أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قد قص علينا في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما يكون في اليوم الآخر من التفاصيل الكثيرة التي تكون للمؤمنين واعظاً، فيعلمون منها ما أعد الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم من الأهوال، وإذا كان الواحد يعيش في الدنيا سبعين سنة، فإن يوم القيامة طوله خمسون ألف سنة، أي: أن طول يوم القيامة أضعاف أضعاف ما يكون من عمر الإنسان في الدنيا، ويوم القيامة يبدأ من النفخ في الصور وينتهي بدخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار.
فهذه الخمسون ألف سنة يكون الناس واقفين فيها قياماً على أرجلهم كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، فليس فيها متكأ ولا مكان للراحة، ولكنه يمر على المؤمنين مروراً طيباً سهلا،ً يسهله الله عليهم بأعمالهم، وقد روى أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً من أحداث ذلك اليوم فقال: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا عند ربنا، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته ويقول: ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، ائتوا موسى الذي كلمه الله، فيأتونه فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته، ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول: لست هناكم ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني فأستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله ثم يقال لي: ارفع رأسك، وسل تعطَ، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني، ثم أشفع فيحد لي حداً، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً مثله في الثالثة أو الرابعة حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن، وكان
يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد من آدم إلى راعٍ من مزينة وهو آخر واحد يموت ويحشر، من آدم إلى رجل من مزينة، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر.
أولاً: الشمس التي تدنو من رءوس الخلائق.
ثانياً: التزاحم والتلاصق بالأجساد وحرارة الأنفاس.
ثالثاً: جهنم؛ لأنه يؤتى بها إلى أرض المحشر تجر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، ولها زفير وشهيق يرى من بعيد، فيجتمع على الناس الحر من ثلاث جهات: دنو الشمس من فوق الرءوس، وتقريب جهنم، وتلاصق الأجساد وطلاقة الأنفاس، وهذه مسألة الأنفاس معروفة، لو أننا وضعنا أشخاصاً وملأنا غرفة بهم سيصابون بحر نتيجة الاختناق من الأنفاس وحرارة الأجساد، كل واحد من هذه الأسباب كافٍ بأن الناس يصابون بكرب عظيم، فكيف إذا اجتمعت كل الثلاثة مع بعض؟
ولذلك قال: (فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون -فليس الحر هنا يطاق ويحتمل بل فوق التحمل، ولذلك يموج بعضهم في بعض ويدخل بعضهم في بعض- ويبحثون عن مخرج ويشق عليهم دنوها فينطلقون من الضجر والجزع مما هم فيها) فإذاً حر وضجر وجزع وفي رواية: (فيفظع الناس لذلك والعرق كاد يلجمهم) العرق يرتفع مستواه عند بعضهم حتى يلجمهم كاللجام على الفرس فيغطي الفم.
قال في الحديث: (تدنو الشمس حتى تصير من الناس على قدر ميل، ويتفاوت الناس في العرق على قدر أعمالهم) وفي رواية سلمان : (تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين) فليست شمساً عادية وإنما تعطى حر عشر سنين، يعني: الشمس الموجودة الآن إذا اصطلينا بحرها في الصيف، بحر هذا اليوم الذي طلعت فيه الشمس نقول: هذا اليوم حر شديد! يوم القيامة تعطى الشمس حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الناس فهي قريبة من الرءوس، فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، فالآن العرق ليس على سطح الأرض فقط وإنما داخل الأرض، ينزل العرق فيدخل في الأرض فتتشربه ثم يطفح؛ لأن التشرب قد انتهى حده، فيطفح إلى أعلى الأرض قامة -يعني: على قامة الرجل- ثم يرتفع حتى يقول الرجل: عق عق، يعني: من العرق، الإنسان إذا صار في الماء وألجمه الماء ليس هناك متنفس فقال: عق عق وهو صوت الغرق.
قال في رواية: (لغم ما هم فيه والخلق ملجمون بالعرق -فالعرق يكون مثل اللجام- قال: وإن معي لواء الحمد) وهذا لواء حقيقي مع النبي عليه الصلاة والسلام يرفعه بيده وهو لواء الحمد، ومكانه معروف واضح.
في يوم المحشر يصدر عن بعض الناس رأياً يقولون: لو استشفعنا، يلهمون ذلك من الله كما جاء في رواية مسلم : (فيلهمون الذهاب إلى الأنبياء) يريدون مخرجاً، فيقولون: لو نذهب إلى الأنبياء (فيهتمون بذلك -يصيبهم الهم- لو استشفعنا على ربنا) يعني: نطلب شفاعة أحد عند الله نستعين به على الكرب.
يقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر فليشفع لنا إلى ربنا فليقض بيننا -أول ما ينصرفون إلى آدم يقولون: هذا آدم أبو البشر أبونا لعله يرحم حالنا ويشفع لنا عند الله- فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة -هؤلاء المؤمنون- والناس يقولون: استشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فليقض بيننا، فنريد الفكاك ونريد القضاء، الآن يطالبون بأن يبدأ الحساب، فالآن كل الطلب الذي يطلبونه أن يبدأ الحساب حتى ينتهي وتنفك الأزمة، يا آدم أنت أبو البشر أنت أبونا، يا أبانا، ويذكرون مناقبه لأنهم يطلبون منه طلباً يقولون: لك مكانة عند الله، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وفي رواية: وأسكنك جنته، وعلمك أسماء كل شيء، أنت أبو البشر، وأنت اصطفاك الله، فاشفع لنا عند ربك، قال آدم: لست هناكم يقول: منزلتي دون المستوى المطلوب، أنا لا أستطيع أشفع، منزلتي دون مستوى الشفاعة، لست هناكم.
فيريد أن يحولهم على غيره، لماذا لست هناكم؟ من باب التواضع.. يذكر خطيئته، مع أن الله غفر له لكن يذكر خطيئته التي أصاب وأنه أكل من الشجرة، ويذكر ذنبه فيستحيي ويقول: (إني أذنبت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض، ويقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم؟ ويقول: إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر لي اليوم حسبي) ويقول: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، ائتوا نوحاً).
أول رسول بعثه الله إلى هذه الأرض، فيأتون نوحاً أبو البشرية الثاني فلا يوجد واحد بعد نوح إلا ونسبه ينتهي إلى نوح لماذا؟ لأن الله لما أهلك قوم نوح وهم البشرية في ذلك الوقت، هلكوا كلهم والطوفان عم الأرض كلها، نوح والذين آمنوا معه أنجاهم الله من الطوفان، الذين آمنوا معه ما كان لهم ذرية؛ لأن الله قال عن نوح: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ [الصافات:77]، فإذاً نوح أبونا بعد أبينا الأول آدم، يعني: كل واحد من البشرية الذين جاءوا بعد نوح لابد أن يكون نسبه يرجع إلى نوح، ولذلك إذا نسبنا إبراهيم عليه السلام أو محمد عليه السلام فلابد أن نمر بنوح إلى آدم، أول رسول بعثه الله إلى هذه الأرض.
(ائتوا عبداً شاكراً) الله سماه شاكراً فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً، يا نوح! اشفع لنا عند ربك، فإن الله اصطفاك واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فهذا الذي يقوله أهل الموقف لنوح.
الآن نوح هل هو رسول أم نبي؟
الجواب أنه رسول، بعثه إلى أهل الأرض بعدما وقع فيهم الشرك، آدم كان نبياً، ونوح كان رسولاً إلى قوم وقع فيهم الشرك، لما يذهبوا إلى نوح يقولون هذا الكلام فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي من ربه منها، ماذا يذكر نوح؟! يذكر سؤال ربه ما ليس له به علم لما قال بعدما غرق ولده، قال: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45]، كأنه يقول: أنت وعدتني أن تنجي أهلي وابني من أهلي فلماذا لم ينجُ؟ وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود:46]، فيذكر هذا الموقف يقول: هذا أنا سألت الله ما ليس لي به علم وفي رواية: (إني دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض) فكأنه يقول: أنا أخطأت بسؤال الله ما ليس لي به علم، وثانياً: الدعوة الآن التي دعوت بها واستجيبت أخشى الآن أن ليس لي دعوة تستجاب لأن الدعوة التي تستجاب استنفذت لما دعوت على أهل الأرض أن يغرقهم الله وأغرقهم، فأخشى الآن أن أدعو فلا أجاب، ما هي الخطوة التي تليها؟
فكأنه يقول: لست على منزلة الخليل الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم، تواضع وقال: كنت خليلاً من وراء وراء وكأنه يقول: أنا أعطيت الوحي بواسطة جبريل، يحولهم على واحد آخر موسى، لماذا؟ يقول: كلمه الله بلا واسطة، أنا خليل من وراء وراء، أنا مكلم من وراء جبريل بواسطة موسى بدون واسطة اذهبوا إلى موسى.
طبعاً الكلمات التي كذب بها إبراهيم عليه السلام كانت من المعاريض، لأنه لما قال: إني سقيم، يحتمل السقم الذي هو مرض، ويحتمل مرض البدن ويحتمل مرض النفس، مريض من كفركم وشرككم، شرككم سبب لي مرض النفس.
ولما قال: بل فعله كبيرهم هذا هل هو أشار إلى إصبعه تورية، أو أنه أراد أن يسألوا هذا الصنم ويكون ذلك توبيخاً لهم عندما يرجعون إلى أنفسهم ويعلمون أن هذا الصنم لا يتكلم، كيف يسألونه؟
والملك الكافر لما أراد أن يأخذ زوجة إبراهيم، ولو أخبرتهم أنها زوجة إبراهيم يعلم أنه لا سبيل لأخذها إلا بقتل إبراهيم فيقتل إبراهيم، لكن إذا قالت: أخته قد يبقي على إبراهيم حياً ويخطبها منه، ولذلك قال: إذا سألك فقولي له إنك أختي، وهذه لها تأويل أنها أخته في الإسلام.
فالثلاثة هذه من معاريض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب؛ لأن التورية الآن صورتها صورة كذب، لكنها في الحقيقة ليست بكذب، لكن الصورة صورة كذب، فلأن هذه الثالثة صورتها صورة كذب أشفق منها استصغاراً لنفسه عن الشفاعة، وخشي منها مع أنها توريات وليست كذبات.
وتواضع إبراهيم عليه السلام وقال: أنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى واحد ليس من وراء وراء، موسى كلمه الله وأعطاه التوراة، كليم الله وكلمه تكليماً وقربه نجياً.
عيسى ما ذكر ذنباً لكن يقول: أنا لست على مستوى طلب الشفاعة لست بهذا المقام، لست هناكم، ويقول في رواية: (إني عُبِدت من دون الله، إني اتُخِذت إلهاً من دون الله) مع أنه ليس ذنباً منه ولا قصد ولا أراد ولا رضي، لكن يقول ذلك تواضعاً.
الآن هؤلاء الأنبياء يقولون اليوم : إذا غفر لنا يكفينا، فما بال بقية الناس؟
ثم يقول عيسى عليه السلام: (ائتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، انطلقوا إلى من جاء اليوم مغفوراً له وليس عليه ذنب وخاتم النبيين، أرأيتم لو كان هناك متاع في وعاء وقد ختم عليه، أكان يقدر على ما في الوعاء حتى يفض الخاتم؟) هل تستطيع أن تأخذ شيئاً من الوعاء من غير فض الخاتم، فيرجعون إلى هذا الذي قيل لهم أول من تنشق عنه الأرض، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعندما يأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في رواية: (إني لقائم انتظر أمتي يعبرون الصراط إذ جاء عيسى فقال: يا محمد! هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه) فأين يكون النبي عليه الصلاة والسلام؟ عند الصراط ومعه لواء الحمد، بعدما تلف القضية على الأنبياء واحداً واحداً، عيسى مع الناس مع الأنبياء كلهم يتوجهون إلى الصراط، والنبي عليه الصلاة والسلام قائم ينتظر عند الصراط، فيطلب عيسى والأنبياء معه والناس جميعهم من النبي عليه الصلاة والسلام ويخاطبونه حتى أبوه إبراهيم، كما جاء في رواية (وأخرت الثالثة -يعني: دعوة النبي عليه الصلاة والسلام- ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام).
فهذا المقام المحمود؛ لأن كل الناس يريدون الفرج، فكل الناس سيمدحون النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الموقف، ويحمدونه على أنه كان السبب في تفريج كربتهم، فيحمده كل الخلائق عليه فهذا هو المقام المحمود، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، وهو أفضل نبي وهو الذي سيشفع.
فيقولون: (يا نبي الله! أنت الذي فتح الله بك وختم وغفر لك ما تقدم وما تأخر وجئت في هذا اليوم آمناً وترى ما نحن فيه فقم فاشفع لنا إلى ربنا) وفي رواية عند ابن المبارك : (فيأذن الله لي فأقوم فيثور من مجلسي أطيب ريح شمها أحد، يقولون: قم فاشفع لنا إلى ربنا فيقول: أنا صاحبكم فيجوش الناس -النبي عليه الصلاة والسلام ماذا يفعل؟ يستأذن على ربه- قال: فأستأذن على ربي) وفي رواية: (في داره وهو على العرش سبحانه وتعالى أو الكرسي فيؤذن لي في الشفاعة) وقيل في داره يعني: الجنة دار كرامته وهي الجنة فيستأذن، قيل: أنه يستأذن أولاً في دخول الدار وهي الجنة، والله يدعو إلى دار السلام، وينتقل عليه الصلاة والسلام من مكانه في أرض المحشر في أرض الموقف إلى مكان آخر، ويتقدم ليسجد تحت العرش، فيدعو في مكان شريف ليس في موقف إشفاق وخوف والشمس والحر، يدعو في مكان شريف تحت العرش كما أن الدعاء في الأماكن المباركة من أسباب الإجابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ حلقة باب الجنة فيقعقعها فيقال: (من هذا، فأقول: محمد فيفتحون) وفي رواية: (فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك فيفتحون لي ويرحبون).
يقف بين يدي الله فيستأذن في السجود فيؤذن له فيخر ساجداً، وفي رواية: (أن جبريل يخرج إليه والله يقول لجبريل: ائذن له -ائذن لمحمد عليه الصلاة والسلام فيدخل- قال: فإذا رأيته وقعت له ساجداً) وفي رواية: (فيتجلى له الرب ولا يتجلى لشيء قبله) أول واحد يرى الله عز وجل عليه الصلاة والسلام، وفي رواية: (يعرفني الله نفسه ويتجلى لنبيه فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني).
فإذاً يستأذن ويؤذن له، ويذهب إليه، ويتجلى له الرب فيراه فيخر ساجداً ويبدأ المدح والثناء على الله، وهذه السجدة كم طولها؟ الله أعلم، لكن لها مدة لأنه قال في الرواية: (فيدعني ما شاء الله ساجداً شاكراً له أمتدحه) وفي رواية: (فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن)، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثهم الحديث يقول: المحامد تلك لا أعرفها ولا أقدر عليها لكن في ذلك الوقت سيفتح علي ويعلمني ماذا أقول، فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، وفي رواية: (فينطلق إليه جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة).
النبي عليه الصلاة والسلام إذا سجد وفتح الله عليه بمحامد يقال له بعد مدة: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، وقل يسمع، واشفع تشفع) فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم، قال: (فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه) وفي رواية: (بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي) وفي رواية: (فيفتح الله له من الثناء والتحميد والتمجيد ما لم يفتحه لأحد من الخلائق) يعني: الآن نحن نعرف بعض الألفاظ التي فيها تحميد وتمجيد لله عز وجل مثل: سبحان الله والحمد لله، والله أكبر ... إلخ.
هذه أشياء ما سبق أن أحداً قد دعا بها، أذكار جديدة وألفاظ جديدة، ما يفتح بها إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، وطبعاً في أسماء الله سبحانه وتعالى لا نعرفها نحن نعرف: الفتاح، العليم، الرزاق، الكبير، المتعال، القدوس، السلام، في أسماء اختص الله بها نفسه لا أحد يعرفها، فماذا يحصل؟ الله يعلم رسوله أشياء، قد يكون منها أسماء الله تفرد بعلمها، وما نزلت في كتاب ولا على رسول، فإذاً الكلام سيكون في السجود وبعد السجود في محامد، في السجود يخر له ساجداً يمدحه ويثني عليه، وإذا رفع أتى بمحامد جديدة أخرى.
ففي أشياء في السجود وأشياء بعد الرفع من السجود، فيقال: (يا محمد! فأقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، سبحانك رب البيت، ثم أشفع -فأول محامد قبل الطلب، ثم يأتي الطلب- فأقول: رب! أمتي، أمتي، أمتي، فيحد لي حداً لا أتعداه).
مثلاً: شفعتك فيمن أخل بصلاة الجماعة فيشفع فيهم ثم يقال: شفعتك فيمن أخل بالفرض الفلاني أو الواجب الفلاني، أو شفعتك فيمن ارتكب المحرم الفلاني، يقول: أقبل شفاعتك في هؤلاء ويحد لي حداً، وعلى هذا الأسلوب، هكذا يشفع النبي عليه الصلاة والسلام لأناس يخرجهم من النار فيدخلهم الجنة، فيقال: (أخرج من في قلبه مثقال شعيرة وبعد ذلك مثقال ذرة، ومثقال حبة من خردل، ولا أزال أتردد على ربي لا أقوم منه مقاماً إلا شفعت، فيشفع في كل من كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة ثم حبة من خردل، فذلك المقام المحمود، ثم أخرجهم من النار).
تكون بعد التحول عن الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في النار، ثم تأتي هذه الشفاعة، فالآن هناك شفاعة في انفضاض الموقف للحساب، وشفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام لإخراج من دخل النار من أمته، هذه الشفاعة الثانية تكون بعد الأولى، فالثانية تكون بعد الصراط، الناس يتجهون إلى الصراط يسلكون عليه وينطلقون عليه ويسقط من يسقط، أناس دخلوا النار وهم من الموحدين تحصل هذه الشفاعة، وترسل الأمانة والرحم لعظمهما، الأمانة والرحم، على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً (فيمر أولكم كالبرق) إلى آخره.
فإذاً عندنا شفاعتان: شفاعة الإراحة من الموقف وينصرف الناس للحساب، ثم يمرون على الصراط ثم يسقط ويهوي من يهوي في النار، ثم يكمل من يكمل إلى الجنة، فتأتي بعد ذلك الشفاعة الثانية: وهي شفاعة الإخراج، وقد جاء في رواية: (ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني ثم يؤذن لي بالكلام، ثم تمر أمتي على الصراط وهو منصوب بين ظهراني جهنم) وفي رواية: (يقول ربي عز جل: يا محمد! ما تريد أن أصنع في أمتك، فأقول: يا ربي عجل حسابهم) وفي رواية: (فأقول: أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه، نادى مناد أين محمد وأمته فيتبعوه) وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (يا رب! أمتي أمتي، يقال: أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب وهم شركاء في بقية الأبواب).
يا رب! وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فهذه شفاعة ثالثة، وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة لكي يدخلون الجنة فيقول الله: (فقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة).
فإذاً لا ينصرف الناس من الموقف للحساب إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل أحد الجنة إلا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج أحد من الموحدين من النار من أمة محمد عليه الصلاة والسلام إلا بشفاعته عليه الصلاة والسلام، فيما سبق إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن.
ينادي المنادي لتتبع كل أمة من كانت تعبد، فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضا،ً ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجي عند القنطرة للمقاصصة بينهم ثم يدخلون الجنة.
فهذا الترتيب ذكره ابن حجر رحمه الله استخلاصاً من الأحاديث وهو ترتيب مهم، هذا الترتيب يفهم كيف ستكون الأمور يوم القيامة، فنعيده: يقول بعد الرواية الأخيرة: وفيه إشعار بأن العرض يعني: يعرضون على الله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18] هناك عرض على الله تعرض فيه البشرية كلها، كل واحد هو وذنوبه وأعماله وكل شيء مكشوف، على صفحة مفتوحة يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، هذا العرض على الله، ثم يؤتى بالميزان وينصب وتوزن أعمال العباد: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] ولا حسابكم أيضاً، في نفس الوقت يعني الله لا يعجزه شيء يحاسب الخلق كلهم كأنه يحاسب واحداً، ويقضي بينهم كلهم كأنه يقضي بين شخص وشخص، والميزان والوزن كل شيء يوضع.
تتطاير، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، بعد هذا يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فعباد الصليب يتبعون الصليب، واليهود يتبعون معبوداتهم، والوثنيون: من يعبد الشمس، ومن يعبد القمر، ومن يعبد الأشجار، ومن يعبد هبل، .... إلخ فكل واحد يتبع ما كان يعبد، وكل أمة تتبع ما كانت تعبد، هم والمعبودات في النار فإن كانت المعبودات ليست براضية، مثل: عيسى وعزير، عيسى عُبِدَ من دون الله وهو ليس معهم وإنما يتبرأ منهم يوم القيامة: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117] أما من عُبِدَ من دون الله وهو راض فيكون معه في جهنم أول واحد، طيب الجمادات الشمس والقمر في النار ما وجه إدخالها في النار؟ لتكون عذاباً على عابديها وتكون مما يسعر به النار فيزداد العذاب، ثم تبكيت وخزي للعابدين عندما يرون إلههم الذي كانوا يعبدونه في الدنيا صار معهم في جهنم.
فإذاً العرض.. الميزان.. تطاير الصحف.. ثم ينادي المنادي في الموقف: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيذهب كل كافر وكل مشرك إلى النار ويقعون فيها مباشرة، يسحبون إليها ويقعون فيها، من يبقى؟
يبقى الموحدون والمنافقون، المنافق -نفاقاً أكبر- مع أنه كافر فلا يذهب مع المشركين إلى النار في الدفعة الأولى، بل يبقى مع المؤمنين؛ لأن صورتهم كانت في الدنيا أنهم مع المؤمنين يتظاهرون بالإيمان، فيقال للبقية الموحدين: اذهبوا إلى الصراط ومعهم المنافقون.
الصراط مظلم مدحضة مزلة فيه كلاليب وخطاطيف، أحدُّ من السيف، وأدق من الشعرة، المرور عليه يحتاج إلى نور حتى لا يسقط أحد، المنافقون يتبعون المؤمنين، والمؤمنون معهم أنوار فيظنون أنهم سوف يستفيدون من ضوئهم، فيضرب بسور بينهم وبين المنافقين فتحدث الظلمة على المنافقين، فلابد أن يسقطوا في النار، فيسقطون في النار، انتهى المنافقون، ألحقوا بالمشركين، تأخروا عن دخول النار عن المشركين لكن إذا دخلوا يذهبون إلى الدرك الأسفل من النار.
فيبقى الموحدون عصاتهم ومتقوهم، فالعصاة والمتقون كلهم يعبرون الصراط واحد كالبرق، وآخر كالريح المرسلة، وبعضهم كأجاويد الخيل والركاب، والبعض يعدو عدواً، وفيهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً ويقوم ويقع ويقوم ويقع، وأناس يسقطون في جهنم، فناج مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكردس في نار جهنم، فالناس الذي على الصراط ثلاثة أنواع:
ناجٍ مسلَّم لا يصيبه شيء، أولياء الله والمتقون والطائعون وأهل الطاعة والدين لا يصيبهم شيء.
وناجٍ مخدوش، الكلاليب والخطاطيف تخدشه على بعض أعماله ومعاصيه.
ومكردس في نار جهنم، هذا النوع الثالث يسقطون في جهنم، يعذبون وتشملهم شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام بعد حين، يعذب في جهنم إلى ما شاء الله فتدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة المؤمنين وشفاعة الملائكة وشفاعة رب العالمين في النهاية فيخرجون، آخر واحد يخرج الذي يعطى بعد ذلك في الجنة عشرة أمثال أعظم ملك من ملوك الدنيا.
الذين نجوا من الصراط عندما يعدون إلى الطرف الثاني لا يدخلون الجنة مباشرة، هناك قنطرة بين الجنة والنار يحبسون على الجسر، لأن بعضهم بينهم مظالم، صحيح أنهم نجوا لكن هناك من سيأخذ من حسنات الآخر، هناك مظالم ومقاصة، وهذه الحسنات سيستفيد منها الذي سيدخل وترفع درجته، هذا يكون أقل وهذا يكون أكثر، يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار للمقاصاة، وهؤلاء هم الناجون، لكن الذي أخذ من سيئاتهم فطرحت عليهم ثم طرح في النار هذا أمره انتهى قبل هذا وسقط في النار، الآن أناس عبروا الصراط إلى الجنة يحبسون للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة بعد ذلك.
ويبقى أماكن في الجنة بعد دخول أهل الجنة الجنة ليس لها أصحاب، شاغرة! فيخلق الله أقواماً لم يعملوا شيئاً قط فيدخلهم الجنة من فضله ورحمته، أعني: يا ليتنا كنا منهم لكن جرى قدر الله ونحن في عالم التكليف الآن، فالأماكن التي نتجت عن خروج أناس من النار من الموحدين لا يستفيد منها أهل النار توسعة، لا. وإنما يضع الجبار قدمه فهذه الأماكن تفنى والنار تنزوي على المخلدين وتضيق عليهم زيادة ويزداد العذاب، والجنة بعد دخول آخر واحد يبقى فيها أماكن فالله يخلق أقواماً يدخلهم الجنة بفضله ومنته وكرمه.
فهذا هو حديث الشفاعة الطويل وقوله في آخر الحديث: (لا يبقى إلا من حبسه القرآن) يعني: وجب عليه الخلود في النار؛ لأن الله قال: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق:14] وأنه أخبر عن المشركين والكفار أنهم لا يخرجون منها فقال: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48] هذا الذي حبسهم القرآن وقال تعالى: فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23].
أن الله سبحانه وتعالى يغضب، وأن ذلك من صفاته سبحانه، وفيه تفضيل للنبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق؛ لأن الرسل والأنبياء والملائكة كلهم لا يستطيعون أن يقوموا هذا المقام إلا النبي عليه الصلاة والسلام فهو أفضل من كل الملائكة، وكل النبيين، وكل الخلق، محمد عليه الصلاة والسلام.
في هذا الحديث أن السائل ينبغي أن يقدم بين يدي المسئول ثناءً حتى يجيبه، فإذا أراد الإنسان أن يسأل ربه يثني على ربه أولاً ولا يعجل يقول: أعطني مباشرة. يثني على الله سبحانه وتعالى أولاً ثم يسأل، يتحرى الزمان الفاضل والمكان الفاضل والأسلوب الحسن ثم يسأل.
في هذا الحديث استشارة الناس بعضهم بعضاً يوم القيامة في الحل الذي سيكون من الكرب الذي هم فيه.
وكذلك في هذا الحديث أن الناس في الآخرة لا يستحضرون كل المعلومات التي كانوا يعرفونها في الدنيا، مثلا:ً نحن نعرف أنها ستئول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهل يستطيع أحد بهذه المعلومة أن يذهب مباشرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لا. ولذلك قالوا: إن الناس يغطى عنهم بعض ما علموه في الدنيا، ولو كانوا مستحضرين في الآخرة أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يبدأ منه الفرج والطلب كان ذهبوا إليه مباشرة، فإذاً بعض المعلومات التي نعرفها الآن لن تكون في الذهن يوم القيامة أو سنذهل عنها وستغيب عن البال، لأن الله ينسيهم إياها وذلك لإظهار فضل النبي عليه الصلاة والسلام.
هذا من فوائد هذا الحديث العظيم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام وأن يجعلنا ممن تبعه واقتفى أثره.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر