يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني: لا زال هذا القرآن الكريم كنزاً مدفوناً عند الكثيرين من المسلمين لم يستخرجوه بعد، ولم يطلعوا على ما فيه من القيم العظيمة التي أودعها الله في هذا القرآن.
من الناس من يقرأ القرآن لينال أجر التلاوة، ومنهم من يحفظ آياته لينال أجر الحفظ، ومنهم من يقرأ القرآن ليذوق حلاوة هذا النظم العجيب ويتعلم من بلاغة القرآن وأسلوبه أموراً كثيرة، ومن الناس من يقرأ القرآن ليبحث عن الأخلاقيات التي تحسن سلوكه، ومنهم من يقرأ القرآن يريد فيه حلاً للمشكلات الاجتماعية، ومنهم من يقرأ القرآن يريد فيه حلاً للمشكلات الاقتصادية، هذا كله أمر مهم، ولكن لا بد أن نقرأ القرآن لهذه الأغراض كلها مجتمعة، ولا بد أن نقرأ القرآن لنستخرج منه التطورات الإسلامية والمكرمات العظيمة التي يجب أن يتربى عليها الفرد المسلم، ولأننا في غمرة تلاوتنا للقرآن ما بين جهل بمعاني ألفاظه وبين مرور سريع يمنعنا من التدبر في أعماقه، فإنه لا زالت هناك كثير من التصورات الإسلامية في هذا القرآن مدلولة للكثيرين.
وهذا الكتاب العظيم له أهمية كبرى نريد أن تكون هذه الأهمية واضحة بوعي وليست واضحة بمجرد البركة والتقديس الذي يجده كثير من العوام في أنفسهم تجاه هذا الكتاب العزيز، وحتى أوضح لكم ما أردت أن أشير إليه فإني أستعرض وإياكم طائفة من التصورات القرآنية من أوائل القرآن الكريم في أوائل سوره لعلنا نجد معاً ما هو المقصود بالعمق المطلوب في دراستنا للقرآن الكريم؟
تأمل.. كيف ينشئ القرآن هذا التصور العظيم للعبادة التي من أعظم معالمها الإخلاص إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] ولا نعبد أحداً معه سواك.. لا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً ولا قانوناً وضعياً ولا آراءً بشرية، لا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ولا نرضخ إلا له، ولا نذل إلا له، ولا نستعين إلا به.. لا بقوى شرقية ولا غربية، ولا شمالية ولا جنوبية، وإنما فقط إياك نستعين.
قال: وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] أي: ادعوا الله أن يحط عنكم، فماذا قالوا؟ زادوا (نوناً) فقالوا: حنطة، أعطنا طعاماً بدلاً من أن يقولوا: حط عنا ذنوباً، لم يقفوا عند كلمات الله، ولا عند أوامره، ولهذا لما شابهت طائفة من هذه الأمة أولئك اليهود فزادوا أحرفاً في تحريف كلمات الله، فقال الجهمي في تفسير قول الله عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال: الرحمن على العرش استولى.
نون اليهودي ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان |
كثير من المسلمين يحذون حذوهم في هذه الأيام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) فيضعون المعاذير والعقبات في سبيل تنفيذ أوامر الله، ويعتذرون بأعذارٍ واهية إنما هي من وحي الشيطان.
إذاً: تميز في العبادة مفهوم أصيل من المفهومات الإسلامية.. وجوب تطبيق جميع الإسلام.. خذ الإسلام جملة لا تأخذه وتفصل منه ثياباً كما تريد وتهوى، وإنما خذه جملة في جميع النواحي التي نزل فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً 2 البقرة:208] ادخلوا في جميع شعب الإيمان وجميع النواحي التي جاء بها الإسلام.
ولذلك اعترض بنو إسرائيل الجهلة منهم على تنصيب طالوت عليه السلام ملكاً عليهم، فماذا قالوا؟ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [البقرة:247] لماذا؟ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [البقرة:247] إذا لم يتضح هذا المعيار وهذا الميزان حصل الخبط في الاتباع، وحصل الخبط في النظرة للناس وفي تقديرهم.
وتمحيص الصف المسلم من حكم الله التي يريد أن تقع في الأرض: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ [آل عمران:154] مفهوم التدافع بين الحق والباطل يكون لهذا كرة ولهذا كرة أخرى، لماذا؟ ليظهر الحق ويبطل الباطل، وعندما تحتدم المعركة تتميز الأشياء.
وبضدها تتميز الأشياء |
وتحصل منة نصر الله لعباده، ويصلب البناء، ويشتد العود، وتقوم حركة الجهاد بكل إيجابياتها، وإلا لو لم يكن هناك صراع بين الحق والباطل على الأرض هل يكون هناك جهاد؟ هل يكون هناك تنقية وتمحيص وتصفية وأهمية للتربية؟ التدافع بين الحق والباطل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة:251]، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً [الحج:40].
من سنة الله أن المسلمين ينزل أمرهم ويتغلب عليهم الكفار في وقت من الزمن، ومن سنة الله أن هؤلاء يعيدون تربية أنفسهم وصقلها في ظل تلك الظروف التي ينشئها الله سبحانه وتعالى حتى تعود الغلبة للحق والكرة له مرة أخرى، ويتخذ الله من عباده شهداء، حِكَم مترابطة.
يعلمنا القرآن هذا المفهوم الأصيل.. يعلمنا القرآن ما نحتاج إليه في معركتنا مع أهل الباطل، كثيرون أولئك أهل الباطل في المجالس وفي جميع الأمكنة، تجدهم حرباً على الله ورسوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] أتى بإنسان فقتله وأتى بمحكوم عليه بالإعدام فعفى عنه، سذاجة في التصور للإحياء والإماتة، ماذا قال إبراهيم؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
تدعي حب الحبيب ثم تخالفه ما ذاك في إمكانِ |
لا يمكن أن تجتمع المحبة والمخالفة، كثير من المسلمين اليوم يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يخالفون سنته في تصوراتهم وموازينهم وسلوكياتهم؛ بل وحتى مظاهرهم الشخصية.. معاملاتهم في البيت لزوجاتهم وأولادهم ولإخوانهم مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن هيئتهم في الصلاة لا تشبه هيئة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إطلاقاً، إلا في الأشياء العامة.. الركوع والسجود والقيام والقعود فقط.
المفهوم الشامل للعبادة ضاع في كثير من الأذهان.. كثيرون اليوم يعتقدون أن الدين في المسجد وأما العبادة فلا تتعدى المسجد، ولو خرج الخارج من باب المسجد لانتهت الصلة بالدين ولجاز له أن يعمل ما يشاء، هذا هو المفهوم الذي يقره القرآن في شمولية العبادة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] رد مفحم على كل رجلٍ متأثر بأهل الزندقة، وأهل الاستشراق، وأهل الغزو الفكري الذين يصورون أن الإسلام في المسجد فقط.
إذاً: من أحق الناس بإبراهيم؟ من أحق الناس بهذا الرجل؟ هذا الرجل يكون فرداً في أي حركة؟ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران:68] هؤلاء أولى الناس بإبراهيم، انظر إلى هذا المفهوم في انتزاع وتخليص الشخصيات من الادعاءات الكفرية.
إنهم يريدون أن يحرفونا عن ديننا، وأن يبتلونا عن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسائل عجيبة وخبث ومكر ودهاء، ماذا قالوا؟ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72] خطة خبيثة، ادخلوا في الإسلام صباحاً وإذا جاء المساء خرجوا من الإسلام، حتى يقول الناس: إن هذا ليس بدين صحيح وإلا لثبت الداخلون عليه، لكنهم لما دخلوا فيه ثم رأوه باطلاً خرجوا منه.. خطة خبيثة، وتزعزع الصف المسلم وتشكك المسلمين في إسلامهم، انظر إلى الخطة العجيبة: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران:72] كشف الله زيف الخطة، وكشف باطلهم في القرآن، وثبِّت المسلمين ووضح كيفية المجابهة.
نسأل أن يجعلنا وإياكم منهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
مفهوم التوحد وعدم التفرق شيعة وأحزاباً مفهوم يؤكد عليه القرآن، وَاعْتَصِمُوا [آل عمران:103]، ثم يقول: وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ما هو موقف المسلمين اليوم من هذا الأمر الإلهي وقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطوائف وجماعات حتى ما عاد الحق يُعرف لعامة الناس من كثرة هذا التفرق؟
ما هو المفهوم القرآني للاجتماع؟ نجتمع على أي شيء؟ كيف يتوحد المسلمون؟ يتوحدون على أي شيء؟ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً [آل عمران:103] أما الاعتصام بحبلٍ من الله وحبل من الناس فلا يكون اعتصاماً ولا يصح أن يتوحد عليه المسلمون، وأي صف توحد على حبل من الله وحبل من الناس فآخرته ونهايته إلى الخسران والانكسار؛ لأن الله لا ينصر صفاً مرقعاً، ولأن الله لا ينصر صفاً تلخبطت فيه الأمور واختلطت من الحق والباطل.
أذى متعدد الأنواع: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ [آل عمران:186] فقط: وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186] فقط: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران:186] إذاً: الأذى في الذات.. في الأجسام.. في الأموال، والأذى المعنوي سماع الأذى من الكفار جميع أنواع الأذى، ما هو العلاج؟ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186] هذا مهم حتى يستعد المسلم للمواجهة، ويأخذ أهبته للصبر في المعركة على جميع أنواع الأذى.
أيها الإخوة: هذا القرآن والله الذي لا إله إلا هو فيه علاج لكل الأسقام المادية والمعنوية.. فيه علاج لكل أمراض الأمة.. فيه إيجاد أشياء مهمة للتربية.. تصورات يجب أن يقوم عليها المجتمع والأفراد المسلمين قد خلت كثيراً من نفوس المسلمين منها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا ممن يقتدي بهذا القرآن.
اللهم اجعلنا ممن وضع القرآن أمامه فقاده إلى الجنة، ولا تجعلنا ممن نبذ القرآن وراءه فقاده إلى النار.
اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
اللهم واجعلنا ممن يستمدون تصوراتهم من القرآن، واجعلنا ممن يؤسسون موازينهم من القرآن، واجعلنا ممن يقرءون القرآن تدبراً وخشوعاً، وارزقنا حلاوة الإيمان به والعمل يا رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر