أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فدرسنا في هذا المساء حديث من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى، واخترت هذا الحديث؛ لأن الإمام البخاري في تبويبه لمعاني الأحاديث عادةً ما يسلك كثيراً سبيل الإشارة؛ حتى يمرن ذهن القارئ ويعلمه استنباط الأحكام أو المعاني من الأحاديث.
هذا الحديث حديث جليل، وهو آخر حديث في أول كتاب في صحيح البخاري، وقد قسم البخاري رحمه الله صحيحه إلى كتب؛ كتاب بدء الوحي، كتاب الإيمان، كتاب العلم، كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة... إلى آخره.
فأول كتاب بدأ به الإمام البخاري رحمه الله صحيحه: كتاب بدء الوحي، فذكر في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، أول حديث هو حديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...) الحديث وآخر حديث هو الذي سنشرحه في هذا المساء.
قلت: إن هذا الحديث طويل، ويشتمل على كثير من المعاني، ولكننا لا نستطيع أن نأتي على كل المعاني التي يزخر بها هذا الحديث، لكن سنقف على أهم هذه المعاني وأوضحها.
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، قال: أخبرنا شعيب وهو: ابن أبي حمزة ، ومن الرواة عن الزهري ، وأكثر من الرواية عنه، وهو إمام ثقة- عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره: (أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً في الشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادّ فيها قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، -قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة- قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقلت: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]. قال أبو سفيان : فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِر أمْر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. وكان ابن الناطورصاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور : وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون، فقال هرقل : هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت. ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل
نحن لا نعلم هل كل كلامه عن الرسول صلى الله عليه وسلم كلام مصدق، وهو يقول: لو كنت عنده لغسلت عن قدمه، واستدعائه البطارقة والعلماء والأساقفة وقوله لهم: ألا تريدون أن يثبت الله ملككم فتؤمنوا بهذا النبي؟
يعني كل كلام هرقل يدل على أنه مؤمن، لكن لما رأى نفرتهم، ويئس من أن يؤمنوا قال: ردوهم علي، وقال: إنما قلت مقالتي لأختبر شدتكم على دينكم، فقد رأيت أنكم أشداء على دينكم، فرضوا عنه وسجدوا له، فكان ذلك آخر أمر هرقل .
ووردت بعض الروايات الضعيفة والتي جاء فيها أن هرقل كان كافراً، وأن النبي عليه الصلاة والسلام كفره، والتي تخالف قول ابن عباس أو قول الراوي: (فكان ذلك آخر أمر هرقل) فنقول: إن كان الرجل آمن وأراد الاحتفاظ بملكه فله -يعني أمره إلى الله عز وجل- ولا نقطع فيه بكفر ولا إيمان إلا بدليل واضح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات).
الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل الكتب إلى الآفاق، عامل كل ملك أرسل إليه الكتاب بجنس احترامه أو إهانته لكتاب النبي عليه الصلاة والسلام.
فـهرقل لما عظم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وعظم الخطاب حفظ الله له ملكه، وكسرى لما مزق الخطاب دعا عليه النبي عليه الصلاة والسلام فمزق الله ملكه وقتله ابنه.
فـأبو سفيان هو من قص هذه القصة التي حدثت له وهو كافر، وهنا قاعدة حديثية وهي: الكافر إذا أسلم فحدثنا بعد إسلامه بشيء فعله أو شاهده قبل أن يسلم -أي: وهو كافر- هل يقبل منه أم لا؟
قال العلماء: العبرة في حال الأداء، أن يكون مسلماً، ليس هناك مانع أن يسمع الحديث وهو كافر، لكن لو قص علينا القصة وهو كافر نردها عليه؛ لأننا لا نأمن أن يزيد أو ينقص أو يحرف. لكن بعد أن دخل في الإسلام وعلم أن الكذب على الله ورسوله من أعظم الجنايات، وثبتت عدالته عندنا يقتضي أن نقبل خبره حتى وإن كان هذا الخبر حدث أيام ما كان كافراً.
ومن الأمثلة على ذلك: قول جبير بن مطعم رضي الله عنه: (دخلت المدينة فوافيتها -قبل أن يسلم- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب بسورة الطور) فالإمام البخاري روى هذا الحديث في صحيحه وقال: باب القراءة في المغرب.
رغم أن جبير بن مطعم لما سمع الحديث كان كافراً، لكن العبرة في وقت الأداء -أي: وقت ذكر الحديث- أن يكون العبد مسلماً أدى أحد فرائض العدالة.
فـأبو سفيان بن حرب رضي الله عنه يحكي القصة التي حصلت له أيام ما كان كافراً؛ لأن القصة هذه حدثت -كما قال أبو سفيان - في المدة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وكفار قريش في صلح الحديبية والذي كان سنة (6) هجرية.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتفق مع قريش أن يضع الحرب عشر سنوات، لكن كفار قريش نقضوا هذه المدة، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (8) وفتح مكة كما هو معروف.
فلما علم هرقل أنهم في الشام أرسل في طلبهم، وفي بعض الروايات أن أبا سفيان قال: فبينما أنا مع رفقائي إذ جاء جنود هرقل فساقونا إليه.
فدعاهم في مجلسه ثم قال لترجمانه: قل لهم: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
هرقل رجل ذكي جداً، وقد قال عنه أبو سفيان : ما رأيت أدهى من هذا الأقلف. الذي هو هرقل .
الأقلف: غير المختتن، وعدم الاختتان كان -بالذات في النساء- يترتب عليه فواحش كثيرة، وقد كانت العرب تعير الرجل فتقول له: يا بن القلساء. والقلساء: التي لم تختتن.
والعوام يسمون الاختتان: طهارة؛ لأن المرأة إذا لم تختتن فإنها تكون كثيرة الحنين إلى الرجال، ولذلك تجد الفواحش تقع في أوروبا بسبب عدم الاختتان، والذين ينادون بعدم الاختتان فإنهم يعتدون على أنوثة المرأة؛ لأنهم يريدون أن تكثر الفواحش عندنا مثل ما كثرت الفواحش في بلاد الغرب بسبب عدم الاختتان.
وقد اختلف العلماء في كتب الفقه فقالوا: هل تجوز إمامة الأقلف أم لا، بل هل تجوز صلاته أم لا؟ لأنه يكون به بول مستمر.
الدرس الأول: قال: أيكم أقرب نسباً من هذا الذي يزعم أنه نبي؟
نستفيد من هذا السؤال شيئين:
الشيء الأول: لماذا طلب أقرب النسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؟
لأن الرجل إذا كان يربطه نسب بالنبي عليه الصلاة والسلام فإنه لن يكذب عليه، لاسيما إذا كان النسب شريفاً، بخلاف لو لم يكن من أقاربه؛ لأن الغريب يطعن في النسب، ومسألة الطعن في الأنساب كانت منتشرة في الجاهلية، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام الطعن في الأنساب من خصال الجاهلية، بل جعلها من خصال الكفر، فقال: (صنفان في أمتي هما بهما كفر: النياحة، والطعن في الأنساب) ، والعرب كانوا يعظمون الأنساب غاية التعظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام دندن كثيراً على أن النسب لا ينفع عند الله، فقال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وقال: (يا
ثانياً: قوله: هذا الذي يزعم.
نحن نعلم أن كلمة (زعم) أغلب ما تستخدم في الكذب؛ قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7] ، ووَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (بئس مطية الرجل (زعموا)) لأن زعموا تدل على أنك لست متأكداً من كلامك، والأخبار يدخلها الصدق والكذب، طالما أنه لا يوجد تأكد من الكلام إذاً (زعم) مطية للكذب، فأكثر ما تستخدم هذه الكلمة في الكذب، لكن تستخدم أحياناً في الصدق، وهذا كقول ضمام بن ثعلبة لما جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (أتانا رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟...) إلى آخر القصة المعروفة.
قوله : (إن رسولك يزعم أنك تزعم) ولو كان ضمام بن ثعلبة يكذبه ما جاءه، فالزعم هنا محمول على الصدق، وكذلك بعض العلماء يستخدم الزعم في الصدق، كقول سيبويه في كتابه الشهير: زعم الخليل كذا وكذا. والخليل بن أحمد الفراهيدي هو شيخ سيبويه ، وصاحب كتاب: العين، وهو أول معجم في اللغة العربية.
وما قصد سيبويه أن يرد كلام الخليل ، إنما قصد أن يحتج بكلام الخليل ، فأورد كلام الخليل مورد الاحتجاج ومع ذلك يقول: زعم الخليل كذا وكذا؛ زعم: أي قال قولاً صحيحاً.
فـهرقل لما قال: هذا الذي يزعم أنه نبي؟
فهذا نوع من التمويه والاستدراج لـأبي سفيان ؛ لأن أبا سفيان إذا علم أن هرقل منحاز للنبي عليه الصلاة والسلام انحيازاً كاملاً لعله يكذب، لا يصدقه، لكن إذا علم أنه يشكك في نبوته فهذا يجرئه على أن يقول كل ما عنده.
وهذا نوع من الاستدراج الذكي، فأنت عندما تتهم شخصاً فلا تباشره بالاتهام؛ لأنه يمكن أن ينكر كما حدث في قصة الساحر والراهب، لما علم الملك أن هناك بذرة إيمان بدأت تنبت في المملكة، ثم علم أن جليسه قد آمن بسبب الغلام؛ فعلم أن الغلام يدعو الناس للإيمان، فالملك استدرجه، ولم يتهمه مباشرة، لذلك هرقل كان يعلم أن أبا سفيان عدو للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم يرد أن يستفزه، لكي يأخذ منه الخبر اليقين، ولذلك أفلح فعلاً في استدراجه وحاصره بالأسئلة.
قال له: اجلس.
وأجلس أصحابه خلف ظهره، وقال للترجمان: قل لهم إني سائله، فإن كذبني فكذبوه.
قال أبو سفيان : ولولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه.
انظر إلى الترفع عن الدنايا، مع أن الذي منعه عن الكذب ليس هو الإيمان، وليس هو الخوف من الله عز وجل، وإنما الخوف من أن يتهم بالكذب، والكذب ما أباحه الله قط إلا أنواعاً معينة أباحها بضوابط معينة، لكن مطلق الكذب ما كان مباحاً أبداً.
ولذلك يقول سفيان بن عيينة -وهذا الكلام صحيح، رواه الإمام النسائي ، ليس في السنن ولكن في جزء له، جزء حديثي- قال سفيان : كل ذنب جعلت فيه الكفارة فهو من أيسر الذنوب، وكل ذنب لم تجعل فيه الكفارة فهو من أعظم الذنوب؛ لذلك لم يجعل الله للكذب كفارة؛ لأنه إذا أمرك بكفارة وأديتها يسقط الذنب.
ومن الأدلة على ذلك: قصة الغامدية التي زنت ثم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد، فرجمها النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يصلي عليها، فامتنع عمر ، ووقف أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تنح عني يا
كيف وقد جادت بنفسها لله عز وجل؟
والرجم إنما هو كفارة لهذا الذنب، فالمرأة لقيت الله عز وجل ولا شيء عليها، بل إن توبتها تسع سبعين من أهل المدينة ونحن نعلم أن أهل المدينة كانوا كلهم صحابة، فلو قسمت توبتها على سبعين صحابي لوسعتهم.
أما إذا كان الذنب عظيماً فالله تبارك وتعالى لا يجعل فيه كفارة، كقتل المؤمن، فإن الله ما جعل في قتل المؤمن عمداً كفارة، لذلك احتج بعض العلماء بترك الكفارة في قتل المؤمن -قتل العمد- على أن القاتل -قاتل المؤمن عمداً- لا توبة له، قال: لأنه لو كانت له توبة لأذن له بكفارة كما أذن لقاتل المؤمن خطأً.
فالكذب هذا لم تجعل فيه الكفارة؛ لأنه من أعظم الذنوب، وهو قبيح في ذاته، لذلك فالكذب عند العلماء من المحرمات لذاتها.
المحرمات قسمان: قسم محرم لذاته، وقسم محرم لغيره.
المحرم لذاته: أي لما يشتمل عليه من القبح في ذاته، كالقتل، وكالشرك بالله، والكذب، والزنا؛ لأنها قبيحة في ذاتها، فهي حرام.
حرام لغيره: أي أنه في الأصل مباح، لكن اقترن به صفة نقلته من الحل إلى الحرمة، فمثلاً: الصلاة فريضة، لكن الصلاة على الأرض المغصوبة باطلة على رأي الحنابلة، ومكروه على رأي الباقين.
فنقول: إذا رأيت شخصاً يصلي على أرض غصبها من إنسان حتى لو أخذ أرض الإنسان وبنى عليها مسجداً، فإن الصلاة فيه تكون كالصلاة على الأرض المغصوبة، فلا يمكن أن يأتي أحد ويقول: كيف تكون الصلاة باطلة وهو إنما صلى في المسجد؟
فنقول: لا. المسألة ليست كذلك، فالصلاة صحيحة في نفسها سواء كانت فريضة أو مستحبة، لكن لما اقترنت صلاته بالصلاة على الأرض المغصوبة كانت حراماً.
ومثل ذلك: الذي يبيع العنب لمن يجعلونه خمراً، فيكون هذا البيع حراماً، مع أن بيع العنب في الأصل حلال، لكن لما باعه لمن يجعلونه خمراً أصبح هذا البيع محرماً.
وكذلك الصلاة في الثوب المغصوب، كأن يسرق أحد ثياباً ثم يلبسها ويصلي بها، فهذه حكمها حكم الأرض المغصوبة، ومن الفقهاء من يقول: لا يجوز له أن يصلي في الثوب المغصوب، وإنما يصلي عرياناً.
لأن الله تبارك وتعالى قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] وهو لا يستطيع أن يواري عورته، فيصلي حسب ظروفه، أما أن يسرق الثوب أو يغصبه حتى يصلي فيه فهذا لا يجوز.
إذاً: فالكذب لا سيما على الله ورسوله محرم لذاته، ومع ذلك فالذي جعل أبا سفيان لا يكذب إنما هو الترفع، وفي رواية ابن إسحاق قال أبو سفيان : (قد كنت سيداً مطاعاً في قومي، فأنفت أن أُنسب إلى كذب). هي هذه مقتضى الرئاسة، ولذلك كان من أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة : ملك كذاب.
لماذا يكذب وهو ملك؟
ما كذب إلا لأنه في نفسه كذاب، مستمرئ للكذب حتى أن الكذب أصبح كالصفة الجبلية فيه، لذلك كان من أشد الناس عذاباً يوم القيامة.
فأنفة أبي سفيان وترفعه عن الدنايا جعله لا يكذب.
وفي بعض الروايات أنه قال: ولو كذبت ما كذبوني، لماذا؟
لسببين:
السبب الأول: أن أبا سفيان هو الملك المطاع فيهم، ولا يعقل أن يُرد عليه في مثل هذا المجلس العلني.
السبب الثاني وهو الأهم: لأنهم يريدونه أن يكذب؛ لأنهم هم أيضاً يعادون الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن مصلحة هؤلاء أنهم أيضاً يكذبوه، ولذلك قال أبو سفيان : لو كذبت ما كذبوني.
بدأ هرقل يسأل أبا سفيان فقال: أيكم أقرب نسباً؟ قال أبو سفيان : أنا أقرب إليه نسباً.
وجاء في بعض الروايات الأخر -أظنها في البخاري - أنه قال: هو ابن عمي.
لأنهما -أي أبو سفيان والرسول عليه الصلاة والسلام- يشتركان معاً في الأب الرابع وهو عبد مناف ، ولذلك قال أبو سفيان كما في الروايات الأخرى قال: ولم يكن في الركب أحد من عبد مناف غيري.
فالرسول اسمه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
وأبو سفيان : أبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف .
فاشتركوا في الأب الرابع، فلهذا قال: هو ابن عمي.
ثم قال له: كيف نسبه فيكم؟
قال: هو فينا ذو نسب .
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ يعني: هل ادعى أحد النبوة قبله؟
قال: لا .
قال: فهل كان من آبائه من ملِك؟
قال: لا.
قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟
قلت: بل ضعفاؤهم .
قال: أيزيدون أم ينقصون؟
قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قلت: لا.
قال: فهل يغدر؟
قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه؟
قال: نعم.
قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.
أسئلة قوية جداً ومركزة، وفي صلب الموضوع، ولذلك أي إنسان يستجوب أحداً فلابد أن يدرس القضية أولاً، ويجعل كل الأسئلة في محور القضية، ويكون السؤال دقيقاً بحيث لا تجعل المسئول يفكر كثيراً في الجواب أو يدخل في تفاصيل لا حاجة لذكرها.
فكانت أسئلة هرقل محدودة بحيث لم تسمح لـأبي سفيان أن يدخل في تفاصيل لا حاجة لها، وقد استثمر هرقل الإجابات المختصرة لـأبي سفيان بعد ذلك، وأقام عليه الحجة بأن النبي عليه الصلاة والسلام رسول، ورسالته حقة من جنس إنكاره للرسالة.
وقد كانت إجابات أبي سفيان هي نفس الدليل الذي أثبت به هرقل صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وصدق رسالته؛ فقد قال لـأبي سفيان : سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.
فقريش بعد ما أقيمت عليهم الحجة من كل صوب، ماذا قالوا؟ قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
القرآن جميل! وكلام طيب! لكن لو أنزل على رجل عظيم من أهل الأنفة، والشرف! فقال سبحانه وتعالى راداً عليهم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا [الزخرف:32]، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
لذلك لم تزنِ امرأة نبي قط، ولا جاء نبي أبداً من سفاح؛ لأن هذا قدح مباشر في رسالته، كما أنه ممكن أن يكون أبو النبي كافراً لكن لا يكون زانياً. الزنا قبيح جداً، ولذلك كما يقول ابن عباس : (ما زنت امرأة نبي قط) لكن ممكن تكفر.
يعير بالزنا أشد مما يعير بالكفر، وإن كان الكفر هو رأس الخبائث كلها، وكأنه لهذا -لهذا المعنى- برأ الله تبارك وتعالى موسى من قذف بني إسرائيل إياه؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان بنوا إسرائيل يغتسلون عراة، وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً يستحيي أن يُرى شيء من جلده، فكان يذهب إلى مكان بعيد في النهر ويخلع ملابسه وينزل يسبح. وفي أحد الأيام شك بنو إسرائيل في موسى عليه السلام فقال بعضهم لبعض: لما ذا لا يستحم معنا؟ إنه آدر -آدر يعني: عظيم الخصية؛ عنده عيب في الخصية- فاتهموه بهذه التهمة- وبينما كان موسى عليه السلامة يستحم وقد كان وضع كل ملابسه على حجر، فإذا بالحجر يأخذ ملابسه ويذهب، فخرج موسى يجري وراء الحجر عرياناً، فمر الحجر على بني إسرائيل وهم في النهر، وموسى عليه السلام يجري وراء الحجر فمر عليهم عرياناً، وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر!
فقال بعضهم لبعض بعد أن رأوا موسى عليه السلام مستوي الخلق، قالوا: ما بالرجل من بأس.
قال بعض العلماء: إنما أراهم الله تبارك وتعالى ذلك؛ لأنه يمكن أن يرتقي إلى الشك في ذرية موسى عليه السلام، ونحن نعلم أن الحيوانات المنوية تخرج من الخصية، فإذا كانت الخصية فيها عيب أو ما شابهه فيكون هذا سلم للطعن في ذرية موسى عليه السلام.
فأنزل الله تبارك وتعالى قوله في ذلك في هذه القصة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69].
فقد كان الناس يهتمون بمسألة الحرص على الأنساب؛ لذلك كل الرسل أرسلت في نسب قومها، فالقدح في النسب مشكلة كبيرة جداً ممكن تقوض الرسالة.
فذكرت: أن لا، يعني: لا. ليس هناك أحد ادعى هذه الدعوة.
قال: فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله، لكن ما قال قبله أحد قط هذه الدعوى، فمن أين يأتي بها؟
قال: وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟
فذكرت: أن لا.
قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه.
يعني: شخص أبوه كان ملكاً، وهو الآن قاعد في المنفى، وجعل له حكومة مؤقتة، ويريد أن يرجع البلد مرة أخرى، مثل ابن فاروق، فهؤلاء متطلعون لحكم أبيهم.
المملكة مثل الأرض الخاصة، ولذلك لا يسمح بالحريات في المملكات، إنما يسمح بالحرية ولو كاذبة في النظام الجمهوري.
أصل النظام الجمهوري: أن لا يكون هناك حاكم دائم، لكن المملكة هذه ملك للحاكم فإذا مات سيأخذها من بعده ابنه أو أخوه ...
فقال له: لو كان من آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
فذكرت: أن لا. فقلت: أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
إجابة ملزمة! يعني: رجل لم تجربوا عليه كذباً، ويتعفف عن الكذب عنكم في قضاياكم العادية، فهل هذا الرجل يكذب على الله؟!
هذا الذي يسميه العلماء: القياس الجلي، أو القياس الأولوي.
القياس الأولوي صورته: أن يستدل بنفي الأقل على نفي الأكثر، كقوله تبارك وتعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] إذاً هذا من باب أولى يحرم الضرب، لكن لو قال: ولا تضربهما، فكان يجوز أن تقول: أف.
هذا هو القياس الجلي أو القياس الأولوي، فهو عندما ينهاك عن الأقل فقد حرم عليك الأكثر، فقوله: (لا تقل لهما أف)، يعني: من باب أولى الضرب، لكن لو قال لك: لا تضرب، فجائز أن تشتم؛ لأن النهي عن الضرب ليس فيه النهي عن الشتم، لكن النهي عن التأفف فيه نهي عن الشتم وعن الضرب.
فإذا كان لا يكذب على الناس فمن باب أولى أنه لا يكذب على الله، فقد أعرف أنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
بعد أن سأله عن الكذب سأله عن الغدر.
لماذا أخر الغدر عن الكذب؟
هذا من باب تقديم الخاص على العام، وهنا قاعدة مهمة جداً، يقول العلماء: تقديم الخاص على العام يفيد الاهتمام.
مثلاً لو قلت لك: لا تأكل الضأن ولا اللحم.. لا فرق بين الضأن واللحم، كان ممكن أن أقول لك: لا تأكل اللحم.
فذكري لتحريم الضأن قبل اللحم يدل على أن الضأن بالذات محرم تحريماً مؤكداً، فتخصيصي لذكر هذا النوع من اللحم قبل ذكر سائر اللحوم دلالة على تأكيد منع هذا اللحم، إذاً هذا فيه اهتمام بالشيء الذي أفردته، الذي هو الخصوص.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه الذي بدأ به البخاري صحيحه: (إنما الأعمال بالنيات) الحديث في آخره: (ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) الخاص هنا ذكر بعد العام.. ولا فرق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرت عيني في الصلاة) وبعضهم يرويه: (حبب إلي من دنياكم ثلاث) لفظ (ثلاث) باطلة، لا أصل لها في الحديث، والحديث نفسه يؤكد أنها باطلة؛ لأن الصلاة ليست من الدنيا، إنما (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب) وبعد ذلك تبدأ بكلام جديد (وجعلت قرت عيني الصلاة) فالنساء من الدنيا بنص الحديث، فكان من الممكن أنه لا ينبه عن المرأة وهي داخلة في الدنيا، لكن طالما أنه أفردها بالذكر رغم أنها داخلة في الدنيا فيكون تأكيداً على فتنتها، كأن يقال: انتبه من الدنيا وبالذات المرأة.
فعندما تفرد هذا الجزء من العام بالذكر فإنك تهتم به، وذلك كقوله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ [الأنعام:162] خصص الصلاة والنسك بالذكر، ثم جمعهما في قوله: وَمَحْيَايَ والمحيا منه الصلاة والنسك، لو أن الآية تقول: ( قل إن محياي ومماتي ) لعلمنا يقيناً أن الصلاة داخلة في الموضوع، لكن كونه يذكر الصلاة والنسك على سبيل الخصوص وبعدها يعمم الكلام، فهذا يدل على تأكيد الاهتمام بهذين: النسك الذي هو الذبح، سواءً كان يقصد به ذبح الحج أو غيره، والصلاة.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة) هذا تأكيد على إهدار دمائهم.
وهؤلاء هم: مقيس بن صبابة ، وعبد الله بن أبي السرح ، وعبد الله بن خطل ، وعكرمة بن أبي جهل ، والمرأتان لم تذكر أسماؤهما.
أما مقيس بن صبابة فأدركوه في السوق فقتلوه، وكذلك قتلوا عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة.
أما عكرمة فهرب، وركب البحر، ولما أوشكت السفينة على الغرق، قال صاحب السفينة: إنه لن تنفعكم آلهتكم هنا، فلا ينفعكم إلا الإخلاص، فأخلصوا في الدعاء، ولذلك عند الشدة لا تجد أحداً منافقاً أو مرائياً بل يخلص أشد الإخلاص.
فقال عكرمة : (والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص فلن ينجني في البر غيره، والله لئن سلمني الله لآتين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلأجدنه عفواً كريماً) فلما نجا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم بين يديه فقبل منه.
بقي عبد الله بن أبي السرح ، والذي كان أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، فأول ما علم أن دمه مباح هرب عند عثمان ، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البيعة العامة، فلما علم عثمان بن عفان بذلك، أخذ عبد الله بن أبي السرح وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنتم تعلمون مكانة عثمان رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان عزيزاً غالياً، فجاء عثمان رضي الله عنه ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله وراءه، فقال: (يا رسول الله! بايع
فخيانة العين من الغدر، والغدر يمكن أن يكون باليد، وبالعين واللسان، لذلك كان الغدر أعم من الكذب، والكذب أخص من الغدر، فالكذب جنس من أجناس الغدر.
ولذلك سأل أولاً عن الكذب ثم سأل عن الغدر.
وجد أبو سفيان فرصة ذهبية يغمز فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حين سأل هرقل أبا سفيان فقال: (هل يغدر؟ قال: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها) الله أعلم، جائز يغدر.
قال: (ولم تمكني كلمة أقول فيها شيئاً إلا هذه)؛ ) لأن هرقل كان يحاصره بالأسئلة، فلم يستطع أن يجد أي فرصة إلا هذه، فقوله هذا إشارة إلى أنه يمكن أن يغدر، أما الكذب فلا.
حقيقة أنا لم أعلم أحداً في المناظرة يطبق هذا المنهج إلا شيخنا الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو يناظر تحس أنه أسد خرج من القفص، وهو يناقش في القفص يقول له عندما يتقابل سؤالان: قل: نعم أو لا، أو فيه تفصيل؟ وبعد ذلك يقول للسائل: قل الذي تريده، يعني مثلاً: شخص سأل عن مسألة في أصول التوحيد هل يعذر قائلها أم لا؟ فيقول: قال تبارك وتعالى كذا وكذا.. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا.. وقال العلماء كذا.. فيدخلك في متاهة، فكان يحاصرهم فيقول: هل يعذر أم لا؟ ويقول له: قل نعم أولا؟ ما الفوائد من هذه الطريقة؟ فوائد هذه الطريقة: أنك إذا سألته عن تفصيل فقال: لا، فلو قال بعد ذلك: نعم، فقل له: ألم تقل: لا، فلماذا غيرت كلامك، لكن لو أنك تركته من البداية ولم تناقشه، فإنه يقول لك: أنت لم تفهمني جيداً، ولم يكن قصدي هذا ... ويدخلك في متاهات أنت في غنى عنها.
قال: هذا التدين لابد أن يكون منبعثاً من القلب، يعني: يتدين بدون هدف، ولا يكون مصلحياً، هكذا قال! ثم ذكر قول رابعة العدوية : (اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت أعبدك ابتغاء وجهك الكريم فلا تحرمني من وجهك). هذا كلام خاطئ! فهل الرسول عليه الصلاة والسلام عندما كان يسأل الله الجنة ويعوذ به من النار كان يعبده عبادة التجار؟!! كل الأنبياء كانوا يسألون الله عز وجل الجنة ويعوذون به من النار، ويسألونه العافية، ويعوذون به من المرض.
فيقول: إن التدين الحقيقي أن يقبل الإنسان على الله دون أن يكون له غرض، فالإنسان إذا لم يكن له حافز لم يعمل، وهذه طبيعة الإنسان، فنحن مثلاً على المستوى الدنيوي عندما نأتي بشخص ونقول له: اعمل كذا وكذا، وسوف نعطيك مائة جنيه، فإنه سيعمل ليل نهار حتى ينجز هذا العمل ويحصل على المائة جنيه، ولو لم يكن هناك مقابل فإنه لن يقوم بأي عمل؛ لأن هذه مربوطة بتلك وهي طبيعة الإنسان، لذلك الله تبارك وتعالى جعل الجنة للمطيعين، وجعل النار للعصاة، لماذا؟
لأن الإنسان لا يتحرك إلا بحافز، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) عندما تتأمل هذا الحديث تجده يؤكد الكلام الذي قلناه، فالإنسان إذا قامت الساعة وفي يده فسيلة، فإنه سيتركها ولن يغرسها، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (فاغرسها)، فلماذا أمره أن يغرسها؟ لأن الإنسان يتصرف بما جبل عليه، فهو عندما يزرع نخلة فإنه إنما يزرعها ليأكل منها هو وأولاده، لكن لو علم أنه لن يأكل منها أحد ولن ينتفع منها أحد ما غرسها، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: خالف طبعك، خالف جبلتك واغرسها.
لما جاء صحابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: (يا رسول الله! -وكان يأكل تمراً- مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة، فقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات) لماذا؟ لأن الذي سوف يحبسه عن الجنة أنه يأكل التمرة هذه، فألقى التمرة وقاتل حتى قتل.
لكن لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك شيء، فهل من الممكن أن يرمي التمر ويذهب يقاتل؟ بل سيقول: آكل وأستريح، ولذلك لما جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير أيام فتنته مع الحجاج بن يوسف الثقفي ، وقال له: أنا فارس مغوار! ومقاتل شجاع! يمكن أكون في المقدمة، لكن كم تعطيني؟ قال له: أعطيك كذا وكذا، قال له: زدني، فقال له: بعد أن نرجع، فتولى الرجل وهو يقول: أراك تأخذ روحي نقداً وتعطيني دراهمك نسيئة.
الإنسان معروف أنه لا بد أن يعمل لشيء، لذلك خلق الله الجنة والنار، وجعل الجنة درجات، وقد كان من الممكن أن تكون درجة واحدة، لكن كل إنسان يجتهد أن يكون في أعلى الدرجات في الجنة. والنار -عياذاً بالله- جعلها دركات من أجل أن العبد إذا اقترف المعصية يخاف، فيستقل من المعاصي بقدر ما يمكن.
فعندما يأتي هذا العلماني ويقول: التدين الحقيقي يجب أن يكون إلى الله بدون دافع، فهو جاهل، لا يعرف شيئاً، ولم يقرأ شيئاً من الوحي، ولا حتى يعرف طبائع الناس، يقول: إن تدينهم بسبب الضغط الاقتصادي العام! هل هذا يعاب الإنسان به؟ لا يعاب الإنسان به، لذلك دائماً تجد كل أتباع الرسل في كل زمان هم الضعفاء، لا تجد منهم السادة، ولا تجد منهم أصحاب المناصب، بل تجد دائماً أصحاب المناصب والأشراف هم أصحاب الهوى، وهم أعداء الأنبياء، ولذلك النظام الجديد الذي يجتاح العالم الآن وبكل أسف دخل على العالم الإسلامي، والذي هو تقليص دخل الفقراء، فأنت عندما تنظر الآن شروط التقديم في الكليات العسكرية تجدها تغيرت عن قديم، فقد كانوا قديماً يقولون عندما تذهب إلى النظام الاشتراكي: إن الكل يتساوون في الطابور هذا جنب هذا، الآن أصبح في استمارة التقديم لا بد من معرفة إذا كان هناك أحد قد سبقك في هذا المجال فقالوا: لأن القلاقل التي حدثت في مثل هذه الأجهزة حدثت بسبب المتدينين، الذين هم الفقراء، ولا يمكن أن يبيع أحد منهم دينه من أجل شقة أو سيارة، فغيروا النظام إلى النظام الملكي، فتكون هذه المناصب للأعيان وأولاد الأعيان، لماذا؟
لأنهم أصحاب دنيا، وكل آمالهم من الدنيا شقة وسيارة، ورصيد في البنك، فإذا عملت كل هذه الأشياء فسيوافقون على أي قرار أو عمل.
فأتباع الأنبياء دائماً ضعفاء، وهذا لا يعيبهم، لماذا؟ لأن الحق لا ينتصر بقوة العدة ولا العدد فقط، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فالنصر من الله تبارك وتعالى، ونحن لا نملك تأثير الأسباب، العدة والعدد لهما دور في الانتصار لكن ليست هي السبب الرئيس في النصر؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم انتصروا في بدر وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً أمام ألف رجل من قريش خرجوا مدججين بالسلاح، ومع ذلك نصرهم الله تبارك وتعالى على عدوهم لما جمعهم على غير ميعاد.
قال: (وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطةً على دينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا) هذا شيء طبيعي، فإذا كانوا يزيدون فإنهم لا ينقصون، ولا يرتد أحد منهم. (قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب) يعني: كأنها استقرت في نفس أنسجة القلب، ويكون مثاله كمثال اللون إذا اختلط بالماء فلم يترك جزئيات الماء، فإنك عندما تأتي بالشاي وتضعه في الماء، وتتركه لمدة سنة، فإنه لا يمكن أن يتغير لون الشاي؛ لأن الشاي اختلط بجزئيات الماء، بخلاف التراب؛ فإنك لو أتيت بالماء وخلطته به، وتركته خمس دقائق فإنك ستلاحظ أن التراب نزل تحت الماء، هذا هو الفرق بين مخالطة البشاشة والمخالطة العامة، فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلب كان كمثل ذلك الشاي، لذلك لا يرتد الإنسان أبداً مهما عذب وأوذي، وأعظم دليل على ذلك: أبو جندل بن سهيل بن عمرو فإن أباه سهيل بن عمرو عندما علم أنه أسلم قيده بالحديد، فلم يصبر على ذلك، فقرر أن يهرب، وذهب ماشياً وهو مقيد بالحديد من مكة إلى الحديبية، وكان من ضمن الاتفاق بين المشركين والمسلمين أنه إذا جاء أحد من مكة مسلماً فإنهم يردونه، ولما وصل أبو جندل إلى الحديبية إذا به يفاجأ بأبيه وهو جالس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال سهيل : هذا أول ما أطالبك به، فطلب منه الرسول أن يتركه، لكن سهيلاً لم يوافق على ذلك، وأصر على أخذ ابنه معه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي جندل : (ارجع)، فحزن المسلمون لذلك أشد الحزن، ومع ذلك كله لم ييأس أبو جندل ، ورجع وهو راضٍ بأمر الرسول رغم كل التعب الذي عاناه في سفره من مكة إلى الحديبية وهو مقيد بالحديد.
ولذلك عندما سأل هرقل : (أيرتد أحدٌ منهم سخطةً على دينه؟)، كان ذلك نوع من التأكيد؛ لأنه عندما سأله: (أيزيدون، أم ينقصون؟ قال له: بل يزيدون) كان هذا دلالة على أنه لن يرتد أحد؛ لأنه لو كان أحد يرتد فإنهم سينقصون، لكنه قال هذا ليؤكد أن هذه الزيادة ليست أي زيادة، فالرجل إذا دخل في الإسلام وأشرب قلبه بالإيمان فلا يمكن أن يرتد عن دينه.
ثم قال هرقل : (سألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان).
فقرن بين عبادة الأوثان وقول الآباء؛ لأن اتباع الآباء وثن، وكان هذا قول الكفار، فقد كانوا يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23] فاتباعهم لهذا الوثن صدهم عن الحق.
وضع هرقل كلمة عبادة الأوثان مكان كلمة الآباء، ولم ينكر عليه أبو سفيان ويقول: أنا لم أقل هذا، أنا قلت أنه قال واتركوا ما يقوله آباؤكم، فإقرار أبي سفيان وسكوته عن الاعتراض على هرقل غيَّر كلامه دلالة على أنه موافق ومقر.
اتباع الآباء في غير الحق وثن، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لهم: (اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم) إذا كان أبو سفيان يذكره على أنه رد للرسول عليه الصلاة والسلام، والله تبارك وتعالى ذكر كلامهم هذا في معنى الربوبية، فقد كانوا يقرون بأن الله يسلمون تبارك وتعالى وحده لا شريك له، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] لكنهم لا يقرون به في باب الألوهية، من ذلك أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] لماذا؟ إذا كان الرب واحد وأنتم تقرون بذلك، فما المانع أن يكون هو الإله الواحد أيضاً الذي يستحق أن يعبد دون غيره؟ فـأبو سفيان يقول هذا على سبيل القدح في رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن هرقل لأنه كان قد قرأ الكتاب العبراني، وكانت عنده خلفية بالشرائع السابقة، وعنده خلفية بدين المسيح عليه السلام؛ فكل ذلك أتاح له الفرصة أن يرد على أبي سفيان ، فقال له: (قال: فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف) هذه أشياء لا يمكن للإنسان كامل العقل أن يعترض عليها، ولذلك قريش بعدما رأت أن كل شيء مدموغ بالحجة، قالت المقالة التي ذكرها الله تبارك وتعالى عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
وهنا نكتة في منتهى اللطف، وهي في قصة يوسف عليه السلام، وذلك عندما ألقوه في الجب، وبعدها أخرجوه، ثم ذهب إلى العزيز، وكان لا يزال صغيراً، والله سبحانه وتعالى بعدما ذكر أنهم استقبلوه وأحبوه قال: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ [يوسف:56] يوسف عليه السلام لم يمكن له في الأرض إلا بعدما خرج من السجن وصار وزيراً، فأين التمكين؟
طالما دخل قلب هذا الرجل، فهذا هو الملك الحقيقي، ابن آدم لا يمكن أن يتنازل بما يملك إلا إذا كسب أحد قلبه، فإذا ملكت قلوب الناس فهذا هو الملك الحقيقي، لذلك قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ [يوسف:56].
لذلك نقول: يا من ترغب بالملك، املك قلوب الناس تضمن الملك الذي تحت أرجلهم، ولذلك هرقل جزم وقال: (إن كان حقاً ما تقول فسيملك موضع قدمي هاتين) ، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام قال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63].
الآن بعض الجماعات الإسلامية منذ خمسين سنة تحاول أن تقيم -لا أقول دولة حرة- بل حياً في بلد، ومع ذلك لم يستطيعوا، بينما الرسول عليه الصلاة والسلام خلال عشر سنين أقام دولة كانت تخاف منها معسكرات فارس والروم، بماذا أقامها؟
أقامها بتأليف القلوب.
ومن الأمثلة على ذلك: لما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف ، جاء سعد وقال: اختر أجمل نسائي فأطلقها فإذا انقضت عدتها تزوجتها، وخذ شطر مالي، فقال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق.
ما الذي حدث للعرب؟!! كان العرب إذا نظر أحد إلى امرأته قام فقتلها، بينما سعد بن الربيع يقول الآن: أتنازل لك عن أجمل نسائي؟! ما الذي حدث؟! الله عز وجل غيَّر قلوب هؤلاء، وكل فساد على الأرض بسبب تحول القلوب.
جاء في رواية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قرأ قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9] يبكي حتى يبل لحيته، فسئل عن ذلك فقال: كان لي بنت في السادسة من عمرها، وعندما أخذتها لأضعها في التراب كانت تزيل التراب عن لحيتي.
لكن بعد الإسلام أصبح الصحابة رقيقي القلوب، فكانوا كثيري البكاء، وكان الواحد منهم إذا سمع شيئاً من الوعيد، أو آيات من القرآن يسيل دمعه مباشرة، والعين كلما كانت كثيرة البكاء دل ذلك على زكاء النفس.
أبو بكر الصديق كما في صحيح البخاري: (همَّ أن يخرج من مكة مهاجراً إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال له: أين تذهب يا أبا بكر ؟ قال: أخرجني قومي، أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي -فماذا قال له زيد ؟ وكان زيد رجلاً كافراً آنذاك- قال: يا أبا بكر ! مثلك لا يخرج ولا يُخرج؛ إنك تصل الرحم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر) خروجك خسارة! خروج المصلحين والأتقياء من أي بلد أكبر خسارة!
مكارم الأخلاق هي الطريق الطبيعي لكسب قلوب العباد، ولذلك كانوا يبحثون عن أي وسيلة لغزو القلوب فيحاولون إيقافها.
فمثلاً: حصل زلزال في مكان ما، فقامت بعض الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة وأتت ببعض المعونة وقامت بالمساعدة، هذا معناه أن الناس سوف يقولون: إن أصحاب الجماعة الإسلامية هم الذين أتوا بهذه المعونة، فقالوا: من أراد أن يساعد فلا يذكر اسمه ولا اسم جماعته؛ لأنهم يعلمون أن غزو القلوب مسألة خطيرة.
لذلك النبي عليه الصلاة والسلام عندما طعن عبد الله بن أبي في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد الصحابة: (يا رسول الله! دعنا نضرب عنقه، قال: أخشى أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) لأن الذي هو في البادية لا يعلم شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: هذا يقتل أصحابه، أين الوفاء والإخلاص؟ فيصده ذلك أن يدخل في الإسلام، فالمصلحة الراجحة تقتضي أن أعامله بالمعروف.
غزو القلوب هو الملك الحقيقي، لذلك أنصحكم أن تعملوا على كسب القلوب، فإنك إذا استطعت إن تكسب قلب إنسان فتكون كأنك ملكته، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما كان يدعو إلى التصدق، استغل عمر هذه الفرصة وقال: (اليوم أسبق أبا بكر ) فتصدق بنصف ماله، وأبو بكر عندما تصدق أخذ كل ماله ووضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : (ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت مثله، وقال لـ
صهيب الرومي خرج من مكة إلى المدينة بالليل، وعلم كفار قريش بخروجه فلحقوا به وأمسكوه قبل أن يصل، فقالوا له: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ثم تريد أن تخرج بالمال، والله لا يكون أبداً، فقال لهم: إن تركت لكم المال تخلون بيني وبين الهجرة؟ قالوا: نعم، فأخبرهم بمكانه، فلما وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقص عليه ذلك قال له: (ربح البيع
فلذلك هرقل استدل بهذه الصفات الحميدة؛ أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيملك موضع قدميه، وفعلاً ملك الرسول عليه الصلاة والسلام موضع قدمي هرقل .
يا أيها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى! إننا خسرنا كثيراً بإهمالنا لهذا الأصل، فقد يذهب أحدنا إلى قرية أو قبيلة للدعوة، فيعترض عليه رجل من كبار القبيلة، وهو أجهل من أبي جهل ، فالواجب عليك ألا تحمل عليه بالكلام، لأن خسارتك لهذا الرجل خسارة كبيرة؛ لأنه قد يمنعك من دخول القبيلة أو القرية، فتحرم من دعوة أهل هذه القرية، أنا لا أقول لك: أقره على باطله، وليس هذا هو لازم القول، لكن أقول لك: استخدم القول اللين في توصيل الحق ولا تسكت عن باطل.
يعني مثلاً: جاء رجل إلى محمد بن سيرين ، وقال له: رأيت أن أسناني سقطت، فذهبت إلى فلان فقال لي: إن أولادك سيموتون، فأحزنني ذلك، قال له: بل سيبارك الله لك في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً، فالتعبير نفس التعبير لكن اختلفت الصيغة؛ لأنه إذا كان آخر أهله موتاً، فهذا يعني أن أولاده سيموتون قبله.
وبعض الناس يرتاح عندما تخبره بأشياء تسره حتى وإن لم تكن صحيحة لكنه يرتاح لمثل هذا الكلام.
رجل عظيم في بلد من البلدان، وهو رجل فاسق، وأنا أريد أن أدخل هذا البلد، ما المانع أن أقول له: سمعتك سبقتك، والحقيقة أنت مشهور جداً، وكنت أتمنى أن أراك، وأنت أقررت باطلاً في المسألة هذه؟ وأدخلت في الدين ما ليس منه؟ وأخرجت من الدين ما هو منه؟ فسيتصور الرجل أن هذا كله مدح.
وكان أحدهم في أيام التعذيب قد عذبه الجلاد أشد التعذيب -نسأل الله العافية- وبعد أن أكمل تعذيبه قال له: ادع لي، فقال له: الله يعينك ويحميك. (يعينك) يعني: يطردك، و(يحميك) يعني: يحميك بالنار، فالجلاد اعتقد أن معنى (يحميك) من الحماية، يعني: يحرسك.
وسمعت شخصاً يقول لرجل: أنت من الأكابر، فأنكر عليه أحدهم، وقال له: الأكابر هم المجرمون، فقال له: ليس الأكابر الذين نعرفهم؟ فالإنسان يتلطف في هؤلاء الناس.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل بالرسالة، ما قال: إلى الكافر بن الكافر هرقل ؛ لأن هذا نوع استعداء، لكن قال: (إلى هرقل عظيم الروم) وهو فعلاً عظيم الروم، وقد نسب نفسه عليه الصلاة والسلام بمقتضى ما عنده من الإيمان للعبودية؛ لأنها أشرف صفة يوصف بها العبد، كما قال بعض العلماء في قوله تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] قالوا: لو كانت هناك صفة أشرف من صفة العبودية لنسبه إليها؛ لأن هذه من أشرف الليالي، فوضع نفسه تواضعاً لله تبارك وتعالى، كما ثبت في مسند مالك وأحمد وغيرهما: (أن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعوا صوت باب يفتح من السماء، فقال جبريل: يا رسول الله! أو لا تدري ما هذا؟ قال: لا، قال: هذا باب ما فتح قبل اليوم، ولا يفتح بعد اليوم) نزل منه ملك، هذا الملك نزل لتخيير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربك يخيرك، ملكاً رسولاً أجعلك، أم عبداً رسولاً؟ قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره، فأشار إليه: أن تواضع لربك، فقال: بل عبداً رسولاً) هذا هو الشرف؛ فالإنسان الذي ينسب نفسه للعبودية يعلو: (كفى شرفاً أن أكون لك عبداً، وكفى لي عزاً أن تكون لي رباً).
فكلمة: (أمِر) أي: لقد كثر وانتشر وشاع.
قال: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أبو كبشة هو الجد الأعلى لأم الرسول عليه الصلاة والسلام، لماذا لم يقل: لقد أمِر أمر ابن عبد المطلب؟! فلماذا نسبه إلى جد غامض غير معروف؟! تحقيراً له؛ لأن العرب كانت إذا حقرت إنساناً نسبته إلى جدٍ غامض غير معروف في الناس.
وفي حديث رواه ابن حبان والبزار بسندٍ حسن: (أن
النسبة إلى الجد المشهور شرف، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
ما كان يقول: أنا ابن عبد الله إلا في الرسائل التي كان يرسلها، فقد كان يقول فيها، (من محمد بن عبد الله)، لكن في قريش كان ينسب نفسه إلى جده عبد المطلب ؛ لأنه كان أكثرهم نباهة في قريش.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يزيدنا وإياكم علماً، وأن يغفر لنا وإياكم، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر