس والغليان في أوج المظاهرة يقول قائد المظاهرة: فليسقط وزير العمل، فتردد المظاهرة وليسقط وزير العمل، ونريد رفع أجور العمال بمارك، تدخل معلومة في إثر معلومة من دون تفكير، ويتحمس لها أناس، فتدخل قوات الشرطة فيصارعون الشرطة ويكافحونهم ويضاربونهم، وأصل المظاهرة بدأت بمارك واحد، ما جاءت المظاهرة بإسقاط وزير العمل، ثم بعد قليل يشتد الحماس فيقول المتظاهرون: ولنحطم مبنى وزارة العمل ولنكسر الزجاج، فكل يأخذ الحجارة ويضرب على مبنى وزارة العمل.
والعقول كما يقول علماء الاجتماع: العقول في المجموعة تضيع، لكن إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، أعطني عقلك وأعطيك عقلي ونتناقش بحوار وبحجة ولا ندخل في الضجيج؛ لأن الكلام في الضجيج والغوغاء لا يسمع، طرح الأفكار أمام الغوغاء لا ينفع.
ولأجل ذلك أدعو نفسي وإخواني إلى دعوة كل ضال ترونه حتى وإن كان في ظاهر الأمر لا يقبل، بلغ لأن الانتصار هو البلاغ، وليس الانتصار أن تغسل عقول الناس، الانتصار هو أن تبلغ؛ لأن الله أحكم وأعلم: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] ليست مهمتنا أن نغسل عقول الناس، فلنفرض أنك في مكان فيه تسعمائة ألف كافر ومائة ألف مسلم مثلا، مهمتك هي أن تدعو إلى الله، فإذا لم يستجب لك من هؤلاء واحد فلا يعتبر ذلك فشلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورأيت النبي يوم القيامة يجيء ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان) يعني النبي ما أسلم معه إلا سبعة أو ثمانية، أو خمسة عشر أو سبعة عشر، والنبي ما أسلم معه إلا واحد، ونبي لم يسلم معه إلا اثنان، قال: (ورأيت النبي وليس معه أحد) هل نعتبر أن هذا النبي فاشل؟ هل نعتبر أن هذا النبي لم يفهم، ليس النجاح في الدعوة هو أن تذهب نفسك حسرات على الذين عرض عليهم الحق فلم يستجيبوا له: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف:6].
قال الله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] ويقول: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] لكن الانتصار الحقيقي هو أن ندعو إلى الله عز وجل وأن نبين كلام الله، وأن نبين كلام رسوله، وأن نبين كلام صحابته الكرام: وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29].
أيها الأحبة: إن أولئك الذين يردون الحق ولا يستجيبون له لا يردونه عن قناعة، وإنما تارة يحتقرون من جاء به، وتارة يرونه ضعيفاً، وتارة يرونه فقيراً، وأعجب من ذلك أن بعض الطوائف لا تزال حبيبهم وصديقهم وسوياً في أعينهم وكريماً بينهم ما لم تدعهم إلى الهدى، فإذا دعوتهم إلى الهدى سقطت من أعينهم وهذا المنطق ليس بجديد كما قال قوم صالح له: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا [هود:62] أي: قد كنا نحترمك قبل هذا يا صالح، وكانت لك منـزلة في نفوسنا: قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62] بعض طوائف الضلالة يحرجونك بجو من الاحترام وجو (بالإتكيت) كما يسمى، حتى تهاب دعوتهم، لكن إذا دعوتهم انظر إلى منـزلتك بينهم.
وفي سورة أخرى يقول عز وجل: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [الأحزاب:66] هذا جزاء الذين يجعلون العقول في خزائن الجدات والعجائز، ولا يخرجون العقول للمناقشة والمناظرة، هذا جزء الذين يجعلون العقول تحت الأرض في السراديب المظلمة ولا يخرجونها إلى النور والحق والهدى: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:66-67] هؤلاء لا ينفعهم يوم القيامة أن يلعن بعضهم بعضاً أو يسب بعضهم بعضا.
وفي سورة أخرى يقول عز وجل: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31] وهذا أمر خطير.
قد يقول قائل: نحن الآن على حق، ونحن في كثرة من الحق والحمد لله، إذاً هذه الكثرة لا يعتد بها؟
أقول: لا تقس المسألة بحدود المملكة التي أنت فيها، قس الواقع كله في الداخل والخارج في العالم، في قارة آسيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا ، انظر إلى أكثر أهل الأرض وستعرف من هم الأكثرية، فلا تعتد بهم في أي حال من الأحوال.
وينبغي للعاقل ألا يكون إمعة كما جاء في الأثر: [لا يكون أحدكم إمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت] وإنما ينبغي للإنسان أن يحسن إذا أحسنوا وإذا أساءوا فعليه أن يجتنب الإساءة.
أيها الأحبة: ينبغي للعاقل ألا يغتر بكثرة أهل الضلالة، وعليك ألا تكون ممن قال فيهم القائل:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد |
بل ينبغي للإنسان أن يتميز، وإن كنت مثل الناس إنساناً لكن عليك بالتميز:
فإن ضل الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال |
أي: ليس ضالاً، ولكن تتميز عنهم بالهداية بإذن الله: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100].
وينبغي لمن يحترم عقله ويقول إنه مكرم بهذا العقل والفكر إلا يتعصب للباطل.
إن قريشاً قد ضلت ضلالاً بعيداً مع تعصبها على باطلها، فمع معرفتها للحق لم تدع الله أن تهتدي إليه وإنما قالت منطقاً أعوج كما بيَّن عز وجل في حال أولئك الذين قادهم التعصب إلى أن يسألوا الله العذاب، هذا التعصب يعمي المرء ويصمه ويجعل عقله كأنه منحوت من الحجر الأصم، انظر كيف فعل التعصب بكفرة مكة الذين قالوا في عناد غريب: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32] من شدة التعصب لم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا، قالوا: إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة، ولو عقل القوم لقالوا: إن كان هذا هو الحق فاجعلنا مهتدين وإليه هداة داعين، أو اجعلنا من أنصاره، ولكن صدق الله العظيم: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].
وحكى القرآن حالهم: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت:5] وينبغي للمسلم إذا سمع الحق أن ينقاد إليه وأن يدع قول الآباء والأجداد والأعراف والتقاليد، فإن المجادلة بعد بيان الحق ووضوحه مشاقة لله ورسوله، قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً [النساء:115] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد:32].
فالعاقل لا يجادل في باطل، وإنما ينظر بعقله مهتدياً بوحي من عند الله عز وجل، فإن وجدت الحق فيما دعيت إليه فاقبل ولا حاجة أن تتعصب على الباطل وتموت عليه، وتبعث عليه وتحشر مع أهله، وتعبد ربك على باطل.
قال ابن القيم في كلام طيب جميل: فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إلى السنة الصابرون على أذى المخالفين أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
قال ابن القيم في صفات الغرباء: ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، فلغربتهم بين الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله في شأن المؤمن الغريب المتمسك بالسنة الداعي إليها، الصابر على الأذى في سبيلها: فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد اعتقادهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طريقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم، وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى أهل الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قومٍ المعروفُ لديهم منكر والمنكر عندهم معروف، انتهى بنصه من مدارج السالكين ورحم الله ابن القيم وما أعذب وما أجمل كلامه في هذا.
أيها الأحبة: أسأل الله عز وجل أن أكون وإياكم ممن يسألون ربهم الهداية إلى الحق فيتبعونه، ويسألون ربهم ألا يشتبه الحق عليهم فيكونوا ضالين أو مضلين وهم لا يشعرون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله كل خير.
الجواب: لا شك أنه حديث موضوع، وينسبونه إلى أئمة أهل البيت لعله جعفر يقول: التقية ديني ودين آبائي وأجدادي، من لا تقية له فلا دين له. وهذا موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم مكذوب أيضاً على الإمام، ولا يجوز للمسلم أن يكون عنده تقية، لأن الله عز وجل قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] فليس للمسلم وجهان، للمسلم وجه واحد، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) إنه لا خير في الكذب ولا صحة لهذا الحديث أبداً، بل هو موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لا شك أن هذا مما ابتدعه المتأخرون، وليس هناك دليل على أن من كانت له مصيبة أن يفتح البيت، وأن يجلس للنياحة أو للحزن أو البكاء أبداً، والشيخ عبد الله بن جبرين متعه الله بعمره على طاعته شهدنا جنازة زوجته ذلك اليوم ودروسه من فجر غد كما هي، ومجلسه لطلبة العلم في بيته كما هو.
ولا يجوز فعل هذا إلا إذا قابلك أحد إخوانك وهو عالم بمصيبتك أو أخبر بها؛ فلا بأس أن يعزيك فيها، يقول لك: عظم الله أجرك، أو: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.
ومن السنة أن يصنع لأهل الميت في يوم وفاته طعام؛ لأنهم اشتغلوا بحال ميتهم عن إعداد طعامهم: (اصنعوا لآل
أما أن اليوم الأول والناس في المقبرة وفلان يقول: الغداء عندي، وفلان حاجز للعشاء، وتنقلب القضية من العبر والمواعظ إلى مراجل وافتخار والعياذ بالله وأخطر من هذا، وقد رأيت بعضهم يضع له حوشاً جاهزاً ومن جاء أدخل ذبيحة أو ذبيحتين وجلس مع الناس، وبعضهم يأتي معه بذبحية وكيلو هيل وكيلو قهوة ويقعدون في أكل وشرب لمدة أسبوع، بل إن بعضهم والعياذ بالله صارت الموائد من هنا، ولعب البلوت والورق، والتفرج على التلفزيون، وسماع الأغاني والملاهي في المجلس الثاني، والبدع لا تأتي بخير أبداً.
والسنة في اليوم الأول أن يصنع لأهل الميت طعام ويرسل إليهم بقدر ما يكفيهم، وإياكم والإسراف، وما سوى ذلك فتصدقوا به: (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام) هؤلاء الذين يأتون بهذه الذبائح وهذه الأطعمة لو قيل لهم: يا أخي! تصدق بقيمتها لجمعية تحفيظ القرآن أو للبوسنة أو لـكشمير أو للفليبين قال: لا.
هذه فقط من العادات والتقاليد، وهذا لا أجر عليه، بل كثير منهم لا يؤجر على هذا الفعل لأنه ما فعله تعبداً، وإنما فعله تقليداً للآباء والأجداد.
الجواب: لا يسجد، وما أجمل الموت في هذه اللحظة، وهذه ميتة مضمون بإذن الله مائة بالمائة أنها شهادة، أنت يقال لك اسجد له فتقول: لا أسجد إلا لله ولو قطعت رقبتك في هذه الحالة؛ لأنك أبيت السجود لغير الله، فلا تسجد أبداً.
الجواب: الرد واضح جداً أن هذا خبر من عند الله عز وجل، لكن هذا الذي يقول: لا تناقش فإن موسى لم يناقش الخضر هذا بشر، والخبر الذي جاء بين الخضر وموسى نبأ من عند الله عز وجل.
الأمر الآخر: فإن الله عز وجل هو الذي أمر موسى وبين له أن الخضر أعلم منه، وذلك كما في سبب نزول الآيات في أكثر من تفسير وحديث: (أن رجلاً من بني إسرائيل قال يا موسى هل في الأرض أعلم منك قال: لا. فأوحى الله إليه، يا موسى إن عبدنا الخضر أعلم منك) فعندنا دليل أن الخضر أعلم من موسى عليه السلام، وهذا نبي والله يقول: (إن خضراً أعلم منك) لكن هل هذا الذي يقول لا تناقشني نبي؟ وهل السائل قيل له: إن هذا أعلم منك، بل ربما أن السائل أعلم بكثير بالمسائل من هذا المسئول، لكن على العادات والتقاليد ربما يتوج أو يعطى من لا يستحق، فليست هذه بحجة على الإطلاق.
الجواب: على أية حال نوصيه بالمجاهدة، فإن هذا من البلوى، وهي من الخبائث التي حرمت في هذه الشريعة الطيبة التي جاءت على هدي نبوي بوحي من عند الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحل لنا الطيبات وتحرم الخبائث، فالعاقل لا يسعى في جنون بإهلاك بدنه وخسارة ماله، ومعصية ربه، وإيذاء الملائكة، وإيذاء الناس، وهذا التدخين يحرم الإنسان خيراً كثيراً.
إن كثيراً من المدخنين فيهم خير كثير، ولكن رائحة الدخان تحرمه من دخول المسجد فيقول: أريد أن أصلي وأسمع المحاضرة، لكن سوف يتضايق الذين من حولي، لكن رائحة السيجارة طردته عن المسجد، وإذا ذكر له أناس على شيشة في الركن يفرح ويذهب للجلوس معهم فهذه السيجارة طردته عن المسجد وقادته إلى الرصيف.
بل إن بعضهم تقوده السيجارة إلى أهون مكان، في الكلية بعض الطلاب يستأذن من الأستاذ، يقول: أنا أريد أن أذهب إلى دورة المياه؟ ويدخل دورة المياه ويجلس خمس دقائق ثم يأتيك وكله (فمه وبدنه) رائحة دخان، قبح الله هذه السيجارة التي جرتك من روضة العلم العاطرة المعطرة إلى مكان النجاسة الخبيث المخبث.
فانظر كيف تجني السيجارة على صاحبها، تجره من المجالس الطيبة إلى المجالس الرديئة، وحسبك أن من كان في جيبه عطراً لا يتردد في أي لحظة أن يخرجه ويطيبك ويطيب الشيخ والقاضي والإمام والصغير والكبير، لكن الذي معه سيجارة، يذهب يبحث عن دورة للمياه يدخن فيها لكي لا يراه أحد؛ ولذلك أدعو إخواني المدخنين إلى العودة إلى الله، وأن يتجنبوا هذا وأن يكرموا أنفسهم وأن يترفعوا عنها.
الجواب: لا شك أن الموسيقى لا تجوز أياً كان شأنها.
الجواب: ما شاء الله جاءه مولود ولم ير وجهها بعد، ربما سمعت أن في بعض البوادي تعودت المرأة لبس البرقع فلا تكشف أبداً، وإن كان هذا من النادر، لكن على أية حال ينبغي إن تجتهد في رؤية زوجتك أعانك الله على ذلك، لا حول ولا قوة إلا بالله، وشر البلية ما يضحك.
الجواب: مضيعة للوقت لا فائدة فيه، ولا طائل منها إطلاقاً، ولو فازوا أو هزموا أو انتصروا، والله لو كنت عاطلاً ما أعطوك وظيفة، وإن كنت فقيراً فلن يغنوك، وإن كنت مديناً فلن يقضوا دينك، وإن كنت مريضاً فلن يساعدوك في المستشفى، وإن كان عليك أقساط في الكرسيدا التي اشتريتها فلن يسددوها عنك، فلا تشغل نفسك بتشجيع الرياضة، وفي الوقت الذي تشاهد فيه المباريات اشتر لك شاحنة بطيخ وبعها تكسب لك خمسمائة ريال خير لك من مشاهدتها، وبعض الناس مسكين تجده يزعج ويجن ويصيح: فازوا وهزموا .. ثم ماذا يا مسكين، والله لن يعطوك ولن ينفعوك، وهذا من صور تسليم العقول بلا فائدة.
فلماذا تعطي عقلك تشجع وتطبل والله سيحاسبك عليه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95] يوم القيامة لن أحشر مع الفريق، كل يحشر ويحاسب بعقله وبأعماله وفعله، لن ينفعك الانتصارات ولا الفوز، لئن هزموا ألف هزيمة لن تنزل بك درجة، ولئن انتصروا ألف انتصار لن تستفيد درجة، فالعاقل يحفظ وقته عن الضياع، نعم إذا قلنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض، بعض الشباب ربما كان لعبهم بالكرة اشتغال بالمباح، لا يلبسون القصير، لا يلعبونها وقت الصلاة، لئن يعلبوا الكرة خير من أن يسافروا للخارج أو يعبثوا، أو يفسدوا أو يجعلوا من أوقاتهم أوقاتاً يعصون بها الله، واشتغالهم في المباح خير من الاشتغال في معصية، وضياع الوقت في مثل هذا ولا ضياع الوقت في معصية الله، لكن أن تجعل شغلك الشاغل هذه الكرة، وتجعلها هي الولاء والبراء، توالي من والاك فيها وتعادي من عاداك فيها، فذلك أمر خطير، وما أكثر هؤلاء! وعندما كنت في ثالث ثانوي لا أنسى هذا الموقف.
أذكر صديقين بينهم من الوفاق في أمور الصداقة إلا مسألة الفريق، كان أحدهم يشجع فريقاً والآخر يشجع الفريق الآخر، فجأة وأستاذنا يدرس في الفصل وكنا في ثانوية بدر إذ بأحد يأخذ النعل ويضربها في وجه الثاني، فلان يضرب صديقه فلان .. لماذا؟! قال: كل قليل يقول: يا أبو أربع يا أبو أربع، لأنه في مباراة الأمس هزموهم بأربعة أهداف، فضاق الرجل ولم يصبر، هذا الولاء والبراء ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
الجواب: يبادر بصومها، وإن كان كفارة يشترط فيها التتابع فليحرص على التتابع فيها، وإذا انقطع التتابع يعيد من جديد.
الجواب: رؤية الله عز وجل في الجنة ثابتة بنصوص القرآن ونصوص السنة، والمعتزلة وإن جادلوا بالباطل يجادلون بأمرين، الأمر الأول ما ورد في مسألة الرؤية من الأحاديث، يقولون هذه أخبار آحاد، وخبر الآحاد لا يحتج به في العقيدة، وخبر الآحاد إذا صح سنداً ومتناً احتج به في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق وغير ذلك، والأمر الآخر: يحتجون بالتأويل المنحوت المتكلف في اللغة، قال الله عز وجل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] ماذا ردت المعتزلة ؟ قالوا: آلاء معناها: نعم. قالوا: مثناها إلاءان ومفردها إلى، فآلاء: نعم، وإلاءان نعمتان، وإلى: نعمة واحدة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى أي: (نعمة) رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فخرجوا بهذا التأويل المتكلف، وضلوا ضلالاً بعيداً.
وفي الأحاديث الصحيحة الصريحة قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] النظر إلى وجه الله الكريم، فأحاديث الرؤية واضحة وثابتة، وما منعهم من اتباعها إلا تسلط الهوى عليهم فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ويذكر عن أحد من أهل السنة أنه كان في زمنه معتزلي ينكر عذاب القبر، فلما مات ذلك المعتزلي جاء هذا الإمام السني من أهل السنة ليصلي عليه صلاة الجنازة قالوا: تصلي على معتزلي، قال: نعم؛ فإني لما كبرت الرابعة في صلاة الجنازة قلت اللهم أذقه عذاب القبر فإنه كان ينكره.
الجواب: نوصيه وأنفسنا بتقوى الله عز وجل، وليعلم أن كبائر الذنوب من جميع صغارها
خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى |
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى |
والله عز وجل قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] لا تتهاون بقليل من الشر والمنكر فإنه محسوب عليك، واجتهد بكثرة الاستغفار وذكر الله، والتبكير للمساجد والتفكر في حالك ومآلك، ونعم الله عليك وكيف صرفتها، وماذا عملت بها، بمَ صرفت هذا النظر وهذا السمع وهذه الأقدام وهذه الأيدي، فالمتفكر يندم، والذي يفكر في نعم الله عليه ويفكر فيما بعد ينجو بإذن الله عز وجل، أما هذا المسكين الذي يضيع هذه النعم في غير ما شرع الله وغير ما أباح الله، وغير مبال فإنها يوم القيامة تجتمع عليه، ولا يغرك بعض حسناتك، لأن بعض الناس يقول: والله أنا بنيت مسجداً، فلا يضرني أن أنظر إلى الأفلام ولا يضرني أن أتكلم، ونقول: ربما عندك مسجد مقدار حسناته مليون حسنة ربما تجمع عليك مليونا سيئة، وتظن نفسك من الرابحين وأنت من الخاسرين ولا تدري، فلا تعمل السيئات اتكالاً على ما عندك من الحسنات، بل إذا عملت حسنة فاسأل الله أن تكون خالصة لوجهه، وأن يحفظها لك ولا يضيع عملك؛ لأن الإنسان إذا عمل صالحاً على خطر إن يضيع العمل بالرياء، وأن يضيع بالسمعة والعجب، وكذلك لا تتهاون بالسيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا يا رسول الله المفلس من لا دينار له ولا درهم، قال لا. المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وأعمال كالجبال، فيأتي وقد لطم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا واغتاب هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته ويعطى ذاك من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه سيئاتهم ثم طرح في النار) والعياذ بالله.
فلا تتساهل بالسيئات اتكالاً على ما عندك من الحسنات، وضع بين عينيك قول الله عز وجل: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] أكثر من الحسنات احتياطاً للسيئات التي مضت، والتي تفعلها والتي تقع فيها وأنت لا تدري، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
الجواب: من سب الصحابة فقد كفر، لأنه يكذب بكتاب الله، الله يزكيهم وهو يسبهم، والله يعدلهم وهو يجرحهم، والله يشهد لهم بالطهارة وهذا ينجسهم، الله يرفعهم وهذا يُنـزل من قدرهم، قبحه الله وفعل به ما يستحق، من سب الصحابة فقد كفر كفراً أكبر لا شك فيه، أعوذ بالله، أعوذ بالله من الخذلان، وهذا من الضلال المبين والتسلط على أعراض الصحابة
لا تخض في حق سادات مضوا إنهم ليسوا بأهل للدنس |
الصحابة رضوان الله عليهم ذكرهم الله في مواضع كثيرة من كتابه، وربك يخلق ما يشاء ويختار، اختار الله من نطف هذه البشرية هذه الثلة المباركة الطيبة؛ لكي يكونوا صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اختارهم عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فمن الذي يكفرهم ويتجرأ عليهم؟
نعوذ بالله من الخذلان، وننصح من وقع في ذلك بتجديد الإسلام والتوبة، والدخول في الدين من جديد، وليندم على ما فعل؛ فإنه يوم القيامة سيضل ضلالاً بعيداً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الجواب: لا يجوز الصلاة قبل دخول الوقت، ومن شروط الصلاة وصحتها: دخول الوقت، فمن صلى قبل دخول الوقت كمن صلى إلى غير القبلة، ولا يجوز ذلك بأي حال من الأحوال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78] وجاء جبريل وصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم صلى به الظهر والعصر والمغرب والفجر وقال: الوقت بين هذا وهذا.
فهناك وقت اختيار الذي هو أول الوقت وهناك وقت جواز، ما بعد الوقت، وهناك وقت الاضطرار الذي هو قبل خروج الوقت، فمن فاتته وصلاها قضاءً فهو أهون ممن يصليها قبل دخولها؛ لأنه لا ينفعه وكأنه لم يصلها أبداً، من صلى صلاة قبل دخول وقتها فليعدها، ومن كان يجهل فعفا الله عما سلف ويصلي استئنافاً.
السؤال: كيف أدعو إلى الله؟
الجواب: الدعوة إلى الله على بصيرة مبنية على علم، فلا يمكن أن يدعو الإنسان بحماس وصياح وسباب وشتائم وعاطفة.
الأمر الثاني: أن تركز جهدك وكلامك في ذات المرض نفسه بغض النظر عمن يفعلونه، فإنك يوم القيامة لن يحاسبك الله لماذا لم تفضح فلاناً ولم تشتم علاناً، وإنما أنت مسئول على أن توجه نصيحتك في ذات المرض والعلة والداء، كالطبيب الذي يأتي إليه المريض، لا مصلحة للطبيب في سب المريض وشتمه، ولا مصلحة للطبيب في أن يضيع وقته في لعن المرض والمرضى، وإنما من واجبه أن يبين خطر المرض، وأعراضه ومراحله، وتطوره والوقاية منه، وأساليب العلاج منه، فهذا من البصيرة والحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن الحكمة أن يبدأ الإنسان في الدعوة بالأهم فالمهم، أي أن يتدرج في هذا، ففي هذا خير خاصة لمن ابتلي بكبائر العظائم والأمور، أو أمور في العقيدة، لا تكلمه في مسائل في الفروع وعنده ضلال في العقيدة، والإنسان بحسب نيته وحال المدعو، يعني ليس هناك طريقة عامة في كل شيء يختلف الناس ما بين جاهل يحتاج إلى بصيرة وما بين إنسان يطلب الحق وعنده شيء من الحوار والفطنة والنباهة والقدرة على المناظرة، ويحتاج إلى الصبر، وسماع الكلام، واحتواء ما عنده من الحجة، وسماع كلامه حتى الآخر، ثم أنك تجزئ له الحجة منطقاً منطقاً، فقرة فقرة حتى يستوعبها ويفهمها.
من الناس من يكون على ضلال وتتصل به؛ لأنك تطمع في هدايته فافهم هذا جيداً، ومن الناس من تعلم أنه عدو ضال مضل عنيد معاند، يقعد للحق بكل صراط يوعد ويتوعد، فهذا يستحق أن ينابذ وأن يحذر منه وينتبه لشره، أي ليس هناك قاعدة مطردة في كل حال وفي كل زمان ومكان، بل لكل مقام مقال.
وفي الختام أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن تكثروا من سؤال الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته إلى أن نلقاه.
اللهم توفنا وأنت راض عنا، اللهم توفنا راكعين ساجدين، شهداء موحدين، مصلين قائمين هداة مهتدين يا رب العالمين! غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم اجمع شمل العلماء والولاة والدعاة على طاعتك، اللهم لا تشمت بنا حاسداً ولا تفرح علينا عدواً.
اللهم اهد الضالين، اللهم انصر عبادك الموحدين وانصر جندك المجاهدين يا رب العالمين، وارحم اللهم موتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، واقض اللهم الدين عن المدينين، وفرج هم المهمومين، يا أكرم الأكرمين يا رب العالمين!
وفي الختام أرجو من إخواني أن يقف على الأبواب من يجمع تبرعات لإخوانكم المحتاجين في البوسنة والهرسك، تصلهم بإذن الله وعندنا تصريح في جمع التبرعات في هذا، أسأل الله أن يكون عملنا وعملكم خالصاً لوجهه الكريم وصلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر