قال المؤلف رحمه الله: (ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر).
هنا مسألتان:
المسألة الأولى: الصلاة على القبر.
والمسألة الثانية: الصلاة على الغائب.
الصلاة على القبر؛ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يصلى على القبر إلى شهر من دفنه، فلو أن الإنسان فاتته الصلاة على الجنازة فله أن يذهب إلى قبره وأن يصلي عليه، ومدة ذلك إلى شهر، فله أن يصلي بعد أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة أسابيع إلى آخره، لكن إذا مضى شهر من دفنه ولم يصل عليه فإنه لا يتمكن من الصلاة عليه، هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة ومالك قالوا: بأنه يصلى على القبر ما لم يغلب على الظن فناء الجسد، فإذا غلب على الظن أن الجسد قد فني فإنه لا يصلى عليه، وحينئذ يرجع إلى أهل الخبرة, فيسأل أهل الخبرة هل الجسد الآن باق أو أن الأرض قد أكلته؟ فإذا قال أهل الخبرة: بأن الجسد لا يبقى أكثر من شهر أو من شهرين أو من ثلاثة أشهر.. إلى آخره, إذا غلب على الظن أن الجسد قد فني فإنه لا يصلى عليه، أما إذا غلب على الظن أن الجسد لا يزال باقياً فإنه يصلى عليه.
الرأي الثالث: ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله, الشافعية قالوا: يصلى على القبر بشرط أن يكون المصلي حين موت الميت من أهل فرض الصلاة عليه، يعني: أن يكون بالغاً، فإذا مات أحد وأنت بالغ فلك أن تصلي عليه، ولا يحدد هذا بشهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، بشرط أن تكون بالغاً، فلو أنه مات ميت وأنت غائب وقدمت بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات, وأنت من أهل فرض الصلاة عليه, يعني أنك بالغ فلك أن تصلي عليه.
وتوسع بعض الشافعية فقالوا: يشترط أن يكون من أهل الصلاة عليه، يعني أن يكون مميزاً، فإذا مات قريب أو صديق أو نحو ذلك وأنت قد بلغت حد التمييز فلك أن تصلي عليه، وحد التمييز بعض أهل العلم يحده بسبع سنوات، وبعضهم يحده بالحال لا يحده بالسن، فيقول: إذا كان يفهم الخطاب, ويرد الجواب فهذا صبي مميز، وبعضهم يحدده بسبع سنوات، المهم أن الإنسان إذا كان مميزاً حين موت هذا الميت فله أن يصلي عليه.
وما ذهب إليه الشافعية هو أقرب المذاهب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما سلف صلى على القبر، ولم يحفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه حد ذلك بمدة، ما ورد التحديد.
أما ما استدل به الحنابلة رحمهم الله من كون ( النبي عليه الصلاة والسلام صلى على أم
الجواب الأول: أنه ضعيف لا يثبت.
والجواب الثاني: أنه لو ثبت فإن هذا حصل من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقاً، والعلماء يقولون: ما وقع اتفاقاً لا يكون شرعاً.
فعلى هذا نقول: الصواب في هذا ما ذهب إليه الشافعية، وأن الإنسان له أن يصلي على القبر حتى بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات بشرط أن يكون بالغاً أو أن يكون مميزاً كما هو القول الثاني عند الشافعية.
أما إذا لم يكن مميزاً فإنه لا يصلي عليه كما لو كان صغيراً لم يميز، أو أنه ولد بعد موت الميت لا يصلي عليه؛ والدليل على ذلك: أن السلف رضي الله تعالى عنهم لم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي .
أيضاً الصلاة على الغائب، لو مات ميت في بلد ونحن في هذا البلد فهل نصلي عليه صلاة الغائب أو لا؟
يقول المؤلف رحمه الله: يصلى عليه، وأيضاً المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنهم يحدون ذلك بشهر, فيقولون: يصلى على الغائب عن البلد إلى شهر، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ؛ واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على
الرأي الثاني: أن الصلاة على الغائب غير مشروعة، لا تشرع الصلاة على الغائب، وهذا قول أبي حنيفة ومالك رحمه الله؛ واستدلوا على ذلك بأنه مات كثير من الصحابة في المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ولم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم.
وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة فقال: الغائب إن صلي عليه فلا تشرع الصلاة عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحفظ عنه أنه كان يصلي على من مات في المدينة إذا كان خارج المدينة، فيقول شيخ الإسلام : إن صلي عليه فإنه لا يصلى عليه، وإن لم يصل عليه فإنه يصلى عليه؛ ودليل ذلك قصة النجاشي , فإن النجاشي في بلد لم يكن فيها مسلم فمات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم, في بلد كفر.
فنقول: الغائب إن صلي عليه لا نصلي عليه، وأما إذا لم يصل عليه فإننا نصلي عليه، وهذا هو أقرب الأقوال، وهو الذي تجتمع به أدلة المسألة.
يقول المؤلف رحمه الله: من تعذر تغسيله لعدم الماء، لم نجد ماءً نغسله به, فطريق ذلك أن نيممه، وكيفية ذلك أن يأتي الغاسل ويضرب الصعيد، ثم بعد ذلك يمسح وجه الميت ويمسح كفيه الباطن والظاهر، هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله.
والصواب في ذلك أنه إذا لم يكن ماء أن التيمم لا يشرع؛ لأن التغسيل ليس لرفع الحدث، وإنما تغسيل الميت لتنظيفه وتطهيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: ( اغسلوه بماء وسدر )، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( بسدر )، وقال أيضاً: ( اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً )؛ كما في حديث أم عطية ، فدل ذلك على أن المراد تنظيف الميت وتطييبه وتطهيره لكي يقدم على الله عز وجل على هذه الحال.
وأما التيمم فهذا ليس فيه تنظيف، التيمم طهارته ليست طهارةً حسية، وإنما طهارته طهارة معنوية؛ وعلى هذا نقول: إذا لم نجد ماءً فإنه يسقط تغسيل الميت، وحينئذ نكفنه، ولا حاجة إلى أن نيممه.
قال: (أو الخوف عليه من التقطع كالمجدور أو المحترق).
يعني: لو كان الميت أصابه مرض الجدري، أو احترق الميت، أو مثلاً في حادث من حوادث السيارات ونحو ذلك، فبالنسبة لتغسيله نقول: لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يسقط منه شيء بالتغسيل، مثلاً احترق هذا الميت ثم إذا غسلناه بالماء يتساقط شيء من أجزائه، فهذا لا نغسله، وعلى كلام المؤلف رحمه الله نيممه، يعني يأتي الغاسل ويضرب الصعيد ويمسح وجهه وكفيه كما سبق.
والصواب في ذلك: أنه لا حاجة إلى ذلك، وأنه إذا كان تغسيله يؤدي إلى تساقط شيء من بدنه فإنه لا حاجة إلى تغسيله ولا تيميمه، لا يشرع أن يغسل ولا أن ييمم فيسقط ذلك، وحينئذ يصار إلى التكفين، هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أننا إذا غسلناه لا يسقط شيء من بدنه أو أجزائه، حتى لو كان محترقاً، أو كان مجدوراً، أو أصيب بحادث ونحو ذلك، فهذا نغسله.
قال: (أو لكون المرأة بين رجال، أو الرجل بين نساء).
يعني: مات رجل بين نساء، أو ماتت امرأة بين رجال؛ لأن الرجل لا يغسله إلا الرجال، وليس هناك أحد من الرجال، أو هناك زوجة له أو أمة له، فإن النساء حتى ولو كن محارم لا يغسلن، حتى لو كان بين أمه أو أخته أو بنته… إلى آخره لا تتولى تغسيله، فيقول المؤلف رحمه الله: نيممه.
والرأي الثاني في هذه المسألة: أنه إذا مات الرجل بين النساء أنه يدرج عليه الماء إدراجاً، يعني لا حاجة إلى أن تباشره المرأة، فنقول: بأن النساء يأخذن الماء ويصببنه عليه، يدرج عليه الماء إدراجاً إذا كن أجنبيات من وراء ستر ويكفي ذلك؛ لأنه كما تقدم لنا في الغسل المجزئ أنه تعميم البدن بالماء، فإذا عممنا البدن بالماء فإن هذا غسل مجزئ، وعكسه إذا ماتت المرأة بين رجال فإننا -كما قال بعض السلف- ندرج الماء إدراجاً، يعني: يقوم الرجال ويصبون عليها الماء بدون أن يباشروها بالتقليب ونحو ذلك، بل يقومون بصب الماء عليها، فإذا ظنوا أن الماء عم البدن كفى ذلك.
لكل واحد من الزوجين أن يغسل صاحبه، فالزوجة لها أن تغسل زوجها، والزوج له أن يغسل زوجته، وهذا ما عليه جماهير أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله تعالى؛ ودليل ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرناه ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه ).
وأيضاً: حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( ما ضرك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ).
وأيضاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس ، وعلي رضي الله تعالى عنه غسل فاطمة .
فالصواب في هذه المسألة: أن لكل واحد من الزوجين أن يغسل صاحبه خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
قال: (وكذا أم الولد مع سيدها).
أم الولد هي الأمة التي وطئها سيدها فألقت ما تبين فيه خلق إنسان، إذا كان الإنسان له أمة ثم جامعها فحملت ثم ولدت أو حتى ألقت مضغة، لو ألقت مضغة تبين فيها خلق الإنسان، يعني من تخطيط يد أو رجل أو نحو ذلك هذه تصبح أم ولد، من باب أولى إذا ولدت ولداً كاملاً.
المهم أنها إذا ولدت من سيدها أو ألقت من سيدها ما تبين فيه خلق الإنسان فهذه تكون أم ولد، وعمر رضي الله تعالى عنه منع بيع أمهات الأولاد، وحكمها أنها تعتق بموت سيدها، فهذه أم الولد لها أن تغسل سيدها لو مات, ولسيدها أن يغسلها، وكذلك أيضاً الأمة التي ملك للسيد له أن يغسلها، وأيضاً لها أن تغسله.
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فقتل هذا هو الشهيد، فإذا قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ثم بعد ذلك قتل فيقول المؤلف رحمه الله بأنه لا يغسل، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله، وخالف في ذلك الحسن البصري وسعيد بن المسيب فقالا: يغسل.
والصواب في ذلك: أنه لا يغسل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جابر كما في صحيح البخاري ( لم يغسل شهداء أحد، وإنما دفنهم بدمائهم ).
وأما القول بأنه يغسل فهذا ضعيف كما أشار إليه ابن القيم رحمه الله، يقول ابن القيم رحمه الله: القول بتغسيل الشهيد أضعف من القول بالصلاة عليه؛ لأن بعض أهل العلم كـأبي حنيفة رحمه الله يرى أن الشهيد يصلى عليه، لكن يقول ابن القيم رحمه الله: الخلاف في تغسيل الشهيد أضعف من الخلاف في الصلاة عليه؛ لأن تغسيل الشهيد لم يرد فيه من الآثار ما ورد في الصلاة على الشهيد، الشهيد ورد فيه آثار بالنسبة للصلاة عليه، أما بالنسبة للتغسيل فلم يرد شيء من ذلك.
وعلى هذا نقول: القول بتغسيل الشهيد ضعيف، بل العلماء رحمهم الله اختلفوا في حكم تغسيله هل هو مكروه أو محرم؟ فبعض العلماء قالوا: يحرم تغسيله، وبعضهم قال: يكره تغسيله.
وعلى كل حال تغسيل الشهيد هذا ليس مشروعاً بل منهي عنه، وهذا النهي إما أن يكون نهي تحريم، وإما أن يكون نهي كراهة.
وقال المؤلف رحمه الله: (إذا مات في المعركة). قيد ذلك إذا مات في المعركة؛ فيفهم من ذلك أنه إذا حمل من المعركة ثم مات فإنه يغسل.
والدليل على ذلك: قصة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ( فإن
يقول المؤلف رحمه الله: بأنه إذا مات في المعركة فإنه لا يغسل، أما لو جرح ثم حمل من المعركة ثم مات فإنه يغسل؛ والدليل على ذلك ما أشرنا إليه من قصة سعد رضي الله تعالى عنه فإنه أصيب فحمل وضرب له النبي عليه الصلاة والسلام قبة، ثم بعد ذلك غسل.
والصواب في هذه المسألة أن يقال: إنه ينظر إلى جرح هذا الشهيد، فإن كان جرحه موحياً يعني: إذا كانت الإصابة قاتلةً فإنه حتى ولو حمل ولو تكلم أو عطس أو أكل أو شرب.. إلى آخره فإن هذا وإن لم يكن ميتاً فإنه في حكم الميت.
فنقول: إن كان الجرح موحياً يعني: قاتلاً ثم مات فإنه لا يغسل, ويأخذ أحكام الشهداء، أما إن كان الجرح غير موح ليس قاتلاً كحال سعد رضي الله تعالى عنه فإنه إن مات يغسل ويصلى عليه، اللهم إلا إن مات وكان موته قريباً من حمله, يعني لا يكون هناك فاصل طويل عرفاً بل حمل ثم مات، فنقول: بأنه لا يغسل.
فأصبح التفصيل في هذه المسألة نقول: إن كان الجرح موحياً قاتلاً فإننا لا نغسله ويأخذ أحكام الشهداء، أما إن كان الجرح غير موح ليس قاتلاً فإنه يغسل إلا إن مات قريباً بحيث لا يكون هناك فاصل.
هذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله أنه لا يصلى على الشهداء؛ ودليل ذلك حديث جابر في البخاري : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دفن شهداء أحد ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم ).
وأيضاً: الصلاة على الميت كما سبق لنا أنها شفاعة، والشاهد شفيع، وكفى ببارقة السيوف على رأسهم شفاعة، فهو يشفع، فلا يشفع فيه، فما عليه جمهور أهل العلم أنه لا يصلى عليه.
وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الشهيد يصلى عليه؛ لحديث عقبة بن عامر في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ).
والجواب عن قصة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على شهداء أحد نقول: بأن هذه الصلاة صلاة خاصة أراد منها النبي صلى الله عليه وسلم أن يودع أهل أحد, فإن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته خرج إلى أهل البقيع وزارهم ودعا لهم، وخرج إلى أهل أحد وصلى عليهم صلاة الميت، وهذا بعد ثمان سنوات من معركة أحد يعني في آخر حياته.
فهذه صلاة توديع من النبي عليه الصلاة والسلام لأهل أحد في آخر حياته، فودع النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والأموات، ودعا لأهل البقيع ودعا أيضاً للشهداء، فالشهداء خرج وصلى عليهم صلاة الميت، وأهل البقيع خرج ودعا لهم، واستغفر لهم، وهذه ليست هي صلاة الميت المعروفة، إذ لو كانت صلاة الميت المعروفة لبادر بها النبي عليه الصلاة والسلام بعد الموت مباشرة، ولم يتركها ثمان سنوات حتى آخر حياته.
فنقول: بأن هذه صلاة توديع؛ كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، فأراد منها النبي صلى الله عليه وسلم أن يودع الأحياء والأموات كما سلف، فهي ليست الصلاة على الميت.
وأما ما روي ( أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على حمزة
وأما حديث شداد بن الهاد في قصة الأعرابي في سنن النسائي الذي ( جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه وآمن به ثم بعد ذلك أصابه سهم فأدرجه النبي عليه الصلاة والسلام في أثوابه ثم قدمه وصلى عليه )، فهذا الحديث لا يعارض حديث جابر في الصحيح، حديث جابر أقوى منه وأصح منه.
فنقول: الصواب في هذه المسألة: أن الشهيد لا يصلى عليه، فأجبنا عن حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى بأنه صلاة توديع وليست هي الصلاة الخاصة بالأموات، وأما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على حمزة أو صلى على شهداء أحد فهذا كله شاذ، وأما ما يتعلق بحديث شداد بن الهاد فقلنا: حديث جابر أصح وأقوى منه.
معنى ينحى عنه الحديد والجلود: ينزع عنه؛ وقد ورد في سنن أبي داود من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد أن ينزع عنهم الحديد، وأن يدفنوا بثيابهم ودمائهم ) لكن هذا الحديث ضعيف، لكن الدليل على هذا حديث مصعب بن عمير : ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كفنه بنمرةً له، إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطى الرأس, وأن يجعل على رجليه شيء من الحشيش ).
فظاهر هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتصر على هذه النمرة، وأيضاً كونه يكون معهم شيء من السلاح… إلى آخره يدفن معهم هذا فيه شيء من الإسراف.
قال: (ثم يزمل في ثيابه). ما سبق أن ذكرناه من حديث خباب رضي الله تعالى عنه في قصة مصعب بن عمير ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كفنه بنمرةً له، كان إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطى الرأس، وأن يجعل على رجليه شيء من الحشيش ).
قال: (وإن كفن بغيرها فلا بأس).
يعني: إذا كفن بغير ثيابه فلا بأس، فلو فرض أن هذا الشهيد أخذت منه هذه الثياب, ثم أتينا بثياب أخرى فكفناه بها فلا بأس في ذلك، وقد ورد ( أن
لقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ( اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تقربوه طيباً )، وفي لفظ: ( ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ).
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) هذا دليل على أن حكم الإحرام لا يزال باقياً عليه، وإذا كان حكم الإحرام لا يزال باقياً عليه فإنه يأخذ حكم المحرم الحي لا نطيبه، ولا نلبسه المخيط، ولا نقلم أظافره، وأيضاً لا نحلق رأسه.. إلى آخره، حكم الإحرام لا يزال باقياً عليه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولا تقربوه طيباً، ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ).
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يقطع شعره ولا ظفره] كالمحرم الحي.
دفن الميت حكمه فرض كفاية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بدفن الميت، والله عز وجل يقول: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أكرمه بدفنه.
ويدل لذلك أيضاً ما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصناديد بدر أن يقذفوا في طوي من أطواء بدر )، يعني: في بئر من آبارها، وأيضاً: ( لما توفي
فهذا أمر بالدفن، والأمر يدل على الوجوب، وإنما كان هذا الوجوب أو هذا الفرض على الكفاية؛ لأنه سبق لنا أن الأمر إذا تعلق بالعمل أو لوحظ فيه العمل فهو على الكفاية، وإذا لوحظ فيه العامل فهو فرض عين، وهنا الذي لوحظ فيه هو العمل، فالمقصود تحصيل هذا العمل، فهذا فرض كفاية.
العلماء رحمهم الله يذكرون للدفن صفتين:
الصفة الأولى: الصفة الكاملة. والصفة الثانية: الصفة المجزئة.
الدفن له صفتان: صفة مجزئة، وصفة كاملة.
أما الصفة المجزئة؛ فهي أن يوارى يدفن بحيث تمتنع عنه السباع، وأيضاً لا يحصل منه رائحة، هذه هي الصفة المجزئة.
وأما الصفة الكاملة فهي أن يحفر له، وأن يوسع، وأن يلحد له؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام يوم أُحد: ( احفروا وأوسعوا وأعمقوا )، قال العلماء رحمهم الله: وقدر ذلك نصف قامة رجل.
فنقول: الدفن الكامل المستحب أننا نحفر ونوسع ونعمق ونضع له لحداً، واللحد هو أن يحفر وإذا وصلنا إلى الجدار في قعر القبر من جهة القبلة نحفر في طرف هذا الجدار من جهة الأسفل ما يسع الميت؛ ودليل ذلك قول سعد رضي الله تعالى عنه كما في صحيح مسلم : ( الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم )، فالسنة أن يلحد.
وهناك طريقة أخرى أيضاً وهي الشق، والشق هي أن يحفر في وسط القبر مثل الساقي الصغير يجعل فيه الميت على جنبه الأيمن، ورأسه إلى جهة القبلة، لكن اللحد أفضل من الشق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لحد له، لكن قد يحتاج إلى الشق لطبيعة الأرض فإنه يصار إلى الشق.
قال المؤلف رحمه الله: [وينصب عليه اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل القبر آجراً ولا خشباً ولا شيئاً مسته النار].
الآجر هو الطين المطبوخ، الطوب الأحمر، والخشب أيضاً؛ لأنه مادة النار، ولا شيئاً مسته النار، وهذا هو الوارد عن السلف رحمهم الله، فإن السلف كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب تفاؤلاً في عدم تأذي هذا الميت، وأيضاً يكرهون أن يدخل في القبر شيء مسته النار تفاؤلاً ألا يصاب هذا الميت بشيء من النار.
فنقول: هذا وارد عن السلف رحمهم الله أنهم كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر، وإنما السلف رحمهم الله استحبوا اللبن وكرهوا الخشب والآجر كما تقدم تفاؤلاً ألا يصاب بشيء من النار؛ لأن الخشب هو مادة النار، والآجر هذا كما تقدم مطبوخ بالنار.
التعزية هي التسلية، يعني: تسلية المصاب عن مصيبته، فيستحب أن نعزي أهل الميت؛ ويدل لذلك حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من فرج عن مسلم كربةً فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة )، وأيضاً فعل النبي عليه الصلاة والسلام ( فإن النبي عليه الصلاة والسلام عزى ابنته لما مات ابن لها, فقال: إن لله ما أخذ, وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب ).
والتعزية إنما تكون للمصاب، فإذا كان هناك أحد من أهل الميت مصاب فإنه يعزى، أما إذا لم يكن هناك إصابة فإنه لا يشرع، ويعزى بما عزى به النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أحسن شيء، وهو: إن لله ما أخذ, وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، اصبر واحتسب.
الندب: هو تعداد محاسن الميت، والندب قسمه العلماء رحمهم الله إلى قسمين:
الأول: ندب مذموم؛ وهو أن يكثر من الندب؛ لأن هذا يهيج الأحزان، يعني يشرع في تعداد محاسن الميت, مات فلان الذي يصل الرحم، ويبر الوالدين، ويأتينا بالطعام والشراب واللباس وغير ذلك، هذه الأشياء تهيج الأحزان، والشرع جاء بتخفيف الأحزان.
الثاني: ندب يسير؛ وهذا أجازه العلماء؛ لقول فاطمة رضي الله تعالى عنها لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا أبتاه! أجاب رباً دعاه، يا أبتاه! جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه! إلى جبريل نعاه )، وهذا في البخاري ، فقال العلماء: إذا كان الندب يسيراً فإنه لا بأس به.
أما الندب الذي فيه تعداد محاسن الميت بحيث إنه يهيج الأحزان, ويدعو إلى البكاء, فإن هذا مذموم ومنهي عنه.
قال: (والبكاء عليه).
أيضاً البكاء ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بكاء طبيعي تمليه الطبيعة ليس فيه تكلف وإنما شيء تمليه الطبيعة، فنقول: بأن هذا جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام بكى لما مات ابنه إبراهيم وقال: ( إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا
القسم الثاني: بكاء متكلف؛ بأن يكون هناك رفع للصوت، أو يصحب البكاء ندب تعداد محاسن الميت، أو يكثر منه، فنقول بأن هذا مذموم.
قال: (ولا نياحة).
النياحة فسرها العلماء رحمهم الله بتفسيرين:
الأول: قالوا: بأن النياحة هي البكاء مع الندب، إذا اجتمع البكاء والندب فهذه نياحة، يعني يبكي ويعدد محاسن الميت، يبكي ويقول: ذهب فلان الذي يفعل ويفعل ويفعل… إلى آخره، فهذا القول الأول.
الثاني: أن المراد بالنياحة هو أن تجتمع عدة نساء على البكاء.
ولا شك أن النياحة من كبائر الذنوب، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب )، وهذه عقوبة خاصة، ولا تكون هذه العقوبة الخاصة إلا على كبيرة من كبائر الذنوب.
الحالة الأولى: الصبر؛ وهذا واجب، والصبر: أن يحبس القلب واللسان والجوارح عما نهي عنه، فيحبس قلبه عن كراهة قضاء الله وقدره ورفضه وعدم التسليم له، ويحبس لسانه عن السب والشتم ونحو ذلك، ويحبس جوارحه عن الضرب أو إتلاف المال ونحو ذلك؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ) هذا في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
الحالة الثانية: التسخط، والتسخط هي ضد الصبر، وهي محرمة، يكون التسخط بالقلب وباللسان وبالجوارح، فبالقلب أن يسخط قضاء الله وقدره، يعني: يكره قضاء الله وقدره، ولا يسلم، وباللسان أن يفعل المحرم من السب والشتم والقذف، وبالجوارح أن يفعل المحرم باللسان أن يقول المحرم، والجوارح أن يفعل المحرم من الضرب أو الشق أو إتلاف المال أو غير ذلك.
الحالة الثالثة: الرضا؛ والرضا ينقسم إلى قسمين: رضا بالقضاء والقدر، ورضا بالمقدور والمقضي، أما الرضا بالقضاء والقدر فهذا واجب، يجب على الإنسان أن يرضى بقضاء الله وقدره، أما الرضا بالمقضي والمقدور فهذا سنة، الأفضل أن ترضى.
يعني: لا يلزم للإنسان إذا حصل عليه حادث في سيارته أن يرضى بهذا، لو كره ذلك لا يلام على هذا، أو أنه لو مات قريب الأفضل له أن يرضى بذلك، لو كره ذلك هذا لا يلام عليه، لكن الأفضل أن يرضى وأن يسلم، هذا تمام الإيمان بقضاء الله وقدره.
فنقول: المقضي والمقدور (المصائب) لا يلزم الرضا بها، لكن يستحب الرضا بها، لكن فعل الله عز وجل من القضاء والقدر هذا يجب الرضا به.
الحالة الرابعة: الشكر؛ وهو أن يشكر الله عز وجل على هذه المصيبة التي حلت به؛ لأن هذه وإن كانت في ظاهرها مصيبة إلا أنها في باطنها منحة من الله عز وجل، فإنه لا يزال العبد يبتلى في أهله وماله حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.
ولهذا شرع للإنسان إذا أصيب بمصيبة أن يسترجع, وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها، وأن يحمد الله عز وجل، فكونه شرع له أن يحمد الله دل ذلك على أن هذه منحة من الله عز وجل: ( وما يصيب المؤمن من هم ولا غم، ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه )، ( وإذا ابتلي العبد بحبيبتيه -يعني: بعينيه- فصبر عوض عنهما في الجنة ).
هذه العبارة فيها نظر، الصواب أن زيارة القبور للرجال سنة؛ لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكركم الموت )، فزيارة القبور هذه سنة، وزيارة القبور يقسمها العلماء رحمهم الله إلى قسمين:
القسم الأول: زيارة مشروعة.
والقسم الثاني: زيارة بدعية.
أما الزيارة المشروعة السنية فهي التي ينتفع منها الزائر، وينتفع المزور، أما الزائر فإنه ينتفع بالتذكر، والاتعاظ، وتحصيل السنة، وامتثال الأمر، ونيل الأجر، ينتفع الزائر بهذه الأشياء: يتذكر، ويتعظ، وأن مآله سيكون إلى مثل ما صار إليه صاحب هذا القبر، وأيضاً ينال الأجر وتحصل له السنة… إلى آخره، هذه الزيارة السنية، وأما بالنسبة للمزور فما يحصل له من الدعاء.
وأما الزيارة البدعية فهي التي يقصد منها أو التي يحصل فيها شيء من البدع أو الشركيات، مثل أن يتحرى الدعاء عند هذا القبر، أو أن يتحرى فعل العبادة عند هذا القبر، أو أن يتمسح بالقبر، أو أن يتوسل به إلى الله عز وجل، أو أن يصرف له شيئاً من أنواع العبادة… إلى آخره، كما عليه أهل الخرافة والصوفية والقبوريون.
قال المؤلف رحمه الله: [ويقول إذا مر بها أو زارها: سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، نسأل الله لنا ولكم العافية].
قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ) ما هو وجه التعليق على المشيئة مع أنه محقق اللحوق؟ يعني: كوننا سنموت هذا أمر محقق لا مرية فيه، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] ، لكن كيف قال: ( وإنا إن شاء الله بكم لاحقون )؟
قال بعض العلماء: إن التعليق هنا ليس على أصل الموت، وإنما التعليق على المكان، يعني: إن شاء الله سنلحق بكم في هذا المكان.
وقال بعض العلماء: إن المراد التعليق على الإيمان، يعني: إن شاء الله نموت على الإيمان.
وقال بعض العلماء: إن المراد هنا ليس التعليق وإنما المراد التعليل، يعني: إن لحوقنا بكم سيكون بمشيئة الله عز وجل.
وقال بعض العلماء: إن التعليق على الزمن يعني: متى شاء الله أن نلحق بكم لحقنا بكم.
بالنسبة للزيارة كيفية الزيارة, قال العلماء: يزور الميت كما يزور الحي، وإذا زار الحي فإنه يقابله، يعني يجعل وجهه إلى وجهه، وعلى هذا إذا زرت الميت فإنك تجعل وجهك إلى وجه الميت، وحينئذ تجعل ظهرك إلى جهة القبلة، الميت سيكون على جنبه الأيمن ووجه للقبلة، فأنت تجعل ظهرك إلى جهة القبلة، وتقف عند رأسه بحيث تجعل وجهك إلى وجهه ثم تسلم عليه، ثم بعد ذلك تدعو له.
قال العلماء: إذا دعا ينصرف إلى القبلة، يتوجه إلى القبلة ويدعو له، وإذا رفع يديه حال الدعاء فإن هذا أيضاً لا بأس به؛ كما ورد ذلك في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( لما زار النبي عليه الصلاة والسلام أهل البقيع رفع يديه ).
فنقول: كيفية الزيارة أن الإنسان يجعل وجهه إلى وجه الميت وظهره إلى جهة القبلة، ثم بعد ذلك إذا أراد أن يدعو فإنه ينحرف إلى القبلة، ويرفع يديه، كما ورد ذلك من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.
القربة العبادة، يعني على كلام المؤلف رحمه الله أن أي عبادة تفعلها ثم تهدي ثوابها إلى الميت فإنه يصله بإذن الله، وسواء كانت هذه العبادة بدنية أو مالية، يعني لو أن الإنسان تصدق بصدقة ثم أهدى ثواب هذه الصدقة لأبيه الميت، أو لأخيه، أو صلى ثم أهدى ثواب هذه الصلاة لأبيه أو لأخيه، أو أنه صام، أو أنه قرأ القرآن أو نحو ذلك.
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أن سائر القرب سواء كانت بدنيةً, أو ماليةً, أو مركبة من المال والبدن مثل الحج والعمرة إذا أهديت ثواب هذه الأشياء إلى الميت فإنها تصله، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والحنابلة رحمهم الله هم أوسع المذاهب في هذه المسألة.
وبعد فسبق لنا في آخر كتاب الجنائز شيء من مسائل زيارة القبور، وذكرنا أن زيارة القبور تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيارة شرعية. والقسم الثاني: زيارة بدعية.
وذكرنا ضابط كل قسم من هذه الأقسام، وأيضاً تكلمنا عما يتعلق بكيفية الزيارة، وأين يقف الزائر، وصيغة الدعاء عند الزيارة.. إلى آخره.
وفي آخر هذا الكتاب تكلم المؤلف رحمه الله عن إهداء القرب، إهداء ثواب العبادات للأموات وغيرهم، وذكر أن أي قربة يفعلها المسلم ثم يهدي ثوابها لمسلم حي أو ميت فإنه يصله هذا الثواب، وذكرنا أن هذه القرب تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: قرب مالية، يعني: عبادات مالية.
والقسم الثاني: قرب مركبة من المال والبدن.
أما القرب المالية فمثل الصدقة، كما لو تصدق إنسان عن أبيه الميت، أو أعتق رقيقاً وجعل ثواب هذا العتق لأبيه الميت، أو وقف وقفاً وجعل ثوابه لقريبه الميت ونحو ذلك.
قلنا: القرب المالية والقرب المركبة من المال والبدن مثل الحج والعمرة، كما لو حج وجعل ثواب هذا الحج لقريبه، أو اعتمر وجعل ثواب هذه العمرة لقريبه.
وأيضاً من أمثلة القرب المالية الأضحية، لو ضحى وجعل ثواب هذه الأضحية لقريبه الميت ونحو ذلك فهذه يصل ثوابها، ثواب القرب المالية والقرب المركبة من المال والبدن يصل ثوابها؛ ويدل لهذا حديث ابن عباس : ( أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي عنها ).
وأيضاً: يدل لهذا حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في صحيح مسلم : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمه التي ماتت أينفعها إن تصدق عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم ).
وأيضاً: في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن أباه مات ولم يوص أفيتصدق عنه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم ).
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن القرب المالية والقرب المركبة من المال والبدن يصل ثوابها، وينفع ذلك الميت.
القسم الثاني: العبادات البدنية؛ مثل الصلاة، قراءة القرآن، الصيام، الاعتكاف، الذكر، لو أن الإنسان صلى وجعل ثواب هذه الصلاة لقريبه الميت، أو قرأ القرآن أو جزءاً منه ثم أهدى ثوابه، أو أنه ذكر الله، أو اعتكف ثم أهدى ثواب هذه العبادات للميت هل يصل أو لا يصل؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يصل ثوابها، والحنابلة رحمهم الله هم أوسع المذاهب في هذه المسائل، فيرون أنه يصل الثواب مطلقاً، سواءً كانت العبادة مالية أو مركبة من المال والبدن، أو كانت العبادة بدنية، فالمشهور عند الحنابلة أنه إذا فعل عبادةً بدنية ثم أهدى ثوابها فإن ثوابها يصل.
وعند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي : أنه لا يصل الثواب فيما يتعلق بالعبادات البدنية, والحنابلة احتجبوا بمثل حديث عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، فهذا يدل على أن الإنسان إذا صام عن قريبه الميت أن ذلك ينفعه، لو مات وعليه صيام واجب ولم يصم فإنه ينفعه لو صام عنه أحد، ومثل ذلك إهداء الثواب.
وأما الذين قالوا بأنه لا يصل؛ فاستدلوا بأن الله عز وجل قال: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وأيضاً ورد عن ابن عباس : أنه لا يصلي أحد عن أحد, ونحو ذلك.
والصواب في هذه المسائل أن يقال: إن إهداء القرب ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مشروع؛ وهو ما ورد النص به وهو الدعاء، فإن الله عز وجل قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10] ، فنقول: ما يتعلق بالدعاء السنة إهداء ثوابه، السنة أن يدعو المسلم لقريبه الميت والحي، وأنه مأمور بذلك، وأن هذا الدعاء ينفعه عند الله عز وجل، وأيضاً يدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر منها: أو ولد صالح يدعو له )، فدل ذلك على أن الدعاء ينفع الميت، فنقول:
القسم الأول: إهداء العبادة المشروعة، وهذا يتعلق بالدعاء والاستغفار.
القسم الثاني: ما عدا ذلك من إهداء ثواب الصدقة، وإهداء ثواب الحج والعمرة، وكذلك أيضاً الصلاة وقراءة القرآن والصيام فنقول: بأن هذا كله يصل ثوابه إلى الميت، وينتفع به الميت، لكن هذا ليس من المشروع، وإنما هو من المباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك.
فنقول: بأنه لا يفرض على الإنسان إذا فعل عبادة وأهدى ثوابها لقريبه الميت أو لقريبه الحي فإن ذلك يصل بإذن الله عز وجل، فيكون القسم الثاني المباح وهو بقية العبادات نقول: إهداء ثوابها مباح, ويصل إن شاء الله، لكن يبقى النظر أنه ليس من المشروع أن يكثر الإنسان من ذلك، المشروع أن يكثر الإنسان من القسم الأول وهو الدعاء، لكن لو فعل ذلك أحياناً وأهدى الثواب فنقول: بأن هذا يصل إن شاء الله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم لنا في حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة وغيرهما أذن في الوصية للميت، وأذن في الصدقة للميت.. إلى آخره.
الجواب: الإنسان إذا قضى حاجته من البول يغسل رأس الذكر، ولا حاجة إلى أن يشف بالمنديل، صحيح إذا أراد أنه يجمع بين الاستجمار والاستنجاء هذا طيب، يبدأ أولاً بالتنشيف بالمنديل ثم يغسل رأس الذكر، وإذا توضأ أجزأ، ولا تنظر إلى شيء آخر، لا تعلق قلبك بمثل هذه الأمور، بل تذهب وتصلي، وصلاتك صحيحة إن شاء الله.
الجواب: دعاء الاستخارة ظاهر الحديث أنه يقال بعد السلام، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: الأفضل أن يكون قبل السلام؛ لأن كون الإنسان يقوله قبل أن يسلم أفضل من كونه يقوله بعد السلام، والعلة في ذلك ظاهرة، فإن كون الإنسان في صلاة فهو أقرب إلى الله عز وجل من كونه خارج الصلاة، والأمر في هذا واسع إن شاء الله، يعني إذا قاله بعد التشهد قبل السلام أو قاله بعد السلام الأمر في هذا واسع إن شاء الله.
الجواب: نقول: إذا زاد الإمام ركعة خامسة ثم جاء مسبوق, فهذا المسبوق لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يعلم أنها زائدة، فإذا كان يعرف أنها زائدة فلا يتابع الإمام عليها، كل من عرف أنها زائدة لا يتابع الإمام عليها، لكن إذا كان يجهل أنها زائدة أو يجهل الحكم، ما يعرف ثم تابع الإمام فإنه يعتد بهذه الزيادة، هذا اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله خلافاً لمذهب أحمد .
الصواب: أنه إذا كان يجهل أنها زائدة يعني يجهل الحال أو يجهل الحكم نقول: الصواب أنه يعتد بها.
الجواب: نقول: هذا لم يرد، يعني وإن كان ورد عن بعض السلف رحمهم الله لكن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتصر على ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام.
الجواب: هذا لا يعتبر من النياحة، اجتماع أهل الميت في مكان لتعزيتهم هذا لا يعتبر من النياحة، وقد نص على ذلك الفقهاء الحنابلة رحمهم الله، نقول: بأن هذا إن شاء الله لا بأس به، لكن من أتى لكي يعزي فإنه لا يطيل المقام.
الجواب: لا، نحن ذكرنا أن الغسل المجزئ هو أن يعم الماء البدن، فإذا عممنا الماء للبدن فهذا فيه تنظيف فيه تطهير، وإن لم يكن التنظيف الكامل والتطهير الكامل.
الجواب: يقف على القبر؛ كما قال الله عز وجل: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] ، لا تقم على أي جزء من أجزاء القبر، ( وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا دفن الميت قال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل ).
تقوم على قبره على أي جزء من القبر، وتستغفر له، وتسأل له التثبيت.
الجواب: التيمم كما سبق لنا ليس خاصاً بالتراب، بل كل ما تصاعد على وجه الأرض يصح التيمم عليه؛ كما هو قول أبي حنيفة ومالك ، فيصح أن تتيمم على صخرة، ويصح أن تتيمم على قطعة من الرخام، أو على قطعة من البلاط وغير ذلك، يعني كل ما تصاعد على وجه الأرض فإنه يصح التيمم عليه.
الجواب: تهيئة القبور للأموات هذا هو الأفضل وعليه عمل الناس اليوم؛ لأن هذا أسرع في تجهيز الميت، النبي عليه الصلاة والسلام كما سبق لنا في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: ( أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيراً تقدموها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).
الجواب: نقول: نعم، أنت مخير، من عليه كفارة يمين هو مخير بين أن يطعم عشرة مساكين، أو أن يكسوهم، أو أن يعتق رقبة، إذا لم يجد الكفارة المالية فإنه ينتقل إلى الكفارة البدنية يعني يصوم ثلاثة أيام، لا ينتقل إلى الصيام حتى يعجز عن الإطعام أو الكساء، أو إعتاق الرقبة، وسواء كسوت صغاراً أو كباراً المهم تكسي عشرة مساكين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر