وبعـد..
نتحدث أيها الإخوة! في هذا الدرس إن شاء الله تعالى عن أدب من الآداب الشرعية العظيمة التي جاءت بها هذه الشريعة، ألا وهو أدب العطاس والتثاؤب، وكذلك أدب يدخل فيه أيضاً وهو التجشؤ والتنخم، وقد وردت عدد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع العطاس، وذكر الأئمة رحمهم الله هذا الموضوع في كتاب الأدب من كتبهم المصنفة، كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الأدب فقال: باب الحمد للعاطس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر فقال الذي لم يشمته: عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني! فقال: هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله)
وقال رحمه الله باب تشميت العاطس إذا حمد الله، فيه أبو هريرة وذكر ابن حجر رحمه الله أنه يريد بذلك التنبيه على حديث أبي هريرة خلافاً لما ذكره بعض أهل العلم أن هذا ما اخترمت المنية البخاري قبل أن يتمه ويضع فيه هذا الحديث.
عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإجابة الداعي، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإبرار المقسم، ونهانا عن سبع: عن خواتيم الذهب، وعن آنية الفضة، وعن المياثر، والعسيِّه، والاستبرق، والديباج، والحرير).
ثم قال رحمه الله: باب ما يستحب من العطاس وما يكره من التثاؤب، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يُحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله؛ فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع فإذا قال: هاه! ضحك منه الشيطان)
وقال رحمه الله تعالى: باب إذا عطس كيف يشمت، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم) وقال رحمه الله: باب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله، وذكر فيه حديث سليمان التيمي ، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه يقول: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله شمَّتَّ هذا ولم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله وأنت لم تحمد الله).
وستأتي رواية في السنن تشرح هذا النص أيضاً فيها زيادة موضحة، وكذلك من الأحاديث التي ساقها الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الزهد والرقائق حديث أبي بردة ، قال: (دخلت على
وكذلك ذكر حديث إياس بن سلمة بن الأكوع أن أباه حدثه: (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عطس رجلاً عنده فقال له: يرحمك الله ثم عطس أخرى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل مزكوم) ظاهر رواية مسلم أنه قالها في المرة الثانية وسيأتي في السنن أنه قالها بعد ثلاث.
وفي رواية عند أبي داود أيضاً: (عطس شاب من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه حتى يرضى ربنا، وبِعدِّما يرضى من أمر الدنيا والآخرة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من القائل الكلمة؟ فسكت الشاب، ثم قال: من القائل الكلمة فإنه لم يقل بأساً؟ فقال: يا رسول الله! أنا قلتها لم أرد بها إلا خيراً، قال: ما تناهت دون عرش الرحمن تبارك وتعالى).
وروى أبو داود رحمه الله تعالى كذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي رواه مسلم أيضاً، قال: لما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أموراً من أمور الإسلام، فكان فيما علمت أنه قال لي: (إذا عطست فاحمد الله، وإذا عطس العاطس فحمد الله؛ فقل: يرحمك الله).
وفي رواية أبي داود توضيح لرواية مسلم ، فـمعاوية بن الحكم السلمي كان رجلاً يسكن البادية، فجاء إلى المدينة وأسلم وتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أشياء، ومن هذه الأشياء أن العاطس إذا حمد الله يشمت، ثم أنه لما تعلم هذا الأمر، قال: (فبينما أنا قائم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة إذ عطس رجلاً فحمد الله، فقلت: يرحمك الله رافعاً بها صوتي، فرماني الناس بأبصارهم حتى احتملني ذلك، -أي: وجد في نفسه من هذا النظر والعبوس- فقلت: مالكم تنظرون إلي بأعين شُزر؟ قال: فسبحوا -لأنه من نابه شيء في الصلاة سبح أي: يسكتوه بالتسبيح- فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من المتكلم؟ قيل: هذا الأعرابي). وقد عنون عليه أبو داود رحمه الله باب تشميت العاطس في الصلاة.
وأيضاً مما رواه أبو داود في سننه وهو حديث صحيح، عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض -أو غضَّ- بها صوته) أو بأي شيء يغطي فمه ويغض من صوته.
ومن الصيغ التي تقال في العطاس بخلاف ما ورد من قوله: (الحمد الله.. يرحمك الله) ما رواه أبو داود أيضاً في كتاب الأدب من سننه وهو حديث صحيح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله على كل حال، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم).
فيقال إذاً.. (الحمد لله) وفي رواية (والحمد لله على كل حال) وروى كذلك أبو داود في سننه في باب كم مرة يشمت العاطس، من حديث عبيدة بنت عبيد بن رفاعة الزرقي عن أبيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (تشمت العاطس ثلاثاً، فإن شئت أن تشمته فشمته، وإن شئت فكف) ولكن هذا الحديث حديث ضعيف.
وروى كذلك رحمه الله تعالى في ماذا يقال لأهل الكتاب أو للكفار إذا عطسوا، من حديث أبي بردة عن أبيه، قال: (كانت اليهود تعاطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم: يرحمكم الله -فيدعو لهم بالرحمة- فكان يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) فإذا عطس الكافر فلا يترحم عليه، ولا يقال له: يرحمك الله، ولا يدعى له بالرحمة، وإنما يقال: يهديكم الله ويصلح بالكم. وهذا ما يتعلق بالعطاس من سنن أبي داود .
كذلك ذكر الترمذي رحمه الله فوائد في سننه في هذا الموضوع، قال: كرهوا -أي: أهل العلم- للرجل أن يتكلم والإمام يخطب وقالوا: إن تكلم غيره فلا يُنكر عليه إلا بالإشارة في أثناء خطبة الجمعة كما كان يفعل عمر؛ كان يضع إصبعه على شفتيه يسكته لا يقول له: أنصت حتى لا يخطئ مثله، واختلفوا في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب، فرخص بعض أهل العلم في رد السلام وتشميت العاطس والإمام يخطب وهو قول أحمد وإسحاق ، وكره بعض أهل العلم من التابعين وغيرهم ذلك وهو قول الشافعي رحمه الله.
وروى أبو داود رحمه الله في كتاب الأدب من حديث هلال بن يساف، قال: (كنا مع
وكذلك فإن الترمذي رحمه الله روى في كتاب الأدب من سننه عن نافع : (أن رجلاً عطس إلى جنب
وكذلك: (العطسة الشديدة والتثاؤب الرفيع من الشيطان) وهو أيضاً حديث ضعيف، ومن الأحاديث الموضوعة التي وردت: (العطاس عند الدعاء شاهد صدق) وكذلك: (من حدث بحديث فعُطس عنده؛ فهو حق) وكذلك: (أصدق الحديث ما عطس عنده) وكل هذه الأحاديث أحاديث موضوعة ولذلك قال العلماء: فلو أن حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر وعطس عنده مائة رجل لم يعد هذا دليلاً على صحته، فإذاً ليس هناك ارتباط بين العطاس وبين صحة الحديث.
كما روى الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال: (إذا عطس الرجل فقال: الحمد لله، قال الملك: رب العالمين، فإذا قال: رب العالمين؛ قال الملك: يرحمك الله) إذاً العاطس مخير في أن يقول: الحمد لله فقط، أو الحمد لله رب العالمين، أو الحمد لله على كل حال، ووردت رواية عن علي موقوفة في الجمع، وأما أفضل هذه الصيغ، فقد قال بعضهم: إن الحمد لله رب العالمين أفضل، وقال بعضهم: الحمد لله على كل حال أفضل لأنها أعم، وقال بعضهم: إن الصيغة الواردة في الصلاة التي وردت للرجل الذي عطس في الصلاة، قال: [الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه مباركاً عليه كما يحب ربنا ويرضى] قالوا: هذه دالة على أفضلية هذه العبارة، وعلى كل حال نقول: هو مخير بين العبارات الثابتة المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن قال هذا تارة وهذا تارة، فلعله يكون قد أصاب السنة إن شاء الله، فهو ينوع فتارة يقول: الحمد لله، وتارة يقول: الحمد لله رب العالمين وتارة يقول: الحمد لله على كل حال.
وإذا عطس فقال في الصلاة كما قال الصحابي والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ فهذا أيضاً أمر محمود، لكن هناك أشياء غير مقبولة مثل أن يقول: الحمد لله والصلاة على رسول الله؛ لأن هذا ليس موضعها؛ لأن هذا ذكر من الأذكار، والأذكار توقيفية فإذا أضاف إليها الإنسان أشياء من عنده، وتركيبات لم ترد في الشريعة، فيكون مبتدعاً إذا أتى بهذه الأشياء وواظب عليها، أو اعتقد فضلها.
ولذلك نلتزم بالسنة ونأتي بما ورد في السنة، وقد جاء أيضاً عند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن مجاهد أن ابن عمر سمع ابنه عطس فقال: آب فقال: وما آب؟ إن (آب) اسم شيطان من الشياطين، جعلها بين العطسة والحمد. فهذه يمكن أن تصدر من بعض الناس، وفي رواية ابن أبي شيبة : آش (بدل الباء شين) فليحرص المسلم على ألا يصدر حروفاً بعد العطاس إلا الحمد لله رب العالمين.
وكذلك بعضهم يقول عبارات أخرى أو أدعية أخرى، فإذاً علينا التقيد بالسنة، وقد ذكر أهل العلم أنه يتحرر أن كل العبارات الواردة ثلاث: الحمد لله رب العالمين أو الحمد لله على كل حال، وذكر النووي رحمه الله أن الحمد لله رب العالمين أحسن من الحمد لله، والحمد لله على كل حال أفضل، قال: يقول عقب عطاسه الحمد لله ولو قال: الحمد لله رب العالمين لكان أحسن فلو قال: الحمد لله على كل حال كان أفضل، وهذه الأحاديث تقتضي التخيير.
قال أهل العلم: إن العاطس إذا عطس ربما ينحل كل عضو في رأسه وما يتصل به من العنق يعني: أن هيئة العطاس وحركته فيها خطورة حتى أن بعضهم قالوا: لا تبقى عضلة في الإنسان إذا عطس إلا وتحركت، فإذا قلنا له: يرحمك الله كان هذا معناه: أن الله أعطاه رحمة يرجع بها كل عضو من الأعضاء التي تحركت إلى موضعها، ويبقى على حاله من غير تغيير، فرحمة الله لصونه لهذا العبد العاطس في رجوعه إلى حال الاعتدال.
وكذلك فإنه في اللغة الشوامت معناها: القوائم، فكأن التشميت أن يعود إلى قوامه الذي كان عليه، وأما بالنسبة لحال الشخص إذا لم يحمد الله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا يُشمت، وقد جاء في حديث: ( إن هذا ذكر الله فذكرته، وأنت نسيت الله فنسيتك ) والنسيان في اللغة يطلق على الترك، نسيتك أي: ترك الحمد للعاطس مناسبته واضحة فيحمد الله أن دفع عنه الأذى، وأذهب عنه الضرر وأعاده إلى حاله، وهذه نعمة والنعم تقابل بالحمد، وخروج الضرر نعمة، وعودته إلى حاله نعمة، ولذلك يقول: الحمد لله أنه ردني إلى صحتي وعافيتي.
وقال بعض العلماء: إنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ لأنه إذا لوى عنقه وعطس تضرر وهذا مجرب، فإنه إذا عطس مع لي العنق تضرر.
ولننظر إلى محاسن هذه الشريعة وجمالها عندما تأتي بهذا التكامل، وبهذا الترابط بين المسلمين، إذا عطس رجل بجانبك تقول له: يرحمك الله، ولو لم يكن بينك وبينه معرفة، فتدعو لشخص ليس بينك وبينه معرفة.
الحديث (إذا عطس فحمد الله فشمته) هذا في حق المسلم على المسلم وفي رواية: (خمس تجب للمسلم على المسلم) فنستفيد من لفظة تجب للمسلم على المسلم أن تشميت العاطس واجب، وقولنا له: يرحمك الله واجب، وممن نصر ذلك ابن القيم رحمه الله وقال: الوجوب لا مدافع له، ذكر ذلك في الزاد وأما في حواشيه علىسنن أبي داود ، فقال: جاء بلفظ الوجوب الصريح وبلفظ (الحق) أي: حق المسلم، وبلفظ (على) على المسلم، كل هذه تفيد الوجوب، وجاء بصيغة الأمر يشمته، فليقل له صاحبه: يرحمك الله.
هذه أوامر تفيد الوجوب، وقال بعض العلماء: إنها فرض على الكفاية إذا شمت واحد أغنى عن الجماعة، لكن النص: (حق على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله) يدفع هذا، أي: لا يمكن أن يتوافق. إذاً هناك فرق بين رد السلام ورد العطاس، فرد السلام يكفي فيه عن الجماعة واحد، لكن رد العطاس بتشميت العاطس واجب على كل من سمع وأن يقول له: يرحمك الله كما في هذا الحديث.
فإذاً الراجح وجوب تشميت العاطس، لكن وجوب التشميت مقيد بما إذا حمد الله، فإذا لم يحمد الله لم يجب التشميت، بل لم يُشرع أصلاً، بل إن المشروع خلافه، وهو عدم التشميت، وهذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم.
أناس لا نشمتهم أو أحوال لا نشمت فيها:
أولاً: إذا ما حمد الله لا نشمته.
ثانياً: إذا كان كافراً لا نشمته.
ثالثاً: المزكوم إذا تكرر منه العطاس فزاد عن الثلاث، قال بعض العلماء: المزكوم إذا زاد عطاسه عن الثلاث لا نشمته بعد الثالثة لأجل الحديث، وقد جاء عن أبي هريرة أنه قال: [شمته واحدة واثنتين وثلاثاً، وما كان بعد ذلك فهو زكام]، وجاء كذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فإنما هي نزلة أو زكام) وقال: (يُشمت العاطس ثلاثاً فما زاد فهو مزكوم) فإذاً بعد الثالثة لا نشمته، وبعض العلماء قالوا: ما دام يحمد الله نشمته حتى لو عطس مرات كثيرة، وممن يرى بهذا من المعاصرين الشيخ عبد العزيز بن باز ، يقول: إنه لم ينه عن تشميته بعد الثالثة، ولكن وردت رواية عند ابن السني وصححها الشيخ ناصر فيها: (لا يشمت بعد الثالثة) وهذه الرواية تحتاج إلى نظر في إسنادها ففيها علة تحتاج إلى مراجعة ونظر.
فعلى أية حال يمكن أن نقول: إن المزكوم، أو الذي فيه حساسية -بعد العطسة الثالثة- من العلماء من يقول: يشمته إذا حمد الله، وهناك من يقول: إننا لا نشمته، لكن على أية حال لو شمته لا تكون قد ارتكبت أمراً محرماً، فالمسألة واسعة وسهلة إن شاء الله.
إذاً الذي دل عليه حديث مسلم وأبي داود والترمذي عن سلمة بن الأكوع : (أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعطس رجل عنده فقال له رجل: يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال: الرجل مزكوم) هذه رواية مسلم والرواية عند أبي داود والترمذي من حديث سلمة أيضاً: (عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله، ثم عطس الثانية أو الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! هذا رجل مزكوم).
إذا عطس الخطيب فقال: الحمد لله! فإن سكت بعدما قال الحمد لله شمتناه، وإن واصل الكلام شمتناه في أنفسنا، حتى لا نتكلم وهو يخطب؛ لكن السامع في المسجد إذا عطس يحمد الله في نفسه ولا يشمته أحد من الحاضرين والإمام يخطب، فإن شمته بين الخطبتين حين يسكت الإمام أو بعد إقامة الصلاة أو بعد نزوله من المنبر فلا بأس بذلك.
فإذاً وأنت في الصلاة لا تشمت رجلاً عطس سواء كان في صلاته أو كان في خارج الصلاة، فأنت في الصلاة لا تتكلم.
وقال بعضهم: عام في الفرائض والنوافل، لكن لا يكون في الفاتحة حتى لا يقطع الفاتحة بالحمد، ولكي تتسلسل الآيات فيها لفرضيتها ووجوبها هكذا.
فيه نظر، وظاهر الخبر أنك تقول له: يرحمك الله يرحمك الله يرحمك الله إذا قال هو: الحمد لله الحمد لله الحمد لله، وإذا تتابع عطاسه، فإن عطس مثلاً خمس مرات وقال مرة واحدة: الحمد لله تقول له: يرحمك الله.
هذا إشارة لما سبق من النهي عن التشميت بعد الثالثة.
أما إذا عطس الرابعة والخامسة فهل هناك نهي أم لا؟
فهذه المسألة تحتاج إلى تدقيق في معرفة صحة هذا الحديث، وكذلك بعد الثالثة، إذا عطس نقول له: (أنت مزكوم) وهذه اللفظة وردت إذا تتابع عطاسه، ونقولها بعد الثالثة، فمعناه أننا نخبره أنك لست أنت ممن يشمت بعد الثالثة لأجل العلة.
فالعطاس المحمود هو الذي يكون ناشئاً عن خفة البدن، فلما صار هذا من أهل العلة، ولما زاد على العطسة الثالثة ففي هذه الحالة لا يشمت، لكن هناك إرشاد بالدعاء له بالعافية، يعني: ليس القضية فقط أن نفرح بأنه مزكوم أو نبشره بأنه مزكوم، والمقصود الإرشاد هنا إلى شيء يحتاج إليه وهو الدعاء له بالعافية.
ولذلك نقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أنه قال: يُكرر التشميت إذا تكرر العطاس إلا أن يُعرف أنه مزكوم فيدعى له بالشفاء.
أن تدري أنه حمد الله فتشمته.
أن تدري أنه لم يحمد الله فلا تشمته، لكن هل تذكره؟ الجواب: نعم تذكره بذلك، فقد جاء عن الأوزاعي عن ابن المبارك أنه عطس رجل عنده فلم يقل: الحمد لله فقال له: ماذا يقول الرجل إذا عطس، قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله، وهذا من بالغ الأدب والتأديب والتعليم.
الثالث: أنك لا تدري هل حمد الله أم لا؛ وفي هذه الحالة إذا وجدت قرينة تدل على أنه حمد الله، مثل أن قال له بعض الحاضرين: يرحمك الله وكان هؤلاء الحاضرون من طلبة العلم، ليسوا من الجهلة؛ لأن الجاهل يمكن أن يقول له: يرحمك الله؛ حمد أو لم يحمد، فالجهلة لا يستدل بحالهم؛ لكن لو كان هناك من طلبة العلم أو الناس الذين يعرفون السنة، فشمتوه كان ذلك دليلاً على أنه حمد الله، ففي هذه الحالة تشمت، وهناك حلٌ آخر وهو ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن مكحول : كنت إلى جنب ابن عمر فعطس رجل من ناحية المسجد فقال ابن عمر : يرحمك الله إن كنت حمدت الله، أي: إن كنت حمدت الله فيرحمك الله، فإذاً الأصل أننا نشمت إذا سمعنا.
جاء في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي جمرة سمعت ابن عباس إذا شُمت يقول: [عافانا الله وإياكم من النار.. يرحمكم الله].
وفي الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك الله، يقول: [يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم] فإذاً السنة أن تقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولو دعوت له بالمغفرة ودعوت له بالرحمة أيضاً فقد ورد ذلك عن الصحابة.
وجاء حديث في الموطأ عن نافع عن ابن عمر : [أنه كان إذا عطس يقول له: يرحمك الله، قال: يرحمنا الله وإياكم، ويغفر الله لنا ولكم] فجمع في الدعاء بين الرحمة والمغفرة.
وعلى كل حال فهذه الآداب تبين محاسن دين الإسلام، ونعمة الله على العاطس، وقد رتب عليه من الخير أنه شرع له الدعاء، وعلمه إياه، والذكر، وهو أن يحمد الله، ثم شرع الدعاء له بالخير وهو الرحمة، ثم شرع الدعاء منه للذي شمته بالخير أيضاً، وهذه نعم متواليات في زمن يسير، تصور أن رجلاً عطس فخرج منه الداء، ثم حمد الله فأجر، ثم دعي له بالرحمة، ثم دعا هو لمن دعا له، وهكذا في زمن يسير، فما أعظم هذه النعمة وهذه الشريعة! ومن تأمل هذه النعم المتوالية في شيء واحد من الأشياء التي تعرض كثيراً للناس أحب الله تعالى حباً يحدث في نفسه أكثر مما لو عبده أياماً.
وكذلك فيه تنبيه للعاطس على طلب الرحمة والتوبة من الذنب، ولذلك يقول: يغفر الله لنا ولكم.
وكذلك من الأشياء التي تقال في موضوع العطاس، وهي نكتة (بمعنى فائدة) حصلت لـأبي داود رحمه الله تعالى في مسألة إذا عطس وحمد ولم يشمته أحد؛ فسمعه من بعد عنه وليس عند ذلك العاطس شخص يشمته، أخرج ابن عبد البر بسند جيد عن أبي داود صاحب السنن : أنه كان في سفينة فسمع عاطساً على الشط - أبو داود في البحر في السفينة أو في النهر- فسمع عاطساً على الشط حمد الله ولم يكن عنده أحد يشمته، فاستأجر قارباً بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمته، قال: يرحمك الله ثم رجع، فسئل أبو داود عن ذلك: ما الذي حملك على ما صنعت، وتكلفت، واستأجرت قارباً وذهبت؟ فقال: لعله يكون مجاب الدعوة فيقول لي: يغفر الله لنا ولكم، أو يهديكم الله ويصلح بالكم، فأستفيد، فلما رقدوا سمعوا قائلاً يقول: يا أهل السفينة إن أبا داود اشترى الجنة من الله بدرهم، وجَوَّد إسناده ابن حجر رحمه الله تعالى.
وقال في الرعاية الكبرى : للرجل أن يشمت امرأة أجنبية -وقيل: عجوزاً- ولا تشمته هي وقيل: لا يشمتها، وذكروا قصة عن أحمد أنه كان عنده رجل من العباد، فعطست امرأة أحمد فقال لها العابد: يرحمك الله، فقال أحمد رحمه الله: عابد جاهل، وقال حرب: قلت لـأحمد : الرجل يشمت المرأة إذا عطست؟ فقال: إن أراد أن يسمع كلامها فلا؛ لأن الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك؛ فلا بأس.
فإذاً هناك من فرق بين الشابة والعجوز، قال: العجوز تشمتها، لأنها سترد عليك وتدعو لك، فالعجوز لا تُشتهى ولا يطمع فيها، وأما الشابة فلا. وبعضهم قال: إذا قصد المشمت سماع كلامها -وهذه مسألة تتعلق بالنيات- فلا يجوز له أن يشمتها، وإذا لم يقصد فلا بأس، وهي عليها أن تنتبه إلى أنه إذا شمتها رجل أجنبي ألا ترفع صوتها إذا كانت امرأة شابة أو تخشى أن يفتن بصوتها.
وهذه بعض المسائل المتعلقة بالعطاس، ونكمل الكلام عن موضوع العطاس، والتثاؤب، والتجشؤ، والتنخم إن شاء الله.. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر