يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: حديثنا عن الاستضعاف سيطول؛ لأننا سنحاول وضع برنامج من الكتاب والسنة ومن خلال سورة القصص؛ للخروج من هذا الاستضعاف المهين، الذي ما شهد المسلمون قط في حياتهم، حتى مع مراحل الانحطاط الكبير ما شهدوا هذه المرحلة التي يمر بها المسلمون الآن.
من لدن أبي بكر رضي الله عنه هل مر المسلمون قط ولو ساعة من نهار بدون خلافة، حتى بدون ملكٍ عضوض يحكم فيه حاكمه بالكتاب والسنة؟ هل مر المسلمون بذلك قط؟ أبداً.. حتى مع مراحل الضعف المهين، والذي شهدها بعض المعمرين الآن في أواخر الدولة العثمانية، كان هناك سلطان للدين، ولم يتجرأ أحدٌ على الكتاب والسنة مثل ما تجرأ العلمانيون الآن.
(العلمانيون) لفظٌ مضلل لأصل الكلمة، كلمة (علماني) ترجمتها الحرفية: لا ديني، هذه الترجمة الحرفية للكلمة، لكن لأنه لفظٌ بشع، أن تقول: لا ديني، لأنها تساوي (ملحد) فجملوا اللفظ، وقالوا: (علماني) نسبةً إلى العلم! وكذبوا، هو (لا ديني) وفعلاً مذهبه يؤدي إلى الكفر في النهاية.
فهذا الذي ذكروه في هذه المذكرة من الكفر لو وزع على أمةٍ من المؤمنين لدخلوا النار جميعاً..! ارتكبه رجلٌ واحد، ومع ذلك جرائد ومجلات تخرج وتدافع عن هذا الرجل.
مجلة أسبوعية: الصفحة الثالثة، تنعي الأمة المسلمة بهذا الحكم بالارتداد على هذا المرتد، صفحة كاملة، لو أراد أحدنا أن ينشر فيها إعلاناً مدفوع الأجر لدفع خمسين ألف جنيه، هذه الصفحة خرجت سوداء، وفي أسفل الصفحة: (البقية في حريتكم ..) على وزن (البقية في حياتك)!
لماذا؟ قال لك: لأنه يحكم في مصر على الناس بالارتداد، هذه حرية؟! فصارت حرية الكفر مشروعة، أو هكذا يريدونها، مع أن هذا المرتد ظهر منه استهزاء بالقرآن، والقول بأنه نتاج العقل البشري -هذا كلامه- والكفر بآيات السحر والجن في القرآن، ولمز الرسول عليه الصلاة والسلام بأن المسلمين أعطوه قداسة حتى يكون مشرعاً... إلى آخر هذه الموبقات.
هذه هي الجهة التي حكمت.. أين جهة التنفيذ؟ هل هناك جهةٌ تنفذ الحكم في المرتد حتى يرتدع هؤلاء؟
لو قال رجلٌ: أنا كفرت بالله. فقال قائل: وأنا أقر مقالته.. أليس المقر حكمه حكم المبتدع؟ أليس يقتل بهذا الإقرار؟ وهذا الجيش من الصحفيين الذين دافعوا عن هذا المرتد، ألا يكون حكمهم هو حكم ذلك المرتد بدون أي قضية ترفع إلى القضاء؟ أليس هذا هو العدل: أن يقتل هؤلاء وأن يحكم عليهم جميعاً بأنهم مرتدون مثل المرتد الأول الذي يدافعون عنه؟! لكن هؤلاء في مأمن، السبب: أننا نحتاج في كل قضية أن نرفع دعوى.
لو كفر الرجل، وحكمت عليه المحكمة بالكفر، فجاء رجلٌ فقال: وأنا أقول بمثل مقالته. لا يتعرضون له أبداً، لماذا؟ لأنه لابد من رفع قضية، وأن يجتمع القضاة مرةً أخرى، ويصدروا حكماً على هذا المعتد بالارتداد، وبعد ذلك يقتل إذا كان هناك جهة تنفيذية، أرأيتم مثل هذا العبث..؟! لذلك كثر الذين يتهجمون على القرآن والسنة في أمتنا.
نحن أُتينا من بابٍ خطيرٍ جسيمٍ ظل المسلمون يحترمونه ويقدسونه على مدار الأعوام، وعلى مدار الأجيال، حتى في عصور الانحطاط.
ويرجون النصر على أعدائهم، والله الذي لا إله غيره لو أن شخصاً يعبد الحجر، ويعتقد أن الحجر يضر وينفع لانتصر على أمثال هؤلاء، وإن كانوا يقرءون القرآن!! يلعب بالقرآن بهذه الصورة، ويمتهن بهذه المهانة، وتصدر الجرائد كلها تدين القضاة أنهم وقفوا في خندق الإرهابيين، كلما نصروا قولاً يقوله الله ورسوله قالوا: إرهابيون، حتى لو كانوا ينصرونهم بالأمس.
هذه محكمة النقد -التي هي آخر المطاف، لا محكمة بعدها- حكمت بارتداد الرجل، وأن يفرق بينه وبين امرأته.. هل من جهةٍ تنفيذية؟ الرجل هرب وسافر إلى هولندا؟ ألا تعاملونه معاملة السعد والريان ، السعد هرب وذهب إلى باريس، فاحتالوا عليه وضحكوا عليه، وأتوا به ووضعوه في السجن، طيب أرونا حياض الدين، اذهبوا إلى هولندا واضحكوا عليه أيضاً، وقولوا له: تعال وسندافع عنك، واقتلوه.. هل يفعلون؟ لن يفعلوا أبداً أبداً.
(حرية الكفر) كما قلت لكم؟ أصول كلها دمرها، وأنا لا أدندن على هذا الرجل وحده؛ لأن خلفه أمة تتبعه في هذه الأصول، أعظم ما نعانيه: أننا لا نحس بجسامة المحنة التي نمر بها.
آهٍ! لو شعر المستضعف أنه مستضعف، وأمسك بالكتاب والسنة؛ إذاً لانتصر، لكن هذا الصراخ الذي نصرخ به في كل مكان ليستيقظ الجماهير؛ ليعلموا أنهم في محنةٍ عظيمة لم يمر المسلمون بها قبل ذلك.
هذا أبو العلاء المعري -الشاعر المعروف الذي كفره الفقهاء- اعترض على حكم القرآن ببيتين من الشعر، ونحن نعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع إلا في ربع دينار) ، الدينار مائة درهم، إذاً: ربع دينار خمسة وعشرون درهماً، الدرهم تسعون فلساً تقريباً، يعني لو أن رجلاً سرق خمسة وعشرين جنيهاً تقطع يده.
ونعلم أيضاً أنه لو اعتدى رجلٌ فقطع إصبع شخص آخر فإن الدية التي شرعها النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الإصبع الواحد عشرة جمال، والجمل بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وإذا ضربتها في عشرة آلاف تصبح ثلاثين أو أربعين ألف جنيه، دية الإصبع، في حين أن هذه اليد التي تتألف من خمسة أصابع لو سرقت خمسة وعشرين جنيهاً تقطع كلها.
فهذا الرجل لم يعجبه الحكم، فقال:
يدٌ بخمس مئين عسجدٍ وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
فنسب أحكام الله ورسوله إلى التناقض، وقال: إذا أردت ألا تدخل جهنم قل: أعوذ بالله من النار فقط. ويدعي أن كلام ربنا متناقض! يقول: ولأنه إله لا تستطيع أن تراجعه فسلم حتى وإن كان فيها تناقض، وهذا الكلام كفر، فطلبه الفقهاء ليقتلوه فهرب، ورد عليه العلماء، ومن أبلغ المقالات التي ردت عليه قول القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: (لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت). ويهرب الرجل؛ لأن هناك من يطلبه.
لو أن هؤلاء اللادينيين حقاً كانوا يعلمون أنه من اعتدى على حكم الكتاب والسنة قتل؛ ما وجد هذا الغثاء، ولا السيل الجارف من الإهانات للكتاب والسنة بدعوى الفكر، والحرية، هل هناك جهة تنفيذية تأتي بهذا المرتد لتجعله عبرة لمن يعتبر؟ لاسيما وقد أطبق علماء الأزهر جميعاً على ردة الرجل، مع حكم المحكمة على ردته أيبقى هذا الرجل له عينٌ تطرف ولو كان في آخر الأرض..؟
وتشعر بحسرة عظيمة إذا علمت أن سلمان رشدي اعتدى على الرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الجناب العالي، واعتدى على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم واتهمهن بالدعارة والزنا! ومع ذلك لم توجد دولة إسلامية واحدة تسحب السفير من إنجلترا التي دافعت عن هذا المجرم.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن أعداءنا ما وصلوا إلى هذا طفرة، يفعل الفعل وينتظر ردة فعل، فإذا وجدوا رد الفعل قوياً تردد أن يفعل أخرى، لكن إذا وجد ردة الفعل ضعيفة جداً، لا يعدو أن يكون شجباً واستنكاراً فقط؛ أغراه ذلك بضربةٍ أقوى من الأولى.
ما وصل أعداؤنا إلى هذا طفرة، رحل الاستعمار من بلادنا، لكنه ترك تلامذته وأذنابه يعبثون، أليس تلامذته هم الذين كتبوا لنا التاريخ في المدارس الإعدادية والثانوية، وهم الذين كتبوا لنا التاريخ في الجامعات؟
تلامذة المبشرين الذين كتبوا (مآثر الحملة الفرنسية) و(أضرار الحركة الوهابية) ويقولون -بكل تبجح-: الحملة الفرنسية لها مآثر! كانت حملةً صليبيةً تبشيرية.. ويقولون: لها مآثر! والدعوة الوهابية في بلاد الحجاز التي كان الهدف منها إعادة الدين نقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقال: (أضرار الحركة الوهابية) وتخرج حملة عسكرية من مصر بقيادة إبراهيم باشا لضرب الحركة الوهابية هناك..! هذا هو التاريخ الذي درسوه لنا؛ فنشأ هذا الجيل مبتوت الصلة بتاريخه؛ لذلك لا يحس بالضربات المتلاحقة على الكتاب والسنة.
إن الصحابة الكرام كان القرآن أعظم في قلوبهم من أن يتطرق إليه تأويلٌ مرجوح، لا أقول: باطل، بل أقول: مرجوح فقط، والتأويل المرجوح له وجه في القوة، لكنه أدنى من التأويل الآخر الراجح؛ لأنه كان أعظم.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قال: (حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم حديثين: رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من الكتاب، ثم علموا من السنة) (جذر قلوب الرجال)، الجذر: هو الأصل، أي: قبل أن يتعلموا القرآن والسنة رزقوا الأمانة التي بها لا يحرفون الكتاب ولا السنة؛ لأن تحريف الكتاب والسنة خيانة تدل على أن هذا الرجل لا رصيد للأمانة في قلبه؛ بدلالة هذا الحديث، ثم حدثنا: أن الأمانة ترفع من قلوب الرجال، فيظل أثرها مثل الوكت) (الوكت): هو السواد في لون الجلد، مثل أي جرحٍ في جلدك، بعد أن يبرأ الجرح ترى أثره مسود اللون في جلدك.
لما ارتفعت الأمانة من قلب هذا الصنف؛ تركت مكانها أثراً مثل الوكت (ثم ترفع الأمانة من قلوب الرجال فتترك أثراً مثل المجل -(والـمَجْل) بفتح الميم وسكون الجيم- قال
ما معنى هذا التدرج في الوصف؟ مثل الوكت، ثم مثل المجل، المجل أوسع من الوكت، كأن الخرق اتسع على الراقع، (استسمنت ذا ورم)، أي: ظننته قوي العضلات، إذاً: المجل أعظم وأكثر اتساعاً من الوكت، ثم هو مع ذلك منتفخ، وهذا الانتفاخ ليس له أي رصيد من الإيمان، فكم من رجل يشار إليه بالبنان له منصب وجاه وليس في قلبه مثقال حبةٍ خردلٍ من إيمان، هذا معنى (منتبر). (نفط فتراه منتبراً) له منظر ولا مخبر له.
إذاً: صيانة الكتاب والسنة، والوقوف عند حدود الله عز وجل أمانة، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ [الأحزاب:72] (الأمانة): كلمة التوحيد بتكاليفها، هذه هي الأمانة، هل لها عين تطرف والارتداد كل يوم، كل يوم نرى المرتدين يطفحون بالكيل على صفحات الجرائد، ونحن مستضعفون لا حيلة لنا، صوتنا لا يصل..
لكن هناك حلٌ قوي، هو الذي لاذ به المستضعفون في كل زمان من أتباع الرسل: أن تنادي ربك، وأنت تظهر الضعف بين يديه، وأن تقول: لا حول ولا وقوة إلا بالله، هذا كان شعار أتباع الرسل؛ لأن أتباع الرسل جميعاً كانوا ضعفاء، هذه صفة أساسية لازمة لأتباع الرسل: ضعفاء، قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ [هود:91] ماذا قال شعيب؟ قال كلاماً مفهوماً، نفس التغابي الذي يعاملوننا به الآن فعله قومٌ شعيب معه، كما سنبسط ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
قال الله عز وجل: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [هود:84-86].
فهذا كلام واضح كالشمس، ركز فيه على كلمتين اثنتين: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، (أوفوا المكيال والميزان بالقسط) فعندما يأتي هؤلاء ويقولون: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [هود:91] مع هذا الوضوح، فهذا يدل على شيئين لا ثالث لهما: إما فاهم ويتغابى، وإما أصم لا يسمع، ولا أقصد بالصمم عطب هذه الحاسة، إن قوماً سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا:قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [الأنفال:31] لأنه لو سمعوا سماع انتفاع ما قالوا هذا الكلام، اليهود الذين سمعوا كلام الله عز وجل، فقالوا: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [البقرة:93] أهؤلاء سمعوا؟
إن السماع الممدوح في القرآن هو سماع الانتفاع؛ إنما مجرد سماع هذه الجارحة، أن يسمع الكلام بأذنه؛ ما قصد القرآن ذلك، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [النور:51] حسناً: لو سمع وعصى، فهل هذا سمع؟ لا، هو عند الله كالأصم طالما أنه لم ينتفع بهذا السمع.
ولذلك (لما نزلت خواتيم البقرة -كما رواه الإمام
فالسماع المحمود هو سماع الانتفاع، وليس مجرد سماع الجارحة، ولذلك فإن الصمم الوارد في القرآن إنما ورد لأناسٍ آذانهم سليمة؛ لكنهم عموا عن الحق فلا يسمعونه.
فهذا البيان الواضح: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ [الأعراف:85]، إما أنهم يتغابون في الخطاب، ويزعمون أنهم لا يفهمون؛ للتخلص من النص، وإما أنهم صم لا ينتفعون: يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ [هود:91].
واحد يقول: (ما نفقه كثيراً) هذا يدل على أنهم فقهوا قليلاً. نقول: إن هذه الآية تدل على أنهم ما فقهوا شيئاً؛ لأن علماء الأصول يقولون: النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فقوله: (كثيراً) هذه النكرة منفية قبل ذلك بـ(ما النافية) ، (ما نفقه كثيراً) إذاً هذا يدل على أنهم لم يفقهوا لا قليلاً ولا كثيراً مع هذا الوضوح.
جاء إلى حديث الإسراء والمعراج، وصف البراق، فقال: إنه دابة دون البغل وفوق الحمار، يقول: هذا الحديث مكذوب على رسول الله لا شك في ذلك.
حسناً: ما هو الدليل؟ يقول: لأن هذا من وحي الصحراء، الذي افترى هذا الحديث رجل بدوي فلاح، دائماً يركب البغال والحمير، فلما افترى هذا جعل البراق بغلاً.
أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تنتقد هكذا! لو ورد في القرآن وصف للبراق، أو ورد في أحاديث أخرى وصف للبراق مخالف لهذا الوصف لقنا: لا بأس، لو جاء في القرآن أن البراق صورته صورة إنسان وله ذيل -مثلاً- أو أي شيء، وجاء رجلٌ فقال: دون البغل وفوق الحمار لقلنا: لا بأس؛ لكن رجل لمجرد أنه لم يهضم أن يكون البراق بغلاً فيقول: إن هذا كذب! إذا كان النقد بهذه الصورة فإن كلام الله عز وجل سيتعرض للنقد.
وآخر عندما يقرأ قول الله عز وجل: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133] فيقول: إذاً أين طولها؟ لما كان عرضها السماوات والأرض؟ كلام لا نتخيله!! إذاً كلام الله عز وجل غير صادق.
إذا تعاملنا مع نصوص الكتاب والسنة هكذا لم يبق في أيدينا حتى: قل هو الله أحد!! وينشر الرجل في منتهى الحرية وفي منتهى الأمان، آمن على نفسه أنه لن تطوله يدٌ أبداً.
فقال: هو فينا ذو نسب.
قال: هل كنتم تتهمونه قبل ذلك؟
قال: لا.
قال: هل كان من آبائه من ملك؟
قال: لا.
قال: هل قال بقوله رجلٌ قبله؟
قال: لا.
قال: اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟
قال: بل ضعفاؤهم.
قال: يقلون أم يزيدون؟
قال: بل يزيدون.
قال: هل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قال: لا.
هكذا وصف المستضعفين، وأن عددهم كل يوم في زيادة، مثلما هو حادث الآن، الرسم البياني للراجعين إلى الله كل يوم يزيد، ولا يرتد أحدٌ منهم إلى الخلف أبداً، إذا باشر الإيمان شغاف قلبه لا يرتد أحدٌ منهم سخطةً لدينه، حتى أن المؤلفة قلوبهم لما كان الواحد منهم يحسن إسلامه كان يرفض (سهم المؤلفة قلوبهم) رجل تعطيه حتى لا يكفر، فبعد أن يحسن إسلام الرجل كان يستنكف أن يأخذ هذا المال.. لماذا؟ يقول: أنا الآن أسلمت وجهي لله عز وجل، وما بي من حاجة أن يقال: أخذ المال حتى لا يكفر، ويراه عاراً عليه أن يأخذه، برغم أنه محتاج إليه!
فهؤلاء لا يرتدون أبداً.. لماذا؟ يعتزون بإيمانهم، أرأيت إلى بني هاشم لما حاصرتهم قريش في الشعب ثلاث سنين، الحرب الاقتصادية حرب يلجأ إليها أعداؤنا في حال استضعافنا، أجاعوا بني هاشم، وقالوا: لا يقصد أحدٌ منهم ولا ينكحهم أبداً ثلاث سنوات، حصروهم حتى ألجئوهم إلى أكل الديدان والحشرات.. لماذا؟ حتى يتبرءوا من النبي صلى الله عليه وسلم ويعلنوا هذا الرفض، ما خلصهم إلا الله بأن قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه يوماً: (أما تعلم أن الله أرسل الأرضة -دابة الأرض، مثل السوس- فأكلت الشروط -لأن قريشاً كتبت ورقة وعلقتها في الكعبة- فأكلت كل شيءٍ إلا اسم الله) فـأبو طالب أول ما سمع هذا الكلام ذهب إلى قريش، وقال: لو أخبرتكم أن الأرضة أكلت ورقة الشروط كلها، وما أبقت إلا اسم الله؛ تفكون هذا الحصار؟ قالوا: قد أعذرت وذهبوا إلى الورقة فوجدوا الأرضة قد أكلتها كلها فعلاً إلا اسم الله عز وجل؛ ففكوا الحصار.
فاعلم أنك إذا رجعت إلى دينك ستحاصر دولياً ومحلياً، وعلى مستوى الفرد، ستنقل من وظيفتك المرموقة وتوضع في المخازن؛ ستسجن، وتمنع من علاواتك وترقياتك.. حرب اقتصادية، والأمة بمجموعها لو رجعت إلى الله لمنعوا صفقات القمح التي يمدوننا بها، لكن لا قوة لك إلا بالله، فاسمع إلى كلام الملك الصادق سبحانه وتعالى، الذي لا يتطرق إلى كلامه شكٌ فضلاً عن كذب يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] طيب.. يا رب هؤلاء المشركون معهم المال ويعطوننا القمح. فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي: فقراً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ [التوبة:28]، مشركون يعطوننا المال والسلاح، فقال الله عز وجل: وَلا تَهِنُوا [آل عمران:139]، وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28]* قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] هذه مرحلة أخرى، امنع ولا تكتفِ بالمنع، بل اهجرهم في عقر دارهم، وقاتلوهم لنشر دين الله عز وجل؛ يرفعكم الله عز وجل.
هذه لمحةٌ وطرفٌ مما نعانيه الآن، إنما قلت ذلك لأن أول درجات النجاح هو وضع الخطة المحكمة، سواءٌ في التقدم أو في رجوع القهقرى.
أنت مستضعف، ونحن الآن نتكلم عن الاستضعاف من خلال سورة القصص، وكيف أن الله مكن لبني إسرائيل بعدما كانوا مستضعفين؟ ماذا فعل بنو إسرائيل حتى مكن الله لهم؟ لكن كانت هذه مقدمة ضرورية؛ لبيان حالنا ووضعنا، ومدى الضعف الذي نعانيه، حتى إذا حدونا قلوب المستضعفين وهم في طريقهم إلى الله؛ قالوا: لبيك، بل وألف (لبيك).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر